العليمى المصرى
New member
( 1 )
تـمـهـيـد
بسم الله الرحمن الرحيم
قال تعالى: ( وَقَضَيْنَا إِلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ فِي الْكِتَابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَلَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيرًا (4) فَإِذَا جَاء وَعْدُ أُولاهُمَا بَعَثْنَا عَلَيْكُمْ عِبَادًا لَّنَا أُوْلِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجَاسُواْ خِلاَلَ الدِّيَارِ وَكَانَ وَعْدًا مَّفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنَا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَأَمْدَدْنَاكُم بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَجَعَلْنَاكُمْ أَكْثَرَ نَفِيرًا (6) إِنْ أَحْسَنتُمْ أَحْسَنتُمْ لأَنفُسِكُمْ وَإِنْ أَسَأْتُمْ فَلَهَا فَإِذَا جَاء وَعْدُ الآخِرَةِ لِيَسُوؤُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ الْمَسْجِدَ كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَلِيُتَبِّرُواْ مَا عَلَوْاْ تَتْبِيرًا (7) عَسَى رَبُّكُمْ أَن يَرْحَمَكُمْ وَإِنْ عُدتُّمْ عُدْنَا وَجَعَلْنَا جَهَنَّمَ لِلْكَافِرِينَ حَصِيرًا (8) ).
يقول شيخنا الإمام محمد متولى الشعراوى رحمه الله وغفر له فى خواطره حول تلك الآيات ما يلى :
" يقول الحق : فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخرة لِيَسُوءُواْ وُجُوهَكُمْ وَلِيَدْخُلُواْ المسجد كَمَا دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ . . ومعنى هذا أن المسجد الأقصى سيضيع من المسلمين ويصبح تحت حكم اليهود فيأتي المسلمون ويحاربونهم ويدخلون المسجد كما دخلوه أول مرة في عهد عمر بن الخطاب " تفسير الشعراوي - (ج 1 / ص 170).
ثم يقول :" والمتأمل لسورة الإسراء يجدها قد ربطتهم بالإسلام ، فيبدو أن المراد بالمرتين أحداثٌ حدثتْ منهم في حضْن الإسلام "
و ما يهمنا بيانه هنا بالدرجة الأولى أن شيخنا الإمام الشعراوي رحمه الله وغفر له يربط هذه الآية بآية أخرى وردت فى خواتيم سورة الإسراء ، وهي قوله تعالى ( وَقُلْنَا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرَائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ الْآَخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفًا )
[الإسراء/104] حيث يقول:
جاء قوله تعالى { اسْكُنُواْ الأَرْضَ }هكذا دون تقييد بمكان معين ، لينسجم مع آيات القرآن التي حكمتْ عليهم بالتفرُّق في جميع أنحاء الأرض ، فلا يكون لهم وطن يتجمعون فيه ، كما قال تعالى : وَقَطَّعْنَاهُمْ فِي الأَرْضِ أُمَماً / الأعراف: 168
ثم يقول : " وقوله تعالى:{ فَإِذَا جَآءَ وَعْدُ الآخِرَةِ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء:104]والمراد بوَعْد الآخرة هو : الإفساد الثاني لبني إسرائيل ، وهذه الإفسادة هي ما نحن بصدده الآن ، حيث سيتجمع اليهود في وطن واحد ليتحقق وَعْد الله بالقضاء عليهم ، وهل يستطيع المسلمون أن ينقضُّوا على اليهود وهم في شتيت الأرض؟ لا بُدَّ أن الحق سبحانه أوحى إليهم بفكرة التجمُّع في وطن قومي لهم كما يقولون ، حتى إذا أراد أَخْذهم لم يُفلتوا ، ويأخذهم أخْذ عزيز مقتدر ، وهذا هو المراد من قوله تعالى:{ جِئْنَا بِكُمْ لَفِيفاً }[الإسراء:104] أي:مجتمعين بعضكم إلى بعض من شَتّى البلاد ، وهو ما يحدث الآن على أرض فلسطين "
وإلى نفس هذا القول أو قريب منه ذهب العديد من العلماء المعاصرين غير شيخنا الشعراوى رحمه الله ، منهم :فضيلة الدكتور العلامة فضل عباس رحمه الله فى كتابه " المنهاج ، نفحات من الإسراء والمعراج "، والدكتور صلاح الخالدي في كتابه الماتع " حقائق قرآنية حول القضية الفلسطينية "، والدكتور عمر سليمان الأشقر فى " زبدة التفاسير "، والدكتور أحمد نوفل ، والدكتور طارق سويدان ، وفضيلة الشيخ صالح المغامسى ، والدكتور مصطفى محمود فى العديد من كتبه ، والدكتور جمال أبو حسان فى بحثه القيّم " طلائع الإعجاز الغيبي في طوالع سورة الاسراء ".والشيخ بسام جرار فى كثير من كتاباته
كل هؤلاء الأفاضل - على سبيل المثال لا الحصر - ذهبوا إلى أن الإفساد الثاني لبنى إسرائيل ينتمى إلى عصرنا الحالى ، وأننا نعيش إرهاصاته
وهكذا نرى أن هذا الرأى يُعد رأياً مشهوراً بين المتخصصين والمفسرين من المعاصرين
ومن الجدير بالذكر أن الخلاف الذي وقع بين السلف الصالح في تحديد موضع الإفسادين هو الذى أتاح المجال للباحثين المعاصرين للاجتهاد في تحديدهما .
فإن السلف الصالح قد اختلفوا في هذا الأمر إختلافا كبيرا ، فمن قائل بأن الإفساد الأول هو قتلهم " زكريّا "، ومن قائل بأنه قَتْلهم " شعيا "،ومن قائل بأنه قتْلهم " يحيى بن زكريا " .وفي تفسير العباد " أولي بأس الشديد " أكثر من خمسة أقوال منقولة عن السلف .(انظر : زاد المسير، لابن الجوزي،ص:734) .
وقد اختلفوا كذلك في تفسير الإفساد الثاني على أقوال عديدة .(انظر المرجع السابق) .
وبهذا يتضح أن السلف الصالح رضوان الله عليهم قد اختلفوا فى تفسيرهم لهذه الآيات اختلافا واسعا ؛ مما يعنى أن الأمر فيه فسحة للإجتهاد في تفسيرها .لأن الخلاف إذا وقع لا يمكن رفعه ، وتبقى المسألة محل اجتهاد ، ولكن هذا لا يلزم عنه أن السلف لم يفهموا معنى الآية ، بل نقول إنهم قد فهموا المعنى العام منها ، وليس شرطاً ولا ضرورياً أن يحيطوا بتفسيرها على وجه التفصيل والقطع ،لا سيما وأن اليهود فى عصور السلف لم تكن لهم دولة أو وطن يجمعهم ، ومن هنا جاء تصورهم أن الإفسادتين قد وقعتا قبل نزول القرآن ، حيث نظروا إلى ذلّة اليهود وضعفهم فى ذلك الوقت وشتاتهم فى الأرض خارج الأرض المباركة ، فلم يخطر ببال أحدٍ من المتقدمين إمكان أن يعود اليهود إلى المسجد الأقصى وأن يبسطوا سلطانهم عليه تارة أخرى ، وأن يسيطروا على ما حوله سيطرة تامة ، فكان الأقرب إلى تصورهم أن الآيات إنما تقص أحداثاً خلت فيما سلف من تاريخ بنى اسرائيل
وينبغى القول بأن ترك قول المتقدّمين إلى قول المعاصرين لا يقلل من شأنهم بالمرة ، حيث أجاز أهل العلم ترك قول الفاضل إلى المفضول إذا اقتضى الدليل ذلك ، فكيف الحال ولدينا هنا أكثر من دليل كما سنوضح لاحقاً ؟!
ونخلص من هذا التمهيد الضرورى أنى سوف أعتمد فى هذا البحث فهم شيخى الشعراوى رحمه الله - ومن تابعه من العلماء المعاصرين ممن سبق ذكرهم - للآيات الكريمة المتعلقة بإفساد اليهود مرتين ، وبخاصة تفسيره لـ ( وعد الآخرة ) فى خواتيم سورة الإسراء على أن المراد به قيام دولة اسرائيل فى سنة 1948 بعد ميلاد المسيح عليه السلام ، والتى توافق سنة 1367 من الهجرة الشريفة ، كما توافق سنة 5708 من تقويم بنى اسرائيل أنفسهم المعنيين بالخطاب فى تلك الآيات ، وستكون تلك التواريخ هى لب المعجزة التى سنعرض لها فى هذا الموضوع ، والله الموفق