مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
الحمد لله وحده ، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده ، وعلى آله وصحبه والتابعين إلى يوم الدين ، أما بعد :
فقد كنت قرأت كتاب ( الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي ) قديمًا ، وقد أخرجت بعض فوائدة (1) ، فرأيت أن الرجل ممن أوتي حظًّا في علوم القرآن ، لكنه مغمور غير معروف ، فرأيت أن أكتب عنه في هذا الموضوع من خلال كتابه هذا .
ولعلي أن أكون قد نبهت طالبًا يبحث عن موضوع إلى هذا العَلَمِ البارز في العلم كما تُبين عن ذلك مؤلفاته وتعليقاته في هذا الكتاب .
وأبتدئ فأقول :
ولد يوم الخميس لسبع خلون من رجب سنة ( 305 ) ، وقيل : ( 303 ) ، وتوفي سنة ( 390 ).
ينتسب إلى النهروان ، وهي كورة بين بغداد وواسط ، وله في ذلك خبر طريف ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان : ((قال أبو عبد اللهَ الحميدي قرأت بخط أبي الفرج المعافى بن زكرياءَ النهرواني القاضي قال حججت سنة فكنت بمنى أيام التشريق إذ سمعت منادياً ينادي يا أبا الفرج . فقلت في نفسي : لعله يريدني . ثم قلت : في الناس خلق كثير ممن يكنى أبا الفرج ، فلعله يريد غيري ، فلم أجبه .
فلما رأى أنه لا يجيبه أحد نادى : يا أبا الفرج المعافى ، فهممتُ أن اجيبه ، ثم قلت : يتفق من يكون اسمه المعافى وكنيته أبو الفرج ، فلم أجبه .
فرجع ونادى : يا أبا الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني . فقلت : لم يبق شكٌّ في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وما أنسب إليه . فقلت له : ها أنا ذا ما تريد ؟
فقال : ومن أنت؟!
فقلت : أبو الفرج المعافى بن زكرياءَ النهرواني .
قال : فلعلك من نهروان الشرق ؟
قلت : نعم .
قال : نحن نريد نهروان الغرب .
فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما انسب إليه ، وعلمت أن بالمغرب موضعاً يعرف بالنهروان غير نهروان العراق )) ( معجم البلدان 4 : 850 ) .
طلبه للعلم :
وقد ذكر في كتابه ( الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي ) تاريخًا يبين أنه بدأ طلب العلم صغيرًا ، فقد أرَّخ تلقيه لحديث بسنة ( 314 ) ، ويكون سنه في التاسعة أو في الحادية عشر ـ حسب الاختلاف في سنة ولادته ـ أثناء تلقيه العلم .
قال المعافى : ((حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي سنة أربع عشرة وثلثمائة قال: حدثنا محمد بن العباس التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب " )) . (الجليس الصالح 1 : 233 ) .
ويظهر أن والده زكريا قد اعتنى به ، ووجهه إلى العلم صغيرًا ،فوالده كان من العلماء ، وكان يُعرف بابن طرارة ، وقد حدَّث عن أحمد بن علي البربهاري ، وأحمد بن يحيى الحلواني ، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وأحمد بن محمد بن منصور الحاسب .
ويظهر حرص أبيه عليه في دفعه للتلقي عن كبار أهل العلم في عصره ، فقد روى عن علي بن سليمان المعروف بالأخفش الصغير ( ت : 315 ) ، وعبد الله بن أبي داود السجستاني ( ت : 316 ) ، ووأبي القاسم البغوي ( ت : 317 ) ، ويحيى بن صاعد ( ت : 317 ) ، والحسن بن زكريا ( ت : 319 ) ، وغيرهم كثيرون ممن روى عنهم ولقيهم وأخذ منهم رحم الله الجميع (2).
شهرته بالجريري :
إن نسبة ( الجريري ) ترجع إلى اتخاذه مذهب إمام المفسرين : محمد بن جرير الطبري ( ت : 310 ) ، ومن شدة تعلقه بابن جرير الطبري تراه يلقبه بـ ( شيخنا ) ، وإن كان حضر شيئًا من مجالس الطبري فإنه سيكون عمره خمس سنين أو سبع سنين ، وإن لم يكن لقيه فإنه قد قرأ كتبه وتفقَّه بها ، واقتنع بهذا الإمام حتى انتسب إليه ، ولا بخفى على من عرف شيئًا من عبارات ابن جرير في كتبه ؛ لا يخفى عليه تأثر المعافى بها ؛ لظهور استخدامه لها .
ومن تلك المواطن ـ من كتاب الجليس الصالح ـ التي يحتفي بها بابن جرير الطبري ( ت : 320 ) ، قوله :
1 ـ ((حدثني بعض شيوخنا: أن بعضهم حدثه: أنه لما كان من خلع المقتدر في المرة الأولى ما كان، وبويع عبد الله بن المعتز بالخلافة، دخل على شيخنا أبي جعفر الطبري رضي الله عنه فقال له: ما الخبر، وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول، فقال له: بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قال: محمد بن داود بن الجراح، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قال الحسن بن المثنى، فأطرق ملياً ثم قال: هذا أمر لا يتم ولا ينتظم، قال: قلت له: فكيف؟ فقال: كل واحدٍ من هؤلاء الذين سميت متقدم في معناه على الرتبة من أبناء جنسه، والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وانتقاص ولا يكون لمدته طول، فكان الأمر كما قال، ورأيت صحة قوله في أسرع وقت )) الجليس الصالح ( 1 : 472 ) .
2 ـ ((قال القاضي رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في الشهادة على الكتاب المختوم كالذي جرى في هذه القصة، وكالرجل يكتب وصيته في صحيفة ويختم عليها ويشهد قوماً على نفسه أنها وصيته من غير أن يقرأوها عليه أو يقرأها عليهم ويعاينوا كتبه إياها، وما أشبه هذا مما يشهد المرء فيه على نفسه وإن لم يقرأه الشاهد أو لم يقرأ عليه، فأجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم فيه جمهور أهل الحجاز، وروي عن سالم بن عبد الله، وذهب إلى هذا مالك بن أنس ومحمد بن سلمة المخزومي، وأجاز ذلك مكحول ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز في من وافقهم من فقهاء أهل الشام، وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد في من وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم، وروي عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبريين في من سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد من متأخري أصحاب الحديث منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
وأبى ذلك جماعة من فقهاء أهل العراق منهم إبراهيم وحماد الحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، وهو قول شيخنا أبي جعفر رحمة الله عليه، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول لعلل ذكر إنه حاج بعض مخالفيه فيها.
قال القاضي: وإلى القول الذي قدمت حكايته عن أهل الحجاز والشام ومصر والمغرب والبصرة أذهب، ولكل ذي قولٍ من هذهين القولين علل يعتل بها لقوله، ويحتج بها على خصمه، وليس هذا الموضع مما يحتمل إحضارها، وهي مشروحة مستقصاة في ما رسمناه من كلامنا في كتب الفقه ومسائله. وقوله: " ألا صني " قريب من معنى قوله أدارني وهو ليه وفتله )) .
كتاب ( البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ) :
للمعافى كتاب في التفسير سماه ( البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ) ، وقد ذكر كتابه هذا أكثر من مرة في كتابه الأدبي الممتع ( الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي ) .
ومن مواطن ذكره لهذا الكتاب :
1 ـ قال المعافى : (( وقال عدد من أهل العلم منهم أبو عبيدة: إن من زعم في القرآن شيئاً بغير العربية فقد أخطأ وأعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى قال: " بلسان عربي مبين " ، وفي القرآن عدد من الكلم نسبه بعض أهل التأويل إلى لغة بعض أمم العجم، وأنكر هذا بعضهم، وذهب إلى اتفاق لغتين فيه أو لغات كثير منهم، وهذا مما بياننا مستقصى فيه في كتابنا المسمى كتاب البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز، وفي كتاب شيخنا أبي جعفر رضي الله عنه، الذي سماه جامع البيان عن تأويل آي القرآن )) ( 1 : 250 ) .
2 ـ قال المعافى : (( ... قد أتى أبو بكر بالأصل في معنى حديّا إلا أنه لم يحقّق تفسيره، وما ذكره من تحدّي الرجل ليأتي بفعل ثم يأتي هو بمثله فيكون هذا، ويكون أن يبرز الرجل على غيره في شيء ويبرَّ فيه على من سواه، ويبذّ في تمكنه منه وسبقه إليه من عداه، فإن عارضه فيه غيره وحكاه فقد قاومه وساواه، وإن عجز من مقاومته وكلَّ من مناهضته فالمتحدَّي غالبٌ ظاهر والمتحدَّي مغلوبٌ غير ظافر، وعاجزٌ غير قادر، لا سيما إن كان في قصرته عن المقاومة نبأ عظيم وخطب جسيم كالذي كان في تحدّي النبي صلى الله عليه وسلم قومه أن يعارضوا القرآن الذي أبانه الله من سائر الناس، وجعله من أكبر أعلامه ودلائه، وأن يأتوا بسورةٍ مثله، فظهر عجزهم، وثبتت الحجة عليهم، وقتلوا دون ذلك وأسروا وأخربت ديارهم وتعقبت آثارهم، فانقلبوا صاغرين أذلاّء داخرين. وهذا باب قد استقصينا الكلام فيه في مواضع مما ألفناه وأمللناه، من ذلك صدر كتابنا المسمَّى: " البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز " )) .
3 ـ قال المعافى : (( ... وقد كشف عن العلة فيما أتى به بقوله: أي الرجال المهذب، فأحسن العبارة عن هذا المعنى: " من تك يوماً بأخيك كله " ، وقد نوه بيت النابغة هذا رواة الشعر ونقلته، ونقاده وجهابذته، واستحسنوا تكافؤ أجزائه، واستقلال أركانه، واشتماله على فقر قائمة بأنفسها، كافية كل واحدة منها، وهذا من النوع المستفصح، والفن المستعذب، من أعلى طبقات البلاغة، وقد أتى القرآن منه بالكثير الذي يقل ما أتى منه في الشعر إذا قيس إليه، فتبين للمميزين كثير فضل ما في القرآن عليه، فمن ذلك قول الله جل وعز: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ولنا في هذا الباب رسالة أبنا فيها رجحان ما في القرآن من هذا الجنس على كثرته، على ما أتى منه في الشعر على قلته، فلم نطل كتابنا هذا بإعادته، وقد ضممنا معه شطراً صالحاً كتابنا المسمى " البيان الموجز في علوم القرآن المعجز " ومن نظر فيه أرشف على ما يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بتوفيق الله تعالى وهدايته )) .
4 ـ قال المعافى : ( ... وقال الله تعالى: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " هذه قراءة شبيه ونافع وعاصم وحمزة والكسائي في آخرين، وقرئ: فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ، وهي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي، وقرئ : فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال " وهي قراءة مجاهد وابن كثير وأبي عمرو وعدد غيرهم، وقد قرأ بعضهم ولا جدال مثل دراك ومناع، رويت هذه القراءة عن عبد الله بن أبي إسحاق، واختلف في علل إعراب هذه القراءات، وفي علة فرق في الإعراب بين بعضهما وبعض اختلاف يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره، ونحن مستقصو القول فيه عند انتهائنا إليه من كتابنا المسمى البيان الموجز في علم القرآن المعجز وفي كتابنا في القراءات، وكتابنا في عللها وتفصيل وجوهها )) .
ويظهر من التعليقات التي يحيل في خاتمتها على هذا الكتاب ؛ يظهر أنه كتاب حافل يشتمل على التفسير ، وعلى القراءات وتوجيهها ، وعلى النحو ، وعلى شواهد الشعر ، وعلى بلاغة القرآن .
علوم القرآن عند المعافى :
يلاحظ أن عنوان كتاب المعافى يتضمن المركب الإضافي ( علوم القرآن ) ، فقد سمَّى كتابه : (البيان الموجز في علم القرآن المعجز) ، وأحيانًا يسميه : (البيان الموجز في علوم القرآن المعجز ) (3).
وقد كرَّر في كتابه (الجليس الصالح) هذا المصطلح كثيرًا حتى بلغ سبعة عشر موضعًا ، منها :
1 ـ قال المعافى : ((وكان أبو عمرو يختار أن يقرأ : ( وأكون) بإثبات الواو، وكان الأوجه عنده في العربية، وزعم أن الواو حذفت منه في الخط كما حذفت من كلمن، وليس الأمر عندنا على ما ذكر في هذا ففي الكلمتين فرق ظاهر، يقتضي الإثبات حيث أثبتت، والحذف حيث حذفت، وليس هذا موضع ذكره، وسيأتي في موضعه من كتبنا المؤلفة في علوم تنزيل القرآن وتأويله إن شاء الله )) الجليس الصالح ( 1 : 246 ) .
2 ـ قال المعافى : (( وقد اختلفت القراءة في اللفظ بهذه الكلمة في القرآن، فكان أبو جعفر المدني يقرأ : (لا يحزنك الذين ) ، و(إنه ليحزنك) ، و( أيها الرسول لا يحزنك الذين ) ، و( إني ليحزنني أن تذهبوا به) ، ويستمر على هذا في القرآن كله إلا في قوله: (لا يُحزنهم الفزع الأكبر) ، فإنه يضم الياء فيه، وأما نافع فعلى عكس هذا المذهب لأنه ضم ما فتحه أبو جعفر في هذا الباب وفتح ما ضمه، وكان ابن محيصن يضم ذلك كله، وكان الجمهور من القراء بعده يفتحون الجميع .
وفي استقصاء هذه المعنى وذكر ما يتصل له لتفريق من فرق بين بعضه وبين بعض، والاحتجاج فيما اختلف المقرئون فيه مواضع جمة من كتبنا في علوم القرآن، نأتي على البيان عنه إن شاء الله عز وجل )) الجليس الصالح ( 1 : 199 ـ 200 ) .
3 ـ قال المعافى : ((... هكذا في كتابي: (واستوى والرجال) بالواو، ورفع الرجال عطفاً على الضمير الذي في استوى، والفصيح من كلام العرب في مثل هذا أن يؤكدوه ثم يعطفوا عليه فيقولوا: فاستوى هو والرجال، وقد جاء في الشعر غير مؤكد، قال جرير:
ورجا الاخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا
والبصريون من النحويين يستقبحون ترك التوكيد فيه، والأمر فيه عند الكوفيين أيسر، على أنهم يختارون التوكيد ويؤثرونه، وقد أنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
ولو قيل: فاستوى والرجال بمعنى مع الرجال كان حسناً، وهذا من الباب الذي يسمى باب المفعول معه، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة، كما قال الشاعر:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
وقد يقال: استوى الماء بالخشبة، وروي هذا البيت: واستوى بالرجال، وجاء في الخبر: ذكر التبيع في ولد البقر، فقيل: هو الذي استوى قرناه بأذنيه، ومن هذا النحو قولهم: ما صنعت وأباك.
وهذا باب يتسع القول فيه من قبل صناعة النحو ومذاهب أهله، وليس هذا من مواضع شرحه، وقد ذكرناه في موضعه من كتبنا في النحو وعلوم القرآن الكريم، وفي رسالةٍ أفردناها )) ( الجليس الصالح 2 : 63 ـ 64 ) .
ويظهر أنه يستخدم (علوم القرآن ) للدلالة على عموم ما كتبه في أنواع هذا العلم ، وقد يستخدمه أحيانًا قرينًا لعلم القراءات ، وكأنه يعني به ( التفسير ) .
أمثلة لإطلاقات العامة عنده :
1 ـ قال المعافى : ((يتجاوز حد ما قصدناه بكتابنا هذا وبيانه في مواضع من كتبنا في علوم القرآن )) .
2 ـ قال المعافى : (( وفي استقصاء هذه المعنى وذكر ما يتصل له لتفريق من فرق بين بعضه وبين بعض، والاحتجاج فيما اختلف المقرئون فيه مواضع جمة من كتبنا في علوم القرآن، نأتي على البيان عنه إن شاء الله عز وجل)) .
3 ـ قال المعافى : (( ... وروي عن عبد الله بن كثير أنه قال في معنى قوله تعالى: وأسبغ عليكم نعمة " هي شهادة أن لا إليه إلا الله في ما زعموا، وقيل بل هو عام شامل للنعم؛ ومثل هذا في القرآن كثير. وقيل إن هذا مما ينبئ الواحد منه عن جملة جنسه، كقولهم: هلكت الشاة والبعير، وكثر الدرهم الدينار في أيدي الناس، وقال الله تعالى ذكره: " والعصر. إن الإنسان لفي خسرٍ " العصر: 1،2 أراد الجنس دون اختصاص إنسان واحدٍ، ألا ترى أنه استثنى منه جمعاً فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " العصر: 3 وهذا باب مستقصى في ما رسمناه من علوم القرآن )) .
4 ـ قال المعافى : (( وفي ضعف لغتان: الضم والفتح، وقد قرأت القرأة بهما في القرآن، وزعم بعض علماء اللغة أن وجه الكلام فيه أن يضم حيث يكون إعراب الكلمة فيه غير النصب، ويفتح مع النصب، واستقصاء الكلام في هذا في موضعه من الكتب المؤلفة في علوم القرآن )) .
5 ـ قال المعافى : (( وخفيت وأخفيت جميعاً يرجعان إلى أصل واحد، خفيت أي أزلت الإخفاء وأخفيت أي فعلت الإخفاء، ونحن نبين ما في هذه الكلمة من القرآن والمعاني ووجوه التفسير وطريق الإعراب والتأويل في مواضعه من كتبنا في القرآن إن شاء الله )).
6 ـ قال المعافى : (( وسيأتي في موضعه من كتبنا المؤلفة في علوم تنزيل القرآن وتأويله إن شاء الله )) .
7 : (( وقد ذكرناه في موضعه من كتبنا في النحو وعلوم القرآن الكريم، وفي رسالةٍ أفردناها )) .
8 ـ قال المعافى : (( وهذا باب واسع مستقصى في كتبنا المؤلفة في علوم التنزيل والتأويل )) .
9 ـ قال المعافى : ((واستقصاء هذا الفعل وتلخيصه، في موضعه من كتبنا في علوم التنزيل والتأويل )) .
وله عبارات عامة مقاربة لتلك السابقات ، مثل :
1 ـ قال المعافى : (( واستقصاء ما فيه مرسوم في كتبنا المؤلفة في القرآن )) .
2 ـ : قال المعافى : (( وهذا باب يتسع القول فيه، ولنا فيه كلام كثير مشروح في مواضع من كتبنا في القرآن والفقه والنحو)) .
ومن أمثلة للمغايرة بين علوم القراءات وعلوم القرآن :
1 ـ (( وهو مرسوم فيما ألفناه من كتبنا في القراءات وعلوم القرآن على الشرح والبيان)) .
2 ـ قال المعافى : ((وهذا مشروح في كتبنا التي ألفناها في القراءات والتأويل )) .
وهذه مغايرة بين التفسير والقراءات ، ومثلها عبارته الآتية :
3 ـ قال المعافى : ((شرح ما فيه من التأويل والقراءات في موضعه في كتبنا في علل التأويل والتلاوة إن شاء الله )) .
4 ـ وقوله كذلك : ((وهذا كله مشروح مع تسمية من قرأ به، وحجج المختلفين فيه في كتبنا المؤلفة في حروف القرآن وتأويله)) .
وكل هذه المواضع ـ وغيرها مما لم أقف عليها ـ تحتاج إلى دراسة موازنة ، وهي مفيدة في تحرير مصطلح ( علوم القرآن) عند المعافى أولاً ، وفي تاريخ تطور هذا المصطلح ثانيًا .
فوائد من كتاب الجليس الصالح للمعافى :
الفائدة الأولى : رجحان ما في القرآن من البلاغة على الشعر
قال المعافى : ((حدثني محمد بن الحسين بن دريد، قال: أبو عثمان الأشنانداني، قال: أخبرني العتبي، قال: دخل الشعبي على عبد الملك، فقال: يا شعبي! أنشدني أحكم ما قالت العرب وأوجزه، فقال: يا أمير المؤمنين، قول امرىء القيس:
صبت عليه وما تنصب من أممٍ ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وقول النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
وقول عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... إن القرين بالمقارن يقتدي
وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبةٍ يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وقول لبيد:
إذا المرء أسرى ليلةً ظن أنه ... قضى أملاً والمرء ما عاش عامل
وقول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجراً ومسحبا
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الحارث بن عمرو:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقول الشماخ:
وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليلٍ، صارمٌ أو معارز
فقال عبد الملك: حججتك يا شعبي بقول طفيل الغنوي:
ولا أخالس جاري في حليلته ... ولا ابن عمي غالتني إذاً غول
حتى يقال إذا دليت في جدثٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قران مجعول
قال القاضي أبو الفرج: بيتا طفيل اللذان أنشدهما عبد الملك وفضلهما وزعم أنه حج الشعبي من أشعار الشعراء غير مقصر عنهما، ومن تأمل ما وصفنا وجده على ما ذكرنا، من غير أن يحتاج إلى تكلف تفسير ذلك، وإطناب في الاحتجاج له، فأما بيت الشماخ فإن معنى قوله: غير هاضم نفسه، أي حامل عليها لخليله والهضم: النقص، يقال: هضم فلانٌ فلاناً حقه أي نقصه، قال الله جل جلاله: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلماً ولا هضماً " وأما قوله: أو معارز، فالمعارز المتقبض، يقال: استعرز علي فلان إذا انقبض، وألقيت البضعة على النار فعرزت، وكأن الشماخ سلك سبيل النابغة في بيته الذي أنشده الشعبي في هذا الخبر، وأصل الغرض في هذه الجملة، على ما بين البيتين مما لأحدهما من الشف من تنقيح ألفاظ الشعر، وفضل استغناء أجزاء أحد البيتين على أجزاء الآخر، وأنا قائلٌ في هذا قولاً يبين صحته ويوضح حقيقته إن شاء الله، وأقول وبالله التوفيق: إن جملة الألفاظ للبيتين التي تجمعهما على معنى واحد، هو أن الذي يحفظ الأخوة بين الأخوين، ويحرس الخلة بين الخليلين أن يلم أحدهما صاحبه على شعثه ويهضم له نفسه، ومتى لم يفعل هذا لم يكن على ثقة من استبقائه وكان بعرض مصارمته، وانقباضه عنه ومعارزته، وبيت النابغة في هذا الباب أفحل وأوفى، وأجزل وأشفى، وقد كشف عن العلة فيما أتى به بقوله: أي الرجال المهذب، فأحسن العبارة عن هذا المعنى: " من تك يوماً بأخيك كله " ، وقد نوه بيت النابغة هذا رواة الشعر ونقلته، ونقاده وجهابذته، واستحسنوا تكافؤ أجزائه، واستقلال أركانه، واشتماله على فقر قائمة بأنفسها، كافية كل واحدة منها، وهذا من النوع المستفصح، والفن المستعذب، من أعلى طبقات البلاغة، وقد أتى القرآن منه بالكثير الذي يقل ما أتى منه في الشعر إذا قيس إليه، فتبين للمميزين كثير فضل ما في القرآن عليه، فمن ذلك قول الله جل وعز: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ولنا في هذا الباب رسالة أبنا فيها رجحان ما في القرآن من هذا الجنس على كثرته، على ما أتى منه في الشعر على قلته، فلم نطل كتابنا هذا بإعادته، وقد ضممنا معه شطراً صالحاً كتابنا المسمى " البيان الموجز في علوم القرآن المعجز " ومن نظر فيه أرشف على ما يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بتوفيق الله تعالى وهدايته )) .
الفائدة الثانية : مذهب الصحابة في العموم
قال المعافى : ((حدثنا أحمد بن إسحق بن بهلول إملاءً في يوم الاثنين لخمس ليال بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكماً، وإن أصدق بيت تكلمت به العرب قول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل "
مذهب للمؤلف في الصغير
قال القاضي أبو الفرج: هذا البيت الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قائله من الشعراء هو للبيد بن ربيعة، افتتح به كلمة فقال في أولها:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائلُ
وبعده:
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويْهيةٌ تصفرُّ منها الأنامل
وقد روى أن عثمان رضوان الله عليه، لما سمع قوله: وكل نعيم لا محالة زائل، قال كذب، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا القول من عثمان يدل على أن مذهب القوم في العموم هو جارٍ في لغتهم على الشمول عند تجرده واستغراق الجنس بإطلاق لفظه)) الجليس الصالح 1 : 218 )
الفائدة الثالثة : الصهيبي الذي يُمتحن به القراء :
قال المعافى : ((وحدثني أحمد بن كامل، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن القاسم المعروف بأبي العيناء، قال: أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال لي: قد حفظت القرآن، قال: فاقرأ: " واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه " ، قال: فقرأت العشر حتى أنفدته، قال: اذهب فتعلم الفرائض، قال: فلت: قد حفظت الصلب والجد والكبر، قال: فأيما أقرب إليك، ابن أخيك أو عمك؟ قال: قلت: ابن أخي، قال: ولم؟ قال: قلت: لأن ابن أخي من أبي، وعمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم العربية، قال: قلت: قد علمتها قبل ذين، قال: فلم قال عمر بن الخطاب حين طعن: يا لله للمسلمين، لم فتح تلك اللام وكسر هذه؟ قال: قلت: فتح تلك للدعاء ومسر هذه للاستنصار قال: لو حدثت أحداً لحدثتك.
قال القاضي: قلت لابن كامل أمل هذا الحديث: ما أنصفه لما أوقع به هذه المحنة، وأسرع بما لم ينكره من الإجابة، بمنعهما التمس من الفائدة، فضحك.
قال القاضي: هذا العشر الذي استقرأه الخريبي أبا العيناء يعرف بالصهيبي ويمتحن به من يتعاطى الحفظ من القراء، وله حديث نذكره فيما يأتي من مجالسناً هذه إن شاء الله، وأما اللام في الموضعين من هذين فإن أئمة النحويين من الكوفيين والبصريين رووها مفتوحة في الموضعين، وإذا قيل: يا للقوم، فهو استغاثة تفتح فيه لام المدعو، وإذا قيل: للماء فالكسر لازم لام المدعو له أو إليه، كأنه قال: أدعوكم للماء، وقال الشاعر:
يالَ بكرٍ انشروا لي كليباً ... يالَ بكرٍ أين أين الفرار؟
وقال الأعشى:
يالَ قيس لما لقينا العاما
أي أدعوكم لهذا، وشرح واستقصاء فروعه وعلله يطول، وله موضع غير هذا.
وصية الحجاج بأهل البصرة
حدثنا الحسين بن أحمد الكلبي: قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عائشة: قال: حدثني أبي: قال: أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة فخطب الناس، فقال: يا أهل البصرة إني أريد الخروج إلى مكة وقد استخلفت عليكم محمداً ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف، ألا وإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة، إني معجلٌ لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة )) الجليس الصالح 1 : 289 ـ 290 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) استفدت أيضًا من الكتبة الشاملة لرصد بعض القضايا التي طرحتها .
(2) يُنظر في هذا ماكتبه محققو كتاب الجليس الصالح ( الدكتور محمد مرسي الخولي والدكتور إحسان عباس ) .
(3)هكذا ورد في كتابه ( الجليس الصالح ) مرة ( علم ) ومرة أخرى ( علوم ) ، فهل هو من المؤلف ، أو هو من النساخ ؟ الله أعلم .
فقد كنت قرأت كتاب ( الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي ) قديمًا ، وقد أخرجت بعض فوائدة (1) ، فرأيت أن الرجل ممن أوتي حظًّا في علوم القرآن ، لكنه مغمور غير معروف ، فرأيت أن أكتب عنه في هذا الموضوع من خلال كتابه هذا .
ولعلي أن أكون قد نبهت طالبًا يبحث عن موضوع إلى هذا العَلَمِ البارز في العلم كما تُبين عن ذلك مؤلفاته وتعليقاته في هذا الكتاب .
وأبتدئ فأقول :
ولد يوم الخميس لسبع خلون من رجب سنة ( 305 ) ، وقيل : ( 303 ) ، وتوفي سنة ( 390 ).
ينتسب إلى النهروان ، وهي كورة بين بغداد وواسط ، وله في ذلك خبر طريف ذكره ياقوت الحموي في كتابه معجم البلدان : ((قال أبو عبد اللهَ الحميدي قرأت بخط أبي الفرج المعافى بن زكرياءَ النهرواني القاضي قال حججت سنة فكنت بمنى أيام التشريق إذ سمعت منادياً ينادي يا أبا الفرج . فقلت في نفسي : لعله يريدني . ثم قلت : في الناس خلق كثير ممن يكنى أبا الفرج ، فلعله يريد غيري ، فلم أجبه .
فلما رأى أنه لا يجيبه أحد نادى : يا أبا الفرج المعافى ، فهممتُ أن اجيبه ، ثم قلت : يتفق من يكون اسمه المعافى وكنيته أبو الفرج ، فلم أجبه .
فرجع ونادى : يا أبا الفرج المعافى بن زكرياء النهرواني . فقلت : لم يبق شكٌّ في مناداته إياي إذ ذكر اسمي وكنيتي واسم أبي وما أنسب إليه . فقلت له : ها أنا ذا ما تريد ؟
فقال : ومن أنت؟!
فقلت : أبو الفرج المعافى بن زكرياءَ النهرواني .
قال : فلعلك من نهروان الشرق ؟
قلت : نعم .
قال : نحن نريد نهروان الغرب .
فعجبت من اتفاق الاسم والكنية واسم الأب وما انسب إليه ، وعلمت أن بالمغرب موضعاً يعرف بالنهروان غير نهروان العراق )) ( معجم البلدان 4 : 850 ) .
طلبه للعلم :
وقد ذكر في كتابه ( الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي ) تاريخًا يبين أنه بدأ طلب العلم صغيرًا ، فقد أرَّخ تلقيه لحديث بسنة ( 314 ) ، ويكون سنه في التاسعة أو في الحادية عشر ـ حسب الاختلاف في سنة ولادته ـ أثناء تلقيه العلم .
قال المعافى : ((حدثنا محمد بن حمدان بن سفيان الطرائفي سنة أربع عشرة وثلثمائة قال: حدثنا محمد بن العباس التنيسي، قال: حدثنا عمر بن أبي سلمة، عن صدقة بن عبد الله الدمشقي، عن الأصبغ، عن بهز بن حكيم، عن أبيه، عن جده، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم تسليماً: " صنائع المعروف تقي مصارع السوء، وصدقة السر تطفئ غضب الرب " )) . (الجليس الصالح 1 : 233 ) .
ويظهر أن والده زكريا قد اعتنى به ، ووجهه إلى العلم صغيرًا ،فوالده كان من العلماء ، وكان يُعرف بابن طرارة ، وقد حدَّث عن أحمد بن علي البربهاري ، وأحمد بن يحيى الحلواني ، ومحمد بن عثمان بن أبي شيبة ، وأحمد بن محمد بن منصور الحاسب .
ويظهر حرص أبيه عليه في دفعه للتلقي عن كبار أهل العلم في عصره ، فقد روى عن علي بن سليمان المعروف بالأخفش الصغير ( ت : 315 ) ، وعبد الله بن أبي داود السجستاني ( ت : 316 ) ، ووأبي القاسم البغوي ( ت : 317 ) ، ويحيى بن صاعد ( ت : 317 ) ، والحسن بن زكريا ( ت : 319 ) ، وغيرهم كثيرون ممن روى عنهم ولقيهم وأخذ منهم رحم الله الجميع (2).
شهرته بالجريري :
إن نسبة ( الجريري ) ترجع إلى اتخاذه مذهب إمام المفسرين : محمد بن جرير الطبري ( ت : 310 ) ، ومن شدة تعلقه بابن جرير الطبري تراه يلقبه بـ ( شيخنا ) ، وإن كان حضر شيئًا من مجالس الطبري فإنه سيكون عمره خمس سنين أو سبع سنين ، وإن لم يكن لقيه فإنه قد قرأ كتبه وتفقَّه بها ، واقتنع بهذا الإمام حتى انتسب إليه ، ولا بخفى على من عرف شيئًا من عبارات ابن جرير في كتبه ؛ لا يخفى عليه تأثر المعافى بها ؛ لظهور استخدامه لها .
ومن تلك المواطن ـ من كتاب الجليس الصالح ـ التي يحتفي بها بابن جرير الطبري ( ت : 320 ) ، قوله :
1 ـ ((حدثني بعض شيوخنا: أن بعضهم حدثه: أنه لما كان من خلع المقتدر في المرة الأولى ما كان، وبويع عبد الله بن المعتز بالخلافة، دخل على شيخنا أبي جعفر الطبري رضي الله عنه فقال له: ما الخبر، وكيف تركت الناس؟ أو نحو هذا من القول، فقال له: بويع عبد الله بن المعتز، قال: فمن رشح للوزارة؟ قال: محمد بن داود بن الجراح، قال: فمن ذكر للقضاء؟ قال الحسن بن المثنى، فأطرق ملياً ثم قال: هذا أمر لا يتم ولا ينتظم، قال: قلت له: فكيف؟ فقال: كل واحدٍ من هؤلاء الذين سميت متقدم في معناه على الرتبة من أبناء جنسه، والزمان مدبر والدنيا مولية، وما أرى هذا إلا إلى اضمحلال وانتقاص ولا يكون لمدته طول، فكان الأمر كما قال، ورأيت صحة قوله في أسرع وقت )) الجليس الصالح ( 1 : 472 ) .
2 ـ ((قال القاضي رحمه الله: قد اختلف أهل العلم في الشهادة على الكتاب المختوم كالذي جرى في هذه القصة، وكالرجل يكتب وصيته في صحيفة ويختم عليها ويشهد قوماً على نفسه أنها وصيته من غير أن يقرأوها عليه أو يقرأها عليهم ويعاينوا كتبه إياها، وما أشبه هذا مما يشهد المرء فيه على نفسه وإن لم يقرأه الشاهد أو لم يقرأ عليه، فأجاز ذلك وأمضاه وأنفذ الحكم فيه جمهور أهل الحجاز، وروي عن سالم بن عبد الله، وذهب إلى هذا مالك بن أنس ومحمد بن سلمة المخزومي، وأجاز ذلك مكحول ونمير بن أوس وزرعة بن إبراهيم والأوزاعي وسعيد بن عبد العزيز في من وافقهم من فقهاء أهل الشام، وحكى نحو ذلك خالد بن يزيد بن أبي مالك عن أبيه وقضاة جنده، وهو قول الليث بن سعد في من وافقه من فقهاء أهل مصر والمغرب، وهو قول فقهاء أهل البصرة وقضاتهم، وروي عن قتادة وعن سوار بن عبد الله وعبيد الله بن الحسن ومعاذ بن معاذ العنبريين في من سلك سبيلهم، وأخذ بهذا عدد من متأخري أصحاب الحديث منهم أبو عبيد وإسحاق بن راهويه.
وأبى ذلك جماعة من فقهاء أهل العراق منهم إبراهيم وحماد الحسن، وهو مذهب الشافعي وأبي ثور، وهو قول شيخنا أبي جعفر رحمة الله عليه، وكان بعض أصحاب الشافعي بالعراق يذهب إلى القول الأول لعلل ذكر إنه حاج بعض مخالفيه فيها.
قال القاضي: وإلى القول الذي قدمت حكايته عن أهل الحجاز والشام ومصر والمغرب والبصرة أذهب، ولكل ذي قولٍ من هذهين القولين علل يعتل بها لقوله، ويحتج بها على خصمه، وليس هذا الموضع مما يحتمل إحضارها، وهي مشروحة مستقصاة في ما رسمناه من كلامنا في كتب الفقه ومسائله. وقوله: " ألا صني " قريب من معنى قوله أدارني وهو ليه وفتله )) .
كتاب ( البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ) :
للمعافى كتاب في التفسير سماه ( البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز ) ، وقد ذكر كتابه هذا أكثر من مرة في كتابه الأدبي الممتع ( الجليس الصالح الكافي والأنيس الناصح الشافي ) .
ومن مواطن ذكره لهذا الكتاب :
1 ـ قال المعافى : (( وقال عدد من أهل العلم منهم أبو عبيدة: إن من زعم في القرآن شيئاً بغير العربية فقد أخطأ وأعظم على الله الفرية، لأن الله تعالى قال: " بلسان عربي مبين " ، وفي القرآن عدد من الكلم نسبه بعض أهل التأويل إلى لغة بعض أمم العجم، وأنكر هذا بعضهم، وذهب إلى اتفاق لغتين فيه أو لغات كثير منهم، وهذا مما بياننا مستقصى فيه في كتابنا المسمى كتاب البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز، وفي كتاب شيخنا أبي جعفر رضي الله عنه، الذي سماه جامع البيان عن تأويل آي القرآن )) ( 1 : 250 ) .
2 ـ قال المعافى : (( ... قد أتى أبو بكر بالأصل في معنى حديّا إلا أنه لم يحقّق تفسيره، وما ذكره من تحدّي الرجل ليأتي بفعل ثم يأتي هو بمثله فيكون هذا، ويكون أن يبرز الرجل على غيره في شيء ويبرَّ فيه على من سواه، ويبذّ في تمكنه منه وسبقه إليه من عداه، فإن عارضه فيه غيره وحكاه فقد قاومه وساواه، وإن عجز من مقاومته وكلَّ من مناهضته فالمتحدَّي غالبٌ ظاهر والمتحدَّي مغلوبٌ غير ظافر، وعاجزٌ غير قادر، لا سيما إن كان في قصرته عن المقاومة نبأ عظيم وخطب جسيم كالذي كان في تحدّي النبي صلى الله عليه وسلم قومه أن يعارضوا القرآن الذي أبانه الله من سائر الناس، وجعله من أكبر أعلامه ودلائه، وأن يأتوا بسورةٍ مثله، فظهر عجزهم، وثبتت الحجة عليهم، وقتلوا دون ذلك وأسروا وأخربت ديارهم وتعقبت آثارهم، فانقلبوا صاغرين أذلاّء داخرين. وهذا باب قد استقصينا الكلام فيه في مواضع مما ألفناه وأمللناه، من ذلك صدر كتابنا المسمَّى: " البيان الموجز عن علوم القرآن المعجز " )) .
3 ـ قال المعافى : (( ... وقد كشف عن العلة فيما أتى به بقوله: أي الرجال المهذب، فأحسن العبارة عن هذا المعنى: " من تك يوماً بأخيك كله " ، وقد نوه بيت النابغة هذا رواة الشعر ونقلته، ونقاده وجهابذته، واستحسنوا تكافؤ أجزائه، واستقلال أركانه، واشتماله على فقر قائمة بأنفسها، كافية كل واحدة منها، وهذا من النوع المستفصح، والفن المستعذب، من أعلى طبقات البلاغة، وقد أتى القرآن منه بالكثير الذي يقل ما أتى منه في الشعر إذا قيس إليه، فتبين للمميزين كثير فضل ما في القرآن عليه، فمن ذلك قول الله جل وعز: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ولنا في هذا الباب رسالة أبنا فيها رجحان ما في القرآن من هذا الجنس على كثرته، على ما أتى منه في الشعر على قلته، فلم نطل كتابنا هذا بإعادته، وقد ضممنا معه شطراً صالحاً كتابنا المسمى " البيان الموجز في علوم القرآن المعجز " ومن نظر فيه أرشف على ما يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بتوفيق الله تعالى وهدايته )) .
4 ـ قال المعافى : ( ... وقال الله تعالى: " فلا رفث ولا فسوق ولا جدال في الحج " هذه قراءة شبيه ونافع وعاصم وحمزة والكسائي في آخرين، وقرئ: فلا رفثَ ولا فسوقَ ولا جدالَ، وهي قراءة أبي جعفر يزيد بن القعقاع المخزومي، وقرئ : فلا رفثٌ ولا فسوقٌ ولا جدال " وهي قراءة مجاهد وابن كثير وأبي عمرو وعدد غيرهم، وقد قرأ بعضهم ولا جدال مثل دراك ومناع، رويت هذه القراءة عن عبد الله بن أبي إسحاق، واختلف في علل إعراب هذه القراءات، وفي علة فرق في الإعراب بين بعضهما وبعض اختلاف يطول شرحه، وليس هذا موضع ذكره، ونحن مستقصو القول فيه عند انتهائنا إليه من كتابنا المسمى البيان الموجز في علم القرآن المعجز وفي كتابنا في القراءات، وكتابنا في عللها وتفصيل وجوهها )) .
ويظهر من التعليقات التي يحيل في خاتمتها على هذا الكتاب ؛ يظهر أنه كتاب حافل يشتمل على التفسير ، وعلى القراءات وتوجيهها ، وعلى النحو ، وعلى شواهد الشعر ، وعلى بلاغة القرآن .
علوم القرآن عند المعافى :
يلاحظ أن عنوان كتاب المعافى يتضمن المركب الإضافي ( علوم القرآن ) ، فقد سمَّى كتابه : (البيان الموجز في علم القرآن المعجز) ، وأحيانًا يسميه : (البيان الموجز في علوم القرآن المعجز ) (3).
وقد كرَّر في كتابه (الجليس الصالح) هذا المصطلح كثيرًا حتى بلغ سبعة عشر موضعًا ، منها :
1 ـ قال المعافى : ((وكان أبو عمرو يختار أن يقرأ : ( وأكون) بإثبات الواو، وكان الأوجه عنده في العربية، وزعم أن الواو حذفت منه في الخط كما حذفت من كلمن، وليس الأمر عندنا على ما ذكر في هذا ففي الكلمتين فرق ظاهر، يقتضي الإثبات حيث أثبتت، والحذف حيث حذفت، وليس هذا موضع ذكره، وسيأتي في موضعه من كتبنا المؤلفة في علوم تنزيل القرآن وتأويله إن شاء الله )) الجليس الصالح ( 1 : 246 ) .
2 ـ قال المعافى : (( وقد اختلفت القراءة في اللفظ بهذه الكلمة في القرآن، فكان أبو جعفر المدني يقرأ : (لا يحزنك الذين ) ، و(إنه ليحزنك) ، و( أيها الرسول لا يحزنك الذين ) ، و( إني ليحزنني أن تذهبوا به) ، ويستمر على هذا في القرآن كله إلا في قوله: (لا يُحزنهم الفزع الأكبر) ، فإنه يضم الياء فيه، وأما نافع فعلى عكس هذا المذهب لأنه ضم ما فتحه أبو جعفر في هذا الباب وفتح ما ضمه، وكان ابن محيصن يضم ذلك كله، وكان الجمهور من القراء بعده يفتحون الجميع .
وفي استقصاء هذه المعنى وذكر ما يتصل له لتفريق من فرق بين بعضه وبين بعض، والاحتجاج فيما اختلف المقرئون فيه مواضع جمة من كتبنا في علوم القرآن، نأتي على البيان عنه إن شاء الله عز وجل )) الجليس الصالح ( 1 : 199 ـ 200 ) .
3 ـ قال المعافى : ((... هكذا في كتابي: (واستوى والرجال) بالواو، ورفع الرجال عطفاً على الضمير الذي في استوى، والفصيح من كلام العرب في مثل هذا أن يؤكدوه ثم يعطفوا عليه فيقولوا: فاستوى هو والرجال، وقد جاء في الشعر غير مؤكد، قال جرير:
ورجا الاخيطل من سفاهة رأيه ... ما لم يكن وأبٌ له لينالا
والبصريون من النحويين يستقبحون ترك التوكيد فيه، والأمر فيه عند الكوفيين أيسر، على أنهم يختارون التوكيد ويؤثرونه، وقد أنشد الفراء:
ألم تر أن النبع يصلب عوده ... ولا يستوي والخروع المتقصف
ولو قيل: فاستوى والرجال بمعنى مع الرجال كان حسناً، وهذا من الباب الذي يسمى باب المفعول معه، كقولهم: استوى الماء والخشبة، وجاء البرد والطيالسة، كما قال الشاعر:
فكونوا أنتم وبني أبيكم ... مكان الكليتين من الطحال
وقد يقال: استوى الماء بالخشبة، وروي هذا البيت: واستوى بالرجال، وجاء في الخبر: ذكر التبيع في ولد البقر، فقيل: هو الذي استوى قرناه بأذنيه، ومن هذا النحو قولهم: ما صنعت وأباك.
وهذا باب يتسع القول فيه من قبل صناعة النحو ومذاهب أهله، وليس هذا من مواضع شرحه، وقد ذكرناه في موضعه من كتبنا في النحو وعلوم القرآن الكريم، وفي رسالةٍ أفردناها )) ( الجليس الصالح 2 : 63 ـ 64 ) .
ويظهر أنه يستخدم (علوم القرآن ) للدلالة على عموم ما كتبه في أنواع هذا العلم ، وقد يستخدمه أحيانًا قرينًا لعلم القراءات ، وكأنه يعني به ( التفسير ) .
أمثلة لإطلاقات العامة عنده :
1 ـ قال المعافى : ((يتجاوز حد ما قصدناه بكتابنا هذا وبيانه في مواضع من كتبنا في علوم القرآن )) .
2 ـ قال المعافى : (( وفي استقصاء هذه المعنى وذكر ما يتصل له لتفريق من فرق بين بعضه وبين بعض، والاحتجاج فيما اختلف المقرئون فيه مواضع جمة من كتبنا في علوم القرآن، نأتي على البيان عنه إن شاء الله عز وجل)) .
3 ـ قال المعافى : (( ... وروي عن عبد الله بن كثير أنه قال في معنى قوله تعالى: وأسبغ عليكم نعمة " هي شهادة أن لا إليه إلا الله في ما زعموا، وقيل بل هو عام شامل للنعم؛ ومثل هذا في القرآن كثير. وقيل إن هذا مما ينبئ الواحد منه عن جملة جنسه، كقولهم: هلكت الشاة والبعير، وكثر الدرهم الدينار في أيدي الناس، وقال الله تعالى ذكره: " والعصر. إن الإنسان لفي خسرٍ " العصر: 1،2 أراد الجنس دون اختصاص إنسان واحدٍ، ألا ترى أنه استثنى منه جمعاً فقال: " إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات " العصر: 3 وهذا باب مستقصى في ما رسمناه من علوم القرآن )) .
4 ـ قال المعافى : (( وفي ضعف لغتان: الضم والفتح، وقد قرأت القرأة بهما في القرآن، وزعم بعض علماء اللغة أن وجه الكلام فيه أن يضم حيث يكون إعراب الكلمة فيه غير النصب، ويفتح مع النصب، واستقصاء الكلام في هذا في موضعه من الكتب المؤلفة في علوم القرآن )) .
5 ـ قال المعافى : (( وخفيت وأخفيت جميعاً يرجعان إلى أصل واحد، خفيت أي أزلت الإخفاء وأخفيت أي فعلت الإخفاء، ونحن نبين ما في هذه الكلمة من القرآن والمعاني ووجوه التفسير وطريق الإعراب والتأويل في مواضعه من كتبنا في القرآن إن شاء الله )).
6 ـ قال المعافى : (( وسيأتي في موضعه من كتبنا المؤلفة في علوم تنزيل القرآن وتأويله إن شاء الله )) .
7 : (( وقد ذكرناه في موضعه من كتبنا في النحو وعلوم القرآن الكريم، وفي رسالةٍ أفردناها )) .
8 ـ قال المعافى : (( وهذا باب واسع مستقصى في كتبنا المؤلفة في علوم التنزيل والتأويل )) .
9 ـ قال المعافى : ((واستقصاء هذا الفعل وتلخيصه، في موضعه من كتبنا في علوم التنزيل والتأويل )) .
وله عبارات عامة مقاربة لتلك السابقات ، مثل :
1 ـ قال المعافى : (( واستقصاء ما فيه مرسوم في كتبنا المؤلفة في القرآن )) .
2 ـ : قال المعافى : (( وهذا باب يتسع القول فيه، ولنا فيه كلام كثير مشروح في مواضع من كتبنا في القرآن والفقه والنحو)) .
ومن أمثلة للمغايرة بين علوم القراءات وعلوم القرآن :
1 ـ (( وهو مرسوم فيما ألفناه من كتبنا في القراءات وعلوم القرآن على الشرح والبيان)) .
2 ـ قال المعافى : ((وهذا مشروح في كتبنا التي ألفناها في القراءات والتأويل )) .
وهذه مغايرة بين التفسير والقراءات ، ومثلها عبارته الآتية :
3 ـ قال المعافى : ((شرح ما فيه من التأويل والقراءات في موضعه في كتبنا في علل التأويل والتلاوة إن شاء الله )) .
4 ـ وقوله كذلك : ((وهذا كله مشروح مع تسمية من قرأ به، وحجج المختلفين فيه في كتبنا المؤلفة في حروف القرآن وتأويله)) .
وكل هذه المواضع ـ وغيرها مما لم أقف عليها ـ تحتاج إلى دراسة موازنة ، وهي مفيدة في تحرير مصطلح ( علوم القرآن) عند المعافى أولاً ، وفي تاريخ تطور هذا المصطلح ثانيًا .
فوائد من كتاب الجليس الصالح للمعافى :
الفائدة الأولى : رجحان ما في القرآن من البلاغة على الشعر
قال المعافى : ((حدثني محمد بن الحسين بن دريد، قال: أبو عثمان الأشنانداني، قال: أخبرني العتبي، قال: دخل الشعبي على عبد الملك، فقال: يا شعبي! أنشدني أحكم ما قالت العرب وأوجزه، فقال: يا أمير المؤمنين، قول امرىء القيس:
صبت عليه وما تنصب من أممٍ ... إن الشقاء على الأشقين مصبوب
وقول زهير:
ومن يجعل المعروف من دون عرضه ... يفره ومن لا يتق الشتم يشتم
وقول النابغة:
ولست بمستبقٍ أخاً لا تلمه ... على شعثٍ أي الرجال المهذب
وقول عدي بن زيد:
عن المرء لا تسأل وأبصر قرينه ... إن القرين بالمقارن يقتدي
وقول طرفة:
ستبدي لك الأيام ما كنت جاهلاً ... ويأتيك بالأخبار من لم تزود
وقول عبيد بن الأبرص:
وكل ذي غيبةٍ يؤوب ... وغائب الموت لا يؤوب
وقول لبيد:
إذا المرء أسرى ليلةً ظن أنه ... قضى أملاً والمرء ما عاش عامل
وقول الأعشى:
ومن يغترب عن قومه لا يزل يرى ... مصارع مظلومٍ مجراً ومسحبا
وقول الحطيئة:
من يفعل الخير لا يعدم جوازيه ... لا يذهب العرف بين الله والناس
وقول الحارث بن عمرو:
فمن يلق خيراً يحمد الناس أمره ... ومن يغو لا يعدم على الغي لائما
وقول الشماخ:
وكل خليل غير هاضم نفسه ... لوصل خليلٍ، صارمٌ أو معارز
فقال عبد الملك: حججتك يا شعبي بقول طفيل الغنوي:
ولا أخالس جاري في حليلته ... ولا ابن عمي غالتني إذاً غول
حتى يقال إذا دليت في جدثٍ ... أين ابن عوفٍ أبو قران مجعول
قال القاضي أبو الفرج: بيتا طفيل اللذان أنشدهما عبد الملك وفضلهما وزعم أنه حج الشعبي من أشعار الشعراء غير مقصر عنهما، ومن تأمل ما وصفنا وجده على ما ذكرنا، من غير أن يحتاج إلى تكلف تفسير ذلك، وإطناب في الاحتجاج له، فأما بيت الشماخ فإن معنى قوله: غير هاضم نفسه، أي حامل عليها لخليله والهضم: النقص، يقال: هضم فلانٌ فلاناً حقه أي نقصه، قال الله جل جلاله: " ومن يعمل من الصالحات وهو مؤمنٌ فلا يخاف ظلماً ولا هضماً " وأما قوله: أو معارز، فالمعارز المتقبض، يقال: استعرز علي فلان إذا انقبض، وألقيت البضعة على النار فعرزت، وكأن الشماخ سلك سبيل النابغة في بيته الذي أنشده الشعبي في هذا الخبر، وأصل الغرض في هذه الجملة، على ما بين البيتين مما لأحدهما من الشف من تنقيح ألفاظ الشعر، وفضل استغناء أجزاء أحد البيتين على أجزاء الآخر، وأنا قائلٌ في هذا قولاً يبين صحته ويوضح حقيقته إن شاء الله، وأقول وبالله التوفيق: إن جملة الألفاظ للبيتين التي تجمعهما على معنى واحد، هو أن الذي يحفظ الأخوة بين الأخوين، ويحرس الخلة بين الخليلين أن يلم أحدهما صاحبه على شعثه ويهضم له نفسه، ومتى لم يفعل هذا لم يكن على ثقة من استبقائه وكان بعرض مصارمته، وانقباضه عنه ومعارزته، وبيت النابغة في هذا الباب أفحل وأوفى، وأجزل وأشفى، وقد كشف عن العلة فيما أتى به بقوله: أي الرجال المهذب، فأحسن العبارة عن هذا المعنى: " من تك يوماً بأخيك كله " ، وقد نوه بيت النابغة هذا رواة الشعر ونقلته، ونقاده وجهابذته، واستحسنوا تكافؤ أجزائه، واستقلال أركانه، واشتماله على فقر قائمة بأنفسها، كافية كل واحدة منها، وهذا من النوع المستفصح، والفن المستعذب، من أعلى طبقات البلاغة، وقد أتى القرآن منه بالكثير الذي يقل ما أتى منه في الشعر إذا قيس إليه، فتبين للمميزين كثير فضل ما في القرآن عليه، فمن ذلك قول الله جل وعز: " فلذلك فادع واستقم كما أمرت ولا تتبع أهواءهم وقل آمنت بما أنزل الله من كتابٍ وأمرت لأعدل بينكم، الله ربنا وربكم، لنا أعمالنا ولكم أعمالكم لا حجة بيننا وبينكم، الله يجمع بيننا وإليه المصير " ولنا في هذا الباب رسالة أبنا فيها رجحان ما في القرآن من هذا الجنس على كثرته، على ما أتى منه في الشعر على قلته، فلم نطل كتابنا هذا بإعادته، وقد ضممنا معه شطراً صالحاً كتابنا المسمى " البيان الموجز في علوم القرآن المعجز " ومن نظر فيه أرشف على ما يبتهج بدراسته، ويغتبط باستفادته بتوفيق الله تعالى وهدايته )) .
الفائدة الثانية : مذهب الصحابة في العموم
قال المعافى : ((حدثنا أحمد بن إسحق بن بهلول إملاءً في يوم الاثنين لخمس ليال بقين من شعبان سنة ست عشرة وثلثمائة، قال: حدثنا أبي، عن أبيه، عن أبي شيبة، عن هشام بن عروة، عن أبيه، عن عائشة، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " إن من الشعر حكماً، وإن أصدق بيت تكلمت به العرب قول الشاعر: ألا كل شيء ما خلا الله باطل "
مذهب للمؤلف في الصغير
قال القاضي أبو الفرج: هذا البيت الذي حكاه النبي صلى الله عليه وسلم عن قائله من الشعراء هو للبيد بن ربيعة، افتتح به كلمة فقال في أولها:
ألا كل شيءٍ ما خلا الله باطل ... وكل نعيم لا محالة زائلُ
وبعده:
وكل أناسٍ سوف تدخل بينهم ... دويْهيةٌ تصفرُّ منها الأنامل
وقد روى أن عثمان رضوان الله عليه، لما سمع قوله: وكل نعيم لا محالة زائل، قال كذب، نعيم أهل الجنة لا يزول، وهذا القول من عثمان يدل على أن مذهب القوم في العموم هو جارٍ في لغتهم على الشمول عند تجرده واستغراق الجنس بإطلاق لفظه)) الجليس الصالح 1 : 218 )
الفائدة الثالثة : الصهيبي الذي يُمتحن به القراء :
قال المعافى : ((وحدثني أحمد بن كامل، قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن القاسم المعروف بأبي العيناء، قال: أتيت عبد الله بن داود الخريبي فقال لي: قد حفظت القرآن، قال: فاقرأ: " واتل عليهم نبأ نوحٍ إذ قال لقومه " ، قال: فقرأت العشر حتى أنفدته، قال: اذهب فتعلم الفرائض، قال: فلت: قد حفظت الصلب والجد والكبر، قال: فأيما أقرب إليك، ابن أخيك أو عمك؟ قال: قلت: ابن أخي، قال: ولم؟ قال: قلت: لأن ابن أخي من أبي، وعمي من جدي، قال: اذهب الآن فتعلم العربية، قال: قلت: قد علمتها قبل ذين، قال: فلم قال عمر بن الخطاب حين طعن: يا لله للمسلمين، لم فتح تلك اللام وكسر هذه؟ قال: قلت: فتح تلك للدعاء ومسر هذه للاستنصار قال: لو حدثت أحداً لحدثتك.
قال القاضي: قلت لابن كامل أمل هذا الحديث: ما أنصفه لما أوقع به هذه المحنة، وأسرع بما لم ينكره من الإجابة، بمنعهما التمس من الفائدة، فضحك.
قال القاضي: هذا العشر الذي استقرأه الخريبي أبا العيناء يعرف بالصهيبي ويمتحن به من يتعاطى الحفظ من القراء، وله حديث نذكره فيما يأتي من مجالسناً هذه إن شاء الله، وأما اللام في الموضعين من هذين فإن أئمة النحويين من الكوفيين والبصريين رووها مفتوحة في الموضعين، وإذا قيل: يا للقوم، فهو استغاثة تفتح فيه لام المدعو، وإذا قيل: للماء فالكسر لازم لام المدعو له أو إليه، كأنه قال: أدعوكم للماء، وقال الشاعر:
يالَ بكرٍ انشروا لي كليباً ... يالَ بكرٍ أين أين الفرار؟
وقال الأعشى:
يالَ قيس لما لقينا العاما
أي أدعوكم لهذا، وشرح واستقصاء فروعه وعلله يطول، وله موضع غير هذا.
وصية الحجاج بأهل البصرة
حدثنا الحسين بن أحمد الكلبي: قال: حدثنا محمد بن زكريا، قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن عائشة: قال: حدثني أبي: قال: أراد الحجاج الخروج من البصرة إلى مكة فخطب الناس، فقال: يا أهل البصرة إني أريد الخروج إلى مكة وقد استخلفت عليكم محمداً ابني وأوصيته فيكم بخلاف ما أوصى به رسول الله صلى الله عليه وسلم في الأنصار، فإنه أوصى في الأنصار أن يقبل من محسنهم ولا يتجاوز عن مسيئهم، ألا وإني قد أوصيته فيكم ألا يقبل من محسنكم ولا يتجاوز عن مسيئكم، ألا وإنكم قائلون بعدي كلمة ليس يمنعكم من إظهارها إلا الخوف، ألا وإنكم قائلون: لا أحسن الله له الصحابة، إني معجلٌ لكم الجواب: لا أحسن الله عليكم الخلافة )) الجليس الصالح 1 : 289 ـ 290 ) .
ــــــــــــــــــــــــــــــ
(1) استفدت أيضًا من الكتبة الشاملة لرصد بعض القضايا التي طرحتها .
(2) يُنظر في هذا ماكتبه محققو كتاب الجليس الصالح ( الدكتور محمد مرسي الخولي والدكتور إحسان عباس ) .
(3)هكذا ورد في كتابه ( الجليس الصالح ) مرة ( علم ) ومرة أخرى ( علوم ) ، فهل هو من المؤلف ، أو هو من النساخ ؟ الله أعلم .