القول المبين في إثبات نزول القراءات من رب العالمين

إنضم
02/04/2003
المشاركات
1,760
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
السعودية
الموقع الالكتروني
www.tafsir.org
الحمد لله الذي أنزل على عبده الكتاب ولم يجعل له عوجاً وتبارك الذي أنزل الفرقان على عبده ليكون للعالمين نذيراً وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له ، له الملك وله الحمد ، خلق كل شيء فقدّره تقديراً .
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله ، أرسله الله شاهداً ومبشراً ونذيراً ، وداعياً إلى الله بإذنه وسراجاً منيراً صلى الله وسلم تسليماً كثيراً أما بعد :-
فإنّ القرآن الكريم كلامُ الله الذي أنزله على رسوله محمد صلى الله عليه وسلم عن طريق روح القدس جبريل – عليه السلام – نزل به على قلب محمد – عليه الصلاة والسلام – ليكون من المنذرين .
فتلقّاه الرسول صلى الله عليه وسلم ووعاه وحفظه بتيسير الله ذلك له – ثم أدّاه الرسول الأمين كما تلقاه وبلّغه لأصحابه وعلّمهم إياه كما تعلّمه بدون زيادة ولا نقصان وما كان ينبغي له أن يتقوّل شيئاً ويدّعي أنه من عند الله وقد قال الله تعالى : ( وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الْأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ . فَمَا مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حَاجِزِينَ) (الحاقة:44 - 47) .
هذه هي عقيدة أهل السنة والجماعة في القرآن الكريم ( فالقرآن كلامُه : سوُره ، وآياتُه ، وكلماته .
تكلم به بحروفه ومعانيه .
ولم ينـزله على أحدٍّ قبل محمِّد صلى الله عليه وسلم .
أسمعَه جبريلَ – عليه السلام – وأسمعَهُ جبريلُ محمّداً – صلى الله عليه وسلم – وأسمعه محمدٌ – صلى الله عليه وسلم – أمتَه وليس لجبريل ولا لمحمدٍ صلى الله عليه وسلم إلا التبليغُ والأداءُ ) . ا هـ [color=990000][من كتاب العقيدة السلفية في كلام رب البرية . تأليف : عبد الله الجديع ص80 .][/color]
فمصدر القرآن هو الوحي، أي أن القرآن نزل من الله رب العالمين فهو ( تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ) (الواقعة:80) .
وهو كلامه جل وعلا )وَإِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجَارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ )(التوبة: 6).
والآيات الكريمة التي تدل دلالة صريحة على أن مصدر القرآن الكريم هو الوحي كثيرة معلومة ، منها :
1- قوله تعالى : ( وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقَاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ مَا يُوحَى إِلَيَّ إِنِّي أَخَافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذَابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ ) (يونس:15) .

2- قوله تعالى : ( وَإِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ) (النمل:6) .
3- قوله تعالى : ( وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى . إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحَى . عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوَى) ( النجم : 5 ) .
4- قوله تعالى : (تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ . وَلَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنَا بَعْضَ الأَقَاوِيلِ . لأَخَذْنَا مِنْهُ بِالْيَمِينِ . ثُمَّ لَقَطَعْنَا مِنْهُ الْوَتِينَ) (الحاقة: 43 - 46) .
وإذا تقرّر أن مصدر القرآن الكريم هو الوحي ؛ فإن مصدر القراءات المتواترة الصحيحة – التي تلقتها الأمّة بالقبول ووافقت رسم المصاحف العثمانية – هو الوحي أيضاً .
وبيان ذلك : أن القراءات الصحيحة التي تلقتها الأمة بالقبول ووافقت رسم المصاحف العثمانية – جزء من القرآن الكريم وبعضُ حروفه التي نزل بها وإذا ثبت الحكم للكل فإنه يثبت للجزء كما هو ظاهر .
( فكلما أن القرآن وحي منـزل من عند الله تعالى – فالقراءات كذلك وحيٌ منـزل من عنده جل وعلا ؛ فإن الوحي نزل بكل وجه من الأوجه المتواترة التي يقرا بها القرآن الكريم ، فكما أن الوحي نزل بقراءة : " ننشزُها " وهي من القرآن أيضاً ....
فالقراءات القرآنية المتواترة ، هي أبعاض القرآن وأجزاؤه ، وبعض الشيء وجزؤه لا يقال عنه هو غيره ، فالقراءات القرآنية المتواترة تمثل بمجموعها الوحي المنـزل على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم ) اهـ[color=990000] [باختصار وتصرف يسير من كتاب إتقان البرهان في علوم القرآن للأستاذ الدكتور : فضل حسن عباس ( 2/140-141) وقد ذكر هذا في سياق كلامه عن العلاقة بين القراءات والقرآن رداً على مَن زعم أن القرآن والقراءات حقيقتان متغايرتان .][/color].

فالمسلك الأول لبيان أن مصدر القراءات القرآنية هو الوحي هو أنها جزء من القرآن والقرآن مصدره الوحي .

والمسلك الثاني لبيان أن مصدر القراءات القرآنية هو الوحي هو أن هذه القراءات بعض الأحرف السبعة .
قال الإمام ابن الجزري – رحمه الله - :
( الذي لا يشك فيه : أن قراءة الأئمة السبعة والعشرة ، والثلاثة عشر ، وما وراء ذلك بعض الأحرف السبعة مِن غير تعيين ...
قال الإمام أبو العباس أحمد بن عمّار المهدوي :
وأصح ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك:
أن ما نحن فيه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن )[color=990000] [من منجد المقرئين ص181 – 182 باختصار . وانظر كلام المهدوي في مقدمة كتابه شرح الهداية (1/5) بتحقيق الدكتور حازم سعيد حيدر .][/color].

وإذا ثبت أن القراءات القرآنية الثابتة هي بعض الأحرف السبعة ثبت أنه أنزلت من عند الله لأنّ الأحرف السبعة أنزلت من عند الله كما نصت على ذلك

الأحاديث الكثيرة الصحيحة في نزول القرآن على سبعة أحرف .
فمن الروايات في ذلك :
1- روى البخاري ومسلم في صحيحهما عن ابن عباس رضي الله عنهما أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال :
" أقرأني جبريل على حرف ، فراجعته ، فلم أزل أستزيد ويزيدني حتى أنتهى إلى سبعة أحرف "[color=990000] [البخاري رقم 3219 و 4991 طبعة بيت الأفكار الدولية ومسلم رقم 819 ط : بيت الأفكار الدولية .][/color].
2- وروى البخاري ومسلم عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قال : سمعت هشام بن حكيم بن حزام يقرأ سورة الفرقان في حياة رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فاستمعت لقراءته ، فإذا هو يقرؤها على حروف كثيرة لم يقرئنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فكدت أساوره في الصلاة ، فانتظرته حتى سلّم ثم لببته بردائه أو بردائي ، فقلت : مَن أقرأك هذه السورة ؟ قال : أقرأنيها رسول الله صلى الله عليه وسلم ، قلت له : كذبت ، فو الله إن رسول الله صلى الله عليه وسلم أقرأني هذه السورة التي سمعتك تقرؤها . فانطلقت أقوده إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم ، فقلت يا رسول الله : إني سمعت هذا يقرأ سورة الفرقان على حروف لم تقرأنيها ، وأنت أقرأتني سورة الفرقان ، فقال : رسول الله صلى الله عليه وسلم : أرسله يا عمر . اقرأ يا هشام ، فقرأ هذه القراءة التي سمعته يقرؤها .
قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : هكذا أنزلت ، ثم قال : " اقرأ يا عمر " ، فقرأت القراءة التي أقرأني ، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " كذلك أنزلت ، إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف ، فأقرؤوا ما تيسّر منه " [color=990000][أخرجه البخاري رقم 4992 وكذلك مسلم رقم 818 ، ط : بيت الأفكار الدولية .][/color]

( فإذا تأملنا هذه الأحاديث وجدناها تدل بوضوح على أن القراءات كلها من الوحي ، وليس للرسول صلى الله عليه وسلم فيها سوى التبليغ ) [color=990000][إتقان البرهان في علوم القرآن ( 2/143 – 144 ) ][/color].

وأما المسلك الثالث لبيان أن مصدر القراءات القرآنية هو الوحي فيتضح مِن خلال أقوال العلماء المعتبرين ومنهم علماء القراءات الذين اجتمعت الأمة على إمامتهم .
(فإذا نظرنا إلى استمداد علم القراءات وجدنا علماء القراءات يقولون إن القراءة سنّة متبعة ، لا مجال فيها للاجتهاد أو القياس ، حتى ولو كان لقوة وجه في اللغة فالرواية إذا ثبتت عندهم لا يردها قياس عربية ولا فشو لغة . لأن القراءة سنة متبعة يلزم قبولها والمصير إليها ) .
قال الإمام الشاطبي – رحمه الله - :
وما لقياس في القراءة مدخلُ

فدونك ما فيه الرضا متكفّلاً
[color=990000][انظر النشر لابن الجزري (1/38) ومتن حرز الأماني للشاطبي باب مذاهبهم في القراءات رقم 12 ، وإتقان البرهان في علوم القرآن (2144) ][/color]

قال الزجاج في سياق كلام له : ( قال أبو إسحاق : ولكنّي لا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأن بها إلا إن ثبتت رواية صحيحة ، قال شيوخنا من أهل العلم : القراءة سنّة متبعة ، ولا يرون أن يقرأ أحد بما يجوز في العربية إذا لم تثبت به رواية) .[color=990000][انظر كتابه معاني القرآن (4/116) وانظر بيان منهجه في القراءات في كتاب النحو وكتب التفسير للدكتور / إبراهيم عبد الله رفيده (1/381-382) .][/color]

وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في سياق كلام له : ( وأما قول السائل : ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ؟
فهذه مرجعه إلى النقل واللغة العربية ، لتسويغ الشارغ لهم القراءة بذلك كله – إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه – بل القراءة سنة متبعة ) .[color=990000][انظر كتاب من فتاوى الأئمة الأعلام حول القرآن ص48 ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام ( 13/389 وما بعدها ) ][/color].

وقال الإمام بن الجزري – رحمه الله – في مقدمة كتابه النشر ( ومن ثم امتنعت القراءة بالقياس المطلق وهو الذي ليس له اصل في القراءة يرجع إليه ولا ركن وثيق في الأداء يعتمد عليه كما روينا عن عمر بن الخطاب وزيد بن ثابت رضي الله عنهما من الصحابة ، وعن ابن المنكدر وعروة ابن الزبير وعمر بن عبد العزيز وعامر الشعبي من التابعين أنهم قالوا : القراءة سنّة يأخذها الآخر عن الأول ، فاقرأوا كما تعلمتموه ... ) ا هـ [color=990000][النشر في القراءات العشر لابن الجزري (1/17) ][/color].
وقد أطال الإمام ابن الجزري – رحمه الله – تقرير ذلك في كتابه القيّم : منجد المقرئين ومرشد الطالبين ، وعقد فيه باباً كاملاً قال فيه : الباب السادس في أن العشرة بعض الأحرف السبعة ، وأنها متواترة فرشاً وأصولاً ، حال اجتماعهم وافتراقهم ، وحلِّ مشاكل ذلك .
وقد ردّ فيه على الذين قالوا بأن هناك وجوه في القراءات ليست متواترة رداً علمياً مفصلاً .
ومما ذكر فيه قول إمام الأصوليين القاضي أبي بكر ابن الطيب الباقلاني في كتاب الانتصار ، حيث قال : ( جمع ما قرأ به قراء الأمصار مما اشتهر عنهم ، واستفاض نقله ، ولم يدخل في حكم الشذوذ ، بل رآه سائغاً جائزاً
من همزٍ وإدغام ومدٍّ وتشديد وحذفٍ وإمالة أو تركِ كل ذلك ، أو شيء منه ، أو تقديم أو تأخير ، فإنه كله منـزّل من عند الله – تعالى - ، ومما وقف الرسول صلى الله عليه وسلم على صحته وخيّر بينه وبين غيره ،
وصوّب جميع القراء به ) [color=990000][انظر منجد المقرئين ص194 ، 195 ][/color].

وذكر أيضاً قول الإمام الحافظ الحجّة أبي عمرٍ الداني في كتابه جامع البيان ، حيث قال : ( وأئمة القراء لا تعمل في شيء من حروف القرآن على الأفشى في اللغة والأقيس في العربية ، بل على الأثبت في الأثر . والأصح في النقل . والرواية إذا ثبتت عنهم لم يردها قياس عربية ، ولا فشو لغة ؛ لأن القراءة سنة متبعة . يلزم قبولها والمصير إليها ) [color=990000][منجد المقرئين ص203 .][/color].

ومما ذكر ابن الجزري – رحمه الله – في باب آخر من كتابه المذكور فتوى للعلاّمة الأصولي : عبد الوهّاب بن السبكي الشافعي ، أجاب فيها على سؤال كتبه له ابن الجزري نفسه ، فقال السبكي : ( الحمد لله ، القراءات السبع التي اقتصر عليها الشاطبي ، والثلاث التي هي قراءة أبي جعفر ، وقراءة يعقوب وقراءة خلف ، متواترة معلومة من الدين بالضرورة ، وكل حرف انفرد به واحد من العشرة معلوم من الدين بالضرورة أنه منـزّل على رسول الله صلى الله عليه وسلم لا يُكابر في شيء من ذلك إلا جاهل وليس تواتر شيء منها مقصوراً على من قرأ بالروايات ، بل هي متواترة عند كل مسلم يقول : أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمداً رسول الله ، ولو كان مع ذلك عامياً جلفاً لا يحفظ من القرآن حرفاً ) .
ولهذا تقرير طويل وبرهان عريض لا يسع هذه الورقة شرحه ، وحظ كل مسلم وحقه : أن يدين الله تعالى ويحزم نفسه بأن ماذكرناه متواتر معلوم اليقين ، لا تتطرق الظنون ولا الارتياب إلى شيء منه ، والله أعلم ) [color=990000][منجد المقرئين ص174-175 ][/color]

وبعد هذا البيان ، أقول : ( إن المصدر الوحيد للقراءات إنما هو الوحي النازل مِن السماء إلى النبي عليه الصلاة والسلام الذي بلّغه بكل دقة وبكل حركة إلى أصحابه الكرام ، فكان يقرئهم إياه كما أنزل كما روى ابن مسعود أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقرئهم العشر فلا يجاوزونها إلى عشر أخرى حتى يتعلموا ما فيها من العلم والعمل ، فإذا ما علمهم القرآن ، فأتقنوا تلاوته ، أحبّ أن يسمعه منهم توثيقاً لما سمعوه عنه .
روى البخاري ومسلم عن ابن مسعود – رضي الله عنه – قال : قال رسول الله صلى الله عليه وسلم : " اقرأ عليّ القرآن " قلت : " يا رسول الله ، أقرأ عليك وعليك أنزل ، قال : " إني أحب أن أسمعه من غيري " ، فقرأت عليه سورة النساء ... حتى إذا جئت إلى هذه الآية :  فَكَيْفَ إِذَا جِئْنَا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَجِئْنَا بِكَ عَلَى هَؤُلاءِ شَهِيداً  (النساء:41) قال : " حسبك الآن " فالتفت إليه فإذا عيناه تذرفان .[color=990000][البخاري رقم 5050 ومسلم رقم 800 ، ط : بيت الأفكار الدولية ][/color].

إذن فالأمر في تعدد القراءات أمر أخذٍ ونقل من الوحي فلا يجوز لمسلم أن يعزو أيّة قراءة لغير ذلك ... ) [color=990000][باختصار من كتاب البيان في علوم القرآن إعداد : د : سليمان القرعاوي و د : محمد بن علي الحسين ص151 – 152 وقد جاء في هذا الكتاب ما يستحق الرجوع إليه ][/color].

وبقي أن أشير في هذا البحث المختصر إلى أن هناك من خالف هذا الأصل الكبير فادّعى وزعم أن مرجع القراءات ليس هو السماع بل الاجتهاد ، وشكك في مصدر القراءات ، وأتى بشبه لا ثبات لها أمام برهان الحق الوضح المبين .
ولن أذكر أقوال هؤلاء ومزاعمهم في هذه المسألة العظيمة الشأن الجليلة القدر لأمور :
الأمر الأول : أن الذين يُنسب إليهم القول المخالف لما قررناه في هذا البحث هم – في الغالب – من غير المتخصصين في علم القراءات ، وقديماً قالوا : مَن خاض في غير فنّه أتى بالعجائب .

الأمر الثاني : أنه قد أُلفت في الرد عليهم مؤلفات وتصدى للرد على مزاعمهم وإبطال شبهاتهم علماء كثيرون ، ومنهم الإمام العلاّمة محمد بن محمد بن محمد بن الجزري – رحمه الله – وخاصة في كتابه : منجد المقرئين . وغيره كثير من المتقدمين والمتأخرين .
الأمر الثالث : أن هذا يحتاج إلى بحث كامل مفصل ، وليس هذا مجالاً لذلك .

[line]

خاتمة البحث

لعله تبين لنا مِن خلال ما سبق من آيات وأحاديث ونقولات عن أهل العلم أن الحق الذي لا يُمارى فيه : أن القراءات سنة متبعة نقلت بالرواية والمشافهة من فيِّ رسول الله صلى الله عليه وسلم – وهي قرآن لا تنفك عنه ، وهي ليست مغايرة له – بل هي ألفاظ متفاوتة نزل بها الروح الأمين من رب العالمين ، ليس للرسول صلى الله عليه وسلم ولا لجبريل عليه السلام فيها إلا التبليغ والأداء .
ولم تكن القراءات وليدة خط أو رسم أو عدم شكل وضبط لكتاب الله تعالى ، ومَن يقول هذا فهو ضال أو جاهل . وكثير ممّن خالف هذا الأصل العظيم وأدّعى أن مصدر القراءات ليس هو السماع المتلقّي من الوحي – وإنما هو من اجتهاد القراء – هم من الذين لهم مقاصد خبيثة ونوايا سيئة ، يريدون الوصول من خلال ما أدّعوه إلى أهداف معروفة لمن نوّر الله بصيرته وأعظمها التشكيك في مصداقية أعظم كتاب عند المسلمين وأصدقه وهو القرآن الكريم .
ولكنهم لم يستطيعوا ذلك ولن يستطيعوه بإذن الله تعالى لان الله قد تكفّل بحفظ كتابه فقال :  إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ  (الحجر:9) .
قال أبو بكر بن مجاهد في كتاب جامع القراءات : ( ولم أر أحداً ممن أدركت من القراء وأهل العلم باللغة وأئمة العربية يُرّخصون لأحدٍ في إن يقرأ بحرفٍ لم يقرأ به أحدٌ من الأئمة الماضين ، وإن كان جائزاً في العربية ، بل رأيتهم يشددون في ذلك وينهون عنه ، لئلا يجسر على القول في القرآن أهلُ الزيغ ، وينسبون مَن فعله إلى البدعةِ والخروج عن الجماعة ومفارقة أهل القبلة، ومخالفة الأمة)اهـ .[color=990000][نقلاً عن كتاب : التبيان لبعض المباحث المتعلقة بالقرآن على طريق الإتقان للعلامة طاهر الجزائري ص120 .][/color]

وجاء في فتوى اللجنة الدائمة للبحوث العلمية والإفتاء ما نصه : ( وما وجد فيه مِن القراءات فهي كلها تنزيل من حكيم حميد ، ليس نعددها عن تخريف أو تبديل ، ولا لبس في معانيها ، ولا تناقض في مقاصدها ولا اضطراب ، بل بعضها يصدق بعضها ويبين معناه ...
ومِن ذلك يتبيّن أن : تعدد القراءات كان يوحي من الله لحكمة لا عن تحريف وتبديل ، وأنّه لا يترتب عليه أمور شائنة ، ولا تناقض أو اضطراب بل معانيها مؤتلفة ومقاصدها متفقة ) [color=990000][الفتوى رقم 1977 نقلاً عن كتاب : من فتاوى الأئمة الأعلام حول القرآن ص191– 193.][/color]

وختاماً أسأل الله – سبحانه وتعالى – أن يجعل ما قلت وما ذكرت في هذا البحث صواباً ولوجهه الكريم خالصاً وأن ينفع به من كتبه وقرأه – إنه سميع مجيب - .


حرر ليلة الجمعة 28/5/1425هـ . الساعة الثانية بعد منتصف الليل .
 
ياله من بحث جميل !

و لكن لي بعض الاستفسارات عن بعض الكلمات ..
قال الزجاج في سياق كلام له : ( قال أبو إسحاق : ولكنّي لا أعلم أحداً قرأ بها فلا تقرأن بها إلا إن ثبتت رواية صحيحة ، قال شيوخنا من أهل العلم : القراءة سنّة متبعة ، ولا يرون أن يقرأ أحد بما يجوز في العربية إذا لم تثبت به رواية) .[انظر كتابه معاني القرآن (4/116) وانظر بيان [color=FF0000]منهجه [/color]القراءات في كتاب النحو وكتب التفسير للدكتور / إبراهيم عبد الله رفيده (1/381-382) .]

فهل هي منهجه أم منهجية أم منهج ؟؟؟

و كذلك ..
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية – رحمه الله – في سياق كلام له : ( وأما قول السائل : ما السبب الذي أوجب الاختلاف بين القراء فيما احتمله خط المصحف ؟
فهذه مرجعه إلى النقل واللغة العربية ، لتسويغ الشارغ لهم القراءة بذلك كله – إذ ليس لأحد أن يقرأ قراءة بمجرد رأيه – بل القراءة سنة متبعة ) .[انظر كتاب من فتاوى الأئمة الأعلام حول القرآن ص48 ، ومجموع الفتاوى لشيخ الإسلام [color=FF0000]( 131/389 وما بعدها )[/color] ].

فما هو رقم الجزء و الصفحة بالضبط ؟

معذرة لسخافة تعليقاتي و لكني أنوي إعطاء هذا البحث لأحدهم ليستفيد منه .
 
شكراً لك أخي هشام .

وما سألت عنه من إشكالات سببها أخطاء مطبعية .

وسأصححها إن شاء الله .

فالأول : صوابه : ومنهجه في القراءات . أي منهج الزجاج في تناوله للقراءات في كتابه معاني القرآن .

والثاني : 13 / 389 وما بعدها .
 
جزاك الله خيرا شيخنا الفاضل أبو مجاهد ....ولي سؤال حول هذا الموضوع ..
وهو أنك أشرت من خلال حديثك أن هذه القراءات هي بعض الأحرف السبعة التي نزل عليها القرآن .. واستفساري هل هذه القراءات هي من الأحرف السبعة متفرقة ، أم أن هذه القراءات هي من الحرف الذي اقتصر عليه عثمان بن عفان رضي لله عنه حينما جمع القرآن في عهده على حرف واحد وأحرق جميع الأحرف .. أي أن الحرف الذي أجمعت الأمة على القراءة به قد تعددت فيه القراءات .

بارك الله بعلمك ..
 
[grade="00008B FF6347 008000 4B0082"]بحث رائع جدا

بارك الله فيك يا أخ / ابو مجاهد

ونفع الله بك وبعلمك

وياليت البحوث العلمية تنشر ويستفاد منها
وحبذا لو كان هناك منتدأ خاص بالبحوث العلمية يرجع اليها من شاءها
[/grade]
 
سؤال الأخ المنذر يندرج تحت مسألة كبيرة من مسائل نزول القرآن على سبعة أحرف ، وهي : علاقة المصاحف العثمانية بالأحرف السبعة ، وقد أشرت إليها في آخر بحثي لهذا الموضوع هنا :مجالس في دراسة بعض موضوعات علوم القرآن(المجلس الرابع : في الأحرف السبعة )

ولعل ما ذكره الإمام أبو العباس المهدوي في شرح الهداية يعتبر خلاصة جيدة لهذه المسألة ، حيث قال :
( وأصح ما عليه الحذاق من أهل النظر في معنى ذلك - إن شاء الله - : أن ما نحن عليه في وقتنا هذا من هذه القراءات هو بعض الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن .
وتفسير ذلك : أن الحروف السبعة التي أخبر النبي صلى الله عليه وسلم أن القرآن أنزل عليها تجري على ضربين :
أحدهما : زيادة كلمة ونقص أخرى ، وإبدال كلمة مكان أخرى ، وتقدمة كلمة على أخرى ، وذلك نحو ما روي عن بعضهم : { ليس عليكم جناح أن تبتغوا فضلاً من ربكم في مواسم الحج } [ البقرة : 195 ] ... ورُوي عن بعضهم : { وجاء سكرة الحق بالموت } [ ق : 18 ] ، فهذا الضرب وما أشبهه متروك لاتجوز القراءة به ، ومن قرأ بشيء منه غير معاند ولا مجادل عليه وجب على الإمام أن يأخذه بالأدب بالضرب والسجن على ما يظهر له من الاجتهاد ، فإن قرأ به وجادل عليه ودعا الناس إليه وجب عليه القتل ، لقول النبي صلى الله عليه وسلم : { المراء في القرآن كفر } ولإجماع الأمة على اتباع المصحف المرسوم .
والضرب الثاني : ما اختلف فيه القراء من إظهار وإدغام وروم وإشمام وقصر ومدّ ، وتخفيف وشدّ ، وإبدال حركة بأخرى ، وياء بتاء وواو بفاء وما أشبه ذلك من الاختلاف المتقارب ، فهذا الضرب هو المستعمل في زماننا هذا ، وهو الذي عليه خط مصاحف الأمصار ، سوى ما وقع فيه من اختلاف في حروف يسيرة .
[color=990000]فثبت بهذا أن هذه القراءات التي نقرؤها هي بعض من الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن استعملت لموافقتها المصحف الذي اجتمعت عليه الأمة ، وتُرك ما سواها من الحروف السبعة لمخالفته لمرسوم المصحف ، إذ ليس بواجب علينا القراءة بجميع الحروف السبعة التي نزل عليها القرآن ، وإذ قد أباح النبي عليه السلام لنا القراءة ببعضها دون بعض لقوله عزوجل : { فَاقْرَءُوا مَا تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْءَانِ } [ المزمل : 20 ] فصارت هذه القراءات المستعملة في وقتنا هذا هي التي تيسرت لنا بسبب ما رآه سلف الأمة من جمع الناس على هذا المصحف ؛ لقطع ما وقع بين الناس من الاختلاف وتكفير بعضهم لبعض ، فهذا أصح ما قال العلماء في معنى هذا الحديث ، وما أشبهه من الأحاديث المأثورة عن النبي عليه السلام [/color]) ا هـ .
[ شرح الهداية للإمام أبي العباس المهدوي 1/5 - 7 باختصار يسير . ]
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله وحده، الرحمن، علم القرآن. والصلاة والسلام الأتمان الأكملان على سيد ولد آدم، النبي العدنان، الذي أرسل نذيرا وبشيرا بالقرآن، وعلى آله الطيبين وأصحابه الغر الميامين، الذين حموا كتاب الله من التلف، بين يديه دونوه، وبعده جمعوه وفي المصاحف قيدوه، فحموا الأمة، بإذن الله حافظ البيان، من الاختلاف. فرضي الله عنهم أجمعين وجزاهم الله عنا خير الجزاء.
أما بعد،
فإن ما قاله الأستاذ الفاضل محمد بن عبدالله بن جابر القحطاني حفظه الله، في بحثه، مشكورا عليه، في بعضه نظر من أوجه عدة، تنبع جلها من خلال خلطه بين القران، وبين القراءات.
فالقرآن هو كلام الله، المنزل من عند رب العالمين عبر الروح الأمين على قلب المصطفى النبي الكريم، وهو الذي تواتر عن الصحابة فنقلوه متواترا في مصاحف عثمان، وحفظوه في صدورهم، وأدوه أداء لتلاميذهم من التابعين. وهو بين أيدينا، ولله الحمد والمنة.
أما القراءات فهي هذه الطرق في أداء القرآن ونطقه وترتيله وتجويده وتخريج أوجه تلاوته. وهي فيها الصحيح، الذي هو جزء من الوحي، وفيها الضعيف الذي أضيف إما قياسا مطلقا أو غير مطلق وإما لضعف في الحفظ.
وهذا الجزء، أي القراءات، هو الذي قسمه الإمام ابن الجزري، رحمه الله تعالى ورضي عنه، في كتابه النشر في القراءات العشر إلى قسمين:
1 - صحيحة هي من الأحرف السبعة التي نزل بها الوحي، فقال رحمه الله: "كل قراءة وافقت العربية ولو بوجه ووافقت أحد المصاحف العثمانية ولو احتمالاً وصح سندها فهي القراءة الصحيحة التي لا يجوز ردها ولا يحل إنكارها بل هي من الأحرف السبعة التي نزل بها القرآن".
2 - ضعيفة أو شاذة أو باطلة بسبب خلل فيها، بسبب سقوط ركن من الأركان الثلاثة السالفة الذكر والتي نظمها في الطيبة بقوله:
فكل ما وافق وجه نحو *** وكان للرسم احتمالا يحوي​
وصح إسنادا هو القرآن *** فهذه الثلاثة الأركان.​
وقال عن هذا الصنف في النشر: "ومتى اختل ركن من هذه الأركان الثلاثة أطلق عليها ضعيفة أو شاذة أو باطلة سواء كانت عن السبعة أم عمن هو أكبر منهم، هذا هو الصحيح عند أئمة التحقيق من السلف والخلف".
ولقد قام رحمه الله، وكثيرون من أئمة القراءة والدين قبله كابن مجاهد والهذلي والداني والشاطبي وغيرهم جزاهم الله خيرا، بجهد كبير في تصفية القراءات المتداولة والمدونة وتخليصها من الشوائب والشواذ، والنظر في صحة إسنادها، فأخرج لنا ذلك في تحبيره للتيسير للداني، وفي درته المضيئة المحبرة للحرز، ثم في نشره وطيبته.
إلا أن جهود تخليص القراءات مما علق بها من "اجتهادات" أو "وضع" أو ما اصطلح عليه بالقياس، لا تزال تحتاج إلى المزيد، وفقا لنفس منهاج ابن الجزري وغيره من علماء القراءات المعتبرين، لنخلص في الأخير إلى نفس القراءة، أو القراءات، التي أقرأ بها النبي صلى الله عليه وسلم صحابته، وأقرأ بها الأصحاب رضوان الله عليهم التابعين.
وإنه لمن الانكفاء والابتداع والابتعاد على الحق أن ننكر على من يقوم بهذه المهمة الجليلة، منكرين عليه تارة بما ألفنا مما علق بالقراءات عبر الأجيال من شواذ وقياس معسر، وملصقين به تهما عظيمة تارة أخرى كالاستشراق وغيره.
فهذا الجهد في تخليص القراءات وتحقيق أسانيدها، وإبعاد شاذها يجب ألا يتوقف حتى يرث الله تعالى الأرض ومن عليها، ليستخلصوا لنا طرق قراءة الأصحاب، عليهم رضى الرحمن، لكلام الله تعالى سلسلا عذبا سلسبيلا.
وما أشبه هذا العمل الجليل بجهود علماء الحديث رضي الله عنهم في تخريج الأحاديث، فيدرسون أسانيدها، ويمحصون متنها، وينظرون في رجالها جرحا وتعديلا، ليستخلصوا لنا في النهاية كلام الحبيب المصطفى صلى الله عليه وسلم نقيا من شوائب القرون وتدليس المدلسين وتلبيس الكذابين والوضاعين.
فأما القرآن فهو متواتر، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأما القراءات وهي الطرق المختلفة لأداء تلاوته ففيها، كما رأينا الباطل الوضوع والشاذ العسير والقياس والشنيع وفيها أيضا الصحيح العذب السلسل. وحكمها حكم الحديث النبوي من حيث حاجتها إلى التخريج والتحرير والتخليص المستمر والنظر في سير القراء، واتصال أسانيد الطرق.
- يتبع –
والسلام عليكم ورحمة الله.
 
عودة
أعلى