بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله والصلاة والسلام على سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم. أما بعدمن كتاب قواعد التفسير لفضيلة الدكتور مساعد الطيار _تحت عنوان إحداث قول ثالث في التفسير _وفي هذا الموضوع يرسم لنا فضيلته الطريقة المثلي لإحداث قول ثالث في التفسير، وبالأخص في الآيات الكونية، ويلقي الضوء على الفرق بين التفسير والاستنباط، ويؤصل لهذه المسألة ، ويضع ضوابطها .
ونصه: نأتي الآن إلى مسألة تتعلق بالاختلاف، يعني: مندرجة تحته، هل يجوز إحداث قول في تفسير الآية لم يقل به السلف، الآن لما تنظر في التفسير كما قال ابن جزي إما متفق عليه وإما مختلف فيه، سواء كان متفقاً عليه أو مختلفاً فيه، فـالطبري منهجه مثلًا: أن المتفق عليه والمختلف فيه في نهايته إجماع، بمعنى: أنه لا يجوز الخروج عن أقوالهم، فإذا قال السلف قولين في الآية، وجاء أحد اللغوين وذكر وجهاً ثالثاً رده؛ قال: لأنه خارج عن إجماع السلف، يقال: ما أجمعوا هم اختلفوا؛ يقول لك: إجماعهم على هذين القولين دون غيرهما إجماع، فيحكم بالإجماع بهذا الشكل، هذه فكرة الطبري فهل نتبع الطبري على هذا، أو أن المسألة عند العلماء وهناك تحريرات غير الطبري رحمه الله تعالى.
لننظر الآن: هل هذه القضية قضية أصولية ترتبط بأصول الفقه، أم تختلف عن فكرة الإجماع المتعلق بالفقه؟
ننظر ونعطي مثالاً لواحد من الأصوليين المعاصرين، الشنقيطي رحمه الله تعالى، أنا أعرف هذا، لا، دعنا من الفقه، هو كقضية فقهية شيء آخر، لكن المقصود الآن لكي نعرف أن القضية ليست أصولية، القضية هذه لا تدرس أصولية وإن كان أصحاب أصول الفقه أشاروا إليها، التي هي قضية إحداث تفسير انتبهوا! ليس كلامي عن إحداث قول في الفقه، كلامي الآن عن إحداث قول في التفسير.
عندنا الآن لما نتأمل من خلال ما درسته معكم سابقاً، في عندنا إما تفسير وإما استنباط، والتفسير كما ظهر لنا عندما تناقشنا فيه أنه مرتبط ببيان معنى الآية، فلما نأتي الآن إلى بيان المعاني يختلف عن الاستنباط، الاستنباط قد يدخله هذه القضية، قد يدخله بعض القضايا المتعلقة بالفقه، وإن كان الاستنباط في غيرها أوسع، لكن الأصل أنه يجوز إحداث قول ثالث أو رابع؛ على حسب الحاجة فإحداث قول لم يقل به السلف في التفسير، هذا هو الأصل، لأنه لما تنظر أنت الآن إلى قضية هذا القول المحدث هو مرتبط بالمعنى، فأنت الآن تدرسه من خلال صحة هذا المعنى، ومن خلال احتمال الآية له.
فإذا أردنا أن نضبط هذه المسألة فنقول: إن هناك ضوابط لأي قول يذكر بعد السلف.
ضوابط إحداث قول آخر في التفسير
الضابط الأول: أن لا يناقض ما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم أو ما ورد عن السلف، بمعنى: أنه لو جاء إنسان وقال بقول يخالف ما ورد في تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم، أو يناقض ما ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أو يناقض ما ورد عن السلف فإنه لا شك يدل على بطلانه.
الضابط الثاني: أن يكون المعنى المذكور صحيحاً بذاته.
ومعنى صحيح بذاته أي: معروف في اللغة أو في اصطلاح الشريعة، يعني: فإذا فسر المفسر بغير اللغة أو اصطلاح الشريعة؛ فإنه يدل على أن المعنى غير صحيح بذاته، وهذا يدخل فيه جملة المصطلحات الحادثة، وكذلك جملة المصطلحات التي ليست من العلوم الإسلامية؛ ولهذا لما ترجع إلى تفسير (الكرسي) و (العرش) عند بعض الفلاسفة الذين عاشوا في ظل الإسلام؛ ستجد أنهم حملوا (الكرسي) و (العرش) على الفلك الثامن والفلك التاسع، الكرسي: الفلك الثامن، والعرش: الفلك التاسع.
الفلك الثامن والفلك التاسع ما هما؟ وما هو مصدرهما؟ مصدرهم علم الهيئة والنجوم، فركبوا ما أخذوه من هذا على ما ورد في القرآن، وقطعاً أنه مخالف؛ لأنه عندما نرجع إلى لغة العرب العرش عند العرب معروف، الكرسي عند العرب معروف، هو كذا وكذا، يخالف ما ذكره هؤلاء، فدل على بطلان قولهم.
ومن أشهر الأمثلة التي في أذهانكم وقد سبق طرقها: الاستواء: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى[طه:5]، لا يجوز أن يقال: الرحمن على العرش استولى لأنه لا يجوز لغة، ولأنه غير معروف في لغة العرب، هذا مصطلح حادث غير معروف في لغة العرب؛ فإذاً المعنى بذاته غير صحيح فنرده.
الضابط الثالث وهو نتيجة لهذين الضابطين: أن تحتمله الآية، يعني: تحتمل الآية هذا المعنى الجديد.
الضابط الرابع وهو مهم جداً أيضاً: ألا يقصر معنى الآية عليه، يعني: على هذا القول الحادث، ولا يهمل أيضاً الوارد عن السلف، وهذا الضابط قد يستغربه بعضكم، لكن من يقرأ في كتب التفسير العلمي بالذات، الذي يسمى بالتفسير العلمي يجد أن هذا الضابط ينخرم كثيراً عندهم؛ فكأنه لا يوجد تفسير للآية إلا ما فسروه به، يعني لما تتأمل كلامهم؛ وكأنه لا يوجد تفسير في الآية إلا ما فسروه به.
فإذاً عندنا هذه ضوابط بالذات لما يتعلق بالمعاني اللغوية، إذا كان معنا معنى لغوي أو تحليل لغوي، فإنه جاء بمعنى مستنداً على اللغة، فلما يجيء (استوى) بمعنى: (استولى) هي شبيهة بأن تكون معنىً لغوياً، فإذا نظرنا في لغة العرب لا نجدها، كذلك التأويل الذي سبق أن طرحته لكم إذا فسر بالتأويل الحادث، فكذلك يدل أنه ليس من لغة العرب فيرد، فالآية في سورة آل عمران لا تعني أبداً التأويل الحادث.
فالذي يناقض ما جاء عن تفسير النبي صلى الله عليه وسلم أو ما ورد عن السلف، الأمثلة عليها كثيرة وراجعوا الكتاب التي ذكرته لكم في مجازات القرآن للشريف الرضي ستجدون أمثلة كثيرة جداً مناقضة لتفسير السلف، وقد ذكرت لكم مثالاً منها في قضية: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلأْتِ وَتَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ[ق:30]، فهي مخالفة لما جاء عن النبي صلى الله عليه وسلم، في أن النار تتكلم صراحة، وأن الرب سبحانه وتعالى يكلمها صراحة، وفي أمثلة كثيرة لهذا النوع الذي يناقض تفسيرات السلف في هذا الكتاب، هذا طبعاً إشارة سريعة إلى بعض الأمثلة.
وإذا كان الموضوع يتعلق بالاستنباط وغيره - فنزيد ضابطاً آخر وهو ألا يخالف ما جاء في الشريعة عموماً، يعني: ضابط نزيده أنه ما يخالف ما جاء في الشريعة؛ فمثلاً الذي سبق أن ذكرناه في قوله سبحانه وتعالى: إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ[الكهف:14]، أيضاً الصوفية استدلوا في قوله: (إذ قاموا) على جواز الرقص! هذه أحد الآيات التي استدلوا بها؛ فنحن الآن ننظر إلى قضية الرقص هذا أصلاً مخالف للشريعة، فلا يقبل هذا الاستنباط.
إذاً: يكون عندنا ضوابط في قضية النظر في الأقوال الحادثة، سواءً كانت متعلقة ببيان المعنى أو كانت خارجة عن بيان المعنى إلى الاستنباطات أو غيرها، لأضرب لكم مثلاً وما زلت أكرره كثيراً هذا على غيركم، ولكن هذا من باب المدارسة، يعني ليس للتقرير، لكنه مثال: في قوله سبحانه وتعالى: وَالأَرْضَ بَعْدَ ذَلِكَ دَحَاهَا[النازعات:30]، الآن فهمنا من تفسير السلف أنه على وجهين:
الوجه الأول: أن الدحو بمعنى: البسط.
والوجه الثاني: أنه إخراج الماء .. إلخ، هل هناك وجه جديد عندنا؟ هذه مدها: بسطها، نفسه، دحاها بمعنى: جعلها كالدحية التي هي الكرة، والدحية كانت لعبة يلعب بها الأطفال في عهد الصحابة يسمونها الدحية، وأيضاً تسمى أيضاً البيضة؛ لأنها هي نفس الصفة.
إذاً: الآن لما ننظر إلى هذه اللفظة، من حيث اللغة صحيحة، فيكون المعنى صحيحاً بذاته.
ننظر الآن هل يناقض ما جاء في تفسيرات النبي صلى الله عليه وسلم أو تفسير الصحابة؟ نحن ما عندنا إلا تفسيرين للسلف، هل يناقض ما جاء عنهم؟ ما يناقض، تحتمله الآية؟ يعني: فلما نقول: الأرض بعد ذلك كورها أي جعلها كرة محتمل، هذا المعنى أنا ما قصرت الآية عليها، قلت: هذا أحد المعاني المحتملة، يعني: معنى ثالث محتمل، فانضبطت الشروط فيصح التفسير به.
وهذه مدارسة، فمن رأى أنه صحيح؛ يمشي عليه، لكن أنا أقول هذا من باب المدارسة وفي أمثلة كثيرة لما تنظر إليها تتحرر لك من هذه الجهة، سواءً كانت في التفسير بما يسمى بالعلمي أو غيره، فإذا تحررت لك هذه الضوابط، فالأصل أنه يكون تفسيراً صحيحاً، هذا هو الأصل.
قد يقول شخص: هذا المعنى المحتمل ما يناقض المعاني الأخرى؟ ما يناقضه، ليس ضده؛ لأن المناقضة يعني: الضد، هذا يقول كذا وهذا يقول كذا، يعني: ضده، لا يمكن تحتمل الآية إلا معنى واحداً، وهنا نقطة وذكرها الطاهر بن عاشور لو رجعت إليها في مقدمته: أنه تعدد المعاني للفظ الواحد من إعجازات القرآن، أشياء مما يختص به القرآن، وهي نفس كلام أبي الدرداء عندما قال: وإنك لا تفقه كل الفقه حتى ترى للقرآن وجوهاً، فهذه هي الوجوه، هذه التفسيرات..
فمسألة التضاد هذه فيها إشكالية، التضاد هو أنه إذا قلنا بقول لا يمكن القول بالآخر، يعني: ما يجتمعان معًا، مثل (القرء) القرء: الحيض، القرء: الطهر، إما هذا أو هذا، المجادل إما أهل الإيمان أو أهل الشرك في قوله تعالى: يُجَادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ[الأنفال:6].. وهكذا، فَنَادَاهَا مِنْ تَحْتِهَا[مريم:24]، إما المنادي عيسى أو المنادي جبريل ، واحد منهما، هذا نسميه تضاد؛ لأنه لا يمكن القول بهما معاً.