القلائد الرازية في العجائب القرآنية

إنضم
06/06/2014
المشاركات
1
مستوى التفاعل
0
النقاط
1
الإقامة
السعودية
بسم1


اخترتُ لك أخي القارئ دررًا بديعة من كتاب "عجائب القرآن"، للإمام: فخر الدين الرازي، المتوفى سنة 606هـ، رحمه الله ورضيَ عنه، وهو سِفر لطيف خفيف، احتوى على مباحث ونِكات في غاية الروعة والتفنن، فنشطتُ إلى انتقاء بعضٍ من عجائبه لننتفع بها ونندفع، وعجائب القرآن لا تنفد، فهو فتْحٌ يفتحه الله على من يشاء عباده.. خلّقنا الله وإياكم بأخلاق القرآن، ورزقنا تلاوته آناء الليل وأطراف النهار، وأسكننا به الظُلل، وألبسنا به الحُلل، إنه قريب مجيب..

*** قال الله سبحانه لرسوله -صلى الله عليه وسلم-: (فاعلم أنه لا إله إلا الله واستغفر لذنبك وللمؤمنين والمؤمنات) [محمد: 19]، اعلم أن الله تعالى قدّم الأمر بمعرفة التوحيد على الأمر بالاستغفار، والسبب فيه: أن معرفة التوحيد إشارة إلى علم الأصول، والاشتغال بالاستغفار إشارة إلى علم الفروع، والأصل يجب تقديمه على الفرع.

*** إنّ الله تعالى أمرك بطاعات كثيرة من الصلاة والصيام والحج، ويستحيل أن يوافقك الله في شيء منها، فهو المعبود وأنت العابد، ثم أمرك أن تقول: "لا إله إلا الله"، ثم إن الله يوافقك فيها فقال: (شهد الله أنه لا إله إلا هو والملائكة وأولو العلم قائما بالقسط لا إله إلا هو العزيز الحكيم) [آل عمران: 18].
والمقصود من التكرير وجهان: أن يكون العبد مواظبا على تكريرها طول عمره، والثاني: كأنه قال: عبدي، جعلتُ هذه الكلمة أول الآية وآخرها، فاجعلها أنت أيضا أول عمرك وآخره، حتى تفوز بالنجاة والسلامة.

*** الشرك سببٌ لخراب العالم، بدليل قوله تعالى: (تكاد السموات يتفطرن منه وتنشق الأرض وتخر الجبال هدا * أن دعوا للرحمن ولدا) [مريم: 105]، وإذا كان الشرك سبباً لخراب العالم، وجب أن يكون التوحيد سبباً لعمارة العالم، فإذا كان التوحيد سبب لعمارة العالم، فأولى أن تكون سببا لعمارة القلب الذي هو محل الوحدانية، ولعمارة اللسان الذي هو محل ذكر الوحدانية، وذلك يناسب عفو الله عن أهل التوحيد.

*** من متعلقات كلمة التوحيد "لا إله إلا الله" تقديم النفي على الإثبات، وله أغراض منها:

* أنّ نفي الربوبية عن غيره ثم إثباتها له آكد في الإثبات من إثباتها له من غير نفيها عن غيره، كما أن قول القائل: ليس في البلد غير فلان أقوى في باب المدح من قولنا: فلان عالم البلد.
* أنّ لكل إنسان قلباً واحداً، والقلب الواحد لا يتسع باشتغال شيئين دفعة واحدة، فبقدر ما يبقى مشغولاً بأحد الشيئين يبقى محروماً من الشيء الثاني، فقولنا: "لا إله إلا الله" إخراج لكل ما سوى الله عن القلب، حتى إذا صار القلب خالياً عن كل ما سوى الله، ثم خطر فيه سلطان الله، أشرق نوره إشراقاً تاماً، وكمل استيلاؤه عليه كمالاً قوياً.
* أنّ النفي الحاصل بـ"لا" يجري مجرى الطهارة، والإثبات الحاصل بـ"إلا" يجري مجرى الطهارة والصلاة، فكما أن الطهارة مُقدّمة على الصلاة، فكذا وجب تقديم "لا إله" على قولنا "إلا الله"، ويجري كذلك مجرى تقديم الاستعاذة على القراءة.

*** حكى الله تعالى عن سؤال الناس للنبي –صلى الله عليه وسلم- عن أمور، كقوله: (ويسألونك عن المحيض قل هو أذى) [البقرة: 222]، وقوله (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول) [الأنفال: 1]، فذكر في هذه المواضع بكذا وكذا إلا في آية واحدة وهي أنهم سألوه عن مسألة أصولية، وهي قوله: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا) [طه: 105]، فههنا حرف تعقيب وهو الفاء، يعني: يا محمد اذكر هذا الجواب في الحال، لأن هذه مسألة أصولية، ولا يجوز تأخير الجواب عنها، لأن ذلك يقدح في الإيمان، أما سائر المسائل فإنها فرعية، فلا يكون تأخير الجواب عنها ضارًا إلا وقت الحاجة.

*** إنّ الله تعالى لما بيّن دلائل الصانع ووحدانيته أردف هذه المسألة بمسألة إقامة الدلالة على نبوة محمد -صلى الله عليه وسلم- فقال: (وإن كنتم في ريب مما نزلنا على عبدنا فأتوا بسورة من مثله) [البقرة: 23]، وذلك لأن المتحدَّى به وقع بكل القرآن في قوله: (قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله) [الإسراء: 88]، فلما عجزوا عن معارضة كل القرآن أتبعه التحدي بعشر سور من القرآن فقال: (فأتوا بعشْر سور مثله مفتريات) [هود: 13]، فلما عجزوا أتبعه بسورة واحدة فقال: (فأتوا بسورة من مثله) [البقرة: 23]، فلما عجزوا أتبعه التحدي بآية فقال: (فليأتوا بحديث مثله) [الطور: 34]، فلما عجزوا عنه مع توافر الدواعي ظهر كونه معجزًا باهرًا، وبرهاناً قاهرًا.

*** عن أبي سعيد الخدري -رضي الله عنه- أن رجلا سمع رجلا يقرأ (قل هو الله أحد) يرددها، فلما أصبح جاء إلى رسول الله –صلى الله عليه وسلم- فذكر له ذلك، وكأن الرجل يتقالّها (بتشديد اللام، وأصله يتقاللها، والمقصود استقلال العمل لا التنقيص من عظمة السورة وجليل قدرها)، فقال رسول الله –صلى الله عليه وسلم-: "والذي نفسي بيده، إنها لتعدل ثلث القرآن[رواه البخاري].

*** اعلم أنّ موسى –عليه السلام- كان على نهج أبو الأنبياء إبراهيم –عليه السلام- في استدلالاته، وذلك أنه حكى في سورة طه أن فرعون قال له ولهارون: (فمن ربكما يا موسى) [طه: 49]، فرد بقوله: (ربنا الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى) [طه: 50]، وهذا هو الدليل الذي ذكره إبراهيم -عليه السلام- حيث قال: (الذي خلقني فهو يهدين) [الشعراء: 78].

*** قال الله تعالى: (وأنزل من السماء فأخرج به من الثمرات رزقا لكم[البقرة: 22]، فإن السماء كالأب، والأرض كالأم، ينزل المطر من صلب السماء إلى رحم الأرض، فيتولد منها أنواع النبات.

*** قد يجتهد الإنسان في طلب كل شيء فلا يجد، وكثيرا ما يكون غافلا عنه فيحصل، وعند ذلك يعلم كل أحد عند نقص العزائم وفسخ الهمم أنه لا بد من مدبر يكون تدبيره فوق تدبير البشر، وربما اجتهد العاقل الذكي في الطلب فلا يجد، والغُرّ الغبي يتيسر له ذلك المطلوب. فعند هذه الاعتبارات يلوح لنا صدق قول الشافعي –رحمه الله-:
ومن الدليل على القضاء كونه .. بؤس اللبيب وطيب عيش الأحمق
ثم حكى الله تعالى عن موسى في سورة الشعراء أنه قال لفرعون: (ربكم ورب آبائكم الأولين) [الشعراء: 26]، وهذا هو الذي عوّل عليه إبراهيم -عليه السلام- في قوله: (ربيَ الذي يحي ويميت) [البقرة: 258]، فلما لم يكتفِ فرعون بذلك وطالبه بدليل آخر، قال موسى: (فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب) [البقرة: 258]، وهذا ينبهك على أن التمسك بهذه الدلائل حجة هؤلاء الأنبياء عليهم السلام.

*** إنّ السراج إذا كان في البيت، وكان موضوعاً في كوّة مسدودة بزجاجة، أضاء داخل البيت وخارجه، وكذلك سراج المعرفة يضيء القلب وخارج القلب، حتى يظهر نوره على الأذنين والعينين واللسان، فتظهر فنون الطاعات في هذه الأعضاء، وإليه الإشارة بقوله عليه الصلاة والسلام: "اللهم اجعل في قلبي نورا، وفي سمعي نورا، وفي بصري نورا.. الحديث" [رواه مسلم].

*** من أراد أن يستوقد سراجا احتاج إلى سبعة أشياء: إلى زناد وحجر وحراق وكبريت ومسرجة وفتيلة ودهن، والعبد إذا طلب أن يوقد سراج المعرفة فلا بد من زناد الجهد (والذين جاهدوا فينا لنهدينهم سبلنا) [العنكبوت: 69]، وحجر التضرع (ادعوا ربكم تضرعا وخفية) [الأعراف: 55]، وأما الحراق فهو إحراق النفس بمنعها من شهوتها (ونهى النفس عن الهوى) [النازعات: 40]، وكبريت الإنابة (وأنيبوا إلى ربكم) [الزمر: 54]، ومسرجة الصبر (واصبروا إن الله مع الصابرين) [الأنفال: 46]، وفتيلة الشكر (واشكروا نعمت الله إن كنتم إياه تعبدون) [النحل: 114]، ودهن الرضا بقضاء ربك، قال تعالى: (واصبر لحكم ربك) [الطور: 48]، فهذه الحرفة متعلقة بك في حفظ عهد العبودية وإذا وفيت بعهد العبودية فهو أولى أن يفي بعهد الربوبية كما قال تعالى: (وأوفوا بعهدي أوف بعهدكم) [البقرة: 40].

*** القلب إذا كان فارغا من الخوف والحزن الدائميْن لأهوال الآخرة، فحينئذ يُنفث فيه الوسوسة لآمال الدنيا والجمع لها، ومخافة فقرها، مع لزوم طول الأمل لقلبه، وإعراضه عن الله تعالى، وانقطاع مواد عظمة الله منه، وفراغه من الهيبة والحياء منه، لكن إذا وُجد القلب عامرًا خنَس، ونَفَر منه، ولم يجد فيه مساغاً، ولا من جوانبه مدخلاً، لأن القلب عامر بالخوف والأحزان والفكر، فهو منير مضيء.

*** لو عقلتَ من الذي تراقب، ثم تقطّعت أعضاؤك قطعاً، وانشقّ قلبك، أو سحت في الأرض، لكنت بذلك محقوقاً، فلمّا لم تعقل لم تجد مسّ الحياء والخوف والمراقبة من الله، ومطالعته على ضميرك، وعِلْمه بما تجتلبه حواسك على قلبك، وقدرته المحيطة بك، ثم أعرضت بعد ذلك، كالمتهاون به إلى مراقبة من لا يطلع على سرك، ولا علم له بما في ضميرك، فقلت: لو اطلع الناس على ما في قلبي لقلوني ومقتوني، فَمَسَك الحياء والخوف منهم حذرًا من نقصان جاهك، وسقوط منزلتك عندهم، فكنتَ مراقبًا، ومنهم خائفًا ومن مقتهم مشفقًا، وإذا لم تخف مقت الله لك، وسقوط منزلتك وجاهك عنده، فمقت الله أكبر.

___
 
بارك الله فيك .

هناك تعليقا" على جزء من مشاركتك وهو: عند قولك


*** حكى الله تعالى عن سؤال الناس للنبي –صلى الله عليه وسلم- عن أمور، كقوله: ويسألونك عن المحيض قل هو أذى ][البقرة: ]، وقوله (يسألونك عن الأنفال قل الأنفال لله والرسول/[الأنفال: ، فذكر في هذه المواضع بكذا وكذا إلا في آية واحدة وهي أنهم سألوه عن مسألة أصولية، وهي قوله: (ويسألونك عن الجبال فقل ينسفها ربي نسفا)[طه: 105]، فههنا حرف تعقيب وهو الفاء، يعني: يا محمد اذكر هذا الجواب في الحال، لأن هذه مسألة أصولية، ولا يجوز تأخير الجواب عنها، لأن ذلك يقدح في الإيمان، أما سائر المسائل فإنها فرعية، فلا يكون تأخير الجواب عنها ضارًا إلا وقت الحاجة.
.....................................................................................................................
السؤال

هل المسألة الأصولية لايجوز تأخيرها ؟ مع التوضيح والدليل من الأمة والسلف


أريد مسائل أصولية لايجوز تأخير الجواب عنها.





[تمت المشاركة باستخدام تطبيق ملتقى أهل التفسير]
 
جزيت خير ا
البيت الذي ذكرته صوابه
ومن الدليل على القضاءوكونه .. بؤسُ اللبيب وطيبُ عيش الأحمق
والرواية الأشهر
ومن الدليل على القضاءوحكمه .. بؤسُ اللبيب وطيبُ عيش الأحمق
 
عودة
أعلى