القرآن ... من تفسير النص إلى تحليل الخطاب

إنضم
20/05/2009
المشاركات
42
مستوى التفاعل
0
النقاط
6


القرآن ... من تفسير النص إلى تحليل الخطاب

عبدالرحمن الحاج
26-03-2009

بدت الدراسات التفسيرية والتحليلية للقرآن وخطابه في يوم من الأيام كما لو أنها نضجت واحترقت وأشبعت بحثا، فالمدونة التفسيرية للقرآن الكريم تشكل أكبر إنتاج علمي في تاريخ الإسلام، وعلى الرغم من التنويعات المنهجية المحدودة (لغوية وتراثية) فإن الباحثين في التفسير يجدون أنفسهم أمام هذا الكم الهائل من كتب التفسير عاجزين عن تقديم الجديد.

وكانعكاس لهذا التصور فإن الدراسات القرآنية في المعاهد والكليات الشرعية تحتل مراتب دنيا من الاهتمام، فيما تأخذ الدراسات الفقهية والحديثية جل الاهتمام، وذلك على الرغم من أن الدراسات القرآنية في العقود الستة الأخيرة أثبتت خِصبَ البحث الدلالي في القرآن إلى درجة يبدو فيها القرآن كما لو أنه حقل بكر تماما.

ذلك يجعلنا نرى أن المشكلة ليست قائمة في الاهتمام بالدراسات القرآنية عموما فحسب، بل إن المشكلة أساسا قائمة أيضا في مسألة المنهج؛ إذ لم يحظ المنهج في التفسير (بالمعنى العلمي لمفهوم المنهج) بالدراسة الكافية في حقل الدارسات القرآنية، صحيح أنه كتبت مؤلفات كثيرة حول مناهج المفسرين، غير أنها لا تخرج في المحصلة عن فكرة المنهجين التقليديين (التفسير بالمأثور والتفسير بالرأي)، ولم يأخذ الخلاف حول البحث مفهوم "المنهج" ومرجعياته وتقنياته في أصول دراسة القرآن المساحة العلمية اللازمة، الأمر الذي جعل المعرفة الإسلامية اليوم تفتقد إلى علم مستقر لأصول التفسير على غرار علم أصول الفقه ومناهجه.( [1 ])

رخاوة مفهومية

وعلى الرغم من أن مفهوم الخطاب يعاني - مثل كثير من المصطلحات المتداولة في منظومة الفكر الإسلامي الحديث - من رخاوة مفهومية، بحيث إنه تسرب إلى هذه المنظومة من خلال الاحتكاك بالفكر الحداثي، وتم تداوله دون ضبط عميق له، بل إن تدواله تجاوز العادة في الفكر الإسلامي الحديث، ونعني بها "التأصيل" بأثر رجعي بالتراث الإسلامي، على الرغم من أننا نرى في التأصيل ممارسة فكرية خطيرة وبالغة الضرر على الفكر الإسلامي نفسه، إلا أن هذه العادة لم تمارس فيما يخص هذا المصطلح الذي أصبح مفتاحيا في الكتابات الإسلامية، وإنه لمن الضروري أن يتم دراسة هذا المصطلح وفهمه من مصادره الأصلية الغربية.

والواقع أن مصطلح الخطاب، كما يتم تداوله اليوم بوصفه تصورات حول قضية ما مستفادة من النص أو مجموعة نصوص يرجع أساسا إلى الفيلسوف الفرنسي "ميشيل فوكو"، الذي تأثرت به الدراسات اللسانية والاجتماعية والفلسفية في الربع الأخير من القرن العشرين على نحو عميق.

وعلى الرغم من أن مفهوم الخطاب مرتبط بشكل وثيق بالنصوص من خلال ارتباطه بمعاينها، إلا أن الخطاب من جهة أولى ليس هو المعنى الحرفي والمباشر للنص، وليس النص من مشمولاته، إنما هو قائم في المعنى الذي يستقى من المعنى المباشر والحرفي للنص، فمستوى المعنى التفسيري الحرفي والمباشر جزء من مفهوم النص ذاته، أما مستوى الخطاب - حيث النص هو وسيلة - فإن فهم مغزى النص وتأويله ومنطوقه ومسكوته (مفهومه) هو مشمولات مفهوم الخطاب.

ومن جهة ثانية فإن الخطاب دوما يمثل فعلا اجتماعيا بحيث لا يمكن فهمه بمعزل عن تأثيره وتداخله في العلاقات الاجتماعية في الفاعلين، ومن جهة ثالثة فإن ارتباطه بالنسق الاجتماعي يحيلنا إلى موضوع السلطة، وموضوع رؤية العالم (World View / Weltanschauung) (بمعناها الفردي وليس الأنثربولوجي الاجتماعي).

إن الخطاب بهذا المعنى يمكن أن يكون في عدة نصوص على أن يكون الربط بينها أنها جميعا صادرة عن جهة واحدة (حقيقية أو اعتبارية)، وموجهة لجهة واحدة محددة (حقيقية أو اعتبارية)، وعندما نقول "جهة" فإننا نعني أن المخاطِب أو المخاطَب يمكن أن يكون شخصا، ويمكن أن يكون جهة اعتبارية (مثل المؤسسة أو غير ذلك).

إن هذا التعريف للخطاب يقتضي أن النص بقدر ما هو مفارق لمفهوم الخطاب هو في الوقت نفسه جزء منه، كما يقتضي أنه لا بد أن يكون هناك سياق ما للخطاب ليمارس فيه فعله ويؤسس سلطته؛ إذ لا يمكن أن يكون هناك خطاب بدون سياق (أو مناسبة) عام أو خاص.

والسياق في الواقع نوعان، سياق لورود الخطاب، وسياق لتلقيه، ولكل منهما دوره في التأثير على فهم الخطاب، وإن كلا من طرفي الخطاب (المخاطِب والمخاطَب) وسياقي الخطاب (الورود والتلقي) ووسيلة الخطاب (النص) تؤلف ما يسمى "عناصر الخطاب" الستة، وهي مجموعة العناصر التي تعتبر من لوازم مفهوم الخطاب، وهي بالنسبة للقرآن الكريم: المخاطِب (الله U)، والمخاطَب (المخلوقات العاقلة ذات الإرادة المستقلة)، والخطاب (موضوع الخطاب ومحتوى الخطاب)، ووسيلة الخطاب (القرآن)، وسياق نزول الخطاب (عصر الرسول r)، وسياق تلقي الخطاب (عصر متلقي الخطاب).

وإذا كانت مقاربات المقارنة النصية لنصوص القرآن في المنهج الفيلولوجي الاستشراقي قد أثمرت في خمسينيات القرن المنصرم منهج التفسير الموضوعي، فإن دراسات المنهج البياني لمدرسة الأمناء في أربعينيات القرن المنصرم المتأثرة بالتأوُّليَّة الألمانية (Hermeneutics) بجوار دراسات توشيهيكو إيزوتسو (Toshihiko Izutsu) المعتمدة على مزيج من البحث اللساني (Linguistic) والأناسي (الأنثربولوجي Anthropological) قد فتح أفقا جديدا لدراسات القرآن، وقد عكست تلك الدراسات خطورة وأهمية المناهج الحديثة في تطوير الدراسات القرآنية.

من التفسير إلى التحليل

يمكن القول إن القرن العشرين شهد انتقالا في دراسة القرآن من مستوى التفسير النصي إلى مستوى تحليل الخطاب، (وفي مقدمة مؤشرات هذا الانتقال في عالمنا الإسلامي انتشار ما يُعرف بالتفسير الموضوعي)، وعلى الرغم من هذا الانتقال سهل لنا تقديم الخطاب القرآني في مواجهة قضايا العصر وتحدياته، وفتح أفقا جديدا للقرآن، إلا أن إهمال تطوير البحث المنهجي في الدراسات القرآنية وإغراء المعارك الأيديولوجية فسح الفرصة أمام من يريد تغيير عقائد المؤمنين بالتقدم نحو القرآن ومحاولة زعزعة إيمانهم من خلال زعم "فهم" جديد للقرآن اعتمادا على المناهج الحديثة.

غير أن الدراسات القرآنية الحديثة في تحليل الخطاب تتجه في الغرب نحو الدراسات الأنثروبولوجية أكثر من الدراسات اللسانية، بل تكاد لا تحظى الدراسات اللسانية للقرآن باهتمام يذكر، والمقلق في الأمر أن هذه الدراسات الأنثربولوجية للخطاب القرآني تزايدت بدواعي الظروف السياسية العالمية، وأعني تحديدا مناخ ما سمي بـ"الإرهاب" و"الأصولية الإسلامية"، واتجهت في العموم لإثبات أن العنف ظاهرة أصيلة في بنية الخطاب القرآني، ومهما تدثرت بأوشحة العلم تبقى الدوافع السياسية الأيديولوجية ظاهرة للعيان دون كثير جهد، ولا نذهب بعيدا عندما نقول إن كثيرا من هذه الدراسات لا تختلف عن رؤية البرلماني الهولندي في فيلمه الوثائقي البائس "الفتنة" إلا بمزاعم الآلة العلمية وألبسة المعرفة الحيادية.

لا بد أن نشعر بالقلق ونحن نرى محاولات موازية تصدر بنفس الدوافع ومن جهات مشابهة للغاية التي تنفي عن القرآن كل ما يتعلق بالعنف والجهاد، وحقيقة الأمر أن هذا العمل متلبس بالعلم ليس إلا محاولة لمحاربة ما يوصف بأنه "العنف الإسلامي" وأفكار "الجهاد"، الأمر - كما أشرت من قبل - هو الجمع بين الشيء ونقيضه باسم المعرفة، والمعرفة والعلم في كلا الحالتين مظلومان.

ثمة محاولات قديمة تجمع البحث الأنثروبولوجي بالبحث اللساني، هذا أكيد، وهذه المحاولات تتسم عموما بالعلمية إلى حد كبير، غير أن هذه المحاولات العلمية ذاتها كان لها "الفضل" في إضفاء مسحة العلمية على البحوث الأنثربولوجية من حيث لم تقصد.

وفي مقدمة هذه البحوث دراسة توشيهيكو إيزوتسو "المفاهيم الدينية الأخلاقية في القرآن" (1958) و"الله والإنسان في القرآن: دراسة في دلاليات التصور القرآني للعالم" (1963)، وتعتبر دراسة دانيال ماديغان "صورة القرآن عن نفسه" (2000) شكلا من أشكال دمج المعرفة اللسانية بالأنثروبولوجيا، لكن دراسة ماديغان تبدو كما لو أنها تحايل على البحث اللساني من أجل الوصول إلى تصورات أيديولوجية مدعومة بالأنثربولوجيا التي تتضخم فيها المركزية الغربية على نحو بارز، بالإضافة إلى المقولات الاستشراقية الكلاسيكية.

الدراسات القرآنية الحديثة ستبقى مشغولة إلى أمد غير قليل بمسألة تاريخية القرآن والتحليل الكلي له، وكلا الموضوعين في الواقع هما تعبير عن مركز تحديات الإسلام في معركته مع الحداثة، فالعلمانية (بمنظورها الفلسفي) تقتضي أنسنة كل شيء وَوَضْعَنَتَهُ.

والتعامل مع العصر يحتاج إلى مفاهيم وتأويلات جديدة سيكون التفسير الكلي بابها، وجديد الجديد فيما يخص الدارسات الكلية الغربية والعربية الحداثية للقرآن أنها بدأت تقرأ القرآن قراءة متربصة بحثا عن "العفريت"؛ أعني الإرهاب (مثل دراسة كريستوف لوكسمبورج)، أو محاربة للتصورات الدينية المقاومة تحت مسمى الإرهاب (مثل الدراسة الإسرائيلية التربوية "قرآن نت: مشروع اجتماعي").

وهذا مؤشر خطير على اتجاه لتفسير القرآن بالشيء ونقيضه لأغراض سياسية بحتة، وهو اتجاه يقتات على الدراسات العلمية للقرآن ويزرع بذور الانحياز فيها، وسيكون بمقدور دراسات الخطاب القرآني فيما إذا بدأت بالفعل في عالمنا الإسلامي من قبل المتخصصين في الدراسات الإسلامية أن تقوم بالتصدي لهذه الانحيازات الأيديولوجية وكشف التلاعبات السياسية بتأويلات القرآن الكريم تحت دثار العلم.

إن مهمة تطوير الدراسات القرآنية هي مسئولية علماء القرآن والباحثين المعاصرين في الجامعات والأكاديميات الإسلامية، وفي هذا الإطار فإن الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا أدخلت في مفردات مناهجها مقرر "الخطاب القرآني" (Qur'anic Discourse)، ويعتبر هذا المقرر فريدا من نوعه؛ إذ لا يوجد شبيه له في الجامعات الأخرى، الغاية منه مواكبة التطورات الحاصلة في دراسة القرآن الكريم التي نقلت دراسة القرآن من النص إلى الخطاب وفتحت مجالات جديدة للبحث في الدراسات القرآنية.

نحن ما زلنا بحاجة لتعريف الخطاب القرآني، لكن هذا التعريف لا يمكن أن يتم بصورة علمية دون معرفة عميقة ودقيقة بموضوع الخطاب ومفهومه في الدراسات اللسانية والاجتماعية الحديثة ومناهج تحليله، وهذه عقبة سيتم تجاوزها بلا شك مع تزايد النـزوع الأكاديمي للدراسات العربي، وتراجع الرهاب من العلوم اللسانية والاجتماعية الغربية في حقل الدراسات الإسلامية الذي بدأنا نشهد ملامحه في السنوات الأخيرة، وإذا ما تم تجاوز هذه العقبة، فإننا مقبلون ولا شك على تطور نوعي في الدراسات القرآنية، عنوانها تحليل الخطاب والانتقال من التفسير التقليدي التحليلي إلى مستوى تحليل الخطاب.


--------------------------
{1} انظر للباحث: تأسيس أصول التفسير وصلته بالبحث الأصولي، مجلة إسلامية المعرفة، المعهد العالمي للفكر الإسلامي، واشنطن، العدد 37، 2005.


عن موقع إسلام أونلاين
على الوصلة:
http://mdarik.islamonline.net/servl...agename=Zone-Arabic-MDarik/MDALayout&ref=body
 
حياك الله أستاذ عبد الرحمن،

ولعلي سبقت المشرفين في الترحيب بك في المنتدى.

ويسعدني استمرار التواصل.
 
أرحب بأخي العزيز الأستاذ عبدالرحمن الحاج في ملتقى أهل التفسير ، وأشكره على هذه المقالة .
ونحن في مدارسنا العلمية السلفية خصوصاً تعودنا على نبذ هذه المناهج في دراسة القرآن الكريم والسنة النبوية مطلقاً لما ظهر لنا من سوء استخدامها من قبل فئام من الكتاب المعاصرين الذين اتخذوها ذريعة للطعن في القرآن والسنة ، والذهاب بعيداً في تأويلها دون ضابط علمي معتبر .
في حين أن هذه المناهج لا تعدو كونها أدواتٍ منهجية في الدرس، يمكن الإفادة منها في تجديد مناهجنا الدراسية في النظر إلى القرآن الكريم وعلومه .
غير أننا في حاجة إلى أمور :
أولاً : دراسة هذه المناهج دراسة علمية من باب التعرف على ما فيها من الحق والصواب ، وتقدير قيمة ما يمكن أن تؤدي إليه من النتائج العلمية المفيدة لنا في حقل الدرس القرآني خصوصاً .

ثانياً : الاطلاع على نماذج منجزة من هذه الدراسات تكشف لنا شيئاً من فوائد تطبيق هذه المناهج في الدراسة .

ثالثاً : ما هي الطريقة المقترحة برأيكم - والخطاب للأستاذ عبدالرحمن الحاج - للبدء في الإفادة من هذه المناهج في الجامعات الإسلامية أسوة بالجامعة الإسلامية العالمية في ماليزيا التي قررت درس (الخطاب القرآني) في مناهجها ، وليتكم تكشفون لنا عن مفردات هذا المقرر ، وكيفية الإفادة من هذه التجربة ولو على المستوى الفردي في بقية أنحاء العالم الإسلامي .

وأؤكد على أن الخطاب النقدي للحداثة ومناهجها لدينا ما يزال يأخذ بُعداً تحذيرياً أكثر منه بُعداً علمياً يكشف حقيقة هذه المناهج وتحليلها بعيداً عن الذين أساءوا استخدامها ، وهذه مهمة لم أجد من تصدى لها حسب علمي بشكل مقنع يسهل فهمه للقارئ العربي البسيط من أمثالي .
 
تحياتي لكم جميعا
جواباً لما تفضلتم به د. الشهري، المشكلة من وجهة نظري قائمة في أن الخطاب السائد في الأوساط العلمية هو خطاب هوية، وأعني بخطاب الهوية أن الخطاب الإسلامي الفكري معني بالدرجة الأولى بالدفاع ومتحفز للهجوم على "أعدائه" وحتى "ناقديه" فهو عموماً متوتر للغاية، لديه حساسية أكثر من اللازم من المختلف معه، ويفكر بمنطق المقاتل، لا بمنطق المحاور.. لا أدعو بتوصفي هذا للخطاب التوقف عن الدفاع عن الهوية، إنما أدعو أن يتحرر العقل العلمي في العالم الإسلامي من خطاب الهوية، وليس من الدفاع عن الهوية؛ لأنه خطاب أيديولوجي يصيب بالعماء.
أول خطوات الإفادة من العلوم الحديثة ـ وفقاً لما يبدو لي ـ أن نخرج العلوم من المعارك الأيديولوجية، ذلك أن فهمه فهماً دقيقاً وعميقاً من أجل الإفادة منه يتوقف على تحررنا من هاجس "مخالفة أصحاب الجحيم" وحسب.
تجربة تدريس الخطاب القرآني ما تزال جديدة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وقد عُهد إلي تطوير تطوير مفرداتها. وقد يسر الله تعالى لي ذلك
 
تحياتي الحارة للأستاذ عبد الرحمن الحاج وإفادة طيبة ومثيرة.
في بداية مقالك أشرت إلى أنه لا بد من فهم المصطلحات الغربية كما وضعها الغرب والتعامل معها وفق هذا الوضع، ثم من خلال مقالك ذكرت في مواطن متعددة بعض هذه المصطلحات عارضاً بعض مفاهيمها وترابطها،ثم ختمت مقالك بالدعوة لتبني الجامعات الأكاديمية مقرر الخطاب القرآني وفق ما تقدم عرضه في مقالك وحفزت لذلك بعمل الجامعة الإسلامية في ماليزيا، وبحكم درايتك باللسانيات ومتعلقاتها وانطلاقاً من مقالك ثمة أسئلة أود الإجابة عنها منك متفضلاً ولو اقتضى الأمر تفصيلاً:
- ما هي الفلسفة التي انبثق عنها علم اللسانيات في أوربا، وهل كانت منفصلة عن العقل الإيدلوجي، وهل نشوء هذا العلم وأسلوب تعامله مع اللغة التي نشأ فيها تتوافق مع أساليب العربية ومفاهيمها ومصطلحاتها وتصلح لأن يعالج بها خطاب القرآن.
- ألا ترى أن التعامل مع القرآن بهذه المفاهيم هو نوع من أنواع الأنسنة وجعل الخطاب بالسياق التاريخي الذي نزل هو نوع من أنواع الاختصاص، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب.
- هلا طرحت لنا مثالاً تطبيقياً للخطاب القرآني وفق الطرح الذي تطرحه لتتجلى الصورة بشكل أوضح.
وأرجو أن لا يسبقك القلم في القول أن هذه أسئلة ممن يعادون منهج اللسانيات ويتهمون المشتغلين به بـكذا وكذا....، بل هذه أسئلة مشروعة ممن يريد فهم المنطلق والسياق والمنهج والنتيجة التي يطرحها كثير ممن يجدون في "خطاب القرآن" هذا اضطراباً وتجاذباً بين عمل المستشرقين وعمل العصرانيين ومقصد المتخصصين في التفسير وعلوم القرآن.
 
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله تعالى ، والصلاة والسلام على نبينا محمد .

حاولت فهم مصطلح (تحليل الخطاب) فوجدت:

"يرى(فان ديك) أن عملية تحليل الخطاب تصب في إطار دراسة استخدام المتكلمين الحقيقيين استخداماً فعلياً للغة في مواقف حقيقية، فتحليل الخطاب إذن يتمظهر لنا كمجال أو تخصص يهتم بدراسة اللغة كنشاط متجذر في سياق معين، وهذا السياق يكون منتجاً لوحدات تركيبية للجملة (ويمكن أن ندرج في هذا المنحى استعمال اللغة لغايات اجتماعية، تعبيرية، مرجعية). وفي هذه الحالة يتحتم على محلل الخطاب الاستعانة بمقاربات متنوعة "كالتحليل الحواري" أو "التحليل المحادثاتي" مثلما يحلو للبعض أن يسميه (اثنوغرافيا التواصل)، علم اللغة الاجتماعي التفاعلي. لقد أصبح لمصطلح "تحليل الخطاب"-على حد تعبير (براون) استعمالات عديدة تشمل مجالات واسعة من الأنشطة. فهو يستعمل مثلاً للحديث عن أنشطة تقع على خط التماس بين دراسات مختلفة كاللسانيات الاجتماعية واللسانيات النفسية واللسانيات الفلسفية واللسانيات الإحصائية. والمهتمون بمثل هذه الدراسات المختلفة يركزون بحثهم جميعاً على جوانب شتى من الخطاب. "أهــ

وهذا الكلام يذكرني بكلام الدكتور الفاضل مساعد الطيار ، فقد تحدث عن اللغة العربية الفصيحة وتراكيبها التي كانت في عصر الرسالة ، ومن ثم تحدث عن الدراسات التي تقوم على دراسة التطور الدلالي للغة العربية حيث يقوم الباحث بقياس مدى فصاحتها على المقياس الثابت وهي النصوص وفي مقدمتها لا شك القرآن الكريم ، على ما أذكر هذه هي الفكرة ، ولمن أراد الاستماع للمحاضرة فهي في آخر محاضرة من شرحه لكتاب الإتقان على ضوء تفسير الطبري على ما أذكر.

وما أريد قوله ، إذا أراد الباحث الكريم الحاج الاستفادة من هذا المنهج ، فلابد له من الرجوع إلى الأساس ، والذي ضبط من أهل العلم ، فالدراسة الجادة لابد أن تقوم على النتاج التراكمي ، مستفيدة ممن سبقها ، أما إهمال القواعد والفوائد والثروة العلمية التي تركها أهل العلم ، فلا أعتقد أن الباحث الكريم يقصدها ، وفي الحقيقة إن تحليل النصوص ودراستها وتمحيصها قد قام به القدماء هنا وهناك ، ولهم منهج مهم كما أظن ، عموما ما أريد قوله أن البناء على ما سبق هو المطلوب مع مراعاة قواعد البناء السابق ، هذا هو الأمر العقلاني المنطقي ، فالخطاب القرآني قد قام بدوره في توجيه الأمة وهدايتها وقد تصدى لحمل المهمة بفضل الله من أراد الله لهم حملها ، فإذن مجهودهم مهم مشكور فيه من الدقة والإتقان ما يجعله قواعد صلبة للباحث الباحث عن الهداية والنور في هذا الزمان ممن حقه الحفظ في الصدور بكل وسيلة ثابتة لا تعارض ما سبق وتسعد أهل الإسلام .
والله الموفق.
والله أعلم وأحكم.
 
نرحب بالأستاذ الفاضل عبد الرحمن الحاج وكنا ننتظر تواجده معنا في الملتقى منذ أمد وأؤكد على طلب أخينا الكريم الدكتور عبد الرحمن الشهري بأن يمدنا الأستاذ الحاج بفكرة منهج الخطاب القرآني ومفرداته وما المأمول من دراسته؟
 
تحياتي لكم جميعا
جواباً لما تفضلتم به د. الشهري، المشكلة من وجهة نظري قائمة في أن الخطاب السائد في الأوساط العلمية هو خطاب هوية، وأعني بخطاب الهوية أن الخطاب الإسلامي الفكري معني بالدرجة الأولى بالدفاع ومتحفز للهجوم على "أعدائه" وحتى "ناقديه" فهو عموماً متوتر للغاية، لديه حساسية أكثر من اللازم من المختلف معه، ويفكر بمنطق المقاتل، لا بمنطق المحاور..

هذا الحكم غير صحيح يا أخ عبد الرحمن
وإذا تصر عليه فنحن نطالبك بالدليل


لا أدعو بتوصفي هذا للخطاب التوقف عن الدفاع عن الهوية، إنما أدعو أن يتحرر العقل العلمي في العالم الإسلامي من خطاب الهوية، وليس من الدفاع عن الهوية؛ لأنه خطاب أيديولوجي يصيب بالعماء.

وهذه أشد من الأولى.
الخطاب الإسلامي خطاب قرآني والخطاب القرآني خطاب عقدي ولا غضاضة في ذلك.
فلماذا وصفته بأنه يصيب بالعماء؟

أول خطوات الإفادة من العلوم الحديثة ـ وفقاً لما يبدو لي ـ أن نخرج العلوم من المعارك الأيديولوجية، ذلك أن فهمه فهماً دقيقاً وعميقاً من أجل الإفادة منه يتوقف على تحررنا من هاجس "مخالفة أصحاب الجحيم" وحسب.
تجربة تدريس الخطاب القرآني ما تزال جديدة في الجامعة الإسلامية العالمية بماليزيا، وقد عُهد إلي تطوير تطوير مفرداتها. وقد يسر الله تعالى لي ذلك

وهذه أشد وأنكى من سابقتيها
وما هي فائدة فهم القرآن فهما دقيقا إذا لم توصلنا إلى مخالفة أصحاب الجحيم.
 
حياكم الله
مادة "الخطاب القرآني" في الجامعة الماليزية الآن أقرب إلى مدخل لتحليل الخطاب القرآني، فغايتها مساعدة الطالب على فهم المحتوى القرآني بشكل كلي (وليس تجزيئي) كخطاب عالمي، أما مفردات المادة فهي مستمدة من الإشكاليات المتولدة من عناصر الخطاب الستة وتأثيرها في فهم الخطاب.
وأود لفت الانتباه إلى ان الانتقال إلى تحليل الخطاب لا يعني البتة إهدار التفسير التحليلي وجهود العلماء الهائل فيه، فالمعرفة بالفعل تراكمية، فتحليل الخطاب مستوى أعلى من التفسير، ولكنه لا يمكن الاستغناء عن التفسير للوصول إلى تحليل الخطاب.
وأشير أيضاً إلى ان (فان ديك) هو من مؤسسي مفهوم الخطاب التداولي بمعناه البسيط: اللغة في سياق الاستخدام (المحادثة)، مقابل اللغة المكتوبة، وهو ما يعتمده (جورج يول وجوليان بروان) في كتابهما (تحليل الخطاب)، غير أن مفهوم الخطاب خضع لتطورات عديدة، أهمها التطور الكبير الذي أحدثه ميشيل فوكو (1972) الذي أصبح مفهومه للخطاب الأكثر شهرة وتداولاً، وخصوصاً في العلوم الاجتماعية، وقد نقل المفكرون العرب هذا المفهوم، وهو الشائع اليوم في نصوص الكتاب العرب (كما أشرت باختصار في المقال أعلاه)، والآن أحدث مفهوم للخطاب هو ما يقدمه اتجاه (Critical Discourse Analaysis). وللاطلاع بشكل مختصر على تاريخ تطور مفهوم الخطاب يمكن الرجوع مثلاً إلى كتاب:
Sara Milse .Discourse: the new Critical Idom (2004), Scond Eddition, London
وأتفهم تماماً مع الأسئلة التي طرحها الدكتور مرهف، وجوابها كان موضوع مقال سبق ونشرته في صحيفة الحياة (الطبعة الدولية) وسأعيد نشره ههنا في وقت قريب إن شاء الله، غير أني أشير إلى أنه لا رابط بين اللسانيات وبين ضرورة فهم النص فهماً تاريخياً، اللسانيات تدرس قوانين عامة للغات الإنسانية، الربط بالسياق السياق أو عدمه مسألة منهجية وليس لها علاقة ضررورية باللسانيات، على سبيل المثال المدرسة البنيوية تهدر السياق كلياً، وتعتمد النص ذاته كإطار وحيد للفهم والتحليل، فيما تذهب التداولية (Pragmatics) وعموماً الاتجاهات اللسانية الوظيفية وكذلك اللسانيات الاجتماعية إلى اعتماد السياق كجزء من الجملة والنص ذاتهما. وبالتالي فإني أؤكد بأن السؤال: "ألا ترى أن التعامل مع القرآن بهذه المفاهيم هو نوع من أنواع الأنسنة وجعل الخطاب بالسياق التاريخي الذي نزل هو نوع من أنواع الاختصاص، وأنت تعلم أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب؟" لا يصح من الناحية العلمية.
 
حياكم الله
مادة "الخطاب القرآني" في الجامعة الماليزية الآن أقرب إلى مدخل لتحليل الخطاب القرآني، فغايتها مساعدة الطالب على فهم المحتوى القرآني بشكل كلي (وليس تجزيئي) كخطاب عالمي، أما مفردات المادة فهي مستمدة من الإشكاليات المتولدة من عناصر الخطاب الستة وتأثيرها في فهم الخطاب.
وأود لفت الانتباه إلى ان الانتقال إلى تحليل الخطاب لا يعني البتة إهدار التفسير التحليلي وجهود العلماء الهائل فيه، فالمعرفة بالفعل تراكمية، فتحليل الخطاب مستوى أعلى من التفسير، ولكنه لا يمكن الاستغناء عن التفسير للوصول إلى تحليل الخطاب.
.

الله يحيك
الأستاذ الفاضل إن الخطاب القرآني خطاب عالمي ولا شك ، ولا بد أن لا ننسى أنه خطاب خاطب الفطرة ، وقد أنزل على العرب لأنهم الأقرب لها في ذلك الوقت ، لظروف لا يجهلها أمثالكم ، واللغة لغتهم لغة القرآن أم اللغات ، لابد أن هذا الأمر على بالكم وفي محط أنظاركم ، وقد شغل بالي بحثكم وإشارتكم إلى كون هذه الفكرة قد تكون منهجا يدرسه الطلبة الكرام عندكم ، ويا له من هم في زمان زادت همومنا فيه .
تذكرت بحثكم اليوم وأنا أسمع كلمة للدكتور سلمان العودة حفظه الله ، "فقد ذكر أن بعض الناس يعمل حفريات في كلمة وينسى الكلمات التي بجانبها " أو كما قال، أرجو أن تحرصوا كما أكدتم فيما سبق على أن لا يكون منهجكم كما ذكر د.سلمان ، والأمر الذي لابد أن تحرصوا عليه هو ألا تقعوا فيما يلي بسبب منهجكم الذي لا يزال مبهما بعض الشيء :
قال تعالى:
{ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُواْ حَظّاً مِّمَّا ذُكِّرُواْ بِهِ }(المائدة13).
 
عودة
أعلى