محمد العبادي
مشارك فعال
- إنضم
- 30/09/2003
- المشاركات
- 2,157
- مستوى التفاعل
- 2
- النقاط
- 38
- الإقامة
- الخُبر
- الموقع الالكتروني
- www.tafsir.net

هذا مقال مسلسل في حلقات، ينشر بهذا العنوان لأول مرة بعد نشره في مجلة الهداية الإسلامية، وهو في أصله محاضرة ألقاها حضرة الأديب الفاضل عمر إبراهيم الدسوقي رحمه الله، نفثة مصدور على ما حل في زمانه من غفلة عن هدايات القرآن، وما شاعت في زمانه من شبهات، ووقع به شباب جيله من شهوات صارفة عن هدي القرآن وسلوك مهيعه، وهو ما نجده في زماننا وفي كل زمان، إذ لا تزال رحى الصراع بين الحق والباطل قائمة، ولا يزال في كل جيل بقيّة ينهون عن الفساد في الأرض، والدعوة إلى الحق.
___
كلمات من النور انبعثت من شمس الجلال القدسي فأنارت الدنيا وكانت غارقة في لجة الظلام، وبدلت نظم العالم من همجية وجهل إلى إنسانية كاملة وعلم نافع، كلمات دونها السحر تأثيراً، نزلت بجدب القلوب فأحيت مواتها وبدلت خرابها عمراناً وخوفها أمناً وهطل على تلك القلوب غيث معانيها، فاهتزت وربت ونما فيها البنفسج والورد، وما بنفسجها ووردها إلا الخلق الطيب يفوح شذاه على الناس، وكذلك زكا فيها الثمر الشهي والنور الجميل، وما غاره ونوره إلا حصافة في الحجا وشجاعة في الفؤاد وجمال في الروح وصفاء في النفس وسهولة في الخلق ولين في الطباع.
كلمات كانت على الكفار والمشركين أشد من وقع السهام زلزلت عقائدهم وحقرت أحلامهم وسفهت آراء سادتهم وكبرائهم ونزلت بآلهتهم التي صغرها بأدبهم إلى حضيض المهانة والهوان، ما القرآن إلا بحر خضم من التعاليم الصالحة الطيبة اجتاح في طريقه خبيث العادات وعقيم الأفكار، وهدم صروح البغي والاستعباد وأروى العالم بمائه، وما ماؤه إلا الخير البحت والصلاح العميم ونفع الإنسانية والسير بها في طريق الهدي والرشاد.
آياته تسحر القلوب بشيق أسلوبها وبديع فواصلها، وتستدعي الأسماع وتخلب الألباب، سمع العرب وقد تحجرت قلوبهم وران على أفئدتهم الظلم وغشت أبصارهم العداوة وحل بآذانهم الوقر، فخلقهم خلقاً جديداً وحملهم على أجنحة رفعتها إلى سماء السعادة والهناءة حيث القلوب لا تعرف معنى الأثرة والأنانية، وحيث الناس كلهم في الحقوق سواء؛ هذا هو القرآن آيات محكمات وحكم رائعات ونصائح تأخذ بحطام القلوب الجامحة وتردها عن الغي والسفاهة وتنشر في الناس الصدق والأمانة في القول والمعاملة فيسود بينهم الوفاق وتنفي بذور الشفاق، ولا يرون في دنياهم ما يسوؤهم ولا في أخراهم ما يحزنهم ماداموا بها متمسكين وعلى ضوئها سائرين؛ ألم يأتك نبأ الوليد بن المغيرة أحد شيوخ قريش وقت البعثة النبوية وكبير من كبرائهم وذوي الرأي فيهم وقد وصفه الله في القرآن بأنه الهماز المشاء الزنيم العتل وهو مع ذلك يقول حين سمع آية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وأن أسفله لمورق وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.
وقد حدث أن التف حوله شيوخ قريش يتشاورون فيما يجب عليهم حينما علم جمعهم بتأهب النبي عليه الصلاة والسلام لنشر دعوته بين العرب الوافدين على مكة للحج، فقالوا: ماذا أعددتم لمحمد من عدة تردون بها على ما يلقيه في أسماع العرب من ذلك الكلام الذي يدعوه قرآناً؟
فقال واحد منهم نقول: كاهن. فقال الوليد بن المغيرة - وهو ذو السن فيهم - : ما هو بكاهن؛ لقد رأينا الكهان وما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. فقال آخر: نقول مجنون. فقال الوليد: ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون وعرفناه ما هو بخنقه ولا تخالجه. فقال آخر: نقول هو شاعر. فقال الوليد: ما هو بشاعر؛ لقد عرفنا الشعر كان رجزه وهزجه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. فقال آخر: نقول هو ساحر. قال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول أنت؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناه ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا على ذلك.
ذاك قول أكبر معانديهم وأشدهم كفراً وأعظمهم طغياناً مما يدل على روعة القرآن وجلاله في نفوسهم مع ما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان.
انظر إلى إسلام عمر بن الخطاب وهو أقوى الكفار شكيمة على المسلمين، وأكثرهم إيذاء لمستضعفيهم وطعناً وسباً وقدحاً في أعزتهم كيف لانت شكيمته عليهم، وقرأ فيه آي القرآن الحكيم فتبدل شركه إيماناً وإيذاؤه إحساناً وخرج يبغي رسول الله ليعلن إسلامه.
ذاك هو القرآن دستور لم يزل جديداً صالحا لكل زمان ومكان متمشياً مع كل جيل، وسفر حوى بين طيات آيه قواعد كثيرة لشتى العلوم، فلما استقر الحال بالمسلمين وفرغوا من جهادهم وغزوهم وبحثوا في تلك الآيات فاستخرجوا منها أحكام دينهم وبنوا عليها النحو والصرف وعلوم البلاغة والتفسير والفقه إلى غير ذلك من المؤهلات لتلك العلوم، كان إليه يتحاكم الخلفاء ورغبتهم حين يشكل الأمر وبه يحتج القضاة في أحكامهم، وبه يترافع الخصوم في قضاياهم، وبه يجني الأديب جيد كلماته ومنه يقتبس الشاعر غرر معانيه، حق علي الآن أن أتكلم فيما اشتمل عليه القرآن على جهة الإجمال، وإن كان ذلك فوق طاقة العالم الغطيس والحسير الزوال بيد أني أستعين بقوة الله سبحانه وتعالى وأدعوه أن يسدد خطاي وينجح مسعاي ويلهمني صائب الرأي. وإن رأيتموني أقصر في بعض النواحي أو أترك شيئاً لا أتكلم فيه فأنتم دون مقدور جمهرة العلماء؛ فما بالكم وأنا شاب في العلم شاب في العقل شاب في السن، وما أوقعني في ولوج هذا الباب والسير في تلك الطريق الوعرة المحفوفة بالمخاوف والتي لا يسلم المرء فيها من العثار والزلل إلا حبي لدين الله فمن ذلك الحب الذي ملأ جوانحي أستمد الإلهام ومن دينه أستمطر صيب المعاني والله ولي التوفيق.
حاد المسلمون عن سنن القرآن وسلكوا سبيلاً غير قويمة فلا هي بالتي توصلهم إلى سعادة الدنيا ولا هي بالتي توصلهم إلى خير الآخرة.
وساق عليهم أعداء دينهم جيوشاً من الشكوك والأوهام وكتائب تتبعها كتائب من الأفكار التي تجدهم عن دينهم وتنفرهم من تراث آبائهم وتزهدهم في نصح الناصحين منهم.
انصرف الناس عن ذلك المنبع الفياض وأقبلوا على الغث من الكتب والرث من الكلام والخَلِق من الآداب، ولو أنهم فهموا القرآن وتدبروه وعرفوا معانيه واهتموا بدراسته وما أتى فيه من :-
(1) العقائد التي تدعوا إلى الإيمان بالله وملائكته ورسله ... الخ وفائدة ذلك الإيمان في الدنيا والآخرة.
(2) الفروض الدينية وأخذها من منبعها الصحيح الكتاب وتفسيره من السنة النبوية الشريفة، وعدم اتباع أولئك الذين ملؤوا لنا الكتب خزعبلات وخرافات وبدعاً وضلالات من متأخري المذاهب الذين أدخلوا في الدين ما ليس منه.
(3) الأوامر والنواهي الخلقية وكيف يسلك القرآن بالإنسان جادة الصواب كيف يجعل من تلك القلوب المتنافرة والأهواء المتباينة والأمزجة المختلفة هيكلاً واحداً وكياناً واحداً يشعر أي فرد بما يتألم بما به الثاني فيواسيه وبما يسره فيبارك له.
(4) الإنذار البشير وما أتى من الوعد بالحياة السعيدة في الآخرة لمن تاب وآمن وعمل صالحاً والشقوة الدائمة لمن كفر وطغى والعذاب الشديد لمن نهى الله ورسوله ليتبين الإنسان الرشد من الغي والظلمة من النور فيتبع خير طريق وهو بعد من الأحياء قبل أن ينزل به قضاء الله فيعض بنان الندم من الحسرة والأسف ولات ساعة مندم.
(5) التحدي لأعداء القرآن أن يأتوا بمثله أو سورة من مثله، عليها من البهاء ما عليه ولها من التأثير ما له، وفيها من المعاني ما فيه، وبها من البيان والبلاغة ما به؛ فإن لم يستطيعوا وما هم بالمستطيعين وجب عليهم أن يكفوا ألسنتهم عنا أو يدخلوا في ديننا فإن لم يفعلوا هذا ولا ذاك فإنهم من المكابرين المعاندين لا يؤبه لهم ولا نقيم لهم وزناً فلا يمتر بهم شباننا ولا يهتم بمناظرتهم شيوخنا.
(5) التشريع الاجتماعي وكيف جعل القرآن الناس عائلة واحدة يعطف الغني على الفقير ويساعد القوي الضعيف وكيف سن لنا من الأنظمة ما به نتسنم ذروة المجد ونرقى مدارج السعادة وكيف تصلح هذه الأنظمة لكل زمان وتلائم كل أمة وما من تشريع بشري إلا رمي بالنقص وأتانا الزمن بما يبطل العمل به.
(7) التشريع السياسي وكيف نطيع ولي الأمر وكيف نرضخ للحكام ما دام كتاب الله هو نبراسهم الذي يسيرون علي هداه.
(8) التشريع الحربي وما نقوم به إزاء أهلينا وأولادنا وديارنا وما نعده لأعداء ديننا من كل قوة مستطاعة ولا تألف الذلة والخنوع والرق والاستعباد فتذهب نخوتنا وتتبخر من قلوبنا عقائد ديننا وأصوله بعد أن تسلط عليها نار الاستعمار.
(9) الحكم القويمة والأمثال الصادقة التي يتذكرها الإنسان وهو منحدر إلى هاوية الفساد فيملك نفسه ويستعيد قواه وإن هداه الله رجع، والتي يتذكرها الإنسان وهو صاعد إلى قمة المجد والصلاح فتزيده قوة وتمده بخير زاد ألا وهو شجاعة الجنان وصدق اليقين ونفاذ الرأي.
(10) التاريخ القصصي وما فيه من العبر والعظات وكيف كان مصير الأمم الغابرة إذ أتاها نور الله فصدت عنه وكيف نكل الله بهم، ونرى ما فعله الأنبياء والصالحون منهم وكيف آذهم الكفار فيكونون لنا أسوة حسنة تشحذ عزائمنا وتقوي إيماننا فلا تزلزل أقدامنا هجمات الزنادقة والملحدين.
(11) قواعد العلوم والنظريات الفلسفية والكونية وكيف أتى القرآن بها مقدار أربعة عشر قرناً ولما يصل العلم إلى تحقيق بعضها حتى اليوم وكيف نقتدي بالقرآن فلا نقف عند حد العلوم الدينية بل نتعلم سائر العلوم التي تبرهن على قدرة الله جل وعلا وعلى ما أودعه في الفكر الإنساني من ميزة وعبقرية فلا تزيغ قلوبنا ولا تطير أفئدتنا وراء كل صائح بالكفر والإلحاد.
(12) التشريع المدني والتشريع الجنائي وكيف أن الله لم يتركنا فوضى نخبط في ظلام دامس؛ بل سن لنا القوانين العادلة التي تروع الفاجر عن البغي والجنف وتحمي الضعيف من الجور والقهر.
وكذلك التي تبين حال الإنسان في ماله وأهله وما يجب عليه إزاءهم من حقوق وواجبات.
كل هذا أتى به القرآن وما أظنني أحصيت جميع ما أتى به؛ بيد أني ذكرت ما وفقني الله لمعرفته على سبيل الإجمال وأريد الآن أن أضرب الأمثال من القرآن الكريم على كل ما مر من الأغراض التي أتى القرآن بها والتي سردتها لكم.
وقبل أن أبدأ في ذلك أبرهن على أن القرآن هو من عند الله العزيز الحكيم لا شبهة في ذلك ولا ريب، وقد تعدون هذا غريباً وقد يتعجب بعض المسلمين مني ويقولون وهل ذلك يحتاج إلى برهان وهو كالشمس في رائعة النهار.
نعم إن هناك فئة لم يزل الإيمان ديدنها والإخلاص رائدها والحق منهجها، لم تعر كلام المبشرين المسيحيين التفاتاً ولم نسمع لأقوالهم وتخرصاتهم فليس لهؤلاء أسوق الأدلة ابتداء، ولكن لمن ركب رأسه من المسلمين وضعف عقله عن موازنة بين الحق والباطل وخدعه ما يقوله دعاة المسيحية من الأراجيف فبات يتشكك في أمر دينه، ولا زال ينسل منه رويداً رويداً حتى جهر بكفره وصرح بآرائه التي تشربها منهم، فلهؤلاء ولمن يأنس من نفسه الضعف وللمؤمنين المخلصين أسوق الأدلة لعل الأولين يرجع لهم الحنين إلى دينهم فينظروا كلماتنا بعين براء في الشك والاتهام والغضب؛ فتهتدي قلوبهم ويثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غوايتهم لعل الضعفاء يجدون فيها سلاحاً يحتمون به ورداءً من هجمات أولئك المبشرين ولعل ذوي الإيمان فينا يتخذون منها حجةً في ردهم على هؤلاء الكفرة أسأل الله أن يوفقنا أجمعين.
كلمات كانت على الكفار والمشركين أشد من وقع السهام زلزلت عقائدهم وحقرت أحلامهم وسفهت آراء سادتهم وكبرائهم ونزلت بآلهتهم التي صغرها بأدبهم إلى حضيض المهانة والهوان، ما القرآن إلا بحر خضم من التعاليم الصالحة الطيبة اجتاح في طريقه خبيث العادات وعقيم الأفكار، وهدم صروح البغي والاستعباد وأروى العالم بمائه، وما ماؤه إلا الخير البحت والصلاح العميم ونفع الإنسانية والسير بها في طريق الهدي والرشاد.
آياته تسحر القلوب بشيق أسلوبها وبديع فواصلها، وتستدعي الأسماع وتخلب الألباب، سمع العرب وقد تحجرت قلوبهم وران على أفئدتهم الظلم وغشت أبصارهم العداوة وحل بآذانهم الوقر، فخلقهم خلقاً جديداً وحملهم على أجنحة رفعتها إلى سماء السعادة والهناءة حيث القلوب لا تعرف معنى الأثرة والأنانية، وحيث الناس كلهم في الحقوق سواء؛ هذا هو القرآن آيات محكمات وحكم رائعات ونصائح تأخذ بحطام القلوب الجامحة وتردها عن الغي والسفاهة وتنشر في الناس الصدق والأمانة في القول والمعاملة فيسود بينهم الوفاق وتنفي بذور الشفاق، ولا يرون في دنياهم ما يسوؤهم ولا في أخراهم ما يحزنهم ماداموا بها متمسكين وعلى ضوئها سائرين؛ ألم يأتك نبأ الوليد بن المغيرة أحد شيوخ قريش وقت البعثة النبوية وكبير من كبرائهم وذوي الرأي فيهم وقد وصفه الله في القرآن بأنه الهماز المشاء الزنيم العتل وهو مع ذلك يقول حين سمع آية {إن الله يأمر بالعدل والإحسان وإيتاء ذي القربي وينهى عن الفحشاء والمنكر والبغي يعظكم لعلكم تذكرون}: والله إن له لحلاوة وإن عليه لطلاوة وأن أسفله لمورق وإن أعلاه لمثمر، ما يقول هذا بشر.
وقد حدث أن التف حوله شيوخ قريش يتشاورون فيما يجب عليهم حينما علم جمعهم بتأهب النبي عليه الصلاة والسلام لنشر دعوته بين العرب الوافدين على مكة للحج، فقالوا: ماذا أعددتم لمحمد من عدة تردون بها على ما يلقيه في أسماع العرب من ذلك الكلام الذي يدعوه قرآناً؟
فقال واحد منهم نقول: كاهن. فقال الوليد بن المغيرة - وهو ذو السن فيهم - : ما هو بكاهن؛ لقد رأينا الكهان وما هو بزمزمة الكاهن ولا سجعه. فقال آخر: نقول مجنون. فقال الوليد: ما هو بمجنون؛ لقد رأينا الجنون وعرفناه ما هو بخنقه ولا تخالجه. فقال آخر: نقول هو شاعر. فقال الوليد: ما هو بشاعر؛ لقد عرفنا الشعر كان رجزه وهزجه ومقبوضه ومبسوطه فما هو بالشعر. فقال آخر: نقول هو ساحر. قال: ما هو بساحر؛ لقد رأينا السحار وسحرهم فما هو بنفثهم ولا عقدهم. قالوا: فما تقول أنت؟
قال: والله إن لقوله لحلاوة وإن أصله لعذق وإن فرعه لجناه ما أنتم بقائلين من هذا شيئاً إلا عرف أنه باطل، وإن أقرب القول فيه أن تقولوا هو ساحر، جاء بقول هو سحر يفرق به بين المرء وأبيه وبين المرء وأخيه وبين المرء وزوجه وبين المرء وعشيرته، فتفرقوا على ذلك.
ذاك قول أكبر معانديهم وأشدهم كفراً وأعظمهم طغياناً مما يدل على روعة القرآن وجلاله في نفوسهم مع ما هم عليه من الشرك وعبادة الأوثان.
انظر إلى إسلام عمر بن الخطاب وهو أقوى الكفار شكيمة على المسلمين، وأكثرهم إيذاء لمستضعفيهم وطعناً وسباً وقدحاً في أعزتهم كيف لانت شكيمته عليهم، وقرأ فيه آي القرآن الحكيم فتبدل شركه إيماناً وإيذاؤه إحساناً وخرج يبغي رسول الله ليعلن إسلامه.
ذاك هو القرآن دستور لم يزل جديداً صالحا لكل زمان ومكان متمشياً مع كل جيل، وسفر حوى بين طيات آيه قواعد كثيرة لشتى العلوم، فلما استقر الحال بالمسلمين وفرغوا من جهادهم وغزوهم وبحثوا في تلك الآيات فاستخرجوا منها أحكام دينهم وبنوا عليها النحو والصرف وعلوم البلاغة والتفسير والفقه إلى غير ذلك من المؤهلات لتلك العلوم، كان إليه يتحاكم الخلفاء ورغبتهم حين يشكل الأمر وبه يحتج القضاة في أحكامهم، وبه يترافع الخصوم في قضاياهم، وبه يجني الأديب جيد كلماته ومنه يقتبس الشاعر غرر معانيه، حق علي الآن أن أتكلم فيما اشتمل عليه القرآن على جهة الإجمال، وإن كان ذلك فوق طاقة العالم الغطيس والحسير الزوال بيد أني أستعين بقوة الله سبحانه وتعالى وأدعوه أن يسدد خطاي وينجح مسعاي ويلهمني صائب الرأي. وإن رأيتموني أقصر في بعض النواحي أو أترك شيئاً لا أتكلم فيه فأنتم دون مقدور جمهرة العلماء؛ فما بالكم وأنا شاب في العلم شاب في العقل شاب في السن، وما أوقعني في ولوج هذا الباب والسير في تلك الطريق الوعرة المحفوفة بالمخاوف والتي لا يسلم المرء فيها من العثار والزلل إلا حبي لدين الله فمن ذلك الحب الذي ملأ جوانحي أستمد الإلهام ومن دينه أستمطر صيب المعاني والله ولي التوفيق.
حاد المسلمون عن سنن القرآن وسلكوا سبيلاً غير قويمة فلا هي بالتي توصلهم إلى سعادة الدنيا ولا هي بالتي توصلهم إلى خير الآخرة.
وساق عليهم أعداء دينهم جيوشاً من الشكوك والأوهام وكتائب تتبعها كتائب من الأفكار التي تجدهم عن دينهم وتنفرهم من تراث آبائهم وتزهدهم في نصح الناصحين منهم.
انصرف الناس عن ذلك المنبع الفياض وأقبلوا على الغث من الكتب والرث من الكلام والخَلِق من الآداب، ولو أنهم فهموا القرآن وتدبروه وعرفوا معانيه واهتموا بدراسته وما أتى فيه من :-
(1) العقائد التي تدعوا إلى الإيمان بالله وملائكته ورسله ... الخ وفائدة ذلك الإيمان في الدنيا والآخرة.
(2) الفروض الدينية وأخذها من منبعها الصحيح الكتاب وتفسيره من السنة النبوية الشريفة، وعدم اتباع أولئك الذين ملؤوا لنا الكتب خزعبلات وخرافات وبدعاً وضلالات من متأخري المذاهب الذين أدخلوا في الدين ما ليس منه.
(3) الأوامر والنواهي الخلقية وكيف يسلك القرآن بالإنسان جادة الصواب كيف يجعل من تلك القلوب المتنافرة والأهواء المتباينة والأمزجة المختلفة هيكلاً واحداً وكياناً واحداً يشعر أي فرد بما يتألم بما به الثاني فيواسيه وبما يسره فيبارك له.
(4) الإنذار البشير وما أتى من الوعد بالحياة السعيدة في الآخرة لمن تاب وآمن وعمل صالحاً والشقوة الدائمة لمن كفر وطغى والعذاب الشديد لمن نهى الله ورسوله ليتبين الإنسان الرشد من الغي والظلمة من النور فيتبع خير طريق وهو بعد من الأحياء قبل أن ينزل به قضاء الله فيعض بنان الندم من الحسرة والأسف ولات ساعة مندم.
(5) التحدي لأعداء القرآن أن يأتوا بمثله أو سورة من مثله، عليها من البهاء ما عليه ولها من التأثير ما له، وفيها من المعاني ما فيه، وبها من البيان والبلاغة ما به؛ فإن لم يستطيعوا وما هم بالمستطيعين وجب عليهم أن يكفوا ألسنتهم عنا أو يدخلوا في ديننا فإن لم يفعلوا هذا ولا ذاك فإنهم من المكابرين المعاندين لا يؤبه لهم ولا نقيم لهم وزناً فلا يمتر بهم شباننا ولا يهتم بمناظرتهم شيوخنا.
(5) التشريع الاجتماعي وكيف جعل القرآن الناس عائلة واحدة يعطف الغني على الفقير ويساعد القوي الضعيف وكيف سن لنا من الأنظمة ما به نتسنم ذروة المجد ونرقى مدارج السعادة وكيف تصلح هذه الأنظمة لكل زمان وتلائم كل أمة وما من تشريع بشري إلا رمي بالنقص وأتانا الزمن بما يبطل العمل به.
(7) التشريع السياسي وكيف نطيع ولي الأمر وكيف نرضخ للحكام ما دام كتاب الله هو نبراسهم الذي يسيرون علي هداه.
(8) التشريع الحربي وما نقوم به إزاء أهلينا وأولادنا وديارنا وما نعده لأعداء ديننا من كل قوة مستطاعة ولا تألف الذلة والخنوع والرق والاستعباد فتذهب نخوتنا وتتبخر من قلوبنا عقائد ديننا وأصوله بعد أن تسلط عليها نار الاستعمار.
(9) الحكم القويمة والأمثال الصادقة التي يتذكرها الإنسان وهو منحدر إلى هاوية الفساد فيملك نفسه ويستعيد قواه وإن هداه الله رجع، والتي يتذكرها الإنسان وهو صاعد إلى قمة المجد والصلاح فتزيده قوة وتمده بخير زاد ألا وهو شجاعة الجنان وصدق اليقين ونفاذ الرأي.
(10) التاريخ القصصي وما فيه من العبر والعظات وكيف كان مصير الأمم الغابرة إذ أتاها نور الله فصدت عنه وكيف نكل الله بهم، ونرى ما فعله الأنبياء والصالحون منهم وكيف آذهم الكفار فيكونون لنا أسوة حسنة تشحذ عزائمنا وتقوي إيماننا فلا تزلزل أقدامنا هجمات الزنادقة والملحدين.
(11) قواعد العلوم والنظريات الفلسفية والكونية وكيف أتى القرآن بها مقدار أربعة عشر قرناً ولما يصل العلم إلى تحقيق بعضها حتى اليوم وكيف نقتدي بالقرآن فلا نقف عند حد العلوم الدينية بل نتعلم سائر العلوم التي تبرهن على قدرة الله جل وعلا وعلى ما أودعه في الفكر الإنساني من ميزة وعبقرية فلا تزيغ قلوبنا ولا تطير أفئدتنا وراء كل صائح بالكفر والإلحاد.
(12) التشريع المدني والتشريع الجنائي وكيف أن الله لم يتركنا فوضى نخبط في ظلام دامس؛ بل سن لنا القوانين العادلة التي تروع الفاجر عن البغي والجنف وتحمي الضعيف من الجور والقهر.
وكذلك التي تبين حال الإنسان في ماله وأهله وما يجب عليه إزاءهم من حقوق وواجبات.
كل هذا أتى به القرآن وما أظنني أحصيت جميع ما أتى به؛ بيد أني ذكرت ما وفقني الله لمعرفته على سبيل الإجمال وأريد الآن أن أضرب الأمثال من القرآن الكريم على كل ما مر من الأغراض التي أتى القرآن بها والتي سردتها لكم.
وقبل أن أبدأ في ذلك أبرهن على أن القرآن هو من عند الله العزيز الحكيم لا شبهة في ذلك ولا ريب، وقد تعدون هذا غريباً وقد يتعجب بعض المسلمين مني ويقولون وهل ذلك يحتاج إلى برهان وهو كالشمس في رائعة النهار.
نعم إن هناك فئة لم يزل الإيمان ديدنها والإخلاص رائدها والحق منهجها، لم تعر كلام المبشرين المسيحيين التفاتاً ولم نسمع لأقوالهم وتخرصاتهم فليس لهؤلاء أسوق الأدلة ابتداء، ولكن لمن ركب رأسه من المسلمين وضعف عقله عن موازنة بين الحق والباطل وخدعه ما يقوله دعاة المسيحية من الأراجيف فبات يتشكك في أمر دينه، ولا زال ينسل منه رويداً رويداً حتى جهر بكفره وصرح بآرائه التي تشربها منهم، فلهؤلاء ولمن يأنس من نفسه الضعف وللمؤمنين المخلصين أسوق الأدلة لعل الأولين يرجع لهم الحنين إلى دينهم فينظروا كلماتنا بعين براء في الشك والاتهام والغضب؛ فتهتدي قلوبهم ويثوبوا إلى رشدهم ويرجعوا عن غوايتهم لعل الضعفاء يجدون فيها سلاحاً يحتمون به ورداءً من هجمات أولئك المبشرين ولعل ذوي الإيمان فينا يتخذون منها حجةً في ردهم على هؤلاء الكفرة أسأل الله أن يوفقنا أجمعين.
عمر إبراهيم الدسوقي
طالب بدار العلوم العليا
طالب بدار العلوم العليا