أشكرك أخي محمد الصاعدي على هذا النقل ، والحقيقة أن ما ذكرته ينطبق على النسخ الاصطلاحي عند المتأخرين والأصوليين ، أما النسخ عند السلف فالتخصيص داخل فيه ، وكل رفع لجزء من الدليل يسمى عندهم نسخاً ، وقد بينت ذلك في مقال سابق بعنوان:
[align=center]
معنى النسخ عند السلف والخطأ في فهمه[/align]
وقد ذكر العلماء فروقاً بين النسخ والتخصيص ، إلا أن ذلك يجري على اصطلاح المتأخرين للنسخ ، والتخصيص داخلٌ في مفهوم النسخ عند السلف ، وقد نبّه إلى ذلك السخاوي عند بيان الفرق بين النسخ والتخصيص فقال : " وأقول : إن هذا الذي قالوه غير مستقيم ؛ فإن قولنا نسخٌ وتخصيصٌ واستثناءٌ وقع بعد ابن عباس، وكان ابن عباس يُسمِّي ذلك نسخاً، ولو وقع الاصطلاح على تسمية جميع ذلك نسخاً ، ويكون النسخ على ثلاثة أضرب؛لم يمتنع. لاجتماع المعاني الثلاثة في الإزالة للحكم المتقدم"(1).
والنسخ والتخصيص يجتمعان في إزالة حكمٍ متقدم، ويفترقان في معانٍ أخر(2)، قال الزركشي: " واعلم أن التخصيص شديد الشَّبه بالنسخ لاشتراكهما في اختصاص الحكم بنقض ما يتناوله اللفظ"(3).
وحد التخصيص عند الأصوليين : " قصر العام على بعض أفراده بدليل يقتضي ذلك"(4).
ويمكن بيان الفرق بين مفهوم النسخ الاصطلاحي وبين التخصيص باختصار بالوجوه التالية :
الأول : أن النسخ يزيل الحكمَ الأولَ كلَّه ، والتخصيص يزيل بعضه(5). ويتضح ذلك بهذا المثال:
قال تعالى في سورة الشورى: ( تكاد السماوات يتفطرن من فوقهن والملائكة يسبحون بحمد ربهم ويستغفرون لمن في الأرض )
فظاهر اللفظ عموم الاستغفار لكل مَنْ في الأرض، ثم قال تعالى في سورة غافر: ( ويستغفرون للذين آمنوا ).
فعُلم أن آية الشورى ليست بعامة، وأن معناها: (ويستغفرون لمن في الأرض من المؤمنين)، وأنَّ آيةَ غافر مخصِّصَةٌ لآية الشورى ، ومبينة أنها في بعض الأعيان دون بعض. ولم ترفع جميع الخبر الأول فكان ذلك تخصيصاً لا نسخاً(6).
الثاني: أن النسخ يشترط فيه التراخي بين الناسخ والمنسوخ ، أما التخصيص فيجوز فيه اقتران المخصِّصِ بالعام، وذلك كالتخصيص بالاستثناء والشرط(7).
ومثال ذلك قوله تعالى : (حرمت عليكم الميتة والدم ولحم الخنزير وما أهل لغير الله به والمنخنقة والموقوذة والمتردية والنطيحة وما أكل السبع إلا ما ذكيتم ) [ المائدة : 3].
الثالث : أن النسخ لا يدخل في الأخبار، بخلاف التخصيص. فقوله تعالى : (فلبث فيهم ألف سنة إلا خمسين عاماً ) [ العنكبوت : 14] تخصيصٌ لا نسخ .
الرابع: أن النسخ لا يكون إلا بقول وبخطاب من الشرع ، والتخصيص قد يكون بأدلة العقل والحس والقرائن وسائر أدلة السمع(8).
ومثال ذلك قوله تعالى : (إني وجدت امرأة تملكهم وأوتيت من كل شيء ) [ النمل : 23 ] ، فإن الذي يتتبع أقطار الدنيا يشاهد بالحس أن بعض الأشياء لم تؤتها مكلة سبأ كعرش سليمان عليه الصلاة والسلام، فهذا تخصيص بالحسِّ، ولا يصح مثل هذا ناسخاً(9).
الخامس : أن النسخ يبطل دلالة المنسوخ على ما تحته، بخلاف التخصيص فإنه يُبقي دلالة اللفظ على ما بقي تحته حقيقةً كان أو مجازاً(10)(11).
ــــــــــ
(1) جمال القراء : ( 1 / 347 ).
(2) انظر : الإيضاح لمكي: ( 85 ).
(3) البحر المحيط: ( 2 / 394 ).
(4) انظر : مذكرة أصول الفقه للشنقيطي : ( 68 ).
(5) انظر : الإيضاح لمكي : ( 89 )، البحر المحيط للزركشي: ( 3 / 149 ) وله مناقشة لهذا الفارق.
(6) انظر : الإيضاح لمكي: ( 89 ).
(7) انظر : معالم أصول الفقه للجيزاني: ( 428 ).
(8) البحر المحيط : ( 2 / 396 ).
(9) انظر: معالم أصول الفقه للجيزاني: ( 429 ). وقد اعترض بعض الأصوليين بأن هذا من العام الذي أريد به الخصوص . انظر : البحر المحيط للزركشي : ( 2 / 494 ).
(10) البحر المحيط : ( 2 / 396 ).
(11) انظر هذه الفروق وغيرها في : البحر المحيط للزركشي: ( 2 / 394 ـ 396 )، وكشف الأستار للبخاري: (3 / 294 ).