وأَصِل الآن إلى آخر قضية أنوى أن أتناولها فى هذه الدراسة ، وهى التهمة التى وجهها هؤلاء المآفين إلى القرآن الكريم وخصّصوا لها سورة افترَوْها وسمَّوْها : " سورة الغرانيق " ، إشارةً إلى ما يقال من أن سورة " النجم " كانت تحتوى فى البداية على آيتين تمدحان الأصنام الثلاثة : " اللات والعُزَّى ومَنَاة " ، ثم حُذِفتا منها فيما بعد . يريدون القول بأن محمدا ، عليه الصلاة والسلام ، كان يتمنى أن يصالح القرشيين حتى يكسبهم إلى صفه بدلا من استمرارهم فى عداوتهم لدعوته وإيذائهم له ولأتباعه ، ومن ثم أقدم على تضمين سورة " النجم " تَيْنِك الآيتين عقب قوله تعالى : " أفرأيتم اللاتَ والعُزَّى * ومناةَ الثالثةَ الأخرى ؟ " ( النجم /19 – 20 ) على النحو التالى : " إنهنّ الغرانيق العُلا * وإن شفاعتهن لَتُرْتَجَى ". والمقصود من وراء ذلك كله هو الإساءة للرسول الكريم بالقول بأنه لم يكن مخلصا فى دعوته ، بل لم يكن نبيا بالمرة ، وإلا لما أقدم على إضافة هاتين الآيتين من عند نفسه .
وهم بهذا يظنون أن محمدا يشبه بولس ، الذى كان يفتخر بأنه يتلون حسب الظروف من أجل إدخال الناس إلى النصرانية بكل سبيل والذى أقدم على إلغاء السبت والختان وأَحَلَّ الخنزير حين رأى أن هذه الأحكام تقوم عقبةً كأداءَ فى طريق الدخول إلى المسيحية ! ونَسُوا أن محمدا نبى من عند رب العالمين ، على عكس بولس ، الذى ما إن دخل المسيحية بكذبته تلك الكبيرة التى لا تدخل العقل ولا تجوز إلا على البُلْه والمعاتيه حتى انطلق كالثور الهائج يقلب كل شىء فيها تقريبا رأسًا على عقب !
وعلى أية حال فهذه بعض من آيات السورة الشيطانية المذكورة : " باسم الآب الكلمة الروح الإله الواحد الأوحد * يا أيها الذين كفروا من عبادنا : لقد ضلَّ رائدكم وقد غَوَى * وما نطق عن الهوى إن هو إلا وحىٌ إفكٌ يُوحَى * علَّمه مريد القُوَى * فرأى من مكائد الشيطان الكبرى وهو بالدرك الأدنى * وردَّد الكفر جهرا وتلا : أفرأيتم اللات والعزى ومناة الثالثة الأخرى . إن شفاعتهن لَتُرْتَجَى * كلما مسه طائف من الشيطان زجر صاحبه فأخفى ما أبدى * وإمّا ينزَغَنَّه من الشيطان نَزْغٌ استعاذ بنا على مسمعٍ جهرا * ... * ومن أظلمُ ممن افترى علينا كذبا ثم قال : " أُوحِىَ إِلَىَّ ". وما أُوحِىَ إليه إلا ما تنزَّلَتْ به الشياطينُ افتراءً ومكرا " (1 - 7 ، 15) .
وهذه الفرية هى مما يحلو للمستشرقين والمبشرين أن يرددوها للمكايدة وإثارة البلبلة ، مع أن أقل نظرة فى سورة " النجم " أو فى سيرة حياته صلى الله عليه وسلم كافية للقطع بأن تلك القصة لا يمكن أن تكون قد حدثت على هذا النحو الذى اخترعه بعض الزنادقة قديما وأخذ أعداء الإسلام يرددونها شأن الكلب الذى وجد عظمة فعض عليها بالنواجذ وأخذ ينبح كل من يقترب منه ! بل إن بلاشير فى ترجمته الفرنسية للقرآن الكريم قد أقدم على شىء بلغ الغاية فى الشذوذ والخيانة العلمية ، ألا وهو إثبات هاتين الآيتين المدَّعَاتَيْن فى نص ترجمته لسورة " النجم " بزعمهما آيتين قرآنيتين كانتا موجودتين فيها يوما .
وقد تناول عدد من علماء المسلمين قديما وحديثا الروايات التى تتعلق بهاتين الآيتين المزعومتين وبينوا أنها لا تتمتع بأية مصداقية . والحقيقة إن النظر فى سورة " النجم " ليؤكد هذا الحكم الذى توصل إليه أولئك العلماء ، فهذه السورة من أولها إلى آخرها عبارة عن حملة مدمدمة على المشركين وما يعبدون من أصنام بحيث لا يُعْقَل إمكان احتوائها على هاتين الآيتين المزعومتين ، وإلا فكيف يمكن أن يتجاور فيها الذم العنيف للأوثان والمدح الشديد لها ؟ ترى هل يمكن مثلا تصوُّر أن ينهال شخص بالسب والإهانة على رأس إنسان ما ، ثم إذا به فى غمرة انصبابه بصواعقه المحرقة عليه ينخرط فجأة فى فاصل من التقريظ ، ليعود كرة أخرى فى الحال للسب والإهانة ؟ هل يعقل أن تبلع العرب مثل هاتين الآيتين اللتين تمدحان آلهتهم ، وهم يسمعون عقب ذلك قوله تعالى : " ألكم الذَّكَر وله الأنثى ؟ * تلك إذن قسمةٌ ضِيزَى * إن هى إلا أسماءٌ سميتموها أنتم وآباؤكم ما أنزل الله بها من سلطان . إن تتَّبعون إلا الظن وما تَهْوَى الأنفس . ولقد جاءهم من ربهم الهدى " ؟ إن هذا أمر لا يمكن تصوره !
كما أن وقائع حياته صلى الله عليه وسلم تجعلنا نستبعد تمام الاستبعاد أن تكون عزيمته قد ضعفت يوما ، فقد كان مثال الصبر والإيمان بنصرة ربه له ولدعوته . ومواقفه من الكفار طوال ثلاثة وعشرين عاما وعدم استجابته فى مكة لوساطة عمه بينه وبينهم رغم ما كان يشعر به من حب واحترام عميق نحوه ، وكذلك رفضه لما عرضوه عليه من المال والرئاسة ، هى أقوى برهان على أنه ليس ذلك الشخص الذى يمكن أن يقع فى مثل هذا الضعف والتخاذل !
هذا ، وقد أضفت طريقةً جديدةً للتحقق من أمر هاتين الآيتين هى الطريقة الأسلوبية ، إذ نظرت فى الآيتين المذكورتين لأرى مدى مشابهتهما لسائر آيات القرآن فوجدت أنهما لا تمتان إليها بصلةٍ البتة .
كيف ذلك ؟
إن الآيتين المزعومتين تجعلان الأصنام الثلاثة مناطا للشفاعة يوم القيامة دون تعليقها على إذن الله ، وهو ما لم يسنده القرآن فى أى موضع منه إلى أى كائن مهما تكن منزلته عنده سبحانه . ولن نذهب بعيدا للاستشهاد على ما نقول ، فبعد هاتين الآيتين بخمس آيات فقط نقرأ قوله تعالى : " وكم مِنْ مَلَكٍ فى السماوات لا تُغْنِى شفاعتُهم شيئا إلا من بعد أن يأذن الله لمن يشاء ويَرْضَى " . فكيف يقال هذا عن الملائكة فى ذات الوقت الذى تؤكد إحدى الآيتين المزعومتين أن شفاعة الأصنام الثلاثة جديرة بالرجاء من غير تعليق لها على إذن الله ؟
ثم إنه قد ورد فى الآية الثانية من آيتى الغرانيق كلمة " تُرْتَجَى " ، وهى أيضا غريبة على الأسلوب القرآنى ، إذ ليس فى القرآن المجيد أى فعل من مادة " ر ج و " على صيغة " افتعل " . أما ما جاء فى إحدى الروايات من أن نص الآية هو : " وإنّ شفاعتهن لَتُرْتَضَى " ، فالرد عليه هو أن هذه الكلمة ، وإن وردت فى القرآن ثلاث مرات ، لم تقع فى أى منها على " الشفاعة " ، وإنما تُسْتَخْدَم مع الشفاعة عادةً الأفعال التالية : " تنفع ، تغنى ، يملك " .
كذلك فقد بدأت مجموعةُ الآيات التى تتحدث عن اللات والعُزَّى ومناة بقوله عَزَّ شأنُه : " أ(ف)رأيتم ...؟ " ، وهذا التركيب قد تكرر فى القرآن إحدى وعشرين مرة كلها فى خطاب الكفار ، ولم يُسْتَعْمَل فى أى منها فى ملاينة أو تلطف ، بل ورد فيها جميعا فى مواقف الخصومة والتهكم وما إلى ذلك بسبيل كما فى الشواهد التالية : " قل : أرأيتم إن أتاكم عذابُه بَيَاتًا أو نهارا ماذا يستعجل منه المجرمون ؟ " (يونس / 50) ، " قل : أرأيتم ما أنزل الله لكم من رزقٍ فجعلتم منه حلالا وحراما ، قل : آللهُ أَذِنَ لكم أم على الله تفترون ؟ " ( يونس / 59) ، " قل : أرأيتم إن كان من عند الله وكفرتم به وشَهِد شاهدٌ من بنى إسرائيل على مِثلِْه فآمن واستكبرتم ؟ إن الله لا يهدى القوم الظالمين " (الأحقاف / 10) ، " أفرأيتم الماء الذى تشربون ؟ * أأنتم أنزلتموه من المُزْن أم نحن المُنْزِلون ؟ * لو نشاء جعلناه أُجَاجًا ، فلولا تشكرون " ( الواقعة / 68 – 70 ) . فكيف يمكن إذن أن يجىء هذا التركيب فى سورة " النجم " بالذات فى سياق ملاطفة الكفار ومراضاتهم بمدح آلهتهم ؟
وفوق هذا لم يحدث أن أُضيفت كلمة " شفاعة " فى القرآن الكريم ( فى حال مجيئها مضافة ) إلا إلى الضمير " هم " على خلاف ما أتت عليه فى آيتى الغرانيق من إضافتها إلى الضمير "هنّ " .
وفضلا عن ذلك فتركيب الآية الأولى من الآيتين المزعومتين يتكون من " إنّ ( وهى مؤكِّدة كما نعرف ) + ضمير ( اسمها ) + اسم معرّف بالألف واللام ( خبرها ) " ، وهذا التركيب لم يُسْتَعْمَل ل " ذات عاقلة " فى أى من المواضع التى ورد فيها فى القرآن الكريم ( وهى تبلغ العشرات ) إلا مع زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله كما فى الأمثلة التالية : " ألا إنهم هم المفسدون / ألا إنهم هم السفهاء / إنه هو التواب الرحيم / إنك أنت السميع العليم / إنك أنت التواب الرحيم / إنه هو السميع العليم / إنه هو العليم الحكيم / إنه هو الغفور الرحيم / إنى أنا النذير المبين / إنه هو السميع البصير / إننى أنا الله / إنك أنت الأعلى / إنا لنحن الغالبون / إنه هو العزيز الحكيم / وإنا لنحن الصافّون / وإنا لنحن المسبِّحون / إنهم لهم المنصورون / إنك أنت الوهاب / إنه هو السميع البصير / إنه هو العزيز الرحيم / إنك أنت العزيز الكريم / إنه هو الحكيم العليم / إنه هو البَرّ الرحيم / ألا إنهم هم الكاذبون / فإن الله هو الغنى الحميد " . أما فى المرة الوحيدة التى ورد التركيب المذكور دون زيادة التأكيد لاسم " إنّ " بضميرٍ مثله ( وذلك فى قوله تعالى : " إنه الحق من ربك " / هود / 17 ) فلم يكن الضمير عائدا على ذات عاقلة ، إذ الكلام فيها عن القرآن . ولو كان الرسول يريد التقرب إلى المشركين بمدح آلهتهم لكان قد زاد تأكيد الضمير العائد عليها بضميرٍ مثله على عادة القرآن الكريم بوصفها " ذواتٍ عاقلةً " ما داموا يعتقدون أنها آلهة . وعلى ذلك فإن التركيب فى أُولَى آيَتَىِ الغرانيق هو أيضا تركيب غريب على أسلوب القرآن الكريم .
مما سبق يتأكد لنا على نحوٍ قاطعٍ أن الآيتين المذكورتين ليستا من القرآن ، وليس القرآن منهما ، فى قليل أو كثير . بل إنى لأستبعد أن تكون كلمة " الغرانيق " قد وردت فى أى من الأحاديث التى قالها النبى عليه الصلاة والسلام .
وينبغى أن نضيف إلى ما مرّ أن كُتُب الصحاح لم يرد فيها أى ذكر لهذه الرواية ، ومثلها فى ذلك ما كتبه ابن هشام وأمثاله فى السيرة النبوية .
ولقد قرأت فى كتاب " الأصنام " لابن الكلبى ( تحقيق أحمد زكى / الدار القومية للطباعة والنشر / 19 ) أن المشركين كانوا يرددون هاتين العبارتين فى الجاهلية تعظيما للأصنام الثلاثة ، ومن ثم فإنى لا أستطيع إلا أن أتفق مع ما طرحه سيد أمير على من تفسير لما يمكن أن يكون قد حدث ، بناءً على ما ورد من روايات فى هذا الموضوع ، إذ يرى أن النبى ، عندما كان يقرأ سورة " النجم " وبلغ الآيات التى تهاجم الأصنام الثلاثة ، توقَّع بعضُ المشركين ما سيأتى فسارع إلى ترديد هاتين العبارتين فى محاولة لصرف مسار الحديث إلى المدح بدلا من الذم والتوبيخ (Ameer Ali, The Spirit of Islam, Chatto and Windus, London, 1978, P.134 ). وقد كان الكفار فى كثير من الأحيان إذا سمعوا القرآن أحدثوا لَغْطًا ولَغْوًا كى يصرفوا الحاضرين عما تقوله آياته الكريمة ( فُصِّلَتْ / 26 ) ، فهذا الذى يقوله الكاتب الهندى هو من ذلك الباب .
ولتقريب الأمر أمثِّل لهذه الطريقة بواقعة كنت من شهودها ، إذ كان رئيس ومرؤوسه يتعاتبان منذ أعوام فى حضورى أنا وبعض الزملاء ، وكان الرئيس يتهم المرؤوس المسكين بأنه يكرهه ، والآخر يحاول أن يبرئ نفسه عبثا لأنه كان معروفا عنه خوضه فى سيرة رئيسه فى كل مكان . وفى نوبة يأس أسرع قائلا وهو يؤكد كلامه بكل ما لديه من قوة : " إن ما بينى وبينك عميق ! " ، فما كان من زميل معروف بحضور بديهته وسرعة ردوده التى تحوِّل مجرى الحديث من وجهته إلى وجهة أخرى معاكسة إلا أن تدخل قائلا فى سرعة عجيبة كأنه يكمل كلاما ناقصا : " فعلا ! عميقٌ لا يُعْبَر ". وهنا أمسك الرئيس بهذه العبارة وعدَّها ملخِّصةً أحسن تلخيص للموقف ولمشاعر مرؤوسه المزنوق الذى يحاول التنصل مما يُنْسَب إليه !
ومن ذلك أيضا ما كان بعض أصدقائنا المدرسين يعابث به تلميذاته إذا رآهن قد أسرفن فى التحمس لقاسم أمين وإبراز أهمية الدور التى تؤديه المرأة فى الحياة ، إذ كان ، كلما ردّدن أمامه العبارة المشهورة فى هذا السياق من أن " وراء كل عظيم امرأة " ، يجيبهن مرة : " طبعا وراءه لا أمامه ، فهو صاحب الصدارة والتفوق ، أما هى فتابعة له "، ومرة : " فعلا وراءه ، والزمان طويل " ، ومرة : " وراءه مسوِّدة عيشته " ... وهكذا .
ورغم أننا قد فنَّدنا هذا السخف الساخف فإنّا لنستغرب ذلك الضجيج الذى يُحْدِثه هؤلاء الأوباش حول رسولنا الكريم بسببه . ذلك أنهم يقولون إنه ما من نبى من أنبياء الكتاب المقدس إلا قد ارتكب خطيئة أو أكثر من العيار الثقيل حسبما جاء فى هذا الكتاب ذاته : فإبراهيم تخلى عن زوجته لفرعون مدّعيا أنها أخته وتركها له يفعل بها ما يشاء خوفًا على حياته ، وكان من الممكن أن ينال الملك ما يشتهى منها لولا أن الله قد ضربه هو وأهله ضرباتٍ عظيمة كما يقول مؤلف " سفر التكوين " ( 12 / 11 – 20 ) ، فعرف أن سارة ليست أختا لإبراهيم بل هى زوجته . وموسى يقدم على قتل المصرى بدم بارد وخسّة حقيرة وجبن واضح . وهارون يصنع العجل لبنى إسرائيل ليعبدوه ويرقصوا وهم يطوفون به عراةً أثناء غياب موسى فى الطور عند لقائه بربه . وداود يزنى بامرأة قائده ثم يدبر مؤامرة إجرامية خسيسة لقتله والتخلص منه ليفوز بالزوجة ، وكان له ما أراد . وسليمان ينظم نشيدا كله عهر وإغراء بالفاحشة ، كما ينزل على رغبات زوجاته الوثنيات فيصنع لهن أصناما يعبدنها فى بيته إرضاءً لهن ... إلخ . وهؤلاء المتنطعون يقولون إن وقوع الأنبياء فى الخطايا أمر طبيعى لأنهم بشر . فإذا كان الأمر كذلك فلماذا ، يا أيها المتنطعون ، لا تنظرون بنفس العين إلى غلطة الغرانيق بافتراض أنها وقعت بالفعل ، وبخاصة أنها لا ترقى أبدا إلى ما فَرَط من أىٍّ من أنبياء كتابكم حسبما تقولون أنتم أنفسكم ، فقد حُذِفت الآيتان المذكورتان فى الحال ولم تُسَجَّلا فى القرآن قط ؟
مرة أخرى أكرر أن هذه الرواية هى رواية مكذوبة لا تثبت على محك النقد العلمى : سواء من ناحية السند أو من ناحية المتن والأسلوب كما رأينا ، لكنى أحاول أن أبين للقارئ الفاضل مدى التواء هؤلاء المخابيل وخبث نفوسهم وكيلهم بمكيالين ، وأن أُوقِفَ هؤلاء المخابيل أمام صورتهم فى المرآة ليَرَوْا قبحها ودمامة ملامحها الشيطانية !
وهنا أحب أن أشير إلى مفارقة غاية فى العجب والغرابة والشذوذ ، فانطلاقا من المفهوم الطاهر للنبوة فى ديننا والإيمان بأن الأنبياء لا يمكن أن يقترفوا مثل هذه الجرائم التى لا تقع إلا من عتاة المجرمين نقوم نحن المسلمين بالدفاع عن أنبياء الكتاب المقدس ضد التهم التى يلصقها هذا الكتاب المحرَّف بهم ، لكن النصارى يردون على هذا الدفاع بالتخطئة مؤكِّدين أن هؤلاء الأنبياء قد ارتكبوا فعلا الخطايا التى تُنْسَب إليهم . ومع ذلك فإنهم عند تناولهم للشبهات الباطلة التى يتعلقون بها للنيل من أخلاق الرسول الأعظم نراهم وقد أخذتهم الحميَّة للأخلاق الكريمة فلا يُبْدُون أى تسامح أو تساهل مع هذه التهم الكاذبة !
أليست هذه مفارقة تحتاج إلى دراسة تحليلية لذلك الالتواء النفسى ؟
ويمكن القارئ أن يرجع مثلا إلى موقع " النور " النصرانى ، ولسوف يجد مقالا بعنوان " عصمة الوحى وخطايا الأنبياء " يتحدث فيه صاحبه عن الخطايا التى اجترحها كل من آدم ونوح وإبراهيم وإسحاق ويعقوب ولوط وإخوة يوسف وداود وسليمان وغيرهم مما أشرنا لبعضه آنفا ، مع تسويغ هذه الخطايا بشبهة أنهم بشر ، لكنه عندما يتناول ما يظنه أخطاءً لسيد الأنبياء والمرسلين يحاسبه حسابا عسيرا ، ولا يرضى أبدا بغض البصر أو التسامح تحت أى بند من البنود !
إننى حين أدافع عن سيد النبيين والمرسلين لا أفعل ذلك لمجرد انتمائى لدينه ، بل أفعله إيمانا منى بعظمته وعبقريته وشموخ شخصيته : فقد أتى بمبادئ لا ترقى إليها أية مبادئ فى أى دين أو فلسفة أو مذهب من مذاهب السياسة والتربية والأخلاق .
ثم إنه قد وضع تلك المبادئ موضع التطبيق ، وكان توفيقه فى هذا المجال مذهلا ، ولم يقتصر الأمر معه على مجرد الدعوة لها كما هو الحال مع عيسى عليه السلام ، الذى لم يأت ، حسب ما هو مسطور فى سيرته ، إلا ببعض المواعظ والنصائح المغرقة فى الخيال مما لا يؤكِّل عيشا ! والواقع أنه لو أخذت البشرية مأخذ الجِدّ ما دعا إليه السيد المسيح حسبما جاء فى الأناجيل لما كانت هناك حضارة ولا تقدُّم ولا تمتُّع بأى من خيرات الحياة ، فكل الكلام المنسوب له عليه السلام تنفير من الغنى والقوة والدفاع عن النفس وتبغيض فى الدنيا وطيباتها ، وهو يقول بصراحة لا تحتمل أى تأويل إن مملكته ليست من هذا العالم . كما ينظر إلى الغرائز البشرية نظرة التوجس بل الكراهية ، مع أن هذه الغرائز هى وقود سفينة الحياة ، ولولا هى لما رامت هذه السفينة موضعَها إلى الأبد! كذلك لم يترك المسيح أية تشريعات تقريبا ، وبالذات فى مجال السياسة والحكم وتنظيم المجتمع . ومن ثم فإننا إذا أردنا أن نقيم دولة على المبادئ التى خلَّفها لم نجد ما يمكن أن يساعد فى هذا المجال ! ولكن لا ينبغى فى ذات الوقت أن ننسى أنه عليه السلام لم يُكْتَب له أن يعيش بعد اختياره نبيًّا إلا لسنوات ثلاث ، وهى فترة غير كافية لإنجاز أى مشروع على الإطلاق ! ومن هنا كان من الظلم البين له مقارنة عمله بما أنجزه الرسول الأعظم رغم احترامنا له وحبنا إياه وإيماننا بنبوته .
لكن صورة المسيح التى تعرضها علينا الأناجيل هى للأسف صورة ظالمة ، إذ تظهره عصبيًّا جافى الطبع لا يستقر فى مكان ، ولا عَمَلَ له إلا إبراءُ المرضى الذين يلهثون خلفه هنا وههنا فى فوضى مزعجة ، وإلا لَعْنُ اليهود وسبُّهم ومخالفتهم فى كل ما يتمسكون به من تشريعات ، مع الزعم فى ذات الوقت بأنه ما جاء لينقض الناموس الذى أتى به موسى عليه السلام ، ثم لا شىء وراء ذلك !
طبعا سيقول النصارى إنه قد أتى إلى العالم ليفتدى البشرية من خطيئتها الأولى ، لكن أحدا من غير السذَّج لا يمكن أن يأخذ هذه المزاعم المصنوعة على غرار وثنيات القدماء وخرافاتهم مأخذ الجِدّ !
ومع ذلك فكلُّ إنسانٍ وما يؤمن ! ونحن لا نتدخل فى عقائد غيرنا ، بيد أننا فى الوقت ذاته لا يمكن أن نتسامح مع من يَمَسُّ سيدنا رسول الله بسوء !
أنتم أحرار فى كفركم به يا من لا تؤمنون برسالته ، فهذا اختياركم ، ونحن لا نصادر حق أى إنسان فى الاختيار . لكن هذا شىء ، والتطاول على شخص الرسول الأكرم والقرآن الذى جاء به شىء آخر مختلف تماما .
وأرجو أن تكون الرسالة قد وصلت !