العَقْلُ وَالقَلْبُ وَالفُؤَاد فيْ ضَوْءِ المَفْهُومِ القُرْآنيّ

إنضم
10/05/2012
المشاركات
1,360
مستوى التفاعل
37
النقاط
48
الإقامة
جدة
الموقع الالكتروني
tafaser.com
بسم1

رابط المقال في المدونة

العَقْلُ وَالقَلْبُ وَالفُؤَاد فيْ ضَوْءِ المَفْهُومِ القُرْآنيّ

"القلبُ سلطانٌ يملكُ فارساً اسمه العقل ، وجواداً اسمهُ الفؤاد، وَإدراك مدى صَلاحُ هذهِ المملكةٍ وَدمارها يَتْحَدّد عِنْدَما يَرْكَبُ أحَدَهُما على الآخر"

تمهيد وتعريف:

استطراداً لما قد بدأناه في استجلاء مفاهيم الروح والنفس والموت والوفاة ، فقد كان لزاماً أن نمضي في مراجعة وفهم المكونات الداخلية للنفس البشرية والتي من أهمها (العقل و القلب و الفؤاد) والفرق بينها في ضوء السياق القرآني ، مع التنويه بأن اتساق ما يتم التوصل إليه مع ما سبق يحقق الطمأنينة إلى التوجيه الخاص بمفاهيم الروح والنفس والموت والوفاة.

وقد سبق لنا القول في الفصل الأول (الفَرْقُ بَيْنَ الْمَوْتِ وَالْوَفَاة وبَيْنَ الرُّوح وَ النَّفْس) أن القلب الذي يشيع ذكره والإشارة إليه في النص القرآني لا يعني المضغة التي تضخ الدم للجسد ، فقلنا في سبيل تصحيح مفهوم الحديث ما نصه:عن أبي عبد الله النعـمان بن بشير رضي الله عـنهما قـال: سمعـت رسـول الله صلي الله عـليه وسلم يقول:
(إن الحلال بين وإن الحـرام بين وبينهما أمور مشتبهات لا يعـلمهن كثير من الناس فمن اتقى الشبهات فـقـد استبرأ لديـنه وعـرضه ومن وقع في الشبهات وقـع في الحرام كـالراعي يـرعى حول الحمى يوشك أن يرتع فيه ألا وإن لكل ملك حمى ألا وإن حمى الله محارمه ألا وإن في الجـسد مضغة إذا صلحـت صلح الجسد كله وإذا فـسـدت فـسـد الجسـد كـلـه ألا وهي الـقـلب).
وإنما جيء بالقلب هنا لتقريب المفهوم للصحابة بأن النوايا الخفية وما تحويه نفس الإنسان هي مناط صلاح العمل وفساده فذلك كالقلب فإنه إن مَرِضَ وفسد فإن ذلك يفسد كل الجسد وهذا من حقائق الطب هذا اليوم فتلف القلب يؤثر على كافة الأعضاء وموته يعني موت ابن آدم ، بينما هناك من الأعضاء مالا يؤدي تلفها للموت ، وكذلك العمل فإنه إن كان خالياً من النفاق وسوء النية فإنه يقبل ويصلح وإن كانت النية فاسدة والنفس خبيثة أفسدت العمل كله وهذا مصداق حديث (عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه ، قال : سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول :
(إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته لدنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه) . رواه البخاري ومسلم ).

فالقلب المقصود في السياق القرآني ليس المضغة المتعلقة بالجسد كما أسلفنا ولكنها مقلوب النفس وجوهرها وذلك العضو المتقلب الذي لا يستقر على حال ، فتارة نجده مسارعاً للطاعة وتارة نراه منقلباً إلى المعصية ، ونحن الآن بصدد استظهار الفرق بين القلب و العقل والفؤاد لتتضح لنا بمشيئة الله وظيفة كل منهما وعلاقتها بالعقل وكما اعتدنا سوف نبدأ بتبيان مفهوم كلا من المفردتين وننطلق لربط هذا التعريف بالمفهوم والسياق القرآني بإذن الله تعالى.

ولعلي استغل هذه المقدمة لأنبه على قاعدة مهمة ينبغي بقاؤها نصب عين القارئ وهي تجنب الخلط في التصور والمفهوم بين الأعضاء الشرعية والأعضاء الحسية فالأعضاء الحسية كالدماغ والقلب والسمع والبصر ليست هي الأعضاء الشرعية بل هي مقابلة لها متصلة بها فالقلب الشرعي داخل النفس في بعد غير محسوس وكذلك العقل والفؤاد ، والأعضاء الحسية جسد بالٍ وَخَلَقٌ فانٍ ، بينما الأعضاء الشرعية متصلة بالنفس البشرية من جنسها وباقية معها تستعملها النفس منذ خلقها وحتى مآلها سواء للجنة أو للسعير ، وبالتالي فعند الإتيان بهذه التسميات فينبغي عدم خلط الصورة المستقرة للعضو الحسي مع صورة العضو الشرعي.

وأعضاء كالقلب وما يحتويه (العقل والفؤاد) هي أعضاء مخلوقة من جنس خلق النفس وليست من أعضاء الجسد وهذا ما نحن بصدده.وقبل أن نورد التعريفات للقلب والعقل والفؤاد أود أن أبين بأن أولا الفرق بين (القلب الحسي) (المضغة أو المضخة) وبين (القلب الشرعي) الذي هو جوهر النفس ومركز القرار ، كما أن هناك فرقاً بين الدماغ وبين العقل فالدماغ ما هو إلا أداة تترجم أوامر النفس للبدن على شكل نبضات كهربية وليس وعاء للذاكرة أو وسيلة لاتخاذ القرار كما يعتقد ، وذلك وفق المفهوم الشرعي في القرآن الكريم بماهية القلب والعقل والفؤاد.

تعريف العقل : هُوَ وِعَاَءُ الْفِطْرَةِ وَأدَاةُ ضَبْطِ السُّلُوك البَشَرِيّ المَبْنيّ عَلَى تَحْقِيْقِ فِهْمِ المُحِيْطِ المادّيّ ،وَالعَقْلُ السَّليم هُوَ مَنَاطُ كُلَّ فِعْلٍ حَسَنْ إذا اسْتَعْلَى فِيْهِ عَلَى الفُؤَادِ وضَبَطَ سُلُوكَه.

تعريف الفؤاد : هُوَ وِعَاءُ الحَاَضِرِ الَّذِيْ يَتَلَقَّىَ مَاَ يَلِجُ فِيِهِ مِنْ خِلَالِ الحَوَاسّ وَهُوُ مَنَاَطُ العَوَاطِفِ والشُّعور مِنْ خَوْفٍ وَحُبٍّ وَرَجَاءٍ وَبُغْضٍ وَحِقْدٍ وَرِضًىً وَشَهْوَةٍ وَسَعَادَةٍ وَحُزْنٍ وَنَحْوَ ذَلِكَ مِنَ المَشَاعِرِ البَشَريّة ، وَهُوُ مُتَعَلّقٌ بِكُلِّ فِعْلٍ قَبِيْحْ إذا اسْتَعْلَى عَلَىْ العَقْلْ وَتَقَدَّمَ عَلَيْه.

تعريف القَلْبْ : هُوَ جِمَاعُ العَقْلُ وَالفُؤَاد وقائدهما يُرَجِّحُ ويتبع العَقْل عندمَاَ يعتليْ عَلَى الشَّهْوَةِ (الفُؤَاَدْ) أو العَكْسْ ، وهو مَنَاطُ الإدْرَاكِ وَمَنْشَأ الفِعْلِ والقَرار.

ومن خلال الأبواب التالية سنتعرف على دلالات هذه التعريفات وعرضها على القرآن الكريم والحديث النبوي الكريم بمشيئة الله تعالى.

إضاءات حول المفرادات وتعريفاتها

قبل أن نشرع في استعراض التنزيل الحكيم ومواضع ذكر هذه المفردات وفحص سياقها وتوجيهها سننثر مجموعة من الإضاءات حول تلك المفرادت لتعزيز فهم التعاريف وربطها ببعضها البعض للوصول لتصور دقيق قدر الإمكان لهذه المكونات الثلاث :

الإضاءة الأولى :العقل يسميه أهل النفس وعلومها (العقل الباطن) ويسمونه (اللاوعي) ويسمى قديما وحديثاً (بالضمير) لأن محتواه مضمر خفي عن البشر .

الإضاءة الثانية :ما يظهر لنا من سلوك بشري إنما هو قرار القلب الناتج عن تمازج العقل والفؤاد وتفاعلهما، فالعقل لا يطرح للقلب إلا الحق أما الفؤاد فمصدر رأيه العاطفة والشهوة والهوى والقلب يختار بينهما.

الإضاءة الثالثة :خفاء القلب والعقل عن التحكم والمشاهدة هو ما جعل من اسمه (قلباً) فهو في أعماق النفس البشرية في حين ان الفؤاد ظاهر عارض للعبد تظهره العواطف على صفحات الوجه وبنات شفاهه فهو متصل بالحواس وفيه تستقر المشاهدات والمسموعات وعموم الأحاسيس ، كما أن تقلبه واختلاف يقينه وعدم استقراره على أمر واحد جعل من اسمه قلبا لتقلبه من حال إلى حال.

الإضاءة الرابعة :خضوع القلب للشهوة خاصة ولبقية المشاعر عامة ينتج عن إعلاء الفؤاد على العقل فيجترح الباطل ويكبت صوت العقل والفطرة ، فالقلب إما أن يأخذ من الفؤاد فيخضع قراره للعاطفة والهوى والشهوة ، أو يجعل العقل حاجزا بينه وبين الفؤاد فلا يمر شيء إلا أخضعه للعقل ووزنه بميزانه.

الإضاءة الخامسة : الفؤاد ليس شراً محضاً فلولاه لفقد البشر قيماً سامية كالشفقة ، والمحبة والسعادة ، وقيماً حيوية كالخوف والشجاعة و الحذر ، فيستحيل عضوا قيِّماً وسامياً عندما ينقاد ويخضع للعقل ، ويصبح بهيميا شهوانيا عندما يستعلي الفؤاد على العقل ، وكل ذلك بقرار القلب ورضاه.

الإضاءة السادسة :أن قلب النفس يقابله قلب الجسد من جهة تأثيره على صلاح العمل والاعتقاد ، فإن فساد القلب ومرضه يؤدي لفساد الاعتقاد في النفس وفساد الأعضاء في الجسد ولكنهما شيئان مختلفان أحدهما مادي ملموس متعلق بالبدن (حسي) والآخر غيبي في بعد آخر يتعلق بالنفس وأحوالها (القلب الشرعي).

الإضاءة السابعة :نؤكد على أن الدماغ المادي والجهاز العصبي إنما هو وسيطة تترجم من خلالها أوامر النفس في بعدها الخفي إلى أعضاء الجسد ببعده المادي فليس في جوهر الجهاز العصبي قدرة على أخذ قرار وترك فعل بل إن كل ذلك يتم في القلب ، وبالتالي يترجم ذلك القرار على صورة إشارات عصبية تمر عبر الشبكة العصبية للعضو المراد تحريكه وكل ذلك يتم بصورة فائقة السرعة.الإضاءة الثامنة :العقل الذي نقصده ليس الدماغ بل هو مكون رئيسي من مكونات النفس وهو خاضع للقلب بجانب الفؤاد ، والقلب يوازن بينهما ويختار ، فأنواع النفس الثلاث إنما هي أحوالها التي تتقلب فيها وليست ثلاث أنفس كما يظن البعض، فالنفس الأمارة ما استعلى عليها الفؤاد ، والنفس اللوامة ما استعلى عليها العقل ، والقلب له بين هذا وذاك أحوال عديدة .

الإضاءة التاسعة :إن الكافر حين يستمع للدعوة لدين الله فإنه قد يُعلي قيم الفؤاد على قيم العقل فيعاند ، أو يعلي قيم العقل (الفطرة) على قيم الفؤاد فيؤمن ، فالمعاند يقدم عواطفه وفؤاده وهواه على عقله وفطرته (كالخوف من فقدان مال أو جاه أو نبذ المجتمع له أو بغضه للمسلمين ورفضه لهم) ، ومنهم من يخشى فواتِ شهوة كالزنا أو الربا أو الخمر فيرفض الإذعان للعقل بل لا يدع له مجالاً ليزن الأمور فيقدم العاطفة والشهوة (الفؤاد) ويعليها ويؤخر العقل ويغيبه فيخفيه ، فيكون قرار القلب على ضوء ذلك ، وهكذا فإن كل فعل ينشأ من إطاعة الفؤاد وإقصاء العقل فهو يتأثر بالعاطفة ويغض الطرف عن السنن والقوانين والحقائق.

الإضاءة العاشرة :إن فهم هذا التفصيل غاية في الأهمية لتشريح النفس البشرية بصورة واقعية ومعرفة كنهها وكيفية عملها وتفاعل مكوناتها من عقل وفؤاد تحت قلب هذه النفس وهنا يتمكن ابن آدم من تحليل وتفسير ما يواجهه من تناقضات ويستطيع أيضا أن يحسن التعامل مع ذاته والسيطرة على تصرفاته.

الإضاءة الحادية عشر :إنما سمي العقل عقلاً لأنه يناط به (تقييدُ) الفؤاد والتقدم عليه في المرتبة وكبح جماح الشهوة وإحكام وثاق العاطفة وشد عقالها واستعمالها في جوانب البذل والخير وزجرها عن مواطن الشر فإن غابت وظيفته كان ابن آدم والحيوان - في مسألة الاعتقاد- واحد حتى لو تفوق في الجوانب الحياتية الأخرى ، وبمنطقنا يصبح ابن آدم (إنساناً) وهي التسمية ذات الدلالة على حقارة خلق البشر سوء طويتهم كما أثبتنا في بحث آخر.

الإضاءة الثانية عشر : إن الفؤاد تتنازعه شهواته وعواطفه بين جانبين أحدهما خير والآخر شر فما إن يميل للشر وجب على القلب أن يزجره ويصلح أمره ويقدم العقل ويعليه، فإن استعلى الفؤاد على العقل أضعف القلب وامرضه وحجبه فيفسد بذلك العمل.

الإضاءة الثالثة عشر :إن حركة العقل والفؤاد الدائبة تحت ظل القلب وسيطرته لا تقتصر على الدين والاعتقاد بل تسري على كل جوانب الحياة اليومية اجتماعيةً وتجارية وتعليمية وغيرها فعندما تجد الكافر يجيد استعمال عقله ويعليه في مسائل المادة ثم إذا عرض عليه الدين قدم الفؤاد وغيب العقل كان ذلك مدعاة ومبرراً لعقاب الله له إن استوفي عمله وهو كافر معاند.

الإضاءة الرابعة عشر:إن المجنون قد يفسد عقله ويغيب ويبقى فؤاده سليماً فتجده عند عواطفه وفطرته في مسائل الخوف والرجاء حاضرة ولكن عقله فسد وتلف فيفقد ميزة التكليف ، والجنون من استتار القلب بفعل فساد العقل أو فساد الوسيطة المادية التي تربطه بالبدن (الدماغ) .

الإضاءة الخامسة عشر : إن ابن آدم لا يملك العقل ولا يستطيع النفاذ إليه أو العبث بمحتواه ولكنه يملك الفؤاد ويستطيع التصنّع والخضوع للشهوة والكذب متأثراً بعاطفة او مقاوماً لتلك الجوانب العاطفية السلبية عندما يخضعها للعقل.

الإضاءة السادسة عشر:إن الملائكة لا تحتوي أنفسها على أفئدة ، فلا تتنازعها قوة خير وشر ، ولا تؤثر فيها العاطفة كالشهوة والعطف والطمع والحب وسواه بل تشتمل أنفسها على قلوب عاقلة تحتوي الفطرة ولا شيء سوى الفطرة ، فلا يستمتعون بمتع الدنيا والآخرة ولا يتأثرون بعاطفة تجاه الخلق فخزنة جهنم ينفذون أوامر الله بمعزل عن أي عاطفة أو اسف أو حزن على مآل أولئك المعذبين.

الإضاءة السابعة عشر:قيمة الفؤاد لدى الشيطان أعلى من قيمة العقل فكان علو الفؤاد لديه سببا في حصول الكبر والحقد والبغض في نفسه فمن أعلى قلبه الفؤاد وأقصى العقل كان من الشيطان أقرب بل وأسوأ ، ومن أعلى قلبه العقل وأقصى الفؤاد كان إلى الملائكة أقرب بل وأفضل ، وما أورد ابليس لمهلكة الغضب الإلهي إلا الفؤاد فالكبر والغرور والغضب والبغض والحسد كلها قيم الفؤاد ، طغت على قلب ابليس فقادته إلى المهالك ، وسبق لنا إثبات مسألة أن العواطف بتناقضاتها المختلفة متعلقة بهذا الفؤاد.لذلك نفهم كيف أن هذه المشاعر مرتبطة بالتفؤد والاشتعال وبالتالي فهي الموضع المفضل للشيطان الذي يشبهه في مادة خلقه وهي النار ، ولذا كان جريانه في ابن آدم مجرى الدم ، وقد جاء في الحديث عن عروة بن محمد ، عن أبيه عن جده عطية بن عروة السعدي رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : (إِنَّ الْغَضَبَ مِنْ الشَّيْطَانِ وَإِنَّ الشَّيْطَانَ خُلِقَ مِنْ النَّارِ وَإِنَّمَا تُطْفَأُ النَّارُ بِالْمَاءِ فَإِذَا غَضِبَ أَحَدُكُمْ فَلْيَتَوَضأ).

فهذه المشاعر المتفئدة المشتعلة إذا غيبت العقل وانساق القلب خلفها أفضت لارتكاب الزلل والخطأ.
هذا الغضب والتفؤد جعل نبي الله موسى يلقي الألواح المقدسة التي كتبها الله له فيها الوصايا والشرائع وكادت الدعوة أن تنشطر ويدب فيها الخلاف : يقول تعالى:
(ولما رجع موسى الى قومه غضبان اسفا قال بئسما خلفتموني من بعدي اعجلتم امر ربكم والقى الالواح واخذ براس اخيه يجره اليه) الآية.
ولكن بعد سيطرته على نفسه وتقديم عقله على فؤاده أدرك ما يحدث فيصف تعالى ذلك بقوله :(ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الالواح وفي نسختها هدى ورحمة للذين هم لربهم يرهبون)وكذلك نبي الله يونس عليه السلام عندما قدم فؤاده على عقله وخضع للغضب ، يقول تعالى(وذا النون اذ ذهب مغاضبا فظن ان لن نقدر عليه فنادى في الظلمات ان لا اله الا انت سبحانك اني كنت من الظالمين )فكان الغضب بابا لسوء الظن والتقدير وتغييب العقل واقصاءه.

وقد أثنى الله تعالى على المؤمنين الذين يملكون قلوبهم فلا ينساقون لإملاءات الفؤاد فيكون الفعل المتوقع حال الغضب هو الفعل المدفوع بالعقل وليس بالفؤاد ، يقول تعالى :(وَالَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الإِثْمِ وَالْفَوَاحِشَ وَإِذَا مَا غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ ) الشورى (37) فكانت المغفرة والمسامحة قيمة عقلية تكبت اتجاه الفؤاد نحو الانتقام ، وإنما كان ذلك بفعل استقرار الايمان ، فلم ينف الله تفؤد النفس واشتعالها غضبا ولكنه حدد السلوك الايماني الذي ينبغي أن يتبع تلك الحالة ، وهذا السلوك ليس بسلوك مصطنع بل سلوك طبيعي أصيل سببه استقرار الإيمان ، وعليه فكل فعل انتقامي إنما هو حالة غير إيمانية تعتري الإنسان وتسيطر عليه بفعل ذلك الغضب.

الإضاءة الثامنة عشر:لتقريب المفهوم للقارئ الكريم نستشهد بمثال جهاز كشف الكذب فالفؤاد هو من يدفع القلب لإظهار الانفعالات الكاذبة والملامح المزورة إلا أن العقل (يصرخ) بعكس ذلك لأن فطرته لا تقبل الكذب ولكن استعلاء الفؤاد والشهوة واستيلاءها على القلب كبت قدرة العقل على فرض الحق ونبذ الباطل ، ولكن الحقيقة أن ظاهر هذه الفعلة المشينة مهما كان خفاؤه فهو في حقيقته يخفي صراعا شرسا يمكن قياس حدته بما تتركه من آثار على أعضاء الجسد من ارتفاع في نبضات القلب أو تعرق ولغة جسدية فاضحة وقد تكون خفية جدا لدرجة لا تقاس إلا بأجهزة إلكترونية تتحسس التفاعلات الحيوية أثناء إجراء اختبار معين لكشف الكذب.

الإضاءة التاسعة عشر :عندما نستظهر هذه العلاقة والتفاعل بين العقل والفؤاد وسباقهما للقلب واقناعه كلا بما لديه فإننا سنتمكن من فهم الحديث الشريف : حَدَّثَنَا أَبُو هَانِئٍ أَنَّهُ سَمِعَ أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْحُبُلِيَّ يَقُولُ إِنَّهُ سَمِعَ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عَمْرٍو يَقُولُ سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ: «إِنَّ قُلُوبَ بَنِي آدَمَ كُلَّهَا بَيْنَ أُصْبُعَيْنِ مِنْ أَصَابِعِ الرَّحْمَنِ يَقْلِبُ وَيَصْرِفُ كَيْفَ شَاءَ»وهنا تظهر بوضوح هاتين القوتين (اصبعي الرحمن) اللتين تقلبان (قلب) العبد ، فالله الذي يريه الحق والباطل بعينيه ويسمعه بأذنيه ويتفاعل معه بفؤاده آتاه عقلا وفطره على الحق وطهره من الباطل فإن استعلى الفؤاد على العقل تحول القلب وانقلب الى الباطل وإن استعلى العقل على الفؤاد تحول القلب وانقلب عن الباطل إلى الحق فالقرار زمامه بيد العبد وعلى الله الدلالة والهداية والتوفيق فهذين (الاصبعين) من خلق الله عقلا وفؤادا يتنازعان القلب ويتجاذبانه وهو بالخيار على أي اتجاه ينقلب ، ومن عدله جلت قدرته أن أودع الأمانة في ابن آدم (أمانة الاختيار) فيحاسبه على ما يختار بذاته ولا يأطره أو يجبره على شيء ، وفي رواية :ما من قلب إلاّ هو بين اصبعين من أصابع الرحمن إن شاء أن يقيمه أقامه وإن شاء أن يزيغه أزاغه ، فكان العقل مناط الإقامة والصلاح وكان الفؤاد مناط الهوى والزيغ.

وهذا لا يعني امتناع الجبر على الله بل إنه جل شأنه يملك القدرة المطلقة على كل شيء بلا قيد ولا حد.
ومن الناس من ضل في فهم المسألة فنسب العضو المادي إلى الله تعالى وظن أن القلب المراد به القلب الحسي والمضخة التي تدفع الدم في الجسد البالي الفاني وهذا الفهم قد يشي بتجسيم باطل في حق الله ، في حين أن هذا غير متحقق بصورته التي يتوهمها البعض ، ولكنها كما أسلفنا متسقة مفهومة لا توقع في النفس الشك أو الريب أو الاستغراب ، فقد أشار مفهوم الاصبعين إلى قدرتين أودعهما الله في قلب ابن آدم هما القلب والفؤاد يقلبان رأي العبد ويغيران اتجاهه من عقيدة إلى أخرى ومن سلوك إلى سلوك ، وإن أراد الله هداية عبد من عبادة كبت فؤاده وأعلى عقله فلا يرى القلب أمامه سوى الحق فيذعن ، والعكس صحيح ، وفي نهاية الأمر فإن القلب مالك الإرادة فهو ينوب عن النفس في الاختيار بين السبيلين.

وهنا نتمكن من فهم الرسالات ، فالله يخاطب برسالاته عقول العباد ويستحثها على الوقوف والتقدم على الهوى والعاطفة والشهوة فينقلب قلب العبد من المعصية إلى الطاعة ومن الكفر إلى الإيمان ، فإن أبى وفضل الركون للفؤاد والعاطفة فإن الله يمده بالقوة والمال والحفظ والخيرات ، فيظن المسكين أن منهجه حق ولولا ذلك لانتقم الله منه فيتمسك بكفره ويعتوا عتواً شديداً ، وهنا يحق عليه القول فيبدو ما يحدث وكأن الله أضله ولكن الحقيقة أنه ضل بإرادته ورغبته بلا جبر ولا إرغام.

الإضاءة العشرون : إن القلوب الغلف هي تلك القلوب التي طغت عليها الأفئدة فغلفت القلب بغلافها وسيطرت على منافذها حتى صمت آذانها عن سماع الحق وأبصارها عن رؤيته فحيدت العقل وأطغت الفؤاد عليه فرفضت الحق تحت قيم الفؤاد الشريرة (الكبر ، الحسد ، الطمع ، الشح ).

الإضاءة الحادية والعشرون:من فضل الله على بني آدم أن جعل القرار لدى القلب لتتحقق ميزة الاختيار وتتحقق المسؤولية عن الأفعال الصادرة من العبد ، فالفؤاد يقول للقلب شيئا والعقل قد يقول شيئا آخر فيكون الاختيار بيد القلب إن انساق خلف الفؤاد خاب وإن كان انسياقه خلف العقل سلم وفاز.

الإضاءة الثانية و العشرون :لم يكن الخضر عليه السلام سوى ملكا من الملائكة جعله الله رجلا ولبس عليه ما يلبسون غاب عنده الفؤاد فلم تدخله عاطفة الحزن تجاه أصحاب السفينة ، ولم تدخله عاطفة الانتقام والبغض تجاه أهل القرية التي منع أهلها الضيافة عنه وعن موسى عليه السلام ، ولم تأخذه شفقة ولا عطف تجاه الغلام الذي ذبحه لأنه يتعامل بالعقل ويقصي الفؤاد ، العقل الذي يتبع أوامر الله وينفذها مقصيا الفؤاد بالكلية بل لا يحمل في قلبه فؤاداً ، وفي ذات الوقت كان فؤاد موسى عليه السلام متوقداً مشتعلا تجاه أفعال الخضر رافضا لها متعجبا من فعله ، فكان الدرس الرباني لعبده موسى حمل دروسا هامة منها أن اتباع شرائع الله وأوامره لا تخضع للفؤاد وعواطفه بل تخضع للعقل وثوابته.

الإضاءة الثالثة والعشرون: الملكين هاروت وماروت لم يحملا أفئدة تدفعهما للإيمان بالسحر واستعماله أو الانحراف بحيازتهما لذلك العلم الشرير فاختار الله ملائكة لهذا الغرض فمن جهة لديهما من القدرات والخوارق ما يفوق السحر والتخييل فلا ينتفعان اصلا بذلك العلم ومن جهة أخرى فهما لا ينبغي لهما أن يخالفان أمر الله وينحرفان لشهوة أو رغبة من فؤاد زائغ يصغي القلب ويحرفه عن الحق كما يفعل أكثر الناس.

الإضاءة الرابعة والعشرون : إن السمع والبصر الذي ينفذ للفؤاد يختلف عن السمع والبصر الذي ينفذ للعقل ، فالبصر النافذ للعقل يسمى بصيرة يخضع فيه العقل معطيات السمع والبصر المادي لثوابت العقل والفطرة فإن خالفها انتفت عنه السمع والأبصار حتى لو تحققت الرؤية المادية ، فالرؤية المادية بلا إعلاء للعقل وفي ظل اتباع الفؤاد تظل رؤية وليست بصرا وبصيرة واستماعا وليست سمعا فلم تنتج إعلاء للعقل بل أعلت الفؤاد وشهواته على العقل وفطرته فكان الإنسان في مقام الأعمى والأصم حين لم ينتج عن أذنه وعينيه فائدة تذكر حينذاك تعلي العقل على الفؤاد .

الإضاءة الخامسة والعشرون:يقول تعالى (إنا هديناه السبيل إما شاكرا وإما كفورا) فابن آدم يتبع عقله فيتحقق الإيمان ويفضي به إلى الشكر ويتبع الفؤاد فيهوي به للكفر ، والقلب مناط الفعل وهو قائد النفس (اللوامة ، الأمارة ، المطمئنة) إنما هي أحوال للنفس الواحدة وليست أنفس متعددة ، فالنفس الأمارة هي التي اعتلى فيها الفؤاد فغلف القلب فاستأمر بأمره وأقصى العقل وكبت فطرته ، فإن ثاب ورجع و وجدت نفسه أثر سوء انقيادها لشهوة الفؤاد فأقصاه واسترجع العقل وأعلاه فإن العقل يلوم القلب فيكون ذلك حال النفس فتسمى اللوامة.

الإضاءة السادسة والعشرون :إن الإتيان بمفردة القلب في القرآن الكريم دائما يحمل دلالة على ما خفي من الاعتقاد عن الخلق فجاز أن يكون الظاهر من أفعال العبد مخالفا لما يحويه قلبه ، أو أن لا يفعل بالضرورة ما يوافق الاعتقاد الخفي في داخل النفس وجوهرها وهو القلب ، لذا وجب أن نفرق دوما بين المتبادر للذهن عند ورود مفردة القلب - العضلة المستقرة في الجسد- وبين قلب النفس وجوهرها الذي يشارك النفس ذاتها في الخفاء والاستتار.

الإضاءة السابعة والعشرون :إن القلب الذي يتبع الفؤاد إنما يتبع الهوى لأنه يهوي به أسفل سافلين ، فالفؤاد صنو الهوى ، فإن عرض للقلب أمرين قدم العقل ما يجب على النفس اتباعه، وقدم الفؤاد ما تشتهي النفس أتباعه فإنه أطاع القلب رأي الفؤاد فقد أطاع الهوى وزاغ إليه، ومال عن الحق والعقل إلى الباطل والشهوات.ولك أيها المسلم أن تستكشف مصدر رأيك وميولك هل هي بدافع الفؤاد ؟ أم بدافع العقل ولك بعد ذلك أن تقدم منهما ما شئت ، إلا أن اتباع العقل لا يردك بإذن الله نادما أو متحسرا.

الإضاءة الثامنة والعشرون:إن اشتعال الفؤاد بالمشاعر المفتئدة كالغضب والشهوة والحسد والكبر والبغض والحقد أمر واقع لكل بني آدم بدرجات مختلفة ، ولكن كل الأفعال الناشئة عن تلك المشاعر إنما هي صورة لخضوع القلب للفؤاد فالمشاعر تنسب للفؤاد ولكن الأفعال تنسب للقلب فهو صاحب القرار الأخير والفاعل لكل ما يعرض له فمنه تنبت النية والنفس تأمر بما يحقق هذا الفعل، فأي فعل يتماشى مع دوافع الفؤاد فإنه فعل سوء فإن خالفه العقل فخضع القلب للعقل كانت محصلة الأمر خيراً وصلاحاً.

لذلك نجد أن الله تعالى في كتابه الكريم ينسب الأفعال الى القلوب فهي من يتبنى المشاعر فيترجمها إلى أفعال ، فإن أخضعها للعقل فقد أفلح وأصاب ، أما إن سلمها للعاطفة والفؤاد فقد أخطأ وأساء.

الإضاءة التاسعة والعشرون:ينظر الناس للواحد منهم بعين الميزان فيزنون أفعال العبد المتئدة الواعية فينعت بالعقل ، وكلما زادت درجة الاتزان ازداد مستوى العقل لاحتكامه على القلب وهيمنته عليه وتقدمه عن الفؤاد وسيطرته عليه.
فوظيفة العقل بتقييد الفؤاد والإمساك بزمامه هي التي ترسم صورة العبد لدى الخلق وهي حرية بالدراسة والبحث والتنقيب ففيها اسرار للنفس تقود لفتوح هائلة في أصول التعامل معها وسياقتها الى الخير وزجرها عن الشر ، وللعقل اسم آخر وهو "الحجر" الذي يحجر الفؤاد عن الانزلاق للشهوة والشذوذ عن حدود الحق ، فالإلحاد والكفر هو خضوع لقيم الفؤاد وغياب لقيم العقل فالكافر يكفر بمالا يدركه بحواسه برغم أن العقل يقول بأن إدراك الرب بالحواس إحدى دلائل فساد ربوبيته ، ولأن العقل يقيد الفؤاد عن الجموح والانطلاق خارج القيم العقلية فيحصل الكفر ويحدث الجحود.
وهنا يستقر لدينا بأن العقل يقتضي الإيمان قطعاً ومن لا إيمان له لا عقل له.

الإضاءة الثلاثون:إن العبد المسلم عندما يأتي طاعة مخصوصة كالصيام أو الصلاة ونحوها فإنه يأتيها مدفوعا برغبة القلب وتوجيهه ، وهو يستمد شرعيتها لديها من وزنها بميزان العقل.
فنجد مثلا أن الحيوانات والعجماوات لا يمكن أن تمتنع عن الطعام صياماً لفترة محدودة وبصفة معلومة لأن أفئدتها تسوق قلوبها ، وشهوتها للطعام وهي من ابسط الشهوات لا يوجد ما يعقلها ويقيدها ، وكذلك العبد العاصي ، فقلبه يستسلم للفؤاد فيخترق الفرائض وينعتق من قيود العقل التي تدفعه للعبادة فيكون في درجة العجماوات.

قد يقول قائل إن بعض الحيوانات تأتي بأفعال عجيبة تدل على ذكاء وبصيرة قد يفتقدها بعض البشر ، فنقول لو تتبعت الكيفية التي يجري تدريب العجماوات على تلك الأفعال لوجدت بأنها تكافأ في كل مرة تأتي فعلا مطلوبا عند المدرب تكافأ بطعام أو تحرم من شيء أو يجري ايقاع عقوبة عليها وبذلك فإن هذه الحالة في حقيقتها هي خضوع للشهوة والفؤاد وليس لصورة من صور العقل ابدا ، لذلك فإنها لا تلقي بالا لمدربها عند الشبع مثلا او اذا امنت عقابه.

إن من بني آدم ممن ينتظم في اتباع أنظمة بلاده لقناعته بصلاحيتها وقيامها على حياة مجتمعه وصلاح أمر قومه فهو يوظف العقل بصورة سليمة ، وهذا النمط من الناس هو من أقرب الخلق لاعتناق الإسلام إن لم يكن مسلما ، ومن أنفع البشر لمجتمعه.

أما أولئك الذين لا يأتون فرائضهم ولا يلتزمون بقوانين مجتمعاتهم إلا خشية عقوبة أو رغبة في مثوبة دنيوية فهؤلاء لا يختلفون عن حيوانات السيرك إن لم يكونوا أسوأ ، فعند أول حالة فوضى وغياب للنظام تراهم يعيثون في الأرض فسادا بصورة تأنف منها العجماوات وتعجب لها الشياطين.إن هذه المسألة هي اختبار حقيقي للعبد المسلم هل هو مسلم لله أم مستسلم للسلطة ؟ هل يأتي فرائضه خوفا من قيل وقال ورياء وسمعة ؟ أم قناعة ومحبة وصلاحا ؟.

فهنا نجد الفرق بين المسلمين المستسلمين للسلطة الذين قال الله تعالى عنهم:
{ قَالَتِ الْأَعْرَابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَلَٰكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنَا وَلَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَإِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ لَا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمَالِكُمْ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ } [الحجرات:14]
فالمراد قولوا استسلمنا لسلطتك وحكمك يا محمد ولم نستسلم لله ، بما يحقق الاسلام كدين يرتبط ويخضع فيه العبد لسلطة الله الواحد القهار، الاسلام الذي يدفع الفرد ذاتيا لاتيان الطاعة وترك المعصية محبة وطاعة لله تعالى.

وهو ما دعا به نبي الله ابراهيم عليه السلام عندما قال :
{ رَبَّنَا وَاجْعَلْنَا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَمِنْ ذُرِّيَّتِنَا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَأَرِنَا مَنَاسِكَنَا وَتُبْ عَلَيْنَا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ } [البقرة:128]
ولعل القارئ الكريم يطلع على ما كتبته من توضيح لأصول الدين ونقض مفهوم مراتب الدين الذي يتعلمه ابناؤنا وبناتنا وتوضيح ماهية المفهوم الحقيقي للاسلام والايمان والاحسان.

شواهد قرآنية

سأعبث قليلاً في ترتيب المفرادات ليتحقق العرض السليم لمادة هذا البحث وسأبدأ بعرض مواضع ذكر الفؤاد في القرآن الكريم ، ثم اعلق على كل آية ليتمكن القارئ الكريم عرض هذا المفهوم على الإضاءات السابقة ونرى مدى اتساقها واتفاقها مع بعضها البعض والفؤاد مرده في اللغة إلى(الفأد) وهو الشوي والتوقد ، المعنى المنسق فعلا مع وظيفته التي يتوقد فيها الفؤاد ويشتعل عاطفة تجاه المواقف المختلفة بدرجة قد تصل للجور والتطرف والشطط حال تغييب القلب للعقل وتقديم الفؤاد عليه:
{ وَأَصْبَحَ فُؤَادُ أُمِّ مُوسَىٰ فَارِغًا إِنْ كَادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْلَا أَنْ رَبَطْنَا عَلَىٰ قَلْبِهَا لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ } [القصص:10]
وطالما كان الفؤاد مناط العاطفة فقد كادت أم موسى أن تبدي ماحدث لوليدها فرقاً وخوفاً عليه فكان الفؤاد سيفسد الأمر لولا أن الله أعلى العقل ومكنه على الفؤاد فحصل الربط على القلب فيتحقق الإيمان ، وهنا فإن الفؤاد يقدم ما يستقر لديه من مشاعر وعواطف على ما يوحيه العقل إليه من قناعات ، والخضوع لتلك العواطف الظاهرة وتجاهل نداءات العقل الباطنة هو مكمن الخطر.
ونجد ان الله تعالى اتجه لقلبها فربط عليه حتى لا يتأثر بما ضج به الفؤاد ولم يمت الفؤاد أو يلغيه لأنه مكون رئيسي من مكونات النفس البشرية.
ولذلك فما يستقر في القلب من عقيدة هو الأصل وهو ما يُعتمد عليه أما الفؤاد وما يظهره على صفحات الوجه فيمكن أن يتم تزويره وتحويره لدرجة يصعب على الخبير معرفته ، فالكافر بالإكراه لا يقع كفره طالما كان (قلبه مطمئن بالإيمان).
{ مَا كَذَبَ الْفُؤَادُ مَا رَأَىٰ } [النجم:11]
ولما كان الفؤاد متعلق بالحواس فيتفاعل مع ما يرى ويسمع ولقد بلغ من شدة حقيقة ما رأى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم في الإسراء والمعراج ما استقر في فؤاده واطمئن إلى حقيقته برغم ضخامته وغرابته وعجائبه ، فطالما كان الأمر رؤية مباشرة فمحلها الفؤاد وهنا نجد أن العقل الممتلئ بالإيمان صدّقه الفؤاد وهذه الحالة المثالية التي يتوافق فيها مكونات القلب الرئيسية فيصطبغ القلب بصبغة الإيمان الكامل.
ومن ثمرات هذا المفهوم هو تأكيد أن رؤية النبي صلى الله عليه وسلم للأشياء والأشخاص والعوالم والأبعاد المختلفة إنما كان على وجه الحقيقة ولم يكن خيالات أو وحي أو رؤيا بل حقيقة قادنا لتقرير ذلك مفهوم الفؤاد ووظيفته وأدواته.
{ وَقَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً كَذَٰلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا } [الفرقان:32]
فالفؤاد قد يؤثر على العقل بدافع الخوف والحزن فيؤذي الإيمان فالفؤاد بحاجة للذكرى المستمرة من نوافذ السمع والبصر حتى لا تطغى عاطفة سلبية تحيده عن السبيل القويم فكان استمرار انصباب الوحي القرآني طيلة البعثة الشريفة وسيلة لتثبيت الفؤاد فكلما طال الأمد عن الفؤاد حزن أو شك نزلت جرعة قرآنية فثبتته على الحق ، ونرى كيف استعمل مفردة (القرآن) التي تشير للقراءة وبالتالي التعلق بالنظر و السماع ومن ثم النفاذ للفؤاد من منافذه المتعلقة به.
{ وَكُلًّا نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبَاءِ الرُّسُلِ مَا نُثَبِّتُ بِهِ فُؤَادَكَ وَجَاءَكَ فِي هَٰذِهِ الْحَقُّ وَمَوْعِظَةٌ وَذِكْرَىٰ لِلْمُؤْمِنِينَ } [هود:120]
فالقصص القرآني يستثير عواطف ويكبح أخرى فيثبت الفؤاد على الحق ولا ينحرف تحت وطاة وثقل الدعوة والتكذيب والأذى فيريه كيف أن الله ختم لكل الأنبياء بالنصر وأن ما يعتريك اليوم يا محمد من طرد وصد وتكذيب وسباب قد اعترى من سبقك من الرسل فلا تبتئس ولا يضج فؤادك باليأس والخوف والحزن فكانت تسلية فؤاده صلى الله عليه وسلم عن واقعه متحققة بهذا القصص العظيم.
{ وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَٰئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا } [الإسراء:36]
ولما كان الفؤاد في محيط سيطرة الإنسان فإن استعلاءه وسيطرته بما يصله من محيطه المنظور والمسموع قد يؤدي لقول الباطل واعتقاده ، فينهى الله القلب عن الخضوع لشهوة الفؤاد والعقل عن الضعف والهوان لأن الله سيسأل النفس عن تلك الحواس وكيف وظف الفؤاد وظيفة فاسدة أو أخضع الشهوة للعقل فصلح القلب وصلح عمله.
{ رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ } [إبراهيم:37]
وخليل الله ابراهيم عليه السلام يدعو الله أن يقيض لهم من يحمل في جوانحه العطف والخير والمحبة في نفسه ويتحقق لهم الرزق فالأفئدة تحمل العواطف والشفقة على هذه المرأة الوحيدة ووليدها وتحمل إليهم الرزق في هذا الوادي المقفر.قال ابن عاشور رحمه الله في ذلك :
(والأفئدة : جمع فؤاد ، وهو القلب . والمراد به هنا النفس والعقل .

والمراد فاجعل أناساً يهوون إليهم . فأقحم لفظ الأفئدة لإرادة أن يكون مسير الناس إليهم عن شوق ومحبة حتى كأن المسرع هو الفؤاد لا الجسد فلما ذكر { أفئدة } لهذه النكتة حسن بيانه بأنهم { من الناس } ، ف { من } بيانية لا تبعيضية ، إذ لا طائل تحته . والمعنى : فاجعل أناساً يقصدونهم بحبات قلوبهم . إ هـ)أما في قوله أن الفؤاد هو القلب فقد جانبه الصواب في ذلك ، أما في قوله أن مسير الناس في شوق ومحبة فهو ما يناسب الأفئدة من حيث طبيعتها وهو العاطفة الجياشة.إن الدعوة بتسخير الأفئدة التي يدعو إبراهيم عليه السلام بها لتتجه لموضع زوجه وابنه كان دافعها الشفقة على هاجر وإسماعيل عليهما السلام ورجاءه في نجدتهما بأناس يحملون في قلوبهم قلوبا رقيقة تعتني بهما وتؤنس وحشتهما.
{ وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ } [النحل:78]
فالطفل خلال سنوات عمره الأولى يتشكل العقل ويبدأ يلتحق بالفؤاد سرعة ونمواً ليكتسب الخبرات حتى يبدأ تأهيله للتكليف عند البلوغ ، فكان ترتيب تلك الحواس والمكونات وفق أولوية الخلق فبدأ بالسمع الذي يتخلق في بطن الأم ، ثم الأبصار التي تكتمل بعد الولادة وتبدأ في الأسابيع الأولى ثم الفؤاد الذي يبدأ يتشكل لدى الطفل على هيئة عواطف ومشاعر فياضة تجاه أمه في مرحلة لاحقة ثم العقل الذي لا يكتمل إلا في مرحلة البلوغ فتبدأ معه مرحلة التكليف.
{ مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُءُوسِهِمْ لَا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَأَفْئِدَتُهُمْ هَوَاءٌ } [إبراهيم:43]
ولما كان الخوف الشديد عاطفة منشؤها الفؤاد فإن افئدتهم تطير خوفاً وهلعاً مما ينتظرها من عذاب ، يقول صاحب التحرير رحمه الله (وقوله : { وأفئدتهم هواء } تشبيه بليغ ، إذ هي كالهواء في الخلو من الإدراك لشدة الهول .) ا هـ.
ونرى كيف أن منافذ الفؤاد نجدها في آيات القرآن الكريم حاضرة في غالب المواضع فإينما تجد الفؤاد تجد مفردات (الطرف، السمع ، البصر) صراحة أو ضمنا ، في ذات الآية أو في سياقها.
{ وَلِتَصْغَىٰ إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَلِيَرْضَوْهُ وَلِيَقْتَرِفُوا مَا هُمْ مُقْتَرِفُونَ } [الأنعام:113]
فتميل الافئدة لزخرف قول (شياطين الإنس والجن) الذي يستجلب عواطفهم ويوافق شهواتهم في دفع نور الإيمان عنهم فيستعلي الفؤاد على العقل ويستقوي عليه فيمرض القلب ويميل عن الطريق القويم ، وياتي الإصغاء في الاصل بمعنى الاستماع ، ولما كان الفؤاد وعاء من أوعية الاسماع ، والأسماع قناة من قنوات الفؤاد كان استعمال الإصغاء أنسب مايرد معه هو الفؤاد كما سبق.

جاء في تفسير الطبري رحمه الله تعالى:قال أبو جعفر: يقول تعالى ذكره: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا =(ولتصغى إليه)، يقول جل ثناؤه: يوحي بعض هؤلاء الشياطين إلى بعض المزيَّن من القول بالباطل, ليغرّوا به المؤمنين من أتباع الأنبياء فيفتنوهم عن دينهم (ولتصغى إليه أفئدة الذين لا يؤمنون بالآخرة)، يقول: ولتميل إليه قلوب الذين لا يؤمنون بالآخرة . إ هــ.وهنا نلحظ الخلط في تسمية الفؤاد بالقلب ولكنه من وجه آخر جائزٌ في مفهومنا هذا إذ أن استعلاء الفؤاد يصبغ القلب بصبغته فتميل وتنقلب استجابة لشهوة الفؤاد وتاثيره.
{ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ } [الهمزة:7]
وهي نار الله الموقدة ، واطلاعها على الأفئدة لكونها مناطق الشر والعصيان من حيث استعلائها على العقل وتقديم شهوتها وعاطفتها على الحق واستعمالها في مالا ينبغي فتكون أول من يجني ثمرة فعلها ، وكذلك فإن الأفئدة كما رأينا من وظيفتها يدخلها الخوف الشديد والهلع والحزن والرعب فكان اطلاع النار الموقدة عليها من خلال مصبات الفؤاد وهي الابصار تشعل الفؤاد رعباً وتفرغه هواءً فيكون عذاب بجانب الم الحرق بنار جهنم وعذابها.وكان التعبير بأن النار هي من تطلع على الافئدة وليست الافئدة من خلال حواسها من تستطلع النار بل أن الأفئدة من شدة العذاب ورعب الموقف تتجنب النظر لشدة ما يداخلها من خوف ورعب ولكن النار تطلع بذاتها لداخل تلك الافئدة المكذبة العاصية المغضوب عليها إمعانا في وصف جسامة هذا المآل وسوءه وحجم الألم الذي يدخل للنفس.

الفؤاد في الحديث النبوي الشريف

حديث رقم (5417) عن عائشةَ ، زوجُ النبيِّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ ؛ أنها كانت ، إذا مات الميتُ من أهلها ، فاجتمع لذلك النساءُ ، ثم تفرقنَ إلا أهلها وخاصتها - أمرت ببرمةٍ من تلبينةٍ فطُبخت . ثم صُنِعَ ثريدٌ . فصُبَّتِ التلبينةُ عليها . ثم قالت : كُلْنَ منها . فإني سمعتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ يقول " التلبينةُ مُجِمَّةٌ لفؤادِ المريضِ . تُذهب بعضَ الحزنِ " (صحيح البخاري).
فالأثر هنا هو ذهاب الحزن فالتأثير فيما يظهر من قوله صلى الله عليه وسلم اثر نفسي متفق ومتسق مع وظيفة الفؤاد العاطفية وليس اثر عضوي مادي ، وهنا دلالة على اثر صلاح الفؤاد وسكونه في حصول الشفاء واثر الجزع في تفاقم المرض والداء.

حديث رقم (1021) قال صلى الله عليه وسلم ( إذا ماتَ ولَدُ العبدِ قالَ اللَّهُ لملائِكتِهِ قبضتم ولدَ عبدي فيقولونَ نعم فيقولُ قبضتُم ثمرةَ فؤادِهِ فيقولونَ نعم فيقولُ ماذا قالَ عبدي فيقولونَ حمِدَكَ واسترجعَ فيقولُ اللَّهُ ابنوا لعبدي بيتًا في الجنَّةِ وسمُّوهُ بيتَ الحمْدِ) ( صحيح الترمذي)وقد أتى بالفؤاد هنا لأنه مناط العاطفة والحزن فيحمل الفؤاد تلك الأحزان فيصطبغ القلب بها فإن استعلى العقل كان الصبر والإيمان والجلد والرضا بقضاء الله ، وإن استعلى الفؤاد ضج بالحزن والسخط واللطم وشق الجيب والألم ، فيثني جل جلاله على من حمد واسترجع وأعلى عقله وضبط مشاعره وحواسه.

حديث رقم (3392 ) فرجع النبيُّ صلَّى اللهُ عليهِ وسلَّمَ إلى خديجةَ يرجُفُ فؤادُهُ ، فانطلقتْ بهِ إلى ورقةَ بنِ نوفلٍ – وكان رجلًا تنصَّرَ يقرأُ الإنجيلَ بالعربيةِ – فقال ورقةُ : ماذا ترى ؟ فأخبرَهُ ، فقال ورقةُ : هذا الناموسُ الذي أنزلَ اللهُ على موسى ، وإن أدركني يومُكَ أنصرُكَ نصرًا مؤزَّرًا (صحيح البخاري)ولا شك بأن ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم عظيم التأثير فدخلت لفؤاده عاطفة الخوف والفزع مما رأى فكان وقوع الأثر على الفؤاد ذلك أن ما رآه صلى الله عليه وسلم لم يكن خيالا أو رؤيا بل حقيقة نفذت من حاسة البصر المادي والسمع الفعلي لفؤاده ومن ثم إلى قلبه وعقله فكان وقوع هذا الأثر الظاهر على بدنه بالرجفة والخوف.

العقل في السياق القرآني
لقد أثنى الله في كتابه العزيز على العقل وحث بني آدم على توظيفه في معرفة الله وتمييز الحق عن الباطل ، والعقل هو الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها وهو ما قد نسميه باللاوعي فهو يختزن الحق دون سواه ولا يعنيه من العواطف والمشاعر شيء فهو يؤتي الأمر حقه وفق ما فطره الله عليه ، ولو تتبعنا مواضع استعمال مفردة العقل في القرآن لوجدنا مواضع عديدة للاحتجاج بهذا العقل لمعرفة الله والاستدلال القاطع على وجوده.وطالما كان الفؤاد لا يؤمن إلا بما يرى ويسمع ويشعر ويحس فإنه إن استعلى على العقل فإن القلب ينقاد للفؤاد فيكفر بالله لأنه لا يراه ولا يشعر بوجوده كما يرى من الأصنام مثلا أو المعبودات الأخرى ، ففي الوقت الذي يتعامل الفؤاد مع الواقع المرئي والملموس ، فإن العقل يتعامل مع الحقائق المجردة بمعزل العواطف والمشاعر ، ولكن يجب أن لا ننسى بأن القلب هو من يتبنى صوت العقل أو يتركه ويتبنى صوت العاطفة والفؤاد :
{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [البقرة:44]
أفلا تعقلون ؟ ، سؤال استنكاري يوجهه الله لعلماء بني اسرائيل الذين اعلوا شهواتهم وعواطفهم التي تقصي الحق فاستعملوا الشريعة لاستعباد الناس واستعمالهم فيامرونهم بإتيان الشرائع والأوامر والانتهاء عن المحرمات ولكنهم يأتونها هم في تناقض ينبئ عن انقيادهم لأفئدتهم التي تأمر بما ينافي العقل لمجرد الحصول على الشهوات الملموسة من مال وسلطة وشهوة وغيبوا صوت العقل الذي يوقن بالله وبأوامره وأنها يجب أن تؤتى في السر والعلن.
{ فَقُلْنَا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِهَا كَذَٰلِكَ يُحْيِي اللَّهُ الْمَوْتَىٰ وَيُرِيكُمْ آيَاتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ } [البقرة:73]
فقيام ميت من بين الأموات لمجرد ضربه بشيء من لحم هذه البقرة يجعل العقل ينشط في النفس فيستعلي في القلب السليم المؤمن ويتقدم لما رآه من قدرة الله وعجيب صنعه ، أما القلب المريض الذي يستعلي فيه الفؤاد فسيقول: لهذا منعنا موسى من عبادة العجل ، ففي هذه المخلوقات سر عظيم يحيي الموتى واتخاذنا لها آلهة كان قراراً صائباً ، فيزدادون كفراً إلى كفرهم وكذلك يضل الله من يشاء الضلاله ويهدي من يشاء الهداية ، وإنما كان اتخاذهم العجل برغم كل ما رأوا من المعجزات العجائب لاعلائهم الفؤاد واقصائهم العقل فهم لا يؤمنون إلا بإله يرونه ويسمعونه فاتخذوا العجل وطالبوا موسى برؤية الله جهرة وهكذا فبنو اسرائيل طالما استعلى الفؤاد على قلوبهم واقصي العقل فكان تاريخهم مليء الكفر والعصيان.
{ وَهُوَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ وَلَهُ اخْتِلَافُ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ } [المؤمنون:80]
إن الفؤاد لا يملك التحقق من صحة هذه الآية فهو إن خضع الأمر لقوانينه فلن يؤمن ، ولكن إن أخضع الأمر للعقل فهو من يدرك حقيقة قدرة الله على الإحياء والإماتة وعلى اختلاف الليل والنهار ، فذيل الآية بدعوتهم لتحكيم عقولهم ، ولِعَقْلِ أفئدتهم عن التجاوز في حق الله بالكفر به وجحود قدرته وألوهيته.
{ أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا } [الفرقان:44]
فالأنعام تسير خلف افئدتها وشهواتها ، فلو كان القوم فيهم من يعقل ويسمع لسيطر على الهوى وعقل الفؤاد وكان القلب سائقا للخير مانعاً عن الشر سائراً في ركاب الحق.
{ لَا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّىٰ ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } [الحشر:14]
قلوبهم شتى وبأسهم بينهم شديد ، وهذا نتيجة إقصاء العقل وإعلاء الفؤاد ، فالفؤاد مناط العواطف والمشاعر من كبر وحسد وحب وبغض وطمع وحقد فلا رادع لهم عن بغض بعضهم البعض ، فلو أنهم عقلوا لعلموا أن في اجتماعهم قوة وأن تقديم الإيثار وحب الخير للناس أجدر وأضمن للنصر ولكنهم قوم لا يعقلون.
{ وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ } [الملك:10]
وعندما ينحطمون في جهنم فيحصل الندم في قلوبهم على إعلائهم الفؤاد أمام العقل ، والمراد بالسماع هنا هو الاستجابة لداعي الحق ، وإلا فسماع الصوت متحقق إلا أن الاستجابة والرضوخ للحق وترك الباطل هو إحكام للعقل وإقصاء للفؤاد والهوى والعواطف ، فاعترفوا بذنبهم ، وحضرت عقولهم عندئذٍ ، فإذا كانت رؤية العبد بعينيه لا تحقق في قلبه النهي عن المنكر والأمر بالمعروف فهو لم يرى ، وإذا كان السمع والاستماع بأذنيه لا يحقق في قلبه الزجر عن المحرمات وإتيان الطاعات فكأنه لم يسمع ، فلما انتفى الهدف من السمع والبصر فوجودهما وعدمه سيان.
{ أَفَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَقَدْ كَانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلَامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ مَا عَقَلُوهُ وَهُمْ يَعْلَمُونَ } [البقرة:75]
فيقول الله مخاطباُ المسلمين ، أتأملون في اليهود خيراً وهم الذين كانوا يسمعون كلام الله ويستقر في عقولهم ويتسق مع فطرتهم وعقولهم ثم يعلون أفئدتهم ويقدمون شهوتهم ويكبتون صوت عقولهم فيعتدون على النص ويغيرون ويحرفون برغم علمهم بالحق الذي جائهم ، فإن كانوا كذلك فيما جيء به إليهم فكيف سيكون حالهم مع ما نزل إلى غيرهم ؟.
{ وَإِذَا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ قَالُوا بَلْ نَتَّبِعُ مَا أَلْفَيْنَا عَلَيْهِ آبَاءَنَا أَوَلَوْ كَانَ آبَاؤُهُمْ لَا يَعْقِلُونَ شَيْئًا وَلَا يَهْتَدُونَ } [البقرة:170]
ففي حين كان بنو إسرائيل يعقلون ولكنهم يكبتون عقولهم ويعلون أفئدتهم فقد كان قريش قوم عباد أصنام تستعلي افئدتهم على عقولهم فلم يتفق شيء من علمهم وعباداتهم مع العقل بل كانت تتفق مع افئدتهم (أهوائهم وشهواتهم ) ولم يخضعوا افعالهم وعباداتهم للعقل أبداً.
{ وَإِذَا نَادَيْتُمْ إِلَى الصَّلَاةِ اتَّخَذُوهَا هُزُوًا وَلَعِبًا ذَٰلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لَا يَعْقِلُونَ } [المائدة:58]
فهم يستهزئون بالصلاة إلى إله لا يرونه ولا يصدقون بقدرته ، ويرون أن عبادتهم للحجارة والاصنام هي الحق لأنها عبادة تصرف لآلهة يرونها ويلمسونها بأيديهم فتستقر لذلك أفئدتهم ، أما عبادة الله تعالى بخفاء ذاته عن ابصار خلقه ومعرفته في بصائرهم وعقولهم فخضوع الإله لمعايير الفؤاد يؤدي لترك عبادة مستحق العبادة وصرفها لمن لا يستحق ذلك ، فهو قوم لا يعقلون.
{ إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لَا يَعْقِلُونَ } [الأنفال:22]
وقد وصفهم الله تعالى بالدواب ، فالدواب لا تحمل في قلوبها عقلاً بل افئدة تبحث عن شهواتها من مأكل وشهوة ، وتخضع بالكلية لحواسها ، والصمم والبكم هنا هو امتناع وصول الحق للعقل واقصاءه واقتصار ما يلج للقلب من منافذ البصر والسمع على الفؤاد فلا ينفذ للعقل لانتفاءه.
براءة العقل من الزلل
"العقل والشرع ورقتان من بذرة واحدة"

يتردد نقد العقل وانتقاصه ورميه واتهامه وبالأخص من طوائف الأصوليين عامة ، والحقيقة أن المسلم المتدبر للقرآن العظيم يجد أن العقل يحتل مكانة إيجابية في النص القرآني ، والله تعالى يحيل إليه دوما عند كل مناظرة وتثريب وتقريع الكفار والمعاندين فكيف يستقيم اتهام العقل ووصمه بالنقص والسوء في الوقت الذي يرمز العقل في السياق القرآني للاتزان الإذعان للحق وترك الباطل؟
لقد وجدت أن وضع العقل في هذا القالب ومحاولة رسم صورة نمطية سلبية عن العقل يرجع للأسباب التالية:

أولاً: رد فعل على استعمال الملحدين والعلمانيين لمفردة العقل للإيحاء بمناقضة الشريعة والعقيدة الإسلامية العقل والتفكير السليم ، وسوق أمثلة يزعم فيها دعاة الالحاد إخضاع هذه الثوابت للعقل لينتج وفق تصوراتهم ورسوماتهم وتدبيراتهم أن تلك العقائد والشرائع مناقضة للعقل وهي في حقيقتها مناقضة لأفئدتهم وأهوائهم.
ولذا فقد اعتقد منتقدو العقل بأنهم بذلك ينقضون الأساس الذي بنى عليه أولئك الملحدين نظرياتهم وحججهم فعملوا على اسقاط العقل في حين أن العقل هو القناة الوحيدة والوسيلة الفريدة التي يمكن بواسطتها فهم الكون والعقيدة والشريعة ووجود الخالق وتصرفه في ملكوته.

ثانياً: استعصاء فهم الفرق بين العقل والقلب والفؤاد في المفهوم القرآني وهذا الفهم وإن كان في السابق لم يتبلور في الفكر الإسلامي بالشكل الصحيح ، وذلك لعدم تطور ادوات فكرية لدى اعداء الدين في ذلك الوقت فلم يكن الوضع يؤثر بصورة مباشرة على ميزان الاحتجاج بين المسلمين وأعدائهم.
ولكن فهم الفروق الدقيقة بين هذه المصطلحات يعد أمرا أساسيا يتمكن المسلم من خلاله فهم واستيعاب النص القرآني بعمق يوازي جزالة ودقة السرد القرآني الفريد.

ثالثاً : اعتقاد البعض بأن استحالة إدراك خوارق الكون والمعجزات وعجز العقل عن استيعاب الطبيعة الإلهية وعوالم الملائكة والجنة والنار والبعث والحساب ، يعتقدون بأن ذلك متعلق بقصور العقل وعجزه عن إدراك وفهم وتصور تلك الغيبيات ، والحقيقة أن العقل هو من يكبح جماح الفؤاد الذي لا يؤمن الا بما يرى فالعقل يمكنه استيعاب وجود عوالم تفوق قدراته وتصوراته وتتفاعل خارج البعد الذي يعيش فيه ولكن الفؤاد هو من يرفض الاستسلام لتلك الحقائق فهو لا يؤمن الا بما يرى ويسمع ، لذلك قال الكفار :
وَقَالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ تَفْجُرَ لَنَا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعًا (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَعِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهَارَ خِلَالَهَا تَفْجِيرًا (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّمَاءَ كَمَا زَعَمْتَ عَلَيْنَا كِسَفًا أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَالْمَلَائِكَةِ قَبِيلًا (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقَىٰ فِي السَّمَاءِ وَلَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّىٰ تُنَزِّلَ عَلَيْنَا كِتَابًا نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحَانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَرًا رَسُولًا (93) [الإسراء]{ وَإِذْ قُلْتُمْ يَا مُوسَىٰ لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّىٰ نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَأَنْتُمْ تَنْظُرُونَ } [البقرة:55]
فهذه أفئدتهم التي سلمت قلوبهم لها فأصبحت تتحكم بهم وتصنع مقاييس الحق والباطل في قلوبهم فلا يؤمنوا الا لما يروا ، ولو سلموا أمرهم لعقولهم لأدركوا ما تختزنه فطرتهم التي أشهدنا ربنا عليها وسلموا بقصور قدراتهم ورضوخهم لأمر الله ونهيه وكبتوا صوت الفؤاد وعقلوا حركته.فالعقل بريء من الزلل والتهمة ، اقصد العقل الشرعي المنصوص عليه في كتاب الله ، ولكي نحقق التفوق العقدي فينبغي أن نفرض على الطرف الآخر هذه القاعدة ليتم التحاور تحت مظلتها وفي ظل قواعدها ، أما أن يفرضوا قواعدهم الفلسفية التي تستند المنطق الابليسي المادي الذي يقدس الملموس فيحتج به وفي زعمه أنه يحتج بالعقل فيقول
{ قَالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نَارٍ وَخَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ } [ص:76]
فجعل معيار الفؤاد المشتعل بالكبر والغيرة والحسد هو المعيار العقلي في نظره ، وكذلك أتباع ابليس على مر الزمان ، فما كانت حجتهم تختلف عن حجة ابليس التي تنبع من الفؤاد وليس من العقل.
إن الملحدين اليوم وضعوا العقل شعاراً يوهمون أعدائهم بأنهم يحتكمون إليه ، فالمسلمين حينئذٍ يواجهون بعاصفة من الاسئلة التي يزعم أولئك بأنها أسئلة عقلية وهي في حقيقة الأمر أسئلة هوى وشبهات الفؤاد يلقونها ليس لمعرفة الحق بل لحرف المؤمنين عن إيمانهم.
وهنا فإني من خلال مطالعتي ومتابعتي لتلك المسائل بأن المشكلة أصولية وليست سطحية ، فالمشكلة أن هناك من يبني ملعباً ويدعوك لللعب بقواعده هو ، كما يفعل من يسمون أنفسهم بالعقلانيين ، فعندما جهلنا معنى العقل وتأخرنا في فهم القرآن الكريم الذي فيه تفصيل كل شيء ، يأتي الملحد ليزعم أنه يحاورك على أرضية مشتركة بينك وبينه وهي العقل ، وهو في الحقيقة يحاورك على أرضية الفؤاد ، ولأنك تجهل ذلك فأنت تستجيب لنداءه وتلعب بقواعده ومفاهيمه الباطلة فيصعب عليك الانتصار.

والحقيقة أننا ينبغي أن نضع قواعد اللعبة وعلى الآخرين أن يخضعوا لها ويلعبون بموجبها ، وهذه من أصول المناظرة الحقيقية فإليك ايها المخالف قوانيننا وقم انت بإظهار الحق الذي تدعيه ولك أن توجد التناقضات في قواعدنا وقوانيننا التي نريدكم أن تقابلوننا على أساسها وهكذا ، فإننا سنتمكن من قلب الطاولة والتحاور على أساس الحقائق والأفهام وليس على أساس الشهوة والأوهام .

إن ما كتب في تعارض العقل والنقل إنما تأسس على توهم في معرفة العقل بل وتوهم في معرفة حقيقة النفس ، وقد خضعت جموع من العلماء لاجتهادات محددة وسلمت بها وجرمت من يخالف القول بتلك المفاهيم ، ولكن لماذا لا تكون خطأ ؟ لماذا لا نتتبع صور الحق والزلل في تلك المفاهيم ؟.إن ثمرة المعرفة عندما تكون باطلة فإنها تدل على خطأها بمدى تأثيرها واثراءها لحياة المرء أو تسببها في ضياع بوصلة التفكير والوصول لطرق مسدودة وتساؤلات جديدة ليس لها جواب ، ولكن الحق يقود لجلاء الفهم وصواب القول والعمل وتبيان ما خفي ويحقق في حياتنا رضى داخلي عما تعلمناه ، ويحقق نتائج حياتيه قوية التأثير تنعكس بالثقة والصلاح والمآل الحسن في الدنيا والآخرة.

القلب في السياق القرآني

ونكتفي بما قد مضى من قول بشأن العقل و الفؤاد ونأتي الآن للقلب ونستعرض مواطن ذكره في القرآن الكريم ونستظهر معاني تلك الآيات ونرى كيف تكاملت وتجاوبت مع الإضاءات والتعريفات التي سبقت.وقبل البدء في تتبع مفردة القلب في مواضعها المختلفة أود التنويه بأن إيراد الفؤاد وتفاعلاته لا يلزم انعقاد تأثيره مالم يستقر ذلك التأثير في القلب عندها فإن القلب يتبنى رغبة الفؤاد ويقصي مشورة العقل ورأيه ، وهنا لم يعد فعل السوء منسوبا للفؤاد لأنه انتقل لحيازة القلب وانعقد فيه فأصبح مدونا عليه محاسبا به إن كان اعتقادا (كالكفر والخيانة) وأما إن كان فعلا فيكتمل الركن الثاني بعد انعقاد النية وهو الإفضاء للفعل بالجوارح فيثبت عمل السوء على الإنسان آنذاك.

وغالب مواضع ذكر القلب في التنزيل الحكيم يدور حول تلك المرحلة التي يستقر فيها تأثير العقل على قرار القلب أو يغلب تأثير الفؤاد فينصبغ القلب بصبغة التأثير التي انساق إليها.
{خَتَمَ اللَّهُ عَلَىٰ قُلُوبِهِمْ وَعَلَىٰ سَمْعِهِمْ ۖ وَعَلَىٰ أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ ۖ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة : 7]
وهنا نلحظ ارتباط القلب بالسمع والبصر وهذا يتسق مع قولنا أن طغيان الفؤاد واستعلاءه حتى يصبح مصدر القرار الوحيد هو مناط النفاق والكفر والسوء ، فالأفئدة التي يعد السمع والأبصار منافذها تترك الحق وتتبع الباطل حين تكون الشهوة مقدمة على العقل فيكون الحق الذي يلج الفؤاد من السمع والبصر مكبوتا بفعل الغشاوة التي تقدم الشهوات وتحجب الحقائق عن الرؤية والسماع فيكون القلب مغلفا بغشاوة الفؤاد وهيمنته.

يتبع إن شاء الله...
 
براءة العقل من الزلل
"العقل والشرع ورقتان من بذرة واحدة"


يتردد نقد العقل وانتقاصه ورميه واتهامه وبالأخص من طوائف الأصوليين عامة ، والحقيقة أن المسلم المتدبر للقرآن العظيم يجد أن العقل يحتل مكانة إيجابية في النص القرآني ، والله تعالى يحيل إليه دوما عند كل مناظرة وتثريب وتقريع الكفار والمعاندين فكيف يستقيم اتهام العقل ووصمه بالنقص والسوء في الوقت الذي يرمز العقل في السياق القرآني للاتزان الإذعان للحق وترك الباطل؟
لقد وجدت أن وضع العقل في هذا القالب ومحاولة رسم صورة نمطية سلبية عن العقل يرجع للأسباب التالية:

أولاً: رد فعل على استعمال الملحدين والعلمانيين لمفردة العقل للإيحاء بمناقضة الشريعة والعقيدة الإسلامية العقل والتفكير السليم ، وسوق أمثلة يزعم فيها دعاة الالحاد إخضاع هذه الثوابت للعقل لينتج وفق تصوراتهم ورسوماتهم وتدبيراتهم أن تلك العقائد والشرائع مناقضة للعقل وهي في حقيقتها مناقضة لأفئدتهم وأهوائهم.
ولذا فقد اعتقد منتقدو العقل بأنهم بذلك ينقضون الأساس الذي بنى عليه أولئك الملحدين نظرياتهم وحججهم فعملوا على اسقاط العقل في حين أن العقل هو القناة الوحيدة والوسيلة الفريدة التي يمكن بواسطتها فهم الكون والعقيدة والشريعة ووجود الخالق وتصرفه في ملكوته.

ثانياً: استعصاء فهم الفرق بين العقل والقلب والفؤاد في المفهوم القرآني وهذا الفهم وإن كان في السابق لم يتبلور في الفكر الإسلامي بالشكل الصحيح ، وذلك لعدم تطور ادوات فكرية لدى اعداء الدين في ذلك الوقت فلم يكن الوضع يؤثر بصورة مباشرة على ميزان الاحتجاج بين المسلمين وأعدائهم.
ولكن فهم الفروق الدقيقة بين هذه المصطلحات يعد أمرا أساسيا يتمكن المسلم من خلاله فهم واستيعاب النص القرآني بعمق يوازي جزالة ودقة السرد القرآني الفريد.
 
عودة
أعلى