د عبدالله الهتاري
New member
- إنضم
- 17/03/2006
- المشاركات
- 159
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 16
3- العدول عن (الفاء) إلى (ثم) والعكس
من ذلك قوله تعالى: قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
[هود: 53-55].
فعطف طلب الكيد بـ (الفاء) وعدم الإنظار بـ (ثم). وجاء على العكس من ذلك في تحدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمشركين، وذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ [الأعراف: 191-195]. فعطف طلب الكيد بـ (ثم) وعدم الإنظار بـ (الفاء).
والذي يبدو -والله اعلم- أن سياق سورة الأعراف فيه تسفيه لهذه الأصنام التي اتخذوها أنداداً من دون الله -عزوجل-، ثم ارتفعت نبرة التحدي في الخطاب، فوجه الله -عزوجل- الأمر لنبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتحدَّى المشركين بأن يدعو هؤلاء الشركاء ويتضامنوا معهم في الكيد له "وأمهلهم من الزمن ما يتيح لهم فرصة الاستعداد والاحتشاد لـه، فعطف الأمر بالكيد على الأمر بدعوة شركائهم بحرف المهلة؛ إمعاناً في الاستهانة بالشركاء، وعدم مبالاة بكيدهم، وجاء عطف عدم الإنظار بـ (الفاء) إغراقاً في التحدي والاستهانة حين لا يطلب لنفسه نفس المهلة للرد على كيدهم"( ). فطلب معاجلتهم بالقضاء عليه، والإيقاع به، وفي ذلك من الاحتقار لهم والتهكم بهم ما فيه.
أما في سورة هود فقد ادعى قوم هود أن آلهتهم المزعومة قد مست هود بسوء وأنها تضر وتنفع، فعندئذ باشرهم بالتحدي السريع دون مهلة "لأنهم ما داموا يثبتون لآلهتهم هذه القدرة على إنزال الضُّرِّبه فليس بحاجة إلى أن يطلب منهم دعوتها، وإمهالهم لحشد قواهم، فهم قد بدأو حربه بالفعل، فطلب منهم التعجيل بالكيد له والقضاء عليه، فأدخل (الفاء) على الأمر بالكيد لتدل على طلب المبادرة به"( ).
ثم عدل بعد ذلك إلى (ثم) ليعطي لهم ولآلهتهم المزعومة مهلة طويلة من الزمن حتى يبلغوا في الكيد غايته. وقد أثبتت الياء في (فيكيدوني) "لتطيل زمن النطق بالكلمة مع طول النطق بـ (ثم)، فيتسق طول النطق في التعبير مع طول الزمن في الإمهال"( ).
وثم إنهم ذكروا أن آلهتهم اعترته بسوء، فكانت نبرة التحدي لديه أشد وآكد فتحدى الجميع بقولـه: "فكيدوني جميعاً"، ثم أظهر نفسه في التحدي وذلك بإثبات الياء زيادة في التحدي لهم والظهور"( ).
ومنه قولـه تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ[المدثر: 18-25].
فنجد هذا السياق القرآني العجيب قد مضى في اطراد في تكرار (ثم)، فقال: "ثم قتل ..ثم نظر .. ثم عبس.. ثم أدبر .. فقال"، ثم عدل عن (ثم) إلى (الفاء) فجأة في قوله بعد ذلك: (فقال) إن هذا إلا سحر يؤثر"، ولم يطرد السياق فيكون: "ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر).
وعندما نمعن النظر في هذا السياق نجد أن حرف التراخي (ثم) قد صور لنا أبلغ تصوير حالة الصراع النفسي الذي عاشه الوليد بن المغيرة الذي نزلت في شأنه هذه الآيات، وكيف أنه أجال التفكير في شأن القرآن وأعوزته الحيلة بعد مهلة من الزمن وتريث فلم يجد ما يعيب به القرآن، ثم بعد ذلك كله سارع إلى إلقاء كلمة مفتراة في وصف هذا القرآن العظيم بقوله: "إن هذا إلا سحر يؤثر". فدلت (الفاء) في قوله: "فقال إن هذا .." على أن هذا القول قد صدر منه دون إعمال نظر أو فكر في المقول، فلم يقل ما قاله عن قناعة ويقين، وكأنها كلمة ألقاها على عجل ووّلى هارباً مدبراً من شدَّة الهزيمة النفسية التي حلت به( ).
ولو اطرد هذا السياق القرآني فكان "ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر". لدل على أن هذا القول قد قاله بعد إعمال فكر وتريث، ونظر واعتقاد ويقين، وليس الأمر كذلك.
ومنه أيضاً قوله تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه: 20].
فقد جاء التعبير -في هذا السياق- عن تولي فرعون وجمعه الجموع والحشود والأعوان، وكل ما يستطيعه من كيد بحرف العطف الفاء، فقال: "فتولى .. فجمع.."، ثم عدل في التعبير عن إتيان فرعون ومواجهته موسى عليه السلام إلى حرف التراخي (ثم)، حيث قال: "ثم أتى". وكان مقتضى السياق أن يكون "فتولى فرعون فجمع كيده فأتى"، لا سيما أن جمع الناس وحشدهم والإعداد للمواجهة يحتاج إلى مهلة من الزمن، في حين أن الإتيان بعد ذلك هو أيسر وأسهل، وكان التعبير في هذا السياق يقتضي العكس بأن يقول (ثم جمع كيده فأتى)، فمثل التعبير في هذا السياق خروجاً عن مقتضى الظاهر، وذلك لدلالة نفسية عميقة يوحي بها هذا السياق.
مفادها أن الجمع كان أهون على فرعون من مواجهة موسى عليه السلام، فدلت (الفاء) في قوله: "فجمع" إلى سرعة تحقق الجمع له وحشد الناس؛ لكونه ملكاً جباراً يخشى سطوته الجميع، فأمره بالجمع نافذ وسريع. وهو مع هذا كله يعيش هزيمة نفسية كبيرة في داخله من مواجهة موسى عليه السلام، فهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى؛ لذا عبر القرآن عن هذه الهزيمة النفسية بحرف التراخي (ثم) بقوله: "ثم أتى". وإلى هذه النكتة في العدول أشار أبو السعود بقوله( ): "وفي كلمة التراخي إيحاء إلى أنه لم يسارع إليه، بل أتاه بعد لأي وتلعثم".
وهو ما سرى في نفوس قوم فرعون وأعوانه أيضاً في قولهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً [طه: 64]، "وكأني بهم وهم يطيلون زمن النطق بـ (ثم) قبل الدعوة إلى لقائه يستهلكون الوقت، ويتهربون من المواجهة ويتمنون ألا تكون"( ).
من ذلك قوله تعالى: قَالُواْ يَا هُودُ مَا جِئْتَنَا بِبَيِّنَةٍ وَمَا نَحْنُ بِتَارِكِي آلِهَتِنَا عَن قَوْلِكَ وَمَا نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ * إِن نَّقُولُ إِلاَّ اعْتَرَاكَ بَعْضُ آلِهَتِنَا بِسُوَءٍ قَالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللّهَ وَاشْهَدُواْ أَنِّي بَرِيءٌ مِّمَّا تُشْرِكُونَ مِن دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لاَ تُنظِرُونِ
[هود: 53-55].
فعطف طلب الكيد بـ (الفاء) وعدم الإنظار بـ (ثم). وجاء على العكس من ذلك في تحدي الرسول (صلى الله عليه وسلم) للمشركين، وذلك في قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِن دُونِ اللّهِ عِبَادٌ أَمْثَالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُواْ لَكُمْ إِن كُنتُمْ صَادِقِينَ * أَلَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِهَا أَمْ لَهُمْ آذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا قُلِ ادْعُواْ شُرَكَاءكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلاَ تُنظِرُونِ [الأعراف: 191-195]. فعطف طلب الكيد بـ (ثم) وعدم الإنظار بـ (الفاء).
والذي يبدو -والله اعلم- أن سياق سورة الأعراف فيه تسفيه لهذه الأصنام التي اتخذوها أنداداً من دون الله -عزوجل-، ثم ارتفعت نبرة التحدي في الخطاب، فوجه الله -عزوجل- الأمر لنبيه (صلى الله عليه وسلم) أن يتحدَّى المشركين بأن يدعو هؤلاء الشركاء ويتضامنوا معهم في الكيد له "وأمهلهم من الزمن ما يتيح لهم فرصة الاستعداد والاحتشاد لـه، فعطف الأمر بالكيد على الأمر بدعوة شركائهم بحرف المهلة؛ إمعاناً في الاستهانة بالشركاء، وعدم مبالاة بكيدهم، وجاء عطف عدم الإنظار بـ (الفاء) إغراقاً في التحدي والاستهانة حين لا يطلب لنفسه نفس المهلة للرد على كيدهم"( ). فطلب معاجلتهم بالقضاء عليه، والإيقاع به، وفي ذلك من الاحتقار لهم والتهكم بهم ما فيه.
أما في سورة هود فقد ادعى قوم هود أن آلهتهم المزعومة قد مست هود بسوء وأنها تضر وتنفع، فعندئذ باشرهم بالتحدي السريع دون مهلة "لأنهم ما داموا يثبتون لآلهتهم هذه القدرة على إنزال الضُّرِّبه فليس بحاجة إلى أن يطلب منهم دعوتها، وإمهالهم لحشد قواهم، فهم قد بدأو حربه بالفعل، فطلب منهم التعجيل بالكيد له والقضاء عليه، فأدخل (الفاء) على الأمر بالكيد لتدل على طلب المبادرة به"( ).
ثم عدل بعد ذلك إلى (ثم) ليعطي لهم ولآلهتهم المزعومة مهلة طويلة من الزمن حتى يبلغوا في الكيد غايته. وقد أثبتت الياء في (فيكيدوني) "لتطيل زمن النطق بالكلمة مع طول النطق بـ (ثم)، فيتسق طول النطق في التعبير مع طول الزمن في الإمهال"( ).
وثم إنهم ذكروا أن آلهتهم اعترته بسوء، فكانت نبرة التحدي لديه أشد وآكد فتحدى الجميع بقولـه: "فكيدوني جميعاً"، ثم أظهر نفسه في التحدي وذلك بإثبات الياء زيادة في التحدي لهم والظهور"( ).
ومنه قولـه تعالى: إِنَّهُ فَكَّرَ وَقَدَّرَ * فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ * ثُمَّ نَظَرَ * ثُمَّ عَبَسَ وَبَسَرَ * ثُمَّ أَدْبَرَ وَاسْتَكْبَرَ * فَقَالَ إِنْ هَذَا إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ * إِنْ هَذَا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ[المدثر: 18-25].
فنجد هذا السياق القرآني العجيب قد مضى في اطراد في تكرار (ثم)، فقال: "ثم قتل ..ثم نظر .. ثم عبس.. ثم أدبر .. فقال"، ثم عدل عن (ثم) إلى (الفاء) فجأة في قوله بعد ذلك: (فقال) إن هذا إلا سحر يؤثر"، ولم يطرد السياق فيكون: "ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر).
وعندما نمعن النظر في هذا السياق نجد أن حرف التراخي (ثم) قد صور لنا أبلغ تصوير حالة الصراع النفسي الذي عاشه الوليد بن المغيرة الذي نزلت في شأنه هذه الآيات، وكيف أنه أجال التفكير في شأن القرآن وأعوزته الحيلة بعد مهلة من الزمن وتريث فلم يجد ما يعيب به القرآن، ثم بعد ذلك كله سارع إلى إلقاء كلمة مفتراة في وصف هذا القرآن العظيم بقوله: "إن هذا إلا سحر يؤثر". فدلت (الفاء) في قوله: "فقال إن هذا .." على أن هذا القول قد صدر منه دون إعمال نظر أو فكر في المقول، فلم يقل ما قاله عن قناعة ويقين، وكأنها كلمة ألقاها على عجل ووّلى هارباً مدبراً من شدَّة الهزيمة النفسية التي حلت به( ).
ولو اطرد هذا السياق القرآني فكان "ثم قال إن هذا إلا سحر يؤثر". لدل على أن هذا القول قد قاله بعد إعمال فكر وتريث، ونظر واعتقاد ويقين، وليس الأمر كذلك.
ومنه أيضاً قوله تعالى: فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتَى [طه: 20].
فقد جاء التعبير -في هذا السياق- عن تولي فرعون وجمعه الجموع والحشود والأعوان، وكل ما يستطيعه من كيد بحرف العطف الفاء، فقال: "فتولى .. فجمع.."، ثم عدل في التعبير عن إتيان فرعون ومواجهته موسى عليه السلام إلى حرف التراخي (ثم)، حيث قال: "ثم أتى". وكان مقتضى السياق أن يكون "فتولى فرعون فجمع كيده فأتى"، لا سيما أن جمع الناس وحشدهم والإعداد للمواجهة يحتاج إلى مهلة من الزمن، في حين أن الإتيان بعد ذلك هو أيسر وأسهل، وكان التعبير في هذا السياق يقتضي العكس بأن يقول (ثم جمع كيده فأتى)، فمثل التعبير في هذا السياق خروجاً عن مقتضى الظاهر، وذلك لدلالة نفسية عميقة يوحي بها هذا السياق.
مفادها أن الجمع كان أهون على فرعون من مواجهة موسى عليه السلام، فدلت (الفاء) في قوله: "فجمع" إلى سرعة تحقق الجمع له وحشد الناس؛ لكونه ملكاً جباراً يخشى سطوته الجميع، فأمره بالجمع نافذ وسريع. وهو مع هذا كله يعيش هزيمة نفسية كبيرة في داخله من مواجهة موسى عليه السلام، فهو يقدم رجلاً ويؤخر أخرى؛ لذا عبر القرآن عن هذه الهزيمة النفسية بحرف التراخي (ثم) بقوله: "ثم أتى". وإلى هذه النكتة في العدول أشار أبو السعود بقوله( ): "وفي كلمة التراخي إيحاء إلى أنه لم يسارع إليه، بل أتاه بعد لأي وتلعثم".
وهو ما سرى في نفوس قوم فرعون وأعوانه أيضاً في قولهم: فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفّاً [طه: 64]، "وكأني بهم وهم يطيلون زمن النطق بـ (ثم) قبل الدعوة إلى لقائه يستهلكون الوقت، ويتهربون من المواجهة ويتمنون ألا تكون"( ).