"السياسي العصري" نموذجه في سورة البقرة...

إنضم
20 أبريل 2003
المشاركات
521
مستوى التفاعل
12
النقاط
18
"السياسي العصري" نموذجه في سورة البقرة

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة : 204]

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة : 205]

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة : 206]

عندما أقرأ هذه الآيات يخطرببالي صورة (رجل السياسة العصري) ثم أجد عند التأمل المطابقة صارخة:

ثلاث آيات هي نفسها المراحل الثلاث والأحوال الثلاث في مسيرة سياسي العصر:

1- يظهر صاحبنا السياسي - أول ما يظهر- في مرحلة السباق نحو السلطة: مرحلة الترشح والدعاية، ومن سمات المرحلة :الإكثار من التبسم، وارتياد المساجد والخيريات، وإبهار الناس في الندوات الصحفية والمقابلات التلفزية، والركون إلى خبراء علم النفس وأهل الفن يرشدونه إلى كيفية مصافحة الناس واختيار الوضع المناسب في الصور التي ستعلق في الشوارع ومحطات القطار واختيار الكلمات في الشعار المصاحب...

2- وصل صاحبنا السياسي إلى سدة الحكم فلديه الآن السلطان والمال فلينفذ ما جاء من أجله : خدمة خاصته، أوالجهة الخفية التى أرسلته وهيأته وأمدته.

3-طغى صاحبنا كثيرا وتجبر وبدأت الانتقادات والاستنكارات من الشعب ومن الجهات المعارضة ...هذه مرحلة جديدة ...فهل يفلح فيها القمع، أم افتعال الأزمات، أم اللجوء إلى جهة داخلية أو خارجية!

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ

الأمر لا يتعلق بفرد شخصي ، ولكن بنموذج أي فرد نوعي له مواصفات تنطبق على كثيرين متفرقين في الزمان والمكان.

وعبارة "من الناس" قد توحي بأنهم يتخفون في الناس فيظهرون عاديين بينهم وهم في واقع الأمر غير ذلك، كشأن أول نموذج ذكره القرآن تحت عنوان" ومن الناس":

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ [البقرة : 8]

يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ

الشيء الذي يعجب الانسان هو الظاهروالخارجي المدرك بالحواس .

وقد يجتمع في الفرد الواحد الجميل والبشع، وإن الجمال الظاهر ليمرر القبح الذي لا يحتمل ...! فبعد أقل من عشرين آية من الآية التي نحن بصددها نقرأ في التنزيل

وَلَا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكَاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَلَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَلَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَلَا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَلَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَلَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولَئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَى الْجَنَّةِ وَالْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَيُبَيِّنُ آيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ [البقرة : 221]

المشركة قد تعجب المؤمن، وما الذي يمكن أن يعجبه في مشركة خبيثة الداخل غير مظهرها الخارجي من جمال ودلال وحسب ونسب

وصنوها المنافق كذلك:

وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون : 4]

هم في الظاهر أجسام جميلة وأقوال جذابة وفي حقيقة الأمرهم خشب مسندة!

ما يعجب معياره حسي عاطفي ، لا ينبغي أبدا أن يحتكم إليه لمعرفة الحق والصواب، بل إن ما يعجب في غالبه يفضي إلى سبل الضلال ...فما يعجب هو الظاهر والظاهريتناوله التزيين والتزيين من اختصاص الشيطان .

قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [الحجر : 39]

لا يمكن للشيطان أن يقنع أحدا فأدنى تأمل من الانسان قمين برد باطل الشيطان ، لذلك يلجأ إلى التزيين فيعجبك الشيء فتستسلم له .....

وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ

هو الخطاب "الديماغوجي" إذن أو الخطاب "الشعبوي" (كما في الاصطلاح الجديد)....

أوليست الديماغوجية والشعبوية شأنا سياسيا بامتياز!

قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا

الآية تحدد مجال القول السياسي :الحياة الدنيا

لا يتكلم السياسي عن الأخلاق ولا عن الآخرة ، كل كلامه عن الأكل، والمسكن ،والدخل، والتقاعد المريح ،وساعات العمل، وإصلاح الملاعب، و...و...

قيل عن الصحافة إنها فن "الوقتي العابر" ونقول عن السياسة هي فن "الدنيوي الزائل"

وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ

هذا السياسي- وهو في مرحلة البحث عن السلطة- يدرك جيدا أن له أسلافا و خصوما ومنافسين، وكل هؤلاء أوتوا مهارة القول وفن الوعد، ويتوقع أن يقال له في كل حين: "ما تقوله هو عينه ما قد قال سلفك فانظر ماذا فعل" أو" ما نسمعه منك يقوله منافسوك أيضا فلماذا نتبعك من دونهم "

الجواب : كل أولئكم كذابون منافقون أما أنا فصادق وأشهد الله على ما في قلبي!

وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ

الآية تكشف عن جوهر السياسة :الخصومة

من لا يتقن فن الخصومة لا مكان له في السباق السياسي، وإذا ألغيت الخصومة ألغيت السياسة نفسها ( أًذَكر أنني أتحدث هنا عن السياسة في نسختها العصرية كما هي مشاهدة في العالم كله برموزها واصطلاحاتها :ديموقراطية، برلمان ،معارضة، حزب،يمين يسار، حملة دعائية، تحالف، مواجهة مباشرة، جدول الأعمال، برنامج، فضيحة ....)

وَإِذَا تَوَلَّى سَعَى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيهَا وَيُهْلِكَ الْحَرْثَ وَالنَّسْلَ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ الْفَسَادَ [البقرة : 205]

(تولى) تحتمل معنيين:

تولى من "التولي" أي الانصراف والابتعاد ،فيكون الرجل من المنافقين الكاذبين، له هنا قول وله هناك فعل، في الحضور تعجب أقواله وفي الغياب ترعب أفعاله!!!

الاحتمال الثاني – وهو الراجح في نظرنا- تولى من "الولاية" أي أصبح واليا وحاكما كما في حديث :

" كما تكونوا يولى عليكم."

(كثير من المحدثين ضعفوا هذا الحديث لكن الشاهد عندنا هو الدلالة اللغوية لعبارة "يولى عليكم" بغض النظر عن السند والصنعة الحديثية)

رجحنا هذا الاحتمال لأنه ليس في مقدور أي كاذب منافق أن يهلك الحرث والنسل إلا إذا أوتي القوة والسلطان ، فيكون الوصف حينئذ خاصا بالمنافق السياسي وليس بمطلق المنافق...

فعلى الاحتمال الأول: يأتي المنافق فيقول قولا جميلا فإذا انصرف قتل وأفسد ، وعلى الاحتمال الثاني: يترشح المنافق فإذا وصل إلى سدة الحكم قتل وأفسد هذا أرجح بلا ريب!

وَإِذَا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ [البقرة : 206]

هذه مرحلة الانتقاد والاعتراض ملخصة في جملة واحدة:

اتَّقِ اللَّهَ

ما رد فعل الحاكم ؟

أهون ما سيفعله هو التنكيل بهذا الناصح الأحمق، ولعل هذا المعنى متضمن في قوله تعالى" أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ" فهو مأخوذ والمأخوذ أسير لا اختيار له و لا رإي... العزة بالاثم هي التي تملي عليه ما سيفعل، لا عقل ولا ضمير، فما الذي ينتظر أن يفعله بالناصح !

فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ

تذييل القصة بهذه الخاتمة ترجح ما ادعيناه في تأويلنا (السياسي!) فهذا الحاكم محصن بالمال والنفوذ والسلطان بحيث من الصعوبة بمكان الوصول إليه لمحاسبته على جرائمه ،فلا يشفي من الغيظ إلا استحضار عاقبته التي لا مناص له منها:

فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ الْمِهَادُ.

والله أعلم.
 
عودة
أعلى