السلام تحية الإسلام

إنضم
11/01/2012
المشاركات
3,868
مستوى التفاعل
11
النقاط
38
العمر
67
الإقامة
الدوحة - قطر
لكل قوم تحية فيما بينهم تعارفوا عليها ، وتحية الإسلام ( السلام ) ، ولما رأينا كثيرًا من المسلمين قد تهاونوا بهذه التحية ، واستبدلوا بها تحيات أخرى بلغة العرب أو بغير لغتهم ، بالكلام أو بالإشارة ، كان لزامًا على أهل العلم أن يبينوا للناس ماذا في هذه المخالفة من فقدان الهوية ، والإثم الذي قد يلحق البعض بعدم رد السلام ، والفضل العظيم الذي جُعل في هذه التحية العظيمة ، وما يتعلق بها من أحكام وآداب .
لذا كانت هذه الرسالة بيانًا للتحية وأحكامها وآدابها وما يتعلق بها ، وإبراءً للذمة وتحذيرًا للأمة ؛ سائلًا الله تعالى أن ينفع بها .
 
بسم الله الرحمن الرحيم


رب يسر وأعن


مقدمة


الحمد لله وحده، والصلاة والسلام على من لا نبي بعده نبينا محمد وعلى آله وصحبه ، وبعد :

فمنذ خلق الله تعالى البشر علم آدم تحيته وتحية أبنائه من بعده ، وهي السلام ؛ لكن لما تتابعت الأجيال ، واختلفت الألسن ، وتفرق الناس في الأرض وصاروا شعوبًا وقبائل ، وابتعدت الأجيال عن الوحي ، تعارفت كل مجموعة من الناس فيما بينهم على تحية عند تلاقيهم ، فمنهم من كانت تحيته بالإشارة ومنهم من كانت تحيته بالأكف ، ومنهم من كانت تحيته بالكلام ، ومنهم من كانت تحيته بالانحناء ، واختلفت كذلك التحية بالإشارة أو بالأكف أو بالكلام أو بدرجة الانحناء .
واختار الله تعالى لأمة الإسلام أعظم تحية ؛ إنها ( السلام ) تحية آدم وذريته ، وتحية أهل الجنة في الجنة ؛ وتحية الملائكة لأهل الجنة ؛ بل هي تحية الأحياء والأموات .
وهذه التحية ، لها أحكام وآداب لابد للمسلم أن يحيط بها ليأتي بالتحية على وجهها .
من أجل ذلك كانت هذه الرسالة ( السلام تحية الإسلام ) ، التي أسأل الله تعالى أن ينفع بها كاتبها ، وناشرها ، وقارئها ، والدال عليها ، وأن يجعلها في ميزان حسنات الجميع ] يَوْمَ لا يَنْفَعُ مَالٌ وَلا بَنُونَ . إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ [ ( الشعراء : 88 ، 89 ) .

وصلى الله وسلم وبارك على النبي محمد وعلى آله .


وكتبه


راجي عفو رب البرية


محمد بن محمود بن إبراهيم عطية
 
تعريف السلام والتحية

السَّلامُ الاسم من التَّسْليم ؛ وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد فِي ( شَرْح الْإِلْمَام ) : السَّلَام يُطْلَق بِإِزَاءِ مَعَانٍ ، مِنْهَا السَّلَامَة ، وَمِنْهَا التَّحِيَّة ، وَمِنْهَا أَنَّهُ اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تعالى...قَالَ : وَقَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى التَّحِيَّة مَحْضًا ، وَقَدْ يَأْتِي بِمَعْنَى السَّلَامَة مَحْضًا ، وَقَدْ يَأْتِي مُتَرَدِّدًا بَيْنَ الْمَعْنَيَيْنِ كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ] وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمْ السَّلَام لَسْت مُؤْمِنًا [ فَإِنَّهُ يَحْتَمِل التَّحِيَّة وَالسَّلَامَة ( [1] ) .
والسَّلامُ في الأَصل السَّلامةُ ، يقال : سَلِمَ يَسْلَمُ سَلامًا وسَلامةً ؛ ومنه قيل للجنة : دار السَّلام ، لأَنها دارُ السلامَة الدائمة التي لا تنقَطع ولا تَفْنى ، وهي دار السَّلامةِ من الموت والهَرَمِ والأَسْقام ; فالسلامة الحقيقية ليست إلا في الجنة ، إذ فيها بقاء بلا فناء ، وغنى بلا فقر ، وعز بلا ذل ، وصحة بلا سقم ؛ قال الله تعالى : ] لَهُمْ دَارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ [ ( الأنعام : 127 ) أي : السلامة .
وقيل : السَّلامُ والسَّلامَةُ البراءة ؛ تَسَلَّمَ منه تَبَرَّأَ ، ومنه قوله تعالى : ] وَإِذَا خَاطَبَهُمُ الْجَاهِلُونَ قَالُوا سَلامًا [ ( الفرقان : 63 ) ؛ معناه تَسَلُّمًا وبراءة لا خير بيننا وبينكم ولا شر ؛ وقيل : ] قَالُوا سَلامًا [ أَي : سَداداً من القول وقَصْداً لا لَغْو فيه ؛ وقيل : السَّلامة العافية ؛ وقيل : السَّلامُ والتحية معناهما واحد ، ومعناهما السَّلامَةُ من جميع الآفات الظاهرة والباطنة ، وقيل : معناه سَلِمْتَ مني ، فاجعلني أَسْلَمُ منك ؛ من السَّلامة بمعنى السَّلام ؛ وقوله ] قَالُوا سَلامًا [ ( هود : 69 ) أَي : سَلِّمُوا سَلامًا ، ] قَالَ سَلامٌ [ أَي : أَمري سَلامٌ ، لا أُريد غير السَّلامَةِ ( [2] ) .
قال العلماء : مَعْنَى ( السَّلَامُ عَلَيْك ) قِيلَ : هُوَ اِسْم اللَّه تَعَالَى ، أَيْ : اِسْم السَّلَام عَلَيْك ، وَمَعْنَاهُ : كِلَاءَة اللَّه عَلَيْك وَحِفْظه ، كَمَا يُقَال : اللَّه مَعَك ، وَاللَّه يَصْحَبك ؛ وَقِيلَ : السَّلَام بِمَعْنَى السَّلَامَة ، أَيْ السَّلَامَة مُلَازِمَة لَك ، كَمَا قَالَ تَعَالَى : ] فَسَلَام لَك مِنْ أَصْحَاب الْيَمِين [ وَكَمَا قَالَ الشَّاعِر :
تُحَيِّي بِالسَّلَامَةِ أُمُّ عَمْرو ... وَهَلْ لِي بَعْد قَوْمِي مِنْ سَلَام
فَكَأَنَّ الْمُسَلِّم أَعْلَم مَنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ أَنَّهُ سَالِم مِنْهُ وَأَنْ لَا خَوْف عَلَيْهِ مِنْهُ ( [3] ) . وقيل : مَعْنَى قَوْلنَا : ( السَّلَام عَلَيْك ) : الدُّعَاء ؛ أَيْ : سَلِمْت مِنْ الْمَكَارِه ( [4] ) .

[1] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 13 .
[2] - انظر لسان العرب باب الميم فصل السين ، ومفردات الراغب ، والقاموس المحيط ، وتاج العروس ( مادة س ل م ) .
[3] - انظر شرح مسلم : 14 / 141 ، وفتح الباري : 11 / 13 .
[4] - نقله ابن حجر عن التوربيشتي ؛ انظر فتح الباري : 2 / 314 .
 
وفي معنى السلام ذكر ابن القيم - رحمه الله - أوجها حسنة قال : الوجه الأول : لما كان السلام اسما من أسماء الرب تبارك وتعالى ، وهو اسم مصدر في الأصل كالكلام والعطاء ؛ بمعنى السلامة ؛ كان الرب تعالى أحق به من كل ما سواه ، لأنه السالم من كل آفة وعيب ونقص وذم ، فإن له الكمال المطلق من جميع الوجوه ، وكماله من لوازم ذاته فلا يكون إلا كذلك ، والسلام يتضمن سلامة أفعاله من العبث والظلم وخلاف الحكمة ، وسلامة صفاته من مشابهة صفات المخلوقين ، وسلامة ذاته من كل نقص وعيب ، وسلامة أسمائه من كل ذم ؛ فاسم السلام يتضمن إثبات جميع الكمالات له وسلب جميع النقائص عنه ، وهذا معنى سبحان الله والحمد لله ؛ ويتضمن إفراده بالألوهية ، وإفراده بالتعظيم ، وهذا معنى لا إله إلا الله والله أكبر ؛ فانتظم اسم السلام الباقيات الصالحات التي يُثنى بها على الرب جل جلاله .
ومن بعض تفاصيل ذلك أنه الحي الذي سلمت حياته من الموت والسنة والنوم والتغير ، القادر الذي سلمت قدرته من اللغوب والتعب والإعياء والعجز عما يريد ، العليم الذي سلم علمه أن يعزب عنه مثقال ذرة أو يغيب عنه معلوم من المعلومات ؛ وكذلك سائر صفاته على هذا ؛ فرضاه سبحانه سلام أن ينازعه الغضب ، وحلمه سلام أن ينازعه الانتقام ، وإرادته سلام أن ينازعها الإكراه ، وقدرته سلام أن ينازعها العجز ، ومشيئته سلام أن ينازعها خلاف مقتضاها ، وكلامه سلام أن يعرض له كذب أو ظلم ، بل تمت كلماته صدقا وعدلا ، ووعده سلام أن يلحقه خلف ، وهو عز وجل سلام أن يكون قبله شيء ، أو بعده شيء ، أو فوقه شيء ، أو دونه شيء ، بل هو العالي على كل شيء ، وفوق كل شيء ، وقبل كل شيء ، وبعد كل شيء ، والمحيط بكل شيء ، وعطاؤه ومنعه سلام أن يقع في غير موقعه ، ومغفرته سلام أن يبالي بها أو يضيق بذنوب عباده ، أو تصدر عن عجز عن أخذ حقه كما تكون مغفرة الناس ، ورحمته وإحسانه ورأفته وبره وجوده وموالاته لأوليائه وتحببه إليهم وحنانه عليهم وذكره لهم وصلاته عليهم سلام أن يكون لحاجة منه إليهم ، أو تعزز بهم ، أو تكثر بهم .
وبالجملة فهو السلام من كل ما ينافي كلامه المقدس بوجه من الوجوه ؛ فاسم السلام متضمن للكمال السالم من كل ما يضاده ؛ وإذا لم تظلم هذا الاسم ووفيته معناه وجدته مستلزما لإرسال الرسل ، وإنزال الكتب ، وشرع الشرائع ، وثبوت المعاد ، وحدوث العالم ، وثبوت القضاء والقدر ، وعلو الرب تعالى على خلقه ، ورؤيته لأفعالهم ، وسمعه لأصواتهم ، واطلاعه على سرائرهم وعلانياتهم ، وتفرده بتدبيرهم ، وتوحده في كماله المقدس عن شريك بوجه من الوجوه ؛ فهو السلام الحق من كل وجه ، كما هو النزيه البريء عن نقائص البشر من كل وجه ..
وقد جعل سبحانه السلام تحية أوليائه في الدنيا ، وتحيتهم يوم لقائه ؛ ولما خلق آدم وكمل خلقه فاستوى قال الله له : " اذهب إلى أولئك النفر من الملائكة فاستمع ما يحيونك به ، فإنها تحيتك وتحية ذريتك من بعدك " ؛ وقال تعالى : { لهم دار السلام عند ربهم } ، وقال : { والله يدعو إلى دار السلام } .
وقد اختلف في تسمية الجنة بدار السلام ، فقيل : السلام هو الله والجنة داره ؛ وقيل : السلام هو السلامة ، والجنة دار السلامة من كل آفة وعيب ونقص ؛ وقيل : سميت دار السلام لأن تحيتهم فيها سلام ؛ ولا تنافي بين هذه المعاني كلها .
الوجه الثاني : وأما قول المسلِّم : السلام عليكم ، فهو إخبار للمسلَّم عليه بسلامته من غيلة المسلم وغشه ومكروه يناله منه ، فيرد الراد عليه مثل ذلك ؛ أي فعل الله ذلك بك وأحله عليك ؛ والفرق بين هذا الوجه ( في رد السلام ) وبين الوجه الأول ( إلقاء السلام ) أنه في الأول خبر وفي الثاني طلب .
ووجه ثالث : وهو أن يكون المعنى اذكر الله الذي عافاك من المكروه ، وأمَّنَك من المحذور ، وسلَّمك مما تخاف ، وعامِلْنا من السلامة والأمان بمثل ما عاملك به ؛ فيرد الراد عليه مثل ذلك ، ويستحب له أن يزيده ، كما أن من أهدى لك هدية يستحب لك أن تكافئه بزيادة عليها ، ومن دعا لك ينبغي أن تدعو له بأكثر من ذلك .
ووجه رابع : وهو أن يكون معنى سلام المسلِّم وردِّ الرادِّ بشارة من الله سبحانه جعلها على ألسنة المسلمين لبعضهم بعضا بالسلامة من الشر ، وحصول الرحمة والبركة ، وهي دوام ذلك وثباته ؛ وهذه البشارة أعطوها لدخولهم في دين الإسلام ، فأعظمهم أجرا أحسنهم تحية وأسبقهم في هذه البشارة ، كما في الحديث : " وخيرهما الذي يبدأ صاحبه بالسلام " .
واشتق الله سبحانه لأوليائه من تحية بينهم اسما من أسمائه ، واسم دينه الإسلام الذي هو دين أنبيائه ورسله وملائكته ؛ قال تعالى : { أفغير دين الله يبغون وله أسلم من في السماوات والأرض طوعا وكرها وإليه ترجعون } .
ووجه خامس : وهو أن كل أمة من الأمم لهم تحية بينهم من أقوال وأعمال ؛ كالسجود ، وتقبيل الأيدي ، وضرب الجوك ، وقول بعضهم : أنعم صباحا ، وقول بعضهم : عش ألف عام .. ونحو ذلك ؛ فشرع الله تبارك وتعالى لأهل الإسلام ( سلام عليكم ) وكانت أحسن من جميع تحيات الأمم بينها ؛ لتضمنها السلامة التي لا حياة ولا فلاح إلا بها ، فهي الأصل المقدم على كل شيء ، وانتفاع العبد بحياته إنما يحصل بشيئين : بسلامته من الشر ، وحصول الخير ؛ والسلامة من الشر مقدمة على حصول الخير ، وهي الأصل ؛ فإن الإنسان - بل وكل حيوان - إنما يهتم بسلامته أولا ، وغنيمته ثانيًا ؛ على أن السلامة المطلقة تتضمن حصول الخير ، فإنه لو فاته حصل له الهلاك والعطب أو النقص ، ففوات الخير يمنع حصول السلامة المطلقة ، فتضمنت السلامة نجاة العبد من الشر وفوزه بالخير مع اشتقاقها من اسم الله ( 1 ) .ا.هـ مختصرا .
( 1 ) - انظر أحكام أهل الذمة : 1 / 413 : 420 – تحقيق يوسف أحمد البكري ، وشاكر توفيق – دار ابن حزم .
 
السلام في التشهد
روى الشيخان عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ مَسْعُودٍ رضي الله عنه قَالَ : كُنَّا نَقُولُ فِي الصَّلَاةِ خَلْفَ رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم : السَّلَامُ عَلَى اللَّهِ ، السَّلَامُ عَلَى فُلَانٍ ؛ فَقَالَ لَنَا رَسُولُ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم ذَاتَ يَوْمٍ : " إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّلَامُ فَإِذَا قَعَدَ أَحَدُكُمْ فِي الصَّلَاةِ فَلْيَقُلْ التَّحِيَّاتُ لِلَّهِ وَالصَّلَوَاتُ وَالطَّيِّبَاتُ السَّلَامُ عَلَيْكَ أَيُّهَا النَّبِيُّ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ السَّلَامُ عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَادِ اللَّهِ الصَّالِحِينَ فَإِذَا قَالَهَا أَصَابَتْ كُلَّ عَبْدٍ لِلَّهِ صَالِحٍ فِي السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَشْهَدُ أَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَأَشْهَدُ أَنَّ مُحَمَّدًا عَبْدُهُ وَرَسُولُهُ ثُمَّ يَتَخَيَّرُ مِنْ الْمَسْأَلَةِ مَا شَاءَ " .
قال النووي - رحمه الله : قَوْله : " السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ " ، وَقَوْله فِي آخِر الصَّلَاة : " السَّلَام عَلَيْكُمْ " فَقِيلَ : مَعْنَاهُ التَّعْوِيذ بِاَللَّهِ , وَالتَّحْصِين بِهِ سُبْحَانه وَتَعَالَى , فَإِنَّ السَّلَام اِسْم لَهُ سُبْحَانه وَتَعَالَى ؛ تَقْدِيره : اللَّه عَلَيْكُمْ حَفِيظ وَكَفِيل , كَمَا يُقَال : اللَّه مَعَك ، أَيْ : بِالْحِفْظِ وَالْمَعُونَة وَاللُّطْف , وَقِيلَ : مَعْنَاهُ السَّلَامَة وَالنَّجَاة لَكُمْ , كَمَا قَالَ اللَّه تَعَالَى : { فَسَلَام لَك مِنْ أَصْحَاب الْيَمِين } .ا.هـ .
وقيل : معناه : سلَّم الله عليك تسليمًا وسلامًا ، ومن سلَّم الله تعالى عليه سلم من الآفات .
والعلم عند الله تعالى .
 
معنى التحية
التّحيّة مصدر حيَّاه يحيِّيه تحيَّةً ، وأصله في اللّغة : الدّعاء بالحياة ، أي : البقاء وقيل : الملك ، ثمّ كثر حتّى استعمل في ما يحيّا به من سلام ونحوه ؛ فهي أعمّ من السّلام فتشمل السّلام والتّقبيل والمصافحة والمعانقة والإشارة .. ونحو ذلك على مما تعارف عليه الناس .
فالتَّحِيَّةُ في كلام العرب ما يُحَيِّي بعضهم بعضًا إذا تَلاقَوْا ؛ وتَحِيَّةُ الله التي جعلها في الدنيا والآخرة لمؤمني عباده إذا تَلاقَوْا ودَعا بعضهم لبعض بأَجْمَع الدعاء أَن يقولوا : السلامُ عليكم ورحمةُ الله وبركاتُه ؛ قال الله عز وجل : { تَحِيَّتُهُمْ يوْمَ يَلْقَوْنَه سَلامٌ } ، وقال عز وجل في تحيَّة الدنيا : { وإذا حُيِّيتُم بتَحِيَّةٍ فحَيُّوا بأَحسَنَ منها أَو رُدُّوها } ، فالتَّحِيَّة السلام ، وقد حَيَّاهُ تحِيَّةً ، ويقال : حَيَّاك اللهُ تَحِيَّةَ المؤمِن .
ومعنى " التحيات لله " أَي : السلام له من جميع الآفات التي تلحق العباد من العناء وسائر أَسباب الفناء ؛ وقيل : معناه البَقاءُ لله ، ويقال : المُلْك لله ، فإن التحية تأتي أيضا في اللغة بمعنى البقاء ، كما في قول زُهَيْر بن جَنابٍ الكَلْبي :
ولَكُلُّ ما نَال الفتى قَدْ نِلْتُه إلا التَّحِيَّهْ
وتأتي أيضا بمعنى الملك ؛ قال الفرَّاء : حَيَّاكَ اللهُ أبْقاكَ اللهُ ، وحَيَّاك الله ، أَي : مَلَّكك الله ؛ وحَيَّاك الله : أَي سلَّم عليك ؛ قال : وقولنا في التشهد : التَّحِيَّات لله ؛ يُنْوَى بها البَقاءُ لله والسلامُ من الآفاتِ والمُلْكُ لله ، ونحوُ ذلك ؛ قال أَبو عمرو : التَّحِيَّةُ المُلك ؛ وأَنشد قول عمرو بن معد يكرب :
أَسيرُ بِهِ إلى النُّعْمانِ حتَّى ... أُنِيخَ على تَحِيَّتِهِ بجُنْدي
يعني على مُلْكِه ؛ وقولهم حيَّاكَ اللهُ وبَيَّاكَ : اعتَمَدَكَ بالمُلْك ، وقيل أَضْحَكَكَ ؛ فمعنى حَيَّاك اللهُ : أَبقاك من الحياة ؛ وقيل : هو من استقبال المُحَيّا وهو الوَجْه ؛ وقيل : ملَّكك وفَرَّحك ، وقيل : سلَّم عَليك ، وهو من التَّحِيَّة ( السلام ) ، والرجل مُحَيِّيٌ والمرأَة مُحَيِّيَةٌ ( 1 ) .
__________
( 1 ) انظر لسان العرب باب الألف فصل الحاء .
 
السلام تحية آدم وذريته

روى أحمد والشيخان والنسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولِ اللهِ e : " خَلَقَ اللهُ U آدَمَ عَلَى صُورَتِهِ طُولُهُ سِتُّونَ ذِرَاعًا ، فَلَمَّا خَلَقَهُ قَالَ : اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ - فَاسْتَمِعْ مَا يُحَيُّونَكَ ، فَإِنَّهَا تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ " قَالَ : " فَذَهَبَ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا : السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللهِ " قَالَ : " فَزَادُوهُ وَرَحْمَةُ اللهِ " ، ولفظ النسائي : " خَلَقَ اللهُ آدَمَ بِيَدِهِ ، وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ ، وأمرالْمَلَائِكَةِ فَسَجَدُوا لَهُ ،فَجَلَسَ فَعَطَسَ فَقَالَ : الْحَمْدُ للهِ ، فَقَالَ لَهُ رَبُّهُ : يَرْحَمُكَ اللهُ رَبُّكَ ، إيتِ هَؤلَاءِ الْمَلَائِكَةَ فَقُلِ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَأَتَاهُم فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَقَالُوا : وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ ، ثُمَّ رَجَعَ إِلَى رَبِّهِ تَعَالَى فَقَالَ لَهُ : هَذِهِ تَحِيَّتُكَ وَتَحِيَّةُ ذُرِّيَّتِكَ بَيْنَهُمْ" ( [1] ) .
ففي هذا الحديث دليل على أن ( السلام ) هو ما شرعه الله تعالى لآدم وذريته جميعًا ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : قَوْله : " فَإِنَّهَا تَحِيَّتك وَتَحِيَّة ذُرِّيَّتك " أَيْ : مِنْ جِهَة الشَّرْع ، أَوْ الْمُرَاد بِالذُّرِّيَّةِ بَعْضهمْ ، وَهُمْ الْمُسْلِمُونَ ؛ وَقَدْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي ( الْأَدَب الْمُفْرَد ) وَابْن مَاجَهْ وَصَحَّحَهُ اِبْن خُزَيْمَةَ عَنْ عَائِشَة مَرْفُوعًا : " مَا حَسَدَتْكُمْ الْيَهُود عَلَى شَيْء مَا حَسَدُوكُمْ عَلَى السَّلَام وَالتَّأْمِين " ( [2] ) وَهُوَ يَدُلّ عَلَى أَنَّهُ شُرِعَ لِهَذِهِ الْأُمَّة دُونهمْ ؛ وَفِي حَدِيث أَبِي ذَرٍّ الطَّوِيل فِي قِصَّة إِسْلَامه قَالَ : وَجَاءَ رَسُول اللَّه e .. فَذَكَرَ الْحَدِيث وَفِيهِ : فَكُنْت أَوَّل مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَام فَقَالَ : " وَعَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه " أَخْرَجَهُ مُسْلِم ( [3] ) ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ وَالْبَيْهَقِيُّ فِي " الشُّعَب " مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ : " جَعَلَ اللَّه السَّلَام تَحِيَّةً لِأُمَّتِنَا ، وَأَمَانًا لِأَهْلِ ذِمَّتنَا " ( [4] ) وَعِنْدَ أَبِي دَاوُدَ مِنْ حَدِيث عِمْرَان بْن حُصَيْن : كُنَّا نَقُول فِي الْجَاهِلِيَّة : أَنْعِمْ بِك عَيْنًا ، وَأَنْعِمْ صَبَاحًا ؛ فَلَمَّا جَاءَ الْإِسْلَام نُهِينَا عَنْ ذَلِكَ . وَرِجَاله ثِقَات ، لَكِنَّهُ مُنْقَطِع ( [5] ) . وَأَخْرَجَ اِبْن أَبِي حَاتِم عَنْ مُقَاتِل بْن حَيَّان قَالَ : كَانُوا فِي الْجَاهِلِيَّة يَقُولُونَ : حُيِّيت مَسَاء ، حُيِّيت صَبَاحًا ( [6] ) . فَغَيَّرَ اللَّه ذَلِكَ بِالسَّلَامِ ( [7] ) .ا.هـ .

[1] - أحمد : 2 / 315 ، والبخاري ( 3326 ، 6227 ) ، ومسلم ( 2841 ) ، والنسائي في عمل اليوم والليلة ( 218 : 220 ) .

[2] - رواه البخاري في الأدب المفرد ( 988 ) ، وابن ماجة ( 856 ) ، وابن خزيمة ( 1585 ) .

[3] - مسلم ( 2473 ) .

[4] - الطبراني في الكبير : 8 / 109 (7518 ) ، والبيهقي في الشعب ( ) ، وإسناده ضعيف .

[5] - أبو داود ( 5227 ) .

[6] - انظر ابن أبي حاتم عند تفسير الآية ( 61 ) من سورة النور ، وذكره ابن كثير والسيوطي في الدر المنثور أيضا .

[7] - انظر فتح الباري : 11 / 4 .
 
السلام تحية أهل الجنة

جاءت النصوص الكثيرة في كتاب الله تعالى تدل على أن تحية أهل الجنة هي السلام ؛ فالجنة دار السلام ، وتحية أهلها السلام ، وهذا فضل عظيم لهذه التحية العظيمة .
قال الله تعالى : ] دَعْوَاهُمْ فِيهَا سُبْحَانَكَ اللَّهُمَّ وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ وَآخِرُ دَعْوَاهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ [ ( يونس : 10 )، وقال U : ] تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَأَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيمًا [ ( الأحزاب : 44 )، وقال Y :] جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا وَمَنْ صَلَحَ مِنْ آبَائِهِمْ وَأَزْوَاجِهِمْ وَذُرِّيَّاتِهِمْ وَالْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بَابٍ . سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ [ ( الرعد : 23 ، 24 ) ،وقال سبحانه: ] وَأُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلامٌ [ ( إبراهيم : 23 )،وقال جل وعلا : ] وَسِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذَا جَاءُوهَا وَفُتِحَتْ أَبْوَابُهَا وَقَالَ لَهُمْ خَزَنَتُهَا سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوهَا خَالِدِينَ [ ( الزمر : 73 ) ، والآيات في ذلك كثيرة ؛ وهي تدل على أن السلام تحية أهل الجنة فيما بينهم ، وتحية الملائكة لهم .
وفي قصة إسلام عمير بن وهب ، أنه لما دخل على رسول الله e فَقَالَ : انْعَمُوا صَبَاحًا - وَكَانَتْ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَاهِلِيّةِ بَيْنَهُمْ - فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ e : " قَدْ أَكْرَمَنَا اللّهُ بِتَحِيّةِ خَيْرٍ مِنْ تَحِيّتِك يَا عُمَيْرُ السّلَامِ تَحِيّةُ أَهْلِ الْجَنّة " ( [1] ) ؛ ولما رَأَى مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ t النَّصَارَى تَسْجُدُ لِبَطَارِقَتِهَا وَأَسَاقِفَتِهَا ، قَالَ : فَقُلْتُ لِأَيِّ شَيْءٍ تَصْنَعُونَ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا كَانَ تَحِيَّةَ الْأَنْبِيَاءِ قَبْلَنَا ، فَقُلْتُ : نَحْنُ أَحَقُّ أَنْ نَصْنَعَ هَذَا بِنَبِيِّنَا e ؛ فَقَالَ نَبِيُّ اللَّهِ e: " إِنَّهُمْ كَذَبُوا عَلَى أَنْبِيَائِهِمْ كَمَا حَرَّفُوا كِتَابَهُمْ ، إِنَّ اللَّهَ U أَبْدَلَنَا خَيْرًا مِنْ ذَلِكَ السَّلَامَ تَحِيَّةَ أَهْلِ الْجَنَّةِ " ( [2] ) .
ولما قال عمرو بن العاص وعبد الله بن ربيعة للنجاشي في شأن مهاجري الحبشة : لا يحيوك بالتحية التي يحييك بها من يدخل عليك منا ! فقال لجعفر وأصحابه : ما لكم ما تحيوني كما يحيي أصحابكم ؟ قال نحييكم بتحية نبينا e : إنها تحية أهل الجنة ( [3] ) .

[1] - انظر سيرة ابن هشام : 1 / 662 ، ورواه الطبراني في الكبير : 17 / 60 ، وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 286 : رواه الطبراني مرسلا وإسناده جيد.

[2] - رواه أحمد : 4 / 381 .

[3] - رواه الطبراني في الأوسط ( 7440 ) ؛ وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 39 : رواه الطبراني في الأوسط وفيه يعقوب بن محمد الزهري وثقه غير واحد وضعفه بسبب التدليس وقد صرح بالتحديث عن شيخ ثقة، وبقية رجاله ثقات.
 
السلام من حق المسلم على المسلم

السلام من الحقوق المتبادلة بين المسلمين إلقاءً وردا ؛ ففي الصحيحين أَنَّ أَبَا هُرَيْرَةَ t قَالَ : سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ خَمْسٌ : رَدُّالسَّلَامِ ، وَعِيَادَةُ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعُ الْجَنَائِزِ ، وَإِجَابَةُ الدَّعْوَةِ ، وَتَشْمِيتُ الْعَاطِسِ "، وفي رواية لمسلم : " خَمْسٌ تَجِبُ لِلْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ "، وفي أخرى : أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " حَقُّ الْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ سِتٌّ " قِيلَ : مَا هُنَّ يَا رَسُولَ اللَّهِ ؟ قَالَ : " إِذَا لَقِيتَهُ فَسَلِّمْ عَلَيْهِ ، وَإِذَا دَعَاكَ فَأَجِبْهُ ، وَإِذَا اسْتَنْصَحَكَ فَانْصَحْ لَهُ ، وَإِذَاعَطَسَ فَحَمِدَاللَّهَ فَسَمِّتْهُ ، وَإِذَا مَرِضَ فَعُدْهُ، وَإِذَا مَاتَ فَاتَّبِعْهُ " ( [1] ) ، ورواه أحمد وابن ماجة عَنْ عَلِيٍّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " لِلْمُسْلِمِ عَلَى الْمُسْلِمِ مِنْ الْمَعْرُوفِ سِتٌّ : يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ ، وَيُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ ، وَيَشْهَدُهُ إِذَا تُوُفِّيَ ، وَيُحِبُّ لَهُ مَا يُحِبُّ لِنَفْسِهِ ، وَيَنْصَحُ لَهُ بِالْغَيْب " ( [2] ) . ورواه أحمد عَنِ ابْنِ عُمَرَ - رضي الله عنهما - أَنَّ النَّبِيَّ e كَانَ يَقُولُ : " لِلْمَرْءِ الْمُسْلِمِ عَلَى أَخِيهِ مِنْ الْمَعْرُوفِ سِتٌّ : يُشَمِّتُهُ إِذَا عَطَسَ ، وَيَعُودُهُ إِذَا مَرِضَ ، وَيَنْصَحُهُ إِذَا غَابَ ، وَيَشْهَدُهُ ، وَيُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِذَا لَقِيَهُ ، وَيُجِيبُهُ إِذَا دَعَاهُ ، وَيَتْبَعُهُ إِذَا مَاتَ " وَنَهَى عَنْ هِجْرَةِ الْمُسْلِمِ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ( [3] ) .

[1] - البخاري ( 1240 ) ، ومسلم ( 2162 ) .

[2] - أحمد : 1 / 88 ، والترمذي ( 2736 ) وحسنه ، وابن ماجة ( 1433 ) وفيه الحارث الأعور ، وهو ضعيف ، لكن تابعه زاذان عند أبي يعلى ( 509 ) ، ويشهد له حديث أبي هريرة ، وحديث ابن عمر الآتي .

[3] - أحمد : 2 / 68 ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 337 ) : رواه أحمد وإسناده حسن .
 
صيغة السلام

جاء السلام في القرآن والسنة بصيغ ثلاثة : ( السَّلامُ عليكم ) ، ( سَلامٌ عليكم ) ، ( سَلامٌ ) ، بحذف عليكم ؛ ولم يرد في القرآن غالبًا إِلاَّ مُنَكَّرًا ، كقوله تعالى : ] سَلامٌ عليكم بما صَبَرْتُمْ [ ( الرعد : 24 ) ، ] إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقَالُوا سَلامًا قَالَ سَلامٌ [ ( الذريات : 25 ) .
وفي صحيح البخاري من حديث سلام آدم على الملائكة المتقدم : قال ابن حجر في ( الفتح ) : قَوْله : " فَقَالَ : السَّلَام عَلَيْكُمْ " اسْتُدِلَّ بِهِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الصِّيغَة هِيَ الْمَشْرُوعَة لِابْتِدَاءِ السَّلَام ، لِقَوْلِهِ : " فَهِيَ تَحِيَّتك وَتَحِيَّة ذُرِّيَّتك " ، وَلَوْ حَذَفَ اللَّام فَقَالَ " سَلَام عَلَيْكُمْ " أَجْزَأَ ، قَالَ اللَّه تَعَالَى : ] وَالْمَلَائِكَة يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلّ بَاب سَلَام عَلَيْكُمْ [ ، لَكِنْ بِاللَّامِ أَوْلَى لِأَنَّهَا لِلتَّفْخِيمِ وَالتَّكْثِير ، وَثَبَتَ فِي حَدِيث التَّشَهُّد : " السَّلَام عَلَيْك أَيُّهَا النَّبِيّ " ( [1] ) .

قال النووي - رحمه الله - في ( شرح مسلم ) : أَقَلّ السَّلَام أَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْكُمْ , فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِم عَلَيْهِ وَاحِدًا فَأَقَلّه السَّلَام عَلَيْك , وَالْأَفْضَل أَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْكُمْ ، لِيَتَنَاوَلهُ وَمَلَكَيْهِ , وَأَكْمَل مِنْهُ أَنْ يَزِيد وَرَحْمَة اللَّه , وَأَيْضًا وَبَرَكَاته , وَلَوْ قَالَ : سَلَام عَلَيْكُمْ أَجْزَأَهُ ؛ وَاسْتَدَلَّ الْعُلَمَاء لِزِيَادَةِ : وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته بِقَوْلِهِ تَعَالَى إِخْبَارًا عَنْ سَلَام الْمَلَائِكَة بَعْد ذِكْر السَّلَام : ] رَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْت [ ( هود : 73 ) . وَبِقَوْلِ الْمُسْلِمِينَ كُلّهمْ فِي التَّشَهُّد : السَّلَام عَلَيْك أَيّهَا النَّبِيّ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته .
وَيُكْرَه أَنْ يَقُول الْمُبْتَدِي : عَلَيْكُمْ السَّلَام , فَإِنْ قَالَهُ اِسْتَحَقَّ الْجَوَاب عَلَى الصَّحِيح الْمَشْهُور , وَقِيلَ : لَا يَسْتَحِقّ , وَقَدْ صَحَّ أَنَّ النَّبِيّ e قَالَ : " لَا تَقُلْ عَلَيْك السَّلَام ; فَإِنَّ عَلَيْك السَّلَام تَحِيَّة الْمَوْتَى " وَاللَّه أَعْلَم ( [2] ) .ا.هـ .
قلت : الحديث رواه أحمد وأبو داود والترمذي ، ولفظ أبي داود عَنْ أَبِي جُرَيٍّ جَابِر بنِ سُلَيمٍ الْهُجَيْمِيِّ t قَالَ : أَتَيْتُ النَّبِيَّ e فَقُلْتُ:عَلَيْكَالسَّلَامُيَارَسُولَاللَّهِ؛ قَالَ : " لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ ؛ فَإِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَوْتَى " وفي رواية للترمذي : قُلْتُ : عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، قَالَ : " إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ ، إِنَّ عَلَيْكَ السَّلَامُ تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ " ثَلَاثًا ، ثُمَّ أَقْبَلَ عَلَيَّ فَقَالَ : " إِذَا لَقِيَ الرَّجُلُ أَخَاهُ الْمُسْلِمَ فَلْيَقُلْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ثُمَّ رَدَّ عَلَيَّ النَّبِيُّ e قَالَ : " وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ ، وَعَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ " ( [3] ) . وفي رواية عند النسائي ؛ قُلْتُ : عَلَيْكَ السَّلَامُ يَا رَسُولَ اللَّهِ ، ثلاث مرات ، قال : " لَا تَقُلْ عَلَيْكَ السَّلَامُ ؛ فَإِنَّهَا تَحِيَّةُ الْمَيِّتِ ، ولَكِنْ قُلْ : السَّلَامُ عَلَيْكَ " ( [4] ) .
قَالَ الْخَطَّابِيُّ - رحمه الله : هَذَا يُوهِم أَنَّ السُّنَّة فِي تَحِيَّة الْمَيِّت أَنْ يُقَال لَهُ : عَلَيْك السَّلَام ؛ كَمَا يَفْعَلهُ كَثِير مِنْ الْعَامَّة ، وَقَدْ ثَبَتَ عَنْ النَّبِيّ e أَنَّهُ دَخَلَ الْمَقْبَرَة فَقَالَ : " السَّلَام عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ " ( [5] ) فَقَدَّمَ الدُّعَاء عَلَى اِسْم الْمَدْعُوّ لَهُ ، كَهُوَ فِي تَحِيَّة الْأَحْيَاء ؛ وَإِنَّمَا كَانَ ذَلِكَ الْقَوْل مِنْهُ إِشَارَة إِلَى مَا جَرَتْ بِهِ الْعَادَة مِنْهُمْ فِي تَحِيَّة الْأَمْوَات ، إِذْ كَانُوا يُقَدِّمُونَ اِسْم الْمَيِّت عَلَى الدُّعَاء ، وَهُوَ مَذْكُور فِي أَشْعَارهمْ كَقَوْلِ الشَّاعِر :

عَلَيْك سَلَام اللَّه قَيْس بْن عَاصِم ... وَرَحْمَته إِنْ شَاءَ أَنْ يَتَرَحَّمَا

وَكَقَوْلِ الشَّمَّاخ :

عَلَيْك سَلَام مِنْ أَمِير وَبَارَكَتْ ... يَد اللَّه فِي ذَاكَ الْأَدِيم الْمُمَزَّق

وَالسُّنَّة لَا تَخْتَلِف فِي تَحِيَّة الْأَحْيَاء وَالْأَمْوَات ، بِدَلِيلِ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة الَّذِي ذَكَرْنَاهُ ؛ وَاَللَّه أَعْلَم اِنْتَهَى ( [6] ) .
وقال ابن القيم - رحمه الله : وَكَانَ هَدْيُهُ فِي ابْتِدَاءِ السّلَامِ أَنْ يَقُولَ : " السّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ " ، وَكَانَ يَكْرَهُ أَنْ يَقُولَ الْمُبْتَدِئُ : عَلَيْك السّلَامُ ؛ فَذَكَرَ حَدِيث أَبِي جُرِيِّ الْهُجَيْمِيّ .. ثُمَّ قَالَ : وَقَدْ أَشْكَلَ هَذَا الْحَدِيثُ عَلَى طَائِفَةٍ وَظَنّوهُ مُعَارَضًا لِمَا ثَبَتَ عَنْهُ e فِي السّلَامِ عَلَى الْأَمْوَاتِ بِلَفْظِ : " السّلَامُ عَلَيْكُمْ " بِتَقْدِيمِ السّلَامِ ، فَظَنّوا أَنّ قَوْلَهُ : " فَإِنّ عَلَيْكَ السّلَامُ تَحِيّةُ الْمَوْتَى " إخْبَارٌ عَنْ الْمَشْرُوعِ ، وَغَلِطُوا فِي ذَلِكَ غَلَطًا أَوْجَبَ لَهُمْ ظَنّ التّعَارُضِ ؛ وَإِنّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ : " فَإِنَّ عَلَيْكَ السّلَامُ تَحِيّةُ الْمَوْتَى " إخْبَارٌ عَنْ الْوَاقِعِ لَا الْمَشْرُوعُ ، أَيْ إنَّ الشّعَرَاءَ وَغَيْرَهُمْ يُحَيّونَ الْمَوْتَى بِهَذِهِ اللّفْظَةِ كَقَوْلِ قَائِلِهِمْ :

عَلَيْكَ سَلَامُ اللّهِ قَيْسَ بْنَ عَاصِمٍ ... وَرَحْمَتُهُ مَا شَاءَ أَنْ يَتَرَحّمَا

فكره e أَنْ يُحَيَّ بِتَحِيّةِ الْأَمْوَاتِ ، وَمِنْ كَرَاهَتِهِ لِذَلِكَ لَمْ يَرُدّ عَلَى الْمُسَلِّمِ بِهَا ( [7] ) .
وإِنما فعلوا ذلك لأَن المُسَلِّمَ على القوم يَتَوَقَّعُ الجواب ، وأَن يقال له : عليك السَّلام ، فلما كان الميت لا يُتَوَقَّعُ منه جواب جعلوا السلام عليه كالجواب ( [8] ) .
وفي تقديم السلام ( أي السلام عليكم ) نُكْتَة حَسَنَة - كما قَالَ اِبْن الْقَيِّم - رَحِمَهُ اللَّه : وَهُي أَنَّ الدُّعَاء بِالسَّلَامِ دُعَاء بِخَيْرٍ ، وَالْأَحْسَن فِي دُعَاء الْخَيْر : أَنْ يُقَدِّم الدُّعَاء عَلَى الْمَدْعُوّ لَهُ . كَقَوْلِهِ تَعَالَى : ] رَحْمَتُ اللَّه وَبَرَكَاته عَلَيْكُمْ أَهْل الْبَيْت [ ، وَقَوْله : ] وَسَلَام عَلَيْهِ يَوْم وُلِدَ وَيَوْم يَمُوت [ ، وَقَوْله : ] سَلَام عَلَيْكُمْ بِمَا صَبَرْتُمْ [ ؛ وَأَمَّا الدُّعَاء بِالشَّرِّ فَيُقَدَّم الْمَدْعُوّ عَلَيْهِ عَلَى الدُّعَاء غَالِبًا ، كَقَوْلِهِ لِإِبْلِيس : ] وَأَنَّ عَلَيْك لَعْنَتِي [ ، وَقَوْله : ] وَإِنَّ عَلَيْك اللَّعْنَة [ ، وَقَوْله : ] عَلَيْهِمْ دَائِرَة السَّوْء [ ، وَقَوْله : ] وَعَلَيْهِمْ غَضَب وَلَهُمْ عَذَاب شَدِيد [ ؛ وَسِرّ هَذَا : أَنَّ فِي الدُّعَاء بِالْخَيْرِ يُقَدَّم اِسْم الدُّعَاء الْمَحْبُوب الْمَطْلُوب الَّذِي تَشْتَهِيه النُّفُوس فَيَبْدَأ الْقَلْب وَالسَّمْع ذِكْر اِسْم الْمَحْبُوب الْمَطْلُوب ثُمَّ يَتْبَعهُ بِذِكْرِ الْمَدْعُوّ لَهُ . وَأَمَّا فِي الدُّعَاء عَلَيْهِ فَفِي تَقْدِيم الْمَدْعُوّ عَلَيْهِ إِيذَان بِاخْتِصَاصِهِ بِذَلِكَ الدُّعَاء ، كَأَنَّهُ قِيلَ لَهُ : هَذَا لَك وَحْدك ، لَا يُشْرِكك فِيهِ الدَّاعِي وَلَا غَيْره ؛ بِخِلَافِ الدُّعَاء بِالْخَيْرِ ، فَإِنَّ الْمَطْلُوب عُمُومه ، وَكُلَّمَا عَمَّمَ بِهِ الدَّاعِي كَانَ أَفْضَل ؛ فَلَمَّا كَانَ التَّقْدِيم مُؤْذِنًا بِالِاخْتِصَاصِ تُرِك .
وَلِهَذَا يُقَدَّم إِذَا أُرِيد الِاخْتِصَاص ، كَقَوْلِهِ : ] أُولَئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَوَات مِنْ رَبّهمْ وَرَحْمَة [ وَاللَّهُ أَعْلَم .ا.هـ ( [9] ) .
وقد بينت السنة أن السلام على الأحياء والأموات سواء ؛ فروى مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e أَتَى الْمَقْبُرَةَ فَقَالَ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ .. " الحديث ( [10] ) ؛ وروى أيضا عَنْ عَائِشَةَ – رضي الله عنها - أَنَّهَا قَالَتْ : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e كُلَّمَا كَانَ لَيْلَتُهَا مِنْ رَسُولِ اللَّهِ e يَخْرُجُ مِنْ آخِرِ اللَّيْلِ إِلَى الْبَقِيعِ فَيَقُولُ : " السَّلَامُ عَلَيْكُمْ دَارَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ ، وَأَتَاكُمْ مَا تُوعَدُونَ ، غَدًا مُؤَجَّلُونَ ، وَإِنَّا إِنْ شَاءَ اللَّهُ بِكُمْ لَاحِقُونَ ، اللَّهُمَّ اغْفِرْ لِأَهْلِ بَقِيعِ الْغَرْقَدِ " ( [11] ) .
والعلم عند الله تعالى .
[1] - فتح الباري : 11 / 4 .

[2] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 14 / 140 .

[3] - أحمد : 3 / 482 ، وأبو داود ( 5209 ) ، والترمذي ( 2721 ، 2722 ) وصححه .

[4] - سنن النسائي الكبرى ( 10150 ) .

[5] - رواه مسلم ( 249 ) عن أبي هريرة ، ورواه أيضا بنحوه عن عائشة ( 974 ) .

[6] - نقلا عن تحفة الأحوذي : 7 / 420 ، وانظر عون المعبود : 11 / 93 ، 94 .

[7] - انظر زاد المعاد : 2 / 283 .

[8] - انظر لسان العرب باب الميم فصل السين .

[9] - انظر حاشية ابن القيم على سنن أبي داود : 11 / 93 .

[10] - رواه مسلم ( 249 ) .

[11] - رواه مسلم ( 974 ) .
 
صِيغَةُ انتهاء السّلَامِ
كَانَ هَدْيُهُ e انْتِهَاءَ السّلَامِ إلَى " وَبَرَكَاتُهُ " ؛ فقد روى أحمد وأهل السنن إلا ابن ماجة عَنْ عِمْرَانَ بْنِ حُصَيْنٍ t قَالَ : جَاءَ رَجُلٌ إِلَى النَّبِيِّ e فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ثُمَّ جَلَسَ، فَقَال َالنَّبِيُّe : " عَشْرٌ " ، ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ ، فَقَالَ : " عِشْرُونَ " ثُمَّ جَاءَ آخَرُ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَرَدَّ عَلَيْهِ فَجَلَسَ ، فَقَالَ : " ثَلَاثُونَ " ( [1] ) .
وروى مالك في ( الموطأ ) عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ عَمْرِو بْنِ عَطَاءٍ أَنَّهُ قَالَ : كُنْتُ جَالِسًا عِنْدَ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ ، فَدَخَلَ عَلَيْهِ رَجُلٌ مِنْ أَهْلِ الْيَمَنِ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، ثُمَّ زَادَ شَيْئًا مَعَ ذَلِكَ أَيْضًا ؛ قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ وَهُوَ يَوْمَئِذٍ قَدْ ذَهَبَ بَصَرُهُ : مَنْ هَذَا ؟ قَالُوا : هَذَا الْيَمَانِي الَّذِي يَغْشَاكَ ؛ فَعَرَّفُوهُ إِيَّاهُ ، قَالَ : فَقَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ : إِنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ ( [2] ) . قال محمد بن الحسن في ( الموطأ ) : وبهذا نأخذ . إذا قال السلام عليكم ورحمة الله وبركاته فليكفف ؛ فإن اتباع السنة أفضل ( [3] ) .
قال ابن عبد البر رحمه الله في ( الاستذكار ) : قول ابن عباس هذا أخذه من قول الله تعالى : ] رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [ ( هود : 73 ) ؛ روى الأعمش عن مجاهد عن بن عباس قال : انتهوا في السلام حيث انتهت الملائكة يا أهل البيت الصالحين : رحمة الله وبركاته عليكم أهل البيت ؛ وروى ابن جريج عن عطاء أن ابن عباس أتاهم يومًا في مجلس فسلَّم عليهم فقال : سلام عليكم ورحمة الله وبركاته ؛ فقلت : وعليك السلام ورحمة الله وبركاته وعفوه ومغفرته ، فقال : من هذا ؟ فقلت : عطاء ، فقال : انتهى السلام : وبركاته ، ثم تلا : ] رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ [ .ا.هـ .
وقال أبو الوليد الباجي في ( المنتقى شرح الموطأ ) : قَوْلُ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَبَّاسٍ t : إِنَّ السَّلَامَ انْتَهَى إِلَى الْبَرَكَةِ ؛ يُرِيدُ أَنَّهُ لَا يَزِيدُ عَلَى ذَلِكَ فِيهِ ، وَإِنَّمَا هِيَ ثَلَاثَةُ أَلْفَاظٍ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فَمَنْ اقْتَصَرَ عَلَى بَعْضِهَا أَجْزَأَهُ ، وَمَنْ اسْتَوْعَبَهَا فَقَدْ بَلَغَ الْغَايَةَ مِنْهُ ، فَلَيْسَ لَهُ أَنْ يَزِيدَ عَلَيْهَا ، وَقَدْ قَالَ الْقَاضِي أَبُو مُحَمَّدٍ : أَكْثَرُ مَا يَنْتَهِي السَّلَامُ إِلَى الْبَرَكَةِ ؛ يُرِيدُ أَنْ لَا يُزَادَ عَلَى ذَلِكَ ، وَيَقْتَضِي ذَلِكَ أَنْ لَا يُغَيَّرَ اللَّفْظُ ، وَهَذَا فِيمَا يَتَعَلَّقُ بِابْتِدَاءِ السَّلَامِ أَوْ رَدِّهِ ، وَأَمَّا الدُّعَاءُ فَلَا غَايَةَ لَهُ إِلَّا الْمُعْتَادُ الَّذِي يَلِيقُ بِكُلِّ طَائِفَةٍ مِنْ النَّاسِ وَبِاَللَّهِ التَّوْفِيقُ .ا.هـ .
وروى مَالِكٌ عَنْ يَحْيَى بْنِ سَعِيدٍ أَنَّ رَجُلًا سَلَّمَ عَلَى عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكَ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَالْغَادِيَاتُ وَالرَّائِحَاتُ ( النعم الآتية غدوة وروحة ) ، فَقَالَ لَهُ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : وَعَلَيْكَ أَلْفًا ؛ ثُمَّ كَأَنَّهُ كَرِهَ ذَلِكَ ( [4] ) ؛ وروى عبد الرزاق عن نافع أو غيره أن رجلا كان يلقى ابن عمر فيسلم عليه ، فيقول : السلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته ومعافاته ؛ قال : يكثر من هذا ، فقال له ابن عمر : وعليك مئة مرة ، لئن عدت إلى هذا لأسوءنك ( [5] ) . وروى البيهقي في ( شعب الإيمان ) عن عبد الله بن بابيه أنه كان مع ابن عمر t فسلم عليه رجل ، فقال : سلام عليك ورحمة الله وبركاته ومغفرته ؛ فانتهره ابن عمر ، وقال : حسبك إذا انتهيت إلى : وبركاته ، إلى ما قال الله U ( [6] ) .
وَأما ما رواه أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثِ مُعَاذِ بْنِ أَنَسٍ نحو حديث عمران ، وَزَادَ فِيهِ ثُمّ أَتَى آخَرُ فَقَالَ : السّلَامُ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ ؛ فَقَالَ " أَرْبَعُونَ " قَالَ : " هَكَذَا تَكُونُ الْفَضَائِلُ " فإنه ضعيف لَا يَثْبُتُ ؛ ولَهُ ثَلَاثَ عِلَلٍ – كما قال ابن القيم - رحمه الله :إحْدَاهَا : أَنّهُ مِنْ رِوَايَةِ أَبِي مَرْحُومٍ عَبْدِ الرّحِيمِ بْنِ مَيْمُونٍ ، وَلَا يُحْتَجّ بِهِ . الثّانِيَةُ إنّ فِيهِ أَيْضًا سَهْلَ بْنَ مُعَاذٍ وَهُوَ أَيْضًا كَذَلِكَ . الثّالِثَةُ أَنّ سَعِيدَ بْنَ أَبِي مَرْيَمَ أَحَدَ رُوَاتِهِ لَمْ يَجْزِمْ بِالرّوَايَةِ بَلْ قَالَ أَظُنّ أَنّي سَمِعْتُ نَافِعَ بْنَ يَزِيدَ ؛ وَأَضْعَفُ مِنْ هَذَا الْحَدِيثُ الْآخَرُ عَنْ أَنَسٍ : كَانَ رَجُلٌ يَمُرّ بِالنّبِيّ e يَقُولُ : السّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللّهِ ، فَيَقُولُ لَهُ النّبِيّ e " وَعَلَيْكَ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتُهُ وَمَغْفِرَتُهُ وَرِضْوَانُهُ " فَقِيلَ لَهُ : يَا رَسُولَ اللّهِ تُسَلّمُ عَلَى هَذَا سَلَامًا مَا تُسَلّمُهُ عَلَى أَحَدٍ مِنْ أَصْحَابِك ؟! فَقَالَ : " وَمَا يَمْنَعُنِي مِنْ ذَلِكَ وَهُوَ يَنْصَرِفُ بِأَجْرِ بِضْعَةَ عَشَرَ رَجُلًا " وَكَانَ يَرْعَى عَلَى أَصْحَابِه ( [7] ) .ا.هـ ( [8] ). وقد أورد البيهقي أحاديث أخرى في الزيادة على ( وبركاته ) لكنها كلها ضعيفة لا تقوم بها حجة .
وسيأتي عند الحديث عن انتهاء صيغة الرد مزيد بيان إن شاء الله تعالى .

[1] - أحمد : 4 / 439 ، 440 ، وأبو داود ( 5195 ) ، والترمذي ( 2689 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 339 ) . والحديث رواه الدارمي ( 2636 ) .

[2] - الموطأ : 2 / 959 ( ) .

[3] - انظر موطأ محمد بن الحسن : 3 / 396 - تحقيق : د. تقي الدين الندوي - دار القلم - دمشق .

[4] - انظر الموطأ : 2 /

[5] - مصنف عبد الرزاق ( 19453 ) .

[6] - شعب الإيمان للبيهقي ( 8880 ) .

[7] - قال ابن حجر في الفتح : أَخْرَجَ اِبْن السُّنِّيّ فِي كِتَابه بِسَنَدٍ وَاهٍ مِنْ حَدِيث أَنَس .. فذكره .

[8] - انظر زاد المعاد : 2 / 381 .
 
صيغة الرد

قال الله تعالى : ] وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا إِنَّ اللّهَ كَانَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ حَسِيبًا [ ( النساء : 86 ) ؛ فالْمُسَلَّمَ عَلَيْهِ مَأْمُورٌ أَنْ يُحَيَّ الْمُسَلّمَ بِمِثْلِ تَحِيّتِهِ عَدْلًا ، وَبِأَحْسَنَ مِنْهَا فَضْلًا ، فَإِذَا رَدّ عَلَيْهِ بِمِثْلِ سَلَامِهِ كَانَ قَدْ أَتَى بِالْعَدْلِ ؛ قال ابن جرير - رحمه الله : يعني جل ثناؤه بقوله : ] وَإِذَا حُيِّيْتُم بِتَحِيَّةٍ [ إذا دعي لكم بطول الحياة والبقاء والسلامة ، ] فَحَيُّواْ بِأَحْسَنَ مِنْهَا [ يقول : فادعوا لمن دعا لكم بذلك بأحسن مما دعا لكم ] أَوْ رُدُّوهَا [ يقول : أو ردوا التحية ؛ ثم اختلف أهل التأويل في صفة التحية التي هي أحسن مما حيي به المحيى والتي هي مثلها ؛ فقال بعضهم : التي هي أحسن منها : أن يقول المسلم عليه إذا قيل ( السلام عليكم ) : وعليكم السلام ورحمة الله ، ويزيد على دعاء الداعي له ؛ والرد أن يقول : السلام عليكم مثلها كما قيل له ؛ أو بقول : وعليكم السلام ، فيدعو للداعي له مثل الذي دعا له ( [1] ) .
وقال ابن كثير – رحمه الله : أي : إذا سلم فردوا عليه أفضل مما سلم ، أو ردوا عليه بمثل ما سلم ، فالزيادة مندوبة ، والمماثلة مفروضة .ا.هـ ( [2] ) .
وَكَانَ e يَبْدَأُ مَنْ لَقِيَهُ بِالسّلَامِ وَإِذَا سَلّمَ عَلَيْهِ أَحَدٌ ، رَدّ عَلَيْهِ مِثْلَ تَحِيّتِهِ أَوْ أَفْضَلَ مِنْهَا ، عَلَى الْفَوْرِ مِنْ غَيْرِ تَأْخِيرٍ إلّا لِعُذْرٍ ، مِثْلَ حَالَةِ الصّلَاةِ وَحَالَةِ قَضَاءِ الْحَاجَةِ . وَكَانَ يُسْمِعُ الْمُسْلِمَ رَدّهُ عَلَيْهِ وَلَمْ يَكُنْ يَرُدّ بِيَدِهِ وَلَا رَأْسِهِ وَلَا أُصْبُعِهِ إلّا فِي الصّلَاةِ ، فَإِنّهُ كَانَ يَرُدّ عَلَى مَنْ سَلّمَ عَلَيْهِ إشَارَةً ؛ ثَبَتَ ذَلِكَ عَنْهُ فِي عِدّةِ أَحَادِيثَ ، فالصّحِيحُ عَنْ النّبِيّ e أَنّهُ كَـانَ يُشِيرُ فِي الصّلَاةِ رَوَاهُ أَنَسٌ وَجَابِر وَغَيْرُهُمَا عَنْ النّبِيّ e ( [3] ) .
وفي حديث تحية آدم للملائكة المتقدم : " فَقَالُوا السَّلَام عَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه " وفي رِوَايَة : " فَقَالُوا : وَعَلَيْك السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه ؛ فَزَادُوهُ وَرَحْمَة اللَّه " وفِيهِ مَشْرُوعِيَّة الزِّيَادَة فِي الرَّدِّ عَلَى الِابْتِدَاء ، وَهُوَ مُسْتَحَبّ بِالِاتِّفَاقِ لِوُقُوعِ التَّحِيَّة فِي ذَلِكَ فِي قَوْله تَعَالَى : ] فَحَيُّوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [ فَلَوْ زَادَ الْمُبْتَدِئ ( وَرَحْمَة اللَّه ) اُسْتُحِبَّ أَنْ يُزَاد ( وَبَرَكَاته ) ، لما في ذلك من الأجر .
قال النووي في ( شرح مسلم ) : أَمَّا صِفَة الرَّدّ فَالْأَفْضَل وَالْأَكْمَل أَنْ يَقُول : وَعَلَيْكُمْ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته , فَيَأْتِي بِالْوَاوِ , فَلَوْ حَذَفَهَا جَازَ , وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ , وَلَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى : وَعَلَيْكُمْ السَّلَام , أَوْ عَلَى : عَلَيْكُمْ السَّلَام أَجْزَأَهُ , وَلَوْ اِقْتَصَرَ عَلَى : عَلَيْكُمْ ؛ لَمْ يَجْزِهِ بِلَا خِلَاف , وَلَوْ قَالَ : وَعَلَيْكُمْ بِالْوَاوِ فَفِي إِجْزَائِهِ وَجْهَانِ لِأَصْحَابِنَا . قَالُوا : وَإِذَا قَالَ الْمُبْتَدِي : سَلَام عَلَيْكُمْ , أَوْ السَّلَام عَلَيْكُمْ , فَقَالَ الْمُجِيب مِثْله : سَلَام عَلَيْكُمْ , أَوْ السَّلَام عَلَيْكُمْ , كَانَ جَوَابًا وَأَجْزَأَهُ . قَالَ اللَّه تَعَالَى : ] قَالُوا سَلَامًا قَالَ سَلَامٌ [ . وَلَكِنْ بِالْأَلْفِ وَاللَّام أَفْضَل .ا.هـ .
وفي قول الملائكة : " وَعَلَيْك السَّلَام "دليل على أنه يَكْفِي الرَّدّ بِلَفْظِ الْإِفْرَاد إذا كان المسلِّم واحدًا . وفي حديث إسلام أبي ذر في صحيح مسلم : فَكُنْت أَوَّل مَنْ حَيَّاهُ بِتَحِيَّةِ الْإِسْلَام , فَقَالَ : " وَعَلَيْك وَرَحْمَة اللَّه " , وَفِيهِ دَلَالَةٌ أَنَّهُ إِذَا قَالَ فِي رَدِّ السَّلَام : وَعَلَيْك ، يُجْزِئُهُ ; لِأَنَّ الْعَطْف يَقْتَضِي كَوْنه جَوَابًا , وَالْمَشْهُور مِنْ أَحْوَاله e وَأَحْوَال السَّلَف رَدّ السَّلَام بِكَمَالِهِ , فَيَقُول : وَعَلَيْكُمْ السَّلَام وَرَحْمَة اللَّه أَوْ رَحْمَته وَبَرَكَاته .
وفي حديث المسيء صلاته من رواية الترمذي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ : دَخَلَ رَجُلٌ الْمَسْجِدَ وَرَسُولُ اللَّهِ e جَالِسٌ فِي نَاحِيَةِ الْمَسْجِدِ فَصَلَّى ثُمَّ جَاءَ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " وَعَلَيْكَ ، ارْجِعْ فَصَلِّ .. " الحديث ، وَفِي رِوَايَةٍ لِلشَّيْخَيْنِ : " وَعَلَيْك السَّلَامُ " وَفِيهِ أَنَّ السُّنَّةَ فِي رَدِّ السَّلَامِ أَنْ يَقُولَ وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ ، بِالْوَاوِ .

[1] - انظر تفسير الطبري عند الآية ( 86 ) من سورة النساء .

[2] - انظر تفسير ابن كثير عند الآية ( 86 ) من سورة النساء .

[3] - انظر زاد المعاد : 2 / 383 ، وسيأتي الحديث عن التسليم بالإشارة حال الصلاة بإذن الله تعالى .
 
وهَلْ تُشْرَع الزِّيَادَة فِي الرَّدِّ عَلَى " وَبَرَكَاته " ؟
روى ابن جرير عن سلمان قال : جاء رجل إلى النبي e فقال : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ ، فقال : " وَعَلَيْكُمْ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ " ثم جاء آخر فقال : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللهِ ، فقال له رسول الله e : " وَعَلَيْكَ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ " ثم جاء آخر فقال : السَّلَامُ عَلَيْكَ يَا رَسُولَ اللهِ وَرَحْمَةُ اللهِ وَبَرَكَاتُهُ ، فقال له : " وَعَلَيْكَ " فقال له الرجل : يا نبي الله بأبي أنت وأمي أتاك فلان وفلان فسلما عليك فرددت عليهما أكثر مما رددت علي ؟ فقال : " إِنَّكَ لَمْ تَدَعْ لَنَا شَيئًا ؛ قَالَ اللهَ تَعَالَى : ] وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [ فَرَدَدْنَاهَا عَلَيْكَ " ( [1] ) . قال ابن كثير - رحمه الله : في هذا الحديث دلالة على أنه لا زيادة في السلام على هذه الصفة : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ، إذ لو شرع أكثر من ذلك لزاده رسول الله e .ا.هـ . وروى الطبراني في ( الأوسط ) عن عائشة - رضي الله عنها - أن رسول الله e قال لها : " يا عائشة ، هذا جبريل يقرأ عليك السلام " فقلت : وعليه السلام ورحمة الله وبركاته ، فذهبت تزيد ، فقال النبي e : " إلى هذا انتهى السلام " فقال : ] رَحْمَتُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ [ ( [2] ) .
وَلكنْ أَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي ( الْأَدَب الْمُفْرَد ) أن اِبْنَ عُمَر كان يَزِيد إِذَا رَدَّ السَّلَام : وَطِيب صَلَوَاته ؛ لكن إسناده ضعيف ، وَمِنْ طَرِيق زَيْد بْن ثَابِت أَنَّهُ كَتَبَ إِلَى مُعَاوِيَة : السَّلَام عَلَيْكُمْ يَا أَمِير الْمُؤْمِنِينَ وَرَحْمَة اللَّه وَبَرَكَاته وَمَغْفِرَته وَطِيب صَلَوَاته " وهذا صحيح الإسناد ( [3] ) . وَنَقَلَ اِبْن دَقِيق الْعِيد عَنْ أَبِي الْوَلِيد بْن رُشْد أَنَّهُ يُؤْخَذ مِنْ قَوْله تَعَالَى : ] فَحَيُّوا بِأَحْسَن مِنْهَا [ الْجَوَاز فِي الزِّيَادَة عَلَى الْبَرَكَة إِذَا اِنْتَهَى إِلَيْهَا الْمُبْتَدِئ . ذكره ابن حجر في ( الفتح ) ثم أورد الأحاديث التي فيها الزيادة على ( وبركاته ) وضعفها ، ثم قال : وَهَذِهِ الْأَحَادِيث الضَّعِيفَة إِذَا اِنْضَمَّتْ قَوِيَ مَا اِجْتَمَعَتْ عَلَيْهِ مِنْ مَشْرُوعِيَّة الزِّيَادَة عَلَى وَبَرَكَاته .ا.هـ ( [4] ) . قلت : الاقتصار على السنة أولى ، وفي قول : ( السلام عليكم ورحمة الله وبركاته ) – كما قال الألوسي - رحمه الله : انتظام لجميع فنون المطالب الّتي هي السّلامة عن المضارّ ، ونيل المنافع ودوامها ونماؤها. ا.هـ ، ويدخل فيها - بالتأمل - كل ما يمكن أن يضاف بعدها .
فإن زاد على ( وبركاته ) على أنها دعاء فلا حرج ، وما قاله ابن رشد وابن حجر من جواز الزيادة متجه ، لكن ليس على الدوام ، حتى لا تترك السنة ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - ابن جرير : 5 / 120 ، ورواه ابن أبي حاتم ( 5726 ) معلقا ، ورواه الطبراني في الكبير : 6 / 246 ( 6114 ) ، والبغدادي في تاريخه : 14 / 44 ، وحسنه السيوطي في الدر المنثور : 2 / 605 . وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 33 : وفيه هشام بن لاحق ، قواه النسائي ، وترك أحمد حديثه ، وبقية رجاله رجال الصحيح .ا.هـ . وعزاه السيوطي في الدر المنثور لأحمد في الزهد .

[2] - الطبراني في الأوسط ( 782 ) ، وقال الهيثمي في المجمع : 8 / 24 : قلت : هو في الصحيح باختصار رواه الطبراني في الأوسط ورجاله رجال الصحيح .ا.هـ .

[3] - الأدب المفرد ( 1001 ) .

[4] - انظر فتح الباري : 11 / 6 .
 
البدء في الرد بـ ( مرحبا ) تأنيسًا للقادم
روى النسائي عَنْ عِصَامِ بْنِ بَشِيرٍ قَالَ :حَدَّثَنِي أَبِي : أَنَّبَئنِي الْحَارِثِ بْن ِكَعْبٍ وَفَّدُوهُ إِلَى رَسُولِ اللهِ e ، قَـالَ : فَدَخَلْتُ عَلَى النَّبِيِّ e ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " مَرْحَبًا ، وَعَلَيْكَ السَّلاَمُ ، مِنْ أَيْنَ أَقْبَلْتَ ؟ " فَقُلْتُ : يَا رَسُولَ اللهِ ، بِأَبِي أَنْت َوَأُمِّي ، بَنُوالْحَارِثِ وَفَّدُونِي إِلَيْكَ بِالإِسْلاَمِ ، فَقَالَ : " مَرْحَبًا بِكَ ، مَا اسْمُكَ ؟ " قُلْتُ : اسْمِي أَكْبَرُ ، قَـالَ : " بَلْ أَنْتَ بَشِيرٌ " فَسَمَّاهُ النَّبِيُّ e بَشِيرًا ( [1] ) .
قوله e : " مَرْحَبًا " أَيْ : صَادَفْت رُحْبًا ، بِضَمِّ الرَّاء ، أَيْ : سَعَةً ، وَفِيهِ دَلِيل عَلَى اِسْتِحْبَاب تَأْنِيس الْقَادِم ، وَقَدْ تَكَرَّرَ ذَلِكَ مِنْ النَّبِيّ e ، فَفِي حَدِيث أُمّ هَانِئ رضي الله عنها : " مَرْحَبًا بِأُمِّ هَانِئ " وَفِي قِصَّة عِكْرِمَة بْن أَبِي جَهْل رضي الله عنه : " مَرْحَبًا بِالرَّاكِبِ الْمُهَاجِر" ، وَفِي قِصَّة فَاطِمَة رضي الله عنها : "مَرْحَبًا بِابْنَتِي" ( [2] ) .
لكن ليعلم أن مرحبًا وحدها لا تكون ردًّا ، فإن قالها أولا لابد وأن يتبعها بالسلام ، كما في حديث النبي e .

[1] - النسائي في الكبرى ( 10145 ) ، وفي (عمل اليوم والليلة ) رقم ( 313 ) ، ورواه الحاكم ( 7725 ) وصححه .

[2] - انظر فتح الباري : 1 / 131 ، باختصار .
 
رد السلام بالإشارة في الصلاة
روى مسلم عَنْ جَابِرٍ t أَنَّهُ قَالَ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ e بَعَثَنِي لِحَاجَةٍ ، ثُمَّ أَدْرَكْتُهُ وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ؛ فَأَشَارَ إِلَيَّ ، فَلَمَّا فَرَغَ دَعَانِي فَقَالَ : " إِنَّكَ سَلَّمْتَ آنِفًا وَأَنَا أُصَلِّي " ، وفي رواية : كُنَّا مَعَ النَّبِيِّ e فَبَعَثَنِي فِي حَاجَةٍ ، فَرَجَعْتُ وَهُوَ يُصَلِّي عَلَى رَاحِلَتِهِ وَوَجْهُهُ عَلَى غَيْرِ الْقِبْلَةِ ، فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيَّ ؛ فَلَمَّا انْصَرَفَ قَـالَ : " إِنَّهُ لَمْ يَمْنَعْنِي أَنْ أَرُدَّ عَلَيْكَ إِلَّا أَنِّي كُنْتُ أُصَلِّي " ( [1] ) . قال ابن حجر في ( الفتح ) : فِي هَذَا اَلْحَدِيثِ مِنْ اَلْفَوَائِدِ : كَرَاهَة اِبْتِدَاء اَلسَّلَام عَلَى اَلْمُصَلِّي ، لِكَوْنِهِ رُبَّمَا شُغِلَ بِذَلِكَ فَكُرِهَ ؛ وَاسْتَدْعَى مِنْهُ اَلرَّدّ وَهُوَ مَمْنُوعٌ مِنْهُ , وَبِذَلِكَ قَالَ جَابِر رَاوِي اَلْحَدِيثِ , وَكَرِهَهُ عَطَاء وَالشَّعْبِيّ وَمَالِك فِي رِوَايَة ابْن وَهْب , وَقَالَ فِي اَلْمُدَوَّنَةِ : لَا يُكْرَهُ , وَبِهِ قَالَ أَحْمَد وَالْجُمْهُور وَقَالُوا : يَرُدُّ إِذَا فَرَغَ مِنْ اَلصَّلَاةِ - أَوْ وَهُوَ فِيهَا - بِالْإِشَارَةِ .ا.هـ .
وروى أهل السنن عَنْ نَابِلٍ صَاحِبِ الْعَبَاءِ عَنْ ابْنِ عُمَرَ عَنْ صُهَيْبٍ صَاحِبِ رَسُولِ اللَّهِ e قَالَ : مَرَرْتُ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e وَهُوَ يُصَلِّي فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ؛ فَـرَدَّ عَلَيَّ إِشَارَةً ؛ وَلَا أَعْلَمُ إِلَّا أَنَّهُ قَالَ بِإِصْبَعِهِ ( [2] ) .
وروى أبو داود عن ابْنِ عُمَرَ t قَـالَ : خَرَجَ رَسُولُ اللَّهِ e إِلَى قُبَاءَ يُصَلِّي فِيهِ ، قَالَ : فَجَاءَتْهُ الْأَنْصَارُ فَسَلَّمُوا عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ، قَالَ : فَقُلْتُ لِبِلَالٍ : كَيْفَ رَأَيْتَ رَسُولَ اللَّهِ e يَرُدُّ عَلَيْهِمْ حِينَ كَانُوا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ وَهُوَ يُصَلِّي ؟ قَالَ : يَقُولُ هَكَذَا ، وَبَسَطَ كَفَّهُ ؛ وَبَسَطَ جَعْفَرُ بْنُ عَوْنٍ ( أحد الرواة ) كَفَّهُ وَجَعَلَ بَطْنَهُ أَسْفَلَ ، وَجَعَلَ ظَهْرَهُ إِلَى فَوْقٍ ( [3] ) .
قال الأعظمي في ( عون المعبود ) : اعْلَمْ أَنَّهُ وَرَدَ الْإِشَارَة لِرَدِّ السَّلَام فِي هَذَا الْحَدِيث بِجَمِيعِ الْكَفّ , وَفِي حَدِيث جَابِر بِالْيَدِ , وَفِي حَدِيث اِبْن عُمَر عَنْ صُهَيْب بِالْإِصْبَعِ , وَفِي حَدِيث اِبْن مَسْعُود عِنْد الْبَيْهَقِيِّ بِلَفْظِ فَأَوْمَأَ بِرَأْسِهِ , وَفِي رِوَايَة لَهُ : فَقَالَ بِرَأْسِهِ ، يَعْنِي الرَّدّ , وَيُجْمَع بَيْن هَذِهِ الرِّوَايَات بِأَنَّهُ e فَعَلَ هَذَا مَرَّة وَهَذَا مَرَّة ؛ فَيَكُون جَمِيع ذَلِكَ جَائِزًا ، وَاَللَّه تَعَالَى أَعْلَم .ا.هـ .

[1] - مسلم ( 540 ) ، وروى نحو الرواية الثانية البخاري ( 1217 ) .

[2] - أبو داود ( 925 ) ، الترمذي ( 367 ) ، النسائي ( 1186 ) ، وابن ماجة ( 1017 ) .

[3] - أبو داود ( 927 ) .
 
الأمر بإِفْشَاء السَّلَام

الْإِفْشَاء الْإِظْهَار ، وَالْمُرَاد نَشْر السَّلَام بَيْنَ النَّاس لِيُحْيُوا سُنَّته ؛ وكانت العرب في الجاهلية يُحَيُّون بعضهم بعضًا بأَن يقول أَحدهم لصاحبه : أَنْعِمْ صباحًا ، وأَبَيْتَ اللَّعْنَ ، ويقولون : سَلامٌ عليكم ، فكأَنه علامة المُسالَمَةِ ، وأَنه لا حَرْب هنالك ، ثم جاء اللَّه بالإِسلام فقُصروا على السلام وأُمروا بإِفْشائِهِ .
ولا يشك عاقل في أن إفشاء السلام من عوامل التآلف بين الناس ، وإشاعة الأمن والمحبة فيما بينهم ، ولذلك حث النبي e في أحاديث كثيرة على إفشاء السلام ونشره ، منها :
1 – ما رواه أحمد ومسلم وأهل السنن إلا النسائي عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e :"لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا ، وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا ، أَوَلَا أَدُلُّكُمْ عَلَى شَيْءٍ إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ أَفْشُوا السَّلَامَ بَيْنَكُمْ " ، وفي رواية : " وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ لَا تَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى تُؤْمِنُوا .. " ( [1] ) .قال النووي - رحمه الله – في ( شرح مسلم ) : قَوْله e : " وَلَا تُؤْمِنُوا حَتَّى تَحَابُّوا " مَعْنَاهُ لَا يَكْمُل إِيمَانكُمْ وَلَا يَصْلُح حَالُكُمْ فِي الْإِيمَان إِلَّا بِالتَّحَابِّ ؛ وَأَمَّا قَوْله : " أَفْشُوا السَّلَام بَيْنكُمْ " ففِيهِ الْحَثُّ الْعَظِيمُ عَلَى إِفْشَاء السَّلَام وَبَذْله لِلْمُسْلِمِينَ كُلِّهِمْ ; مَنْ عَرَفْت , وَمَنْ لَمْ تَعْرِف , وَالسَّلَامُ أَوَّل أَسْبَاب التَّأَلُّف , وَمِفْتَاح اِسْتِجْلَاب الْمَوَدَّة ؛ وَفِي إِفْشَائِهِ تَمَكَّنُ أُلْفَة الْمُسْلِمِينَ بَعْضهمْ لِبَعْضِ , وَإِظْهَار شِعَارهمْ الْمُمَيِّز لَهُمْ مِنْ غَيْرهمْ مِنْ أَهْل الْمِلَل , مَعَ مَا فِيهِ مِنْ رِيَاضَة النَّفْس , وَلُزُوم التَّوَاضُع , وَإِعْظَام حُرُمَات الْمُسْلِمِينَ ؛ وَقَدْ ذَكَرَ الْبُخَارِيُّ رَحِمَهُ اللَّه فِي صَحِيحه عَنْ عَمَّار بْن يَاسِر t أَنَّهُ قَالَ : ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَان : الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسك , وَبَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ , وَالْإِنْفَاق مِنْ الْإِقْتَار ( [2] ) ؛ وَبَذْل السَّلَام لِلْعَالَمِ , وَالسَّلَام عَلَى مَنْ عَرَفْت وَمَنْ لَمْ تَعْرِف , وَإِفْشَاء السَّلَام كُلّهَا بِمَعْنَى وَاحِد . وَفِيهَا لَطِيفَة أُخْرَى وَهِيَ أَنَّهَا تَتَضَمَّنُ رَفْع التَّقَاطُع وَالتَّهَاجُر وَالشَّحْنَاء وَفَسَاد ذَات الْبَيْن الَّتِي هِيَ الْحَالِقَة , وَأَنَّ سَلَامه لِلَّهِ لَا يَتْبَع فِيهِ هَوَاهُ , وَلَا يَخُصّ أَصْحَابه وَأَحْبَابه بِهِ . وَاَللَّه سُبْحَانه وَتَعَالَى أَعْلَم بِالصَّوَابِ .ا.هـ ( [3] ) . وقَالَ اِبْن الْعَرَبِيّ : فِيهِ أَنَّ مِنْ فَوَائِد إِفْشَاء السَّلَام حُصُول الْمَحَبَّة بَيْنَ الْمُتَسَالِمَيْنِ ، وَكَانَ ذَلِكَ لِمَا فِيهِ مِنْ اِئْتِلَاف الْكَلِمَة لِتَعُمّ الْمَصْلَحَة بِوُقُوعِ الْمُعَاوَنَة عَلَى إِقَامَة شَرَائِع الدِّين وَإِخْزَاء الْكَافِرِينَ ، وَهِيَ كَلِمَة إِذَا سُمِعَتْ أَخْلَصَتْ الْقَلْب الْوَاعِي لَهَا عَنْ النُّفُور إِلَى الْإِقْبَال عَلَى قَائِلهَا .ا.هـ ( [4] ) .

2 – وما رواه الشيخان عَنْ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا - قَالَ : أَمَرَنَا رَسُولُ اللَّهِ e بِسَبْعٍ وَنَهَانَا ، عَنْ سَبْعٍ ؛ أَمَرَنَا بِعِيَادَةِ الْمَرِيضِ ، وَاتِّبَاعِ الْجَنَازَةِ ، وَتَشْمِيتِ الْعَاطِسِ ، وَإِبْرَارِ الْقَسَمِ أَوْ الْمُقْسِمِ ، وَنَصْرِ الْمَظْلُومِ ، وَإِجَابَةِ الدَّاعِي ، وَإِفْشَاءِ السَّلَامِ ؛ وَنَهَانَا عَنْ خَوَاتِيمَ أَوْ عَنْ تَخَتُّمٍ بِالذَّهَبِ ، وَعَنْ شُرْبٍ بِالْفِضَّةِ ، وَعَنْ الْمَيَاثِرِ[ أغشية للسروج تتخذ من حرير ] ، وَعَنْ الْقَسِّيِّ [ ثياب مخططة بالحرير ]، وَعَنْ لُبْسِ الْحَرِيرِ وَالْإِسْتَبْرَقِ وَالدِّيبَاجِ ( [5] ) . وَالْمُرَاد مِنْهُ هُنَا إِفْشَاء السَّلَام ، وَإِفْشَاء السَّلَام اِبْتِدَاء يَسْتَلْزِم إِفْشَاءَهُ جَوَابًا .

3 – وما رواه الترمذي وابن ماجة عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ سَلَامٍ t قَالَ : لَمَّا قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ e الْمَدِينَةَ انْجَفَلَ النَّاسُ إِلَيْهِ ، وَقِيلَ : قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ e ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ e ، قَدِمَ رَسُولُ اللَّهِ e ، فَجِئْتُ فِي النَّاسِ لِأَنْظُرَ إِلَيْهِ ، فَلَمَّا اسْتَثْبَتُّ وَجْهَ رَسُولِ اللَّهِ e عَرَفْتُ أَنَّ وَجْهَهُ لَيْسَ بِوَجْهِ كَذَّابٍ ، وَكَانَ أَوَّلُ شَيْءٍ تَكَلَّمَ بِهِ أَنْ قَالَ : " أَيُّهَا النَّاسُ ! أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَصَلُّوا وَالنَّاسُ نِيَامٌ ، تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ بِسَلَامٍ " ( [6] ) .

4 – وما رواه أحمد وابن ماجة عَنْ ابْنِ عُمَرَ – رضي الله عنهما - كَانَ يَقُولُ : إِنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " أَفْشُوا السَّلَامَ ، وَأَطْعِمُوا الطَّعَامَ ، وَكُونُوا إِخْوَانًا كَمَا أَمَرَكُمْ اللَّهُ U " ( [7] ) .

5 – ما رواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) وابن حبان عَنِ الْبَرَاءِ بْنِ عَازِبٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " أَفْشُوا السَّلَامَ تَسْلَمُوا " ( [8] ) .
وَالْأَحَادِيث فِي إِفْشَاء السَّلَام كَثِيرَة جدا ؛ وَأَخْرَجَ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن عُمَر قَالَ : إِنْ كُنْت لَأَخْرُج إِلَى السُّوق وَمَا لِي حَاجَة إِلَّا أَنْ أُسَلِّم وَيُسَلَّم عَلَيَّ ( [9] ) ؛ وَروىمَالِك ومن طريقه الْبُخَارِيّ فِي ( الْأَدَب الْمُفْرَد ) أَنَّ الطُّفَيْلَ بْنَ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ كَانَ يَأْتِي عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ t فَيَغْدُو مَعَهُ إِلَى السُّوقِ ، قَالَ : فَإِذَا غَدَوْنَا إِلَى السُّوقِ ، لَمْ يَمُرَّ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ عَلَى سَقَاطٍ وَلَا صَاحِبِ بِيعَةٍ وَلَا مِسْكِينٍ وَلَا أَحَدٍ إِلَّا سَلَّمَ عَلَيْهِ ؛ قَالَ الطُّفَيْلُ : فَجِئْتُ عَبْدَ اللَّهِ بْنَ عُمَرَ يَوْمًا فَاسْتَتْبَعَنِي إِلَى السُّوقِ ، فَقُلْتُ لَهُ : وَمَا تَصْنَعُ فِي السُّوقِ ، وَأَنْتَ لَا تَقِفُ عَلَى الْبَيِّعِ ، وَلَا تَسْأَلُ عَنْ السِّلَعِ وَلَا تَسُومُ بِهَا ، وَلَا تَجْلِسُ فِي مَجَالِسِ السُّوقِ ؟! قَالَ : وَأَقُولُ اجْلِسْ بِنَا هَاهُنَا نَتَحَدَّثُ ؛ قَالَ : فَقَالَ لِي عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عُمَرَ : يَا أَبَا بَطْنٍ - وَكَانَ الطُّفَيْلُ ذَا بَطْنٍ - إِنَّمَا نَغْدُو مِنْ أَجْلِ السَّلَامِ ، نُسَلِّمُ عَلَى مَنْ لَقِيَنَا ( [10] ) .

[1] - أحمد : 2 / 391 ، 442 ، 477 ، 495 ، 512 ، والبخاري في الأدب ( 980 ) ، ومسلم ( 54 ) ، وأبو داود ( 5193 ) ، والترمذي ( 2688 ) ، وابن ماجة ( 68 ، 3692 ) .
[2]- انظر كتاب ( الإيمان ) بَاب ( إِفْشَاءُ السَّلَامِ مِنْ الْإِسْلَامِ ) وَقَالَ عَمَّارٌ : ثَلَاثٌ مَنْ جَمَعَهُنَّ فَقَدْ جَمَعَ الْإِيمَانَ الْإِنْصَافُ مِنْ نَفْسِكَ وَبَذْلُ السَّلَامِ لِلْعَالَمِ وَالْإِنْفَاقُ مِنْ الْإِقْتَارِ . ووصله ابن أبي شيبة ( 30440 ) ، والبيهقي موقوفا في شعب الإيمان ( 49 ) .
[3]- انظر شرح مسلم : 2 / 36 .
[4] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 18 .
[5] - البخاري ( 5175 ) ، ومسلم ( 2066 ) .
[6] - الترمذي ( 2485 ) وصححه ، وابن ماجة ( 1334 ) .
[7] - أحمد : 2 / ، وابن ماجة ( 3252 ) .
[8] - أحمد : 4 / 286 ، والبخاري في الأدب ( 787 ، 979 ، 1266 ) ، وابن حبان ( 491 ) .
[9] - ابن أبي شيبة ( 25746 ) ، والبيهقي في الشعب ( 8794 ) .
[10] - موطأ مالك : 2 / 961 ( 1726 ) ، والأدب المفرد ( 1006 ) ،
 
مسائل تتعلق بإفشاء السلام
1 - اسْتَدَلَّ بِالْأَمْرِ بِإِفْشَاءِ السَّلَام عَلَى أَنَّهُ لَا يَكْفِي السَّلَام سِرًّا بَلْ يُشْتَرَط الْجَهْر ، وَأَقَلّه أَنْ يَسْمَع فِي الِابْتِدَاء وَفِي الْجَوَاب ، وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي ( الْأَدَب الْمُفْرَد ) عَنْ اِبْن عُمَر : إِذَا سَلَّمْت فَأَسْمِعْ ، فَإِنَّهَا تَحِيَّة مِنْ عِنْدَ اللَّه مباركة طيبة ( [1] ) .
قَالَ النَّوَوِيّ - رحمه الله في ( الأذكار ) : أَقَلُّهُ أَنْ يَرْفَع صَوْته بِحَيْثُ يُسْمِع الْمُسَلَّم عَلَيْهِ ، فَإِنْ لَمْ يُسْمِعهُ لَمْ يَكُنْ آتِيًا بِالسُّنَّةِ ؛ وَيُسْتَحَبّ أَنْ يَرْفَع صَوْته بِقَدْرِ مَا يَتَحَقَّق أَنَّهُ سَمِعَهُ ؛ وَيُسْتَثْنَى مِنْ رَفْع الصَّوْت بِالسَّلَامِ مَا إِذَا دَخَلَ عَلَى مَكَان فِيهِ أَيْقَاظ وَنِيَام ، فَالسُّنَّة فِيهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الْمِقْدَاد t قَالَ : كَانَ النَّبِيّ e يَجِيء مِنْ اللَّيْل فَيُسَلِّم تَسْلِيمًا لَا يُوقِظ نَائِمًا وَيُسْمِع الْيَقْظَان ( [2] ) . ا.هـ مختصرا .
وَلَا تَكْفِي الْإِشَارَة بِالْيَدِ وَنَحْوه ؛ وَقَدْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ جَابِر رَفَعَهُ " لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيم الْيَهُود ، فَإِنَّ تَسْلِيمهمْ بِالرُّءُوسِ وَالْأَكُفّ " ( [3] ) ، وَيُسْتَثْنَى مِنْ ذَلِكَ حَالَة الصَّلَاة لما تقدم من أَنَّهُ e رَدَّ السَّلَام وَهُوَ يُصَلِّي إِشَارَة ؛ وَكَذَا مَنْ كَانَ بَعِيدًا بِحَيْثُ لَا يَسْمَع التَّسْلِيم ، يَجُوز السَّلَام عَلَيْهِ إِشَارَة ، وَيَتَلَفَّظ مَعَ ذَلِكَ بِالسَّلَامِ ؛ وَأَخْرَجَ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ عَطَاء قَالَ : يُكْرَه السَّلَام بِالْيَدِ ، وَلَا يُكْرَه بِالرَّأْسِ .
2 - وَيَدْخُل فِي عُمُوم إِفْشَاء السَّلَام ، السَّلَام عَلَى النَّفْس لِمَنْ دَخَلَ مَكَانًا لَيْسَ فِيهِ أَحَد ، لِقَوْلِهِ تَعَالَى : ] فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتًا فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسكُمْ [ الْآيَة ، وَأَخْرَجَ ابْن أَبِي شَيْبَة عَنْ اِبْن عُمَر t في الرجل يدخل في البيت أو في المسجد ليس فيه أحد ؛ قال : يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ ؛ وروى الحاكم عن ابن عباس - رضي الله عنهما - في قوله U : ] فَإِذَا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلَى أَنْفُسِكُمْ [( النور : 61 ) ، قال : هو المسجد إذا دخلته ، فقل : السلام علينا وعلى عباد الله الصالحين ( [4] ) .
فَيُسْتَحَبّ إِذَا لَمْ يَكُنْ أَحَد فِي الْبَيْت أَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ .
3 - وَيَدْخُل فِي إفشاء السلام مَنْ مَرَّ عَلَى مَنْ ظَنَّ أَنَّهُ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ لَا يَرُدّ عَلَيْهِ ، فَإِنَّهُ يُشْرَع لَهُ السَّلَام وَلَا يَتْرُكهُ لِهَذَا الظَّنّ ، لِأَنَّهُ قَدْ يُخْطِئ ؛ قَالَ النَّوَوِيّ : وَأَمَّا قَوْل مَنْ لَا تَحْقِيق عِنْدَه أَنَّ ذَلِكَ يَكُون سَبَبًا لِتَأْثِيمِ الْآخَر فَهُوَ غَبَاوَة ؛ لِأَنَّ الْمَأْمُورَات الشَّرْعِيَّة لَا تُتْرَك بِمِثْلِ هَذَا ، وَلَوْ أَعْمَلْنَا هَذَا لَبَطَلَ إِنْكَار كَثِير مِنْ الْمُنْكَرَات ... قَالَ : وَيَنْبَغِي لِمَنْ وَقَعَ لَهُ ذَلِكَ أَنْ يَقُول لَهُ بِعِبَارَةٍ لَطِيفَة : رَدُّ السَّلَام وَاجِبٌ ، فَيَنْبَغِي أَنْ تَرُدَّ لِيَسْقُط عَنْك الْفَرْض ، وَيَنْبَغِي إِذَا تَمَادَى عَلَى التَّرْك أَنْ يُحْلِلهُ مِنْ ذَلِكَ لِأَنَّهُ حَقُّ آدَمِيّ، وَرَجَّحَ اِبْن دَقِيق الْعِيد فِي " شَرْح الْإِلْمَام " الْمَقَالَة الَّتِي زَيَّفَهَا النَّوَوِيّ ، بِأَنَّ مَفْسَدَة تَوْرِيط الْمُسْلِم فِي الْمَعْصِيَة أَشَدُّ مِنْ تَرْك مَصْلَحَة السَّلَام عَلَيْهِ ، وَلَا سِيَّمَا وَامْتِثَال الْإِفْشَاء قَدْ حَصَلَ مَعَ غَيْره ( [5] ) .

[1] - الأدب المفرد ( 1005 ) وصَحِحه ابن حجر في الفتح .
[2] - مسلم ( 2055 ) .
[3] - رواه النسائي في الكبرى ( 10172 ) ، واليوم والليلة ( 340 ) .
[4] - ابن أبي شيبة ( 25835 ) ، وحسنه الحافظ في الفتح ؛ ورواه الحاكم ( 3514 ) وصححه عن ابن عباس .
[5] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 19 ، 20 ، وانظر المجموع للنووي : 4 / 614 .
 
ما ورد في فضل السلام

ورد في فضل السلام أحاديث كثيرة ، قد تقدم بعضها ، فنشير هنا إلى ما دلت عليه من الفضل ، ثم نضيف إليها أخر :
1 – السلام طريق المحبة بين المؤمنين الذي هو طريق الجنة ؛ وتقدم حديث أبي هريرة t عند مسلم ، وحديث عبد الله بن سلام t .
2 – السلام لكل فقرة منه عشر حسنات ، فمن قال : ( السلام عليكم ) فله عشر ، ومن زاد ( ورحمة الله ) له عشرون ، ومن زاد ( وبركاته ) فله ثلاثون ، وتقدم حديث عمران بن حصين t .
3 – السلام دعاء بالسلامة من الآفات ، وتطمين بين المسَلِّمين ، ومر حديث البراء t .
4 – السلام تحية أهل الجنة ، وقد مربك بيان ذلك .
5 - السلام اسم من أسماء الله تعالى ، لسَلامته من النقص والعيب والفناء ; وتقدم كلام ابن القيم رحمه الله في معنى ذلك .
فالإكثار من السلام إكثار من ذكر الله تعالى ؛ وفي حَدِيث ابن مسعود في التَّشَهُّد : " فَإِنَّ اللَّه هُوَ السَّلَام " ( [1] ) وَكَذَا ثَبَتَ فِي الْقُرْآن فِي أَسْمَاء اللَّه : ] السَّلَام الْمُؤْمِن الْمُهَيْمِن [ ( الحشر : 23 ) .
وبوب البخاري ( بَاب السَّلَام اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى ) ؛ وعن أبى هريرة t أن رسول الله e قال : " إِنَّ السَّلامَ اسْمٌ مِنْ أَسْمَاءِ اللَّهِ ، فَأَفْشُوهُ بَيْنَكُمْ " ( [2] ) ؛ وعن ابن مسعود t عن النبي e أنه قال : " إن السلام اسم من أسماء الله وضعه في الأرض فأفشوه بينكم ، فإن الرجل المسلم إذا مر بقوم فسلم عليهم فردوا عليه ، كان له عليهم فضل درجة بتذكيره إياهم السلام ، فإن لم يردوا عليه رد عليه من هو خير منهم وأطيب " ( [3] ) .
فالاختيار في التسليم والأدب فيه – كما قال ابن بطال - تقديم اسم الله تعالى على اسم المخلوق ( أي يقول : السلام عليكم ) ؛ فإن فعل فاعل غير ذلك ، وقدم اسم المسلَّم عليه على اسم الله تعالى فلم يأت محرمًا ، ولا حرج عليه لثبوت ذلك عن النبي u .ا.هـ .

6 – السلام من خير أعمال الإسلام ؛ فقد روى الجماعة إلا الترمذي عَنْ عَبْدِ اللهِ بْنِ عَمْرٍو t أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ رَسُولَ اللهِ e : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَمَنْ لَمْ تَعْرِفْ " ( [4] ) .

[1] - البخاري ( 831 ) ، ومسلم ( 402 ) .

[2] - رواه عبد الرزاق ( 20117 ) ، والطبراني في الأوسط ( 3008 ) ، وفي إسناده بشر بن رافع ، وهو ضعيف ؛ وله شاهد عن ابن مسعود موقوفا عند البخاري في ( الأدب المفرد ) ( 1039 ) ، والبيهقي في شعب الإيمان ( 8779 ) ، ورواه الطبراني في الكبير مرفوعا ؛ وقال المنذري في ( الترغيب والترهيب ) : رواه البزار والطبراني وأحد إسنادي البزار جيد قوي ا.هـ . ويشهد له حديث التشهد أيضا ، فالحديث صحيح بشواهده ، وصححه الألباني في صحيح الأدب المفرد .

[3] - رواه البزار ( 1771 ) والطبراني في الكبير : 10 / 182 ( 10391 ) ، وجود المنذري في ( الترغيب والترهيب ) أحد إسنادي البزار ؛ وقال الهيثمي في ( مجمع الزوائد : 8 / 63 ) : رواه البزار بإسنادين والطبراني بأسانيد ، وأحدهما رجاله رجال الصحيح عند البزار والطبراني ا.هـ . وجوَّد إسناده الحافظ ابن حجر في ( تلخيص الحبير : 4 / 94 ) ، وصححه الألباني في صحيح الجامع ( 3697 ) .

[4] - أحمد : 2 / 169، والبخاري ( 12 ، 28 ، 6236 ) ، ومسلم ( 39 ) ، وأبو داود ( 5194 ) ، والنسائي ( 5000 ) ، وابن ماجة ( 3253 ) .
 
أبخل الناس الذي يبخل بالسلام
مع الأمر بإفشاء السلام فقد ورد ذم من يبخل بالسلام بوصفه ( أبخل الناس ) ، فقد روى أحمد وعبد بن حميد والحاكم عَنْ جَابِرٍ t أَنَّ رَجُلًا أَتَى النَّبِيَّ e فَقَالَ : إِنَّ لِفُلَانٍ فِي حَائِطِي عَذْقًا ، وَإِنَّهُ قَدْ آذَانِي وَشَقَّ عَلَيَّ مَكَانُ عَذْقِهِ ، فَأَرْسَلَ إِلَيْهِ النَّبِيُّ e فَقَالَ : " بِعْنِي عَذْقَكَ الَّذِي فِي حَائِطِ فُلَانٍ " قَالَ : لَا ، قَالَ : فَهَبْهُ لِي ، قَالَ : " لَا " قَالَ : " فَبِعْنِيهِ بِعَذْقٍ فِي الْجَنَّةِ " قَالَ : " لَا " فَقَالَ النَّبِيُّ e : " مَا رَأَيْتُ الَّذِي هُوَ أَبْخَلُ مِنْكَ إِلَّا الَّذِي يَبْخَلُ بِالسَّلَامِ " ( [1] ) . وروى ابن أبي شيبة والبخاري في ( الأدب ) عن أبي هريرة t قال : إن أبخل الناس الذي يبخل بالسلام ( [2] ) ؛ ورواه ابن أبي شبة عن عمر t ( [3] ) . قال المناوي - رحمه الله : ( أبخل الناس ) أي أمنعهم للفضل وأشحهم بالبذل ؛ ( من بخل بالسلام ) على من لقيه من المؤمنين ممن يعرفهم وممن لا يعرفهم ، فإنه خفيف المؤنة عظيم المثوبة ، فلا يهمله إلا من بخل بالقربات ، وشح بالمثوبات ، وتهاون بمراسم الشريعة ؛ أُطلق عليه اسم البخل لكونه منع ما أمر به الشارع من بذل السلام ، وجعله ( أبخل ) لكون من بخل بالمال معذور في الجملة ، لأنه محبوب للنفوس عديل للروح بحسب الطبع والغريزة ، ففي بذله قهر للنفس ؛ وأما السلام فليس فيه بذل مال ، فمخالف الأمر في بذله لمن لقيه قد بخل بمجرد النطق ، فهو أبخل من كل بخيل( [4] ) .

[1] - أخرجه أحمد : 3 / 328 ، وعبد بن حميد [ المنتخب ( 1037 ) ] ، والحاكم ( 2195) ؛ قال المنذري في ( الترغيب : 3 / 289 ) : رواه أحمد والبزار ؛ وإسناد أحمد لا بأس به .ا.هـ وحسنه الألباني في صحيح الترغيب ، والسلسلة الصحيحة ( 3383 ) .

[2] - ابن أبي شيبة ( 25747 ) ، والأدب المفرد ( 1042 ) .

[3] - ابن أبي شيبة ( 35598 ) .

[4] - فيض القدير : 1 / 556 .
 
حكم السلام

حكم السلام : الاستحباب لإلقائه ، والوجوب لرده ،لقول الله تعالى: ] وَإِذَا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [( النساء : 86 ) ، فرده واجب ، والزيادة فضل ؛فعن الحسن البصري - رحمه الله - قال : السلام تطوع ، والرد فريضة ( [1] ) . قال ابن كثير - رحمه الله : وهذا الذي قاله هو قول العلماء قاطبة : أن الرد واجب على من سلم عليه ، فيأثم إن لم يفعل ، لأنه خالف أمر الله في قوله : ] فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [ .ا.هـ ( [2] ) ؛ قال العلماء : لَا يَسْقُطُ فَرْضُ جَوَابِ السَّلَامِ إلَّا بِالْإِسْمَاعِ كَمَا لَا يَجِبُ إلَّا بِالْإِسْمَاعِ .
فإن كان المسلَّم عليه واحدا تعين عليه الرد ، وإن كانوا جماعة ، كان رد السلام فرض كفاية عليهم ، فإن رد بعضهم سقط الحرج عن الباقين ، وإن لم يرد أحد ، أثموا جميعا . قال العلماء : والأفضل أن يأتي بضمير الجمع وإن كان المسلَّم عليه واحدا فيقول : السلام عليكم ، فإن قال : السلام عليك ، حصل السلام للفرد . والأفضل أن يأتي به كاملا ليأخذ الأجر المترتب عليه فيقول : السلام عليكم ورحمة الله وبركاته . وأقل الرد : وعليكم السلام بإثبات الواو . فإن قال : عليكم السلام ، حصل الرد . وأفضله : وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته .
قال النووي في ( شرح مسلم ) : اعْلَمْ أَنَّ اِبْتِدَاء السَّلَام سُنَّة , وَرَدّه وَاجِب , فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِم جَمَاعَة فَهُوَ سُنَّة كِفَايَة فِي حَقّهمْ , إِذَا سَلَّمَ بَعْضهمْ حَصَلَتْ سُنَّة السَّلَام فِي حَقّ جَمِيعهمْ , فَإِنْ كَانَ الْمُسْلِم عَلَيْهِ وَاحِدًا تَعَيَّنَ عَلَيْهِ الرَّدّ , وَإِنْ كَانُوا جَمَاعَة كَانَ الرَّدّ فَرْض كِفَايَة فِي حَقّهمْ , فَإِذَا رَدّ وَاحِد مِنْهُمْ سَقَطَ الْحَرَج عَنْ الْبَاقِينَ , وَالْأَفْضَل أَنْ يَبْتَدِئ الْجَمِيع بِالسَّلَامِ , وَأَنْ يَرُدّ الْجَمِيع . وَعَنْ أَبِي يُوسُف أَنَّهُ لَا بُدّ أَنْ يَرُدّ الْجَمِيع . وَنَقَلَ اِبْن عَبْد الْبَرّ وَغَيْره إِجْمَاع الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ اِبْتِدَاء السَّلَام سُنَّة , وَأَنَّ رَدَّهُ فَرْض ... قال : وَأَقَلّ السَّلَام اِبْتِدَاء وَرَدًّا أَنْ يُسْمِع صَاحِبه , وَلَا يُجْزِئهُ دُون ذَلِكَ , وَيُشْتَرَط كَوْن الرَّدّ عَلَى الْفَوْر , وَلَوْ أَتَاهُ سَلَامٌ مِنْ غَائِب مَعَ رَسُول أَوْ فِي وَرَقَة وَجَبَ الرَّدّ عَلَى الْفَوْر .ا.هـ . وقَالَ الْحَلِيمِيُّ - رحمه الله : إِنَّمَا كَانَ الرَّدُّ وَاجِبًا ؛ لِأَنَّ السَّلَام مَعْنَاهُ الْأَمَان ، فَإِذَا اِبْتَدَأَ بِهِ الْمُسْلِم أَخَاهُ فَلَمْ يُجِبْهُ فَإِنَّهُ يُتَوَهَّم مِنْهُ الشَّرّ ، فَيَجِب عَلَيْهِ دَفْع ذَلِكَ التَّوَهُّم عَنْهُ .ا.هـ ([3]).

[1] - رواه ابن جرير في تفسيره : 5 / 120 .

[2] - انظر تفسير ابن كثير عند الآية ( 86 ) من سورة النساء .

[3] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 7 .
 
هل يجزئ في الرد غير السلام ؟
شاع عن البعض إذا سلَّم عليه أحد فقال : السلام عليكم ، رد : مرحبًا وأهلا أو نحو ذلك .. فهل هذا يجزئ عن رد السلام ؟ قال ابن حجر - رحمه الله : اتَّفَقُوا عَلَى أَنَّ مَنْ سَلَّمَ لَمْ يُجْزِئ فِي جَوَابه إِلَّا السَّلَام ، وَلَا يُجْزِئ فِي جَوَابه صُبِّحْت بِالْخَيْرِ أَوْ بِالسَّعَادَةِ وَنَحْو ذَلِكَ .. قال : وَأَقَلُّ مَا يَحْصُل بِهِ وُجُوب الرَّدّ أَنْ يَسْمَع الْمُبْتَدِئ ؛ وَحِينَئِذٍ يَسْتَحِقّ الْجَوَاب ، وَلَا يَكْفِي الرَّدّ بِالْإِشَارَةِ ، بَلْ وَرَدَ الزَّجْر عَنْهُ ، وَذَلِكَ فِيمَا أَخْرَجَهُ التِّرْمِذِيّ مِنْ طَرِيق عَمْرو بْن شُعَيْب عَنْ أَبِيهِ عَنْ جَدّه رَفَعَهُ : " لَا تَشَبَّهُوا بِالْيَهُودِ وَالنَّصَارَى ، فَإِنَّ تَسْلِيم الْيَهُودِ الْإِشَارَة بِالْإِصْبَعِ ، وَتَسْلِيم النَّصَارَى بِالْأَكُفِّ " قَالَ التِّرْمِذِيّ : غَرِيب . قُلْت : وَفِي سَنَده ضَعْف( [1] ) ، لَكِنْ أَخْرَجَ النَّسَائِيُّ بِسَنَدٍ جَيِّد عَنْ جَابِر رَفَعَهُ : " لَا تُسَلِّمُوا تَسْلِيم الْيَهُود ، فَإِنَّ تَسْلِيمهمْ بِالرُّءُوسِ وَالْأَكُفِّ وَالْإِشَارَة " ( [2] ) ؛ قَالَ النَّوَوِيّ : لَا يَرِدُ عَلَى هَذَا حَدِيث أَسْمَاء بِنْت يَزِيد : مَرَّ النَّبِيُّ e فِي الْمَسْجِد وَعُصْبَة مِنْ النِّسَاء قُعُود فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ ؛ فَإِنَّهُ مَحْمُول عَلَى أَنَّهُ جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظ وَالْإِشَارَة ؛ وَقَدْ أَخْرَجَهُ أَبُو دَاوُدَ مِنْ حَدِيثهَا بِلَفْظِ : " فَسَلَّمَ عَلَيْنَا " اِنْتَهَى . وَالنَّهْي عَنْ السَّلَام بِالْإِشَارَةِ مَخْصُوص بِمَنْ قَدَرَ عَلَى اللَّفْظ حِسًّا وَشَرْعًا ، وَإِلَّا فَهِيَ مَشْرُوعَة لِمَنْ يَكُون فِي شُغْل يَمْنَعهُ مِنْ التَّلَفُّظ بِجَوَابِ السَّلَام كَالْمُصَلِّي وَالْبَعِيد وَالْأَخْرَس ، وَكَذَا السَّلَام عَلَى الْأَصَمّ .. قال : وَيَجِب الرَّدّ عَلَى الْفَوْر إِذَا لَمْ يَكُنْ عُذْر ؛ وَيَجِب رَدُّ جَوَاب السَّلَام فِي الْكِتَاب وَمَعَ الرَّسُول ، وَلَوْ سَلَّمَ الصَّبِيّ عَلَى بَالِغ وَجَبَ عَلَيْهِ الرَّدّ ، وَلَوْ سَلَّمَ عَلَى جَمَاعَة فِيهِمْ صَبِيّ فَأَجَابَ أَجْزَأَ عَنْهُمْ فِي وَجْه ( [3] ) .
قَالَ الْمَاوَرْدِيُّ : لَوْ دَخَلَ شَخْص مَجْلِسًا فَإِنْ كَانَ الْجَمْع قَلِيلًا يَعُمّهُمْ سَلَام وَاحِد فَسَلَّمَ كَفَاهُ ، فَإِنْ زَادَ فَخَصَّصَ بَعْضهمْ فَلَا بَأْس ، وَيَكْفِي أَنْ يَرُدّ مِنْهُمْ وَاحِد ، فَإِنْ زَادَ فَلَا بَأْس ، وَإِنْ كَانُوا كَثِيرًا بِحَيْثُ لَا يَنْتَشِر فِيهِمْ فَيَبْتَدِئ أَوَّل دُخُوله إِذَا شَاهَدَهُمْ ، وَتَتَأَدَّى سُنَّة السَّلَام فِي حَقّ جَمِيع مَنْ يَسْمَعهُ ، وَيَجِب عَلَى مَنْ سَمِعَهُ الرَّدّ عَلَى الْكِفَايَة . وَإِذَا جَلَسَ سَقَطَ عَنْهُ سُنَّة السَّلَام فِيمَنْ لَمْ يَسْمَعهُ مِنْ الْبَاقِينَ ، وَهَلْ يُسْتَحَبّ أَنْ يُسَلِّم عَلَى مَنْ جَلَسَ عِنْدَهمْ مِمَّنْ لَمْ يَسْمَعهُ ؟ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا إِنْ عَادَ فَلَا بَأْس ، وَإِلَّا فَقَدْ سَقَطَتْ عَنْهُ سُنَّة السَّلَام لِأَنَّهُمْ جَمْع وَاحِد ، وَعَلَى هَذَا يَسْقُط فَرْض الرَّدّ بِفِعْلِ بَعْضهمْ ، وَالثَّانِي أَنَّ سُنَّة السَّلَام بَاقِيَة فِي حَقّ مَنْ لَمْ يَبْلُغهُمْ سَلَامه الْمُتَقَدِّم فَلَا يَسْقُط فَرْض الرَّدّ مِنْ الْأَوَائِل عَنْ الْأَوَاخِر .ا.هـ ( [4] ) .

[1] - الحديث رواه الترمذي ( 2695 ) وضعفه ، وكذا رواه الطبراني في الأوسط ( 7380 ) ، و حسنه الألباني في صحيح الترغيب ( 2723 ) ، بشاهده وهو حديث جابر الآتي .

[2] - رواه النسائي في الكبرى ( 10172 ) ، وفي اليوم والليلة ( 340 ) ، وجود إسناده الحافظ ابن حجر .

[3] - انظر فتح الباري : 11 / 14 .

[4] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 14 ؛ وانظر الأذكار للنووي ص 257.
 
هل يجب جواب من حيَّا بغير السلام ؟​
ذهب عامَّة العلماء إلى أنَّ التّحيّة بغير السلام للمسلم ، كنحو : صبَّحك اللّه بالخير ، أو السَّعادة ، أو طاب حماك ، أو قوَّاك اللَّه ، من الألفاظ الَّتي يستعملها النَّاس في العادة لا أصل لها ، ولا يجب الرَّدُّ على قائلها ، لكن لو دعا له مقابل ذلك كان حسنًا ( [1] ) . قلت : وينبغي عليه أن ينصح هذا الذي يحيي بغير السلام ، ويبين له فضل السلام وفضل إفشائه وأنه تحية الإسلام .

[1] - الموسوعة الفقهية الكويتية ( تحية ) .
 
حمل السلام أمانة ووجوب رده

في الصحيحين عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e يَوْمًا : " يَا عَائِشَ هَذَا جِبْرِيلُ يُقْرِئُكِ السَّلَامَ " فَقُلْتُ : وَعَلَيْهِ السَّلَامُ وَرَحْمَةُ اللَّهِ وَبَرَكَاتُهُ ؛ تَرَى مَا لَا أَرَى ، تُرِيدُ رَسُولَ اللَّهِ e ( [1] ) . هذا حجة في أن من بلغ إليه سلام غائب عنه أن يرد عليه السلام كما يرد على الحاضر ، قال النووي رحمه الله في ( شرح مسلم ) : فِيهِ فَضِيلَةٌ ظَاهِرَةٌ لِعَائِشَة رَضِيَ اللَّه عَنْهَا ؛ وَفِيهِ اِسْتِحْبَابُ بَعْث السَّلَام , وَيَجِبُ عَلَى الرَّسُول تَبْلِيغُهُ ؛ وَفِيهِ بَعْثُ الْأَجْنَبِيِّ السَّلَام إِلَى الْأَجْنَبِيَّة الصَّالِحَة إِذَا لَمْ يُخَفْ تَرَتُّب مَفْسَدَة , وَأَنَّ الَّذِي يُبَلِّغُهُ السَّلَامُ يَرُدُّ عَلَيْهِ . قَالَ أَصْحَابُنَا : وَهَذَا الرَّدّ وَاجِب عَلَى الْفَوْر , وَكَذَا لَوْ بَلَغَهُ سَلَامٌ فِي وَرَقَة مِنْ غَائِب لَزِمَهُ أَنْ يَرُدَّ السَّلَام عَلَيْهِ بِاللَّفْظِ عَلَى الْفَوْر إِذَا قَرَأَهُ . وَفِيهِ أَنَّهُ يُسْتَحَبُّ فِي الرَّدِّ أَنْ يَقُولَ : وَعَلَيْك أَوْ وَعَلَيْكُمْ السَّلَام بِالْوَاوِ , فَلَوْ قَالَ : عَلَيْكُمْ السَّلَام أَوْ عَلَيْكُمْ أَجْزَأَهُ عَلَى الصَّحِيح , وَكَانَ تَارِكًا لِلْأَفْضَلِ .ا.هـ .
وروى عبد الرزاق عن أبى قلابة أن رجلاً أتى سلمان الفارسي فقال له : إن أبا الدرداء يقول : عليك السلام ؛ قال : متى قدمت ؟ قال : منذ ثلاث ، قال : أما أنك لو لم تؤدها كانت أمانة عندك ( [2] ) .
قال ابن القيم رحمه الله في ( زاد المعاد ) : وَكَانَ e يُسَلّمُ بِنَفْسِهِ عَلَى مَنْ يُوَاجِهُهُ ، وَيُحَمِّلُ السّلَامَ لِمَنْ يُرِيدُ السّلَامَ عَلَيْهِ مِنْ الْغَائِبِينَ عَنْهُ ، وَيَتَحَمّلُ السّلَامَ لِمَنْ يُبَلّغْهُ إلَيْهِ ، كَمَا تَحَمّلَ السّلَامَ مِنْ اللّهِ U عَلَى صِدّيقَةِ النّسَاءِ خَدِيجَةَ بِنْتِ خُوَيْلِدٍ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا - لَمّا قَالَ لَهُ جِبْرِيلُ : " هَذِهِ خَدِيجَةُ قَدْ أَتَتْكَ بِطَعَامٍ ، فَاقْرَأْ عَلَيْهَا السّلَامَ مِنْ رَبّهَا وَمِنّي ، وَبَشّرْهَا بِبَيْتٍ فِي الْجَنّة.." الحديث ( [3] ) ؛ وَقَالَ لِلصّدّيقَةِ الثّانِيَةِ بِنْتِ الصّدّيقِ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللّهُ عَنْهَا : " هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْكِ السّلَامَ " فَقَالَتْ وَعَلَيْهِ السّلَامُ وَرَحْمَةُ اللّهِ وَبَرَكَاتهُ ؛ وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ e إذَا بَلّغَهُ أَحَدٌ السّلَامَ عَنْ غَيْرِهِ أَنْ يَرُدّ عَلَيْهِ وَعَلَى الْمُبَلّغِ ، كَمَا فِي السّنَنِ أَنّ رَجُلًا قَالَ لَهُ : إنّ أَبِي يُقْرِئُكَ السّلَامَ ، فَقَالَ لَهُ : " عَلَيْكَ وَعَلَى أَبِيكَ السّلَامُ " ( [4] ) .ا.هـ .
وفي مصنف ابن أبي شيبة أن محمد بن سيرين كان إذا قيل له : إن فلانًا يقرئك السلام ، قال : وعليك وعليه السلام ( [5] ) ، فلو اكتفى بقوله : وعليه السلام ، أجزأه ، لحديث عائشة المتقدم ، والعلم عند الله تعالى .

[1] - البخاري ( 3768 ، 6201 ) ، ومسلم ( 2447 ) .

[2] - مصنف عبد الرزاق ( 19464 ) ، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان ( 8641 ) ، ورواه أبو نعيم في الحلية : 1 / 200 .

[3] - البخاري ( 3821 ) ، ومسلم ( 2432 ) .

[4] - انظر زاد المعاد : 2 / 427 ، والحديث رواه أبو داود ( 2934 ) ، والنسائي في الكبرى ( ) ، وفيه مجاهيل .

[5] - ابن أبي شيبة ( 25695 ) .
 
حكم السلام على النساء

روى الترمذي عَنْ أَسْمَاءَ بِنْتَ يَزِيدَ - رضي الله عنها - أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e مَرَّ فِي الْمَسْجِدِ يَوْمًا وَعُصْبَةٌ مِنْ النِّسَاءِ قُعُودٌ فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ ( [1] ) . وَأَشَارَ عَبْدُ الْحَمِيدِ ( [2] ) بِيَدِهِ ، ورواه أبو داود وابن ماجة بلفظ : مَرَّ عَلَيْنَا النَّبِيُّ e فِي نِسْوَةٍ فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ( [3] ) .
وَمَعْنَى ( فَأَلْوَى بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ ) : أَشَارَ بِيَدِهِ بِالتَّسْلِيمِ ، وَهَذَا مَحْمُولٌ عَلَى أَنَّهُ e جَمَعَ بَيْنَ اللَّفْظِ وَالْإِشَارَةِ ، وَيَدُلُّ عَلَى هَذَا رواية أَبِي دَاوُدَ وابن ماجة ، وفيها : ( فَسَلَّمَ عَلَيْنَا ) . وفيه دليل مشروعية سلام الرّجل على جماعة النّساء ؛ وأما إن كانت واحدة ؛ فإن كانت زوجةً أو من المحارم فسلامه عليها وسلامها عليه سنّة ، وردّ السّلام منها وعليها واجب ؛ وإن كانت تلك المرأة أجنبيّةً فإن كانت عجوزًا أو امرأةً لا تشتهى فالسّلام عليها مشروع ، وردُّ السّلام منها على من سلَّم عليها لفظًا واجب ؛ لما رواه البخاري عَنْ أَبِي حَازِمٍ عَنْ سَهْلٍtقَالَ : كُنَّا نَفْرَحُ يَوْمَ الْجُمُعَةِ ؛ قُلْتُ : وَلِمَ ؟ قَالَ : كَانَتْ لَنَا عَجُوزٌ تُرْسِلُ إِلَى بُضَاعَةَ - قَالَ ابْنُ مَسْلَمَةَ : نَخْلٍ بِالْمَدِينَةِ - فَتَأْخُذُ مِنْ أُصُولِ السِّلْقِ فَتَطْرَحُهُ فِي قِدْرٍ ، وَتُكَرْكِرُ [ تطحن ] حَبَّاتٍ مِنْ شَعِيرٍ ؛ فَإِذَا صَلَّيْنَا الْجُمُعَةَ انْصَرَفْنَا وَنُسَلِّمُ عَلَيْهَا ، فَتُقَدِّمُهُ إِلَيْنَا ، فَنَفْرَحُ مِنْ أَجْلِهِ ؛ وَمَا كُنَّا نَقِيلُ وَلَا نَتَغَدَّى إِلَّا بَعْدَ الْجُمُعَةِ ( [4] ) .
قال البيهقي - رحمه الله - في ( شعب الإيمان ) : والحديث ورد في العجوز التي هي من القواعد .ا.هـ . وقال - أيضا - في كتاب ( الآداب ) : قال الإمام أحمد - رحمه الله : وهذا فيمن يأمن على نفسه من الافتتان بهن ، أو في القواعد من النساء ، فأما إذا كان لا يأمن على نفسه ، وكانت المرأة شابة فلا يسلم ؛ وروينا معناه عن عطاء وقتادة .ا.هـ . قلت : روى عبد الرزاق عن قتادة أنه كان يقول : أما امرأة من القواعد فلا بأس أن يسلم عليها ، وأما الثانية فلا ( [5] ) . وفي مصنف ابن ابن أبي شيبة عن أبي ذر قال : سألت عطاء عن السلام على النساء فقال : إن كن شواب فلا ( [6] ) . وسُئِلَ مَالِك – رحمه الله : هَلْ يُسَلَّمُ عَلَى الْمَرْأَةِ ؟ فَقَالَ أَمَّا الْمُتَجَالَّةُ فَلَا أَكْرَهُ ذَلِكَ ؛ وَأَمَّا الشَّابَّةُ فَلَا أُحِبُّ ذَلِكَ ( [7] ) ، والمتجالة هي العجوز التي انقطع أرب الرجال منها .قال ابن القيم رحمه الله في ( زاد المعاد ) : وَهَذَا هُوَ الصّوَابُ فِي مَسْأَلَةِ السّلَامِ عَلَى النّسَاءِ يُسَلَّمُ عَلَى الْعَجُوزِ وَذَوَاتِ الْمَحَارِمِ دُونَ غَيْرِهِنّ .ا.هـ ( [8] ) .
وَقَدْ عَقَدَ الْبُخَارِيُّ فِي صَحِيحِهِ بَابًا سماه ( تَسْلِيمِ الرِّجَالِ عَلَى النِّسَاءِ وَالنِّسَاءِ عَلَى الرِّجَالِ ) وَأَوْرَدَ فِيهِ حَدِيثَيْنِ : الْأَوَّلُ حَدِيثُ سَهْلٍ الَّذِي فِيهِ ذِكْرُ تَسْلِيمِ الصَّحَابَةِ y عَلَى الْعَجُوزِ الَّتِي كَانَتْ تُقَدِّمُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْجُمُعَةِ طَعَامًا فِيهِ سَلْقٌ ، وَالثَّانِي حَدِيثُ عَائِشَةَ قَالَتْ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يَا عَائِشَةَ هَذَا جِبْرِيلُ يَقْرَأُ عَلَيْك السَّلَامَ " وتقدما ؛ وَالْمُرَادُ بِجَوَازِهِ أَنْ يَكُونَ عِنْدَ أَمْنِ الْفِتْنَةِ ؛ قال الحليمي - رحمه الله : يحتمل أن يقال : إن النبي e لم يكن يخشى الفتنة ، فلذلك سلم عليهن ؛ فمن وثق من نفسه بالتماسك فليسلم ، ومن لم يأمن نفسه فلا يسلم ، فإن الحديث ربما جر بعضه بعضا ، والصمت أسلم ( [9] ) .
وَفِي سلام المرأة على الرجل ما جاء في الصحيحين عن أُمِّ هَانِئٍ - رضي الله عنها - قالت : ذَهَبْتُ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ e عَامَ الْفَتْحِ فَوَجَدْتُهُ يَغْتَسِلُ وَفَاطِمَةُ ابْنَتُهُ تَسْتُرُهُ ، قَالَتْ : فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ ( [10] ) .
وَجمع النَّوَوِيُّ - رحمه الله - أحكام السلام على النساء ، قال : إِنْ كُنَّ النِّسَاءُ جَمْعًا سَلَّمَ عَلَيْهِنَّ ، وَإِنْ كَانَتْ وَاحِدَةً سَلَّمَ عَلَيْهَا النِّسَاءُ وَزَوْجُهَا وَسَيِّدُهَا وَمَحْرَمُهَا ، سَوَاءٌ أَكَانَتْ جَمِيلَةً أَوْ غَيْرَهَا ، وَأَمَّا الْأَجْنَبِيُّ فَإِنْ كَانَتْ عَجُوزًا لَا تُشْتَهِى اُسْتُحِبَّ السَّلَامُ عَلَيْهَا ، وَاسْتُحِبَّ لَهَا السَّلَامُ عَلَيْهِ ، وَمَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا لَزِمَ الْآخَرَ رَدُّ السَّلَامِ عَلَيْهِ ؛ وَإِنْ كَانَتْ شَابَّةً أَوْ عَجُوزًا تُشْتَهِى لَمْ يُسَلِّمْ عَلَيْهَا الْأَجْنَبِيُّ وَلَمْ تُسَلِّمْ عَلَيْهِ ؛ وَمَنْ سَلَّمَ مِنْهُمَا لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا وَيُكْرَهُ رَدُّ جَوَابِهِ ، هَذَا مَذْهَبُنَا وَمَذْهَبُ الْجُمْهُورِ ؛ وَقَالَ رَبِيعَةُ : لَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ وَلَا النِّسَاءُ عَلَى الرِّجَالِ ؛ وَهَذَا غَلَطٌ ، وَقَالَ الْكُوفِيُّونَ : لَا يُسَلِّمُ الرِّجَالُ عَلَى النِّسَاءِ إِذَا لَمْ يَكُنْ فِيهِنَّ مَحْرَمٌ . ا.هـ .
وحكم النساء مع النساء كحكم الرجال مع الرجال في السلام ؛ فيسلم بعضهن على بعض .

[1] - الترمذي ( 2697 ) وحسنه .
[2] - هو عبد الحميد بن بهرام رواي الحديث عن شهر بن حوشب عن أسماء .
[3] - أبو داود ( 5204 ) ، وابن ماجة ( 3701 ) .
[4] - البخاري ( 6248 ) .
[5] - عبد الرزاق ( 19449 ) ، ومن طريقه البيهقي في شعب الإيمان ( 8897 ) .
[6] - ابن أبي شيبة ( 25784 ) .
[7] - الموطأ : 2 / 959 .
[8] - زاد المعاد : 2 / 375 .
[9] - نقلا عن ( شعب الإيمان للبيهقي ) : 6 / 460 ( الكتب العلمية ) .
[10] - البخاري ( 357 ) ، ومسلم ( 336 ) .
 
حكم السلام على أهل الكتاب
أهل الكتاب هم اليهود والنصارى ؛ وقد جاءت أحاديث تبين حكم السلام ورده عليهم ؛ ففي صحيح مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ " ( [1] ) . وروى أحمد وابن ماجة عَنْ أَبِي عَبْدِ الرَّحْمَنِ الْجُهَنِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنِّي رَاكِبٌ غَدًا إِلَى الْيَهُودِ ، فَلَا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ ، فَإِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا : وَعَلَيْكُمْ " ( [2] ) ، ورواه أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والنسائي عَنْ أَبِي بَصْرَةَ الْغِفَارِيِّ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e لَهُمْ يَوْمًا : " إِنِّي رَاكِبٌ إِلَى يَهُودَ ، فَمَنْ انْطَلَقَ مَعِي فَإِنْ سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ فَقُولُوا : وَعَلَيْكُمْ " فَانْطَلَقْنَا ، فَلَمَّا جِئْنَاهُمْ وَسَلَّمُوا عَلَيْنَا فَقُلْنَا : وَعَلَيْكُمْ ( [3] ) .
فظاهر هذه الأحاديث تحريم بدء اليهود والنصارى بالسلام ، وهو الذي نصره الإمام النووي - رحمه الله ؛ قال : وَاخْتَلَفَ الْعُلَمَاء فِي رَدّ السَّلَام عَلَى الْكُفَّار وَابْتِدَائِهِمْ بِهِ , فَمَذْهَبنَا تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ بِهِ , وَوُجُوب رَدّه عَلَيْهِمْ بِأَنْ يَقُول : وَعَلَيْكُمْ , أَوْ عَلَيْكُمْ فَقَطْ , وَدَلِيلنَا فِي الِابْتِدَاء قَوْله e : " لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ " ، وَفِي الرَّدّ قَوْله e : " فَقُولُوا : وَعَلَيْكُمْ " وَبِهَذَا الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنْ مَذْهَبنَا قَالَ أَكْثَر الْعُلَمَاء وَعَامَّة السَّلَف .
وَذَهَبَتْ طَائِفَة إِلَى جَوَاز اِبْتِدَائِنَا لَهُمْ بِالسَّلَامِ , رُوِيَ ذَلِكَ عَنْ اِبْن عَبَّاس وَأَبِي أُمَامَةَ وَابْن أَبِي مُحَيْرِيز , وَهُوَ وَجْه لِبَعْضِ أَصْحَابنَا حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ , لَكِنَّهُ قَالَ : يَقُول : السَّلَام عَلَيْك , وَلَا يَقُول : عَلَيْكُمْ بِالْجَمْعِ . وَاحْتَجَّ هَؤُلَاءِ بِعُمُومِ الْأَحَادِيث , وَبِإِفْشَاءِ السَّلَام , وَهِيَ حُجَّة بَاطِلَة لِأَنَّهُ عَامّ مَخْصُوص بِحَدِيثِ : " لَا تَبْدَءُوا الْيَهُود وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ " وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يُكْرَه اِبْتِدَاؤُهُمْ بِالسَّلَامِ , وَلَا يَحْرُم , وَهَذَا ضَعِيف أَيْضًا , لِأَنَّ النَّهْي لِلتَّحْرِيمِ ؛ فَالصَّوَاب تَحْرِيم اِبْتِدَائِهِمْ . وَحَكَى الْقَاضِي عَنْ جَمَاعَة أَنَّهُ يَجُوز اِبْتِدَاؤُهُمْ بِهِ لِلضَّرُورَةِ وَالْحَاجَة أَوْ سَبَب , وَهُوَ قَوْل عَلْقَمَة وَالنَّخَعِيِّ . وَعَنْ الْأَوْزَاعِيِّ أَنَّهُ قَالَ : إِنْ سَلَّمْت فَقَدْ سَلَّمَ الصَّالِحُونَ , وَإِنْ تَرَكْت فَقَدْ تَرَكَ الصَّالِحُونَ . وَقَالَتْ طَائِفَة مِنْ الْعُلَمَاء : لَا يُرَدّ عَلَيْهِمْ السَّلَام , وَرَوَاهُ اِبْن وَهْب وَأَشْهَب عَنْ مَالِك , وَقَالَ بَعْض أَصْحَابنَا : يَجُوز أَنْ يَقُول فِي الرَّدّ عَلَيْهِمْ : وَعَلَيْكُمْ السَّلَام , وَلَكِنْ لَا يَقُول : وَرَحْمَة اللَّه . حَكَاهُ الْمَاوَرْدِيّ , وَهُوَ ضَعِيف مُخَالِف لِلْأَحَادِيثِ وَاللَّه أَعْلَم ( [4] ) .
وَقد استدل البعض بعموم قَوْلِهِ تَعَالَى : ] لَا يَنْهَاكُمْ اللَّه عَنْ الَّذِينَ لَمْ يُقَاتِلُوكُمْ فِي الدِّين [ ، وبقَوْلِهِ تَعَالَى : ] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَام [ ، وَبقَوْل إِبْرَاهِيم لِأَبِيهِ : ] سَلَام عَلَيْك [ ، على جواز ابتداء الكافر بالسلام ، وليس في هذا العموم حجة , وَأَجَابَ العلماء عَنْ ] فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَام [ وَكَذَا عَنْ قَوْل إِبْرَاهِيم u لِأَبِيهِ ، بِأَنَّ الْقَصْد بِذَلِكَ الْمُتَارَكَة وَالْمُبَاعَدَة وَلَيْسَ الْقَصْد فِيهِمَا التَّحِيَّة ، أي أن معنى السلام هنا البراءة ؛ وَحَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي النَّهْي عَنْ اِبْتِدَائِهِمْ يرفع الخلاف . قال الشوكاني في ( نيل الأوطار ) : " لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ " فيه تحريم ابتداء اليهود والنصارى بالسلام ؛ وقد حكاه النووي عن عامة السلف وأكثر العلماء ( [5] ) .
وفي المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام قال ابن القيم في ( أحكام أهل الذمة ) بعد ذكره لمعنى السلام : والمقصود أن السلام اسمه U ووصفه وفعله ، والتلفظ به ذكر له ، كما في السنن عَنْ الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ e وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : " إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ U إِلَّا عَلَى طُهْرٍ " أَوْ قَالَ : " عَلَى طَهَارَةٍ " ( [6] ) ، فحقيق بتحية هذا شأنها أن تصان عن بذلها لغير أهل الإسلام ؛ وألا يحيى بها أعداء القدوس السلام ، ولهذا كانت كتب النبي e إلى ملوك الكفار : " سلام على من اتبع الهدى " ولم يكتب لكافر ( سلام عليكم ) أصلا ، فلهذا قال في أهل الكتاب : " فَلا تَبْدَءُوهُمْ بِالسَّلَامِ " ( [7] ) .
واستدل ابن حجر - رحمه الله - على المنع من ابتداء أهل الكتاب بالسلام بقَوْله e فِي الْحَدِيث الْمَذْكُور قَبْل " إِذَا فَعَلْتُمُوهُ تَحَابَبْتُمْ " وَالْمُسْلِم مَأْمُور بِمُعَادَاةِ الْكَافِر ؛ فَلَا يُشْرَع لَهُ فِعْل مَا يَسْتَدْعِي مَحَبَّته وَمُوَادَدَتَهُ ( [8] ) .

[1] - مسلم ( 2167 ) ، ورواه أحمد : 2 / 266 ، وأبو داود ( 5205 ) ، والترمذي ( 1602 ) .

[2] - أحمد : 4 / 143 ، وابن ماجة ( 3743 ) .

[3] - أحمد : 6 / 98 ؛ والبخاري في الأدب المفرد ( 1102 ) ، والنسائي في الكبرى ( 10220 ) وإسناده صحيح .

[4] - انظر شرح مسلم للنووي : 14 / 144 ، 145 .

[5] - نيل الأوطار : 8 / 146 .

[6] - رواه أبو داود ( 17 ) وابن ماجة ( 350 ) عن المهاجر بن قنفذ t .

[7] - انظر أحكام أهل الذمة لابن القيم – تحقيق يوسف أحمد البكري ، وشاكر توفيق - دار ابن حزم : 1 / 420 ، 421 بتصرف .

[8] - انظر فتح الباري : 11 / 20 .
 
فائدة :
قال ابن حجر - رحمه الله : قَالَ الْقُرْطُبِيّ فِي قَوْله : " وَإِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيق فَاضْطَرُّوهُمْ إِلَى أَضْيَقه " مَعْنَاهُ لَا تَتَنَحَّوْا لَهُمْ عَنْ الطَّرِيق الضَّيِّق إِكْرَامًا لَهُمْ وَاحْتِرَامًا , وَعَلَى هَذَا فَتَكُون هَذِهِ الْجُمْلَة مُنَاسِبَة لِلْجُمْلَةِ الْأُولَى فِي الْمَعْنَى , وَلَيْسَ الْمَعْنَى إِذَا لَقِيتُمُوهُمْ فِي طَرِيق وَاسِع فَأَلْجِئُوهُمْ إِلَى حَرْفه حَتَّى يَضِيق عَلَيْهِمْ ، لِأَنَّ ذَلِكَ أَذًى لَهُمْ ، وَقَدْ نُهِينَا عَنْ أَذَاهُمْ بِغَيْرِ سَبَب ( [1] ) . وقال النووي - رحمه الله : قَوْله e : " وَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدهمْ فِي طَرِيق فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقه " قَالَ أَصْحَابنَا : لَا يُتْرَك لِلذِّمِّيِّ صَدْر الطَّرِيق , بَلْ يُضْطَرّ إِلَى أَضْيَقه إِذَا كَانَ الْمُسْلِمُونَ يَطْرُقُونَ , فَإِنْ خَلَتْ الطَّرِيق عَنْ الزَّحْمَة فَلَا حَرَج ؛ قَالُوا : وَلْيَكُنْ التَّضْيِيق بِحَيْثُ لَا يَقَع فِي وَهْدَة , وَلَا يَصْدِمهُ جِدَار وَنَحْوه ؛ وَاللَّه أَعْلَم ( [2] ) .

[1] - انظر فتح الباري : 11 / 40 .

[2] - انظر شرح مسلم للنووي : 14 / 147 .
 
الرد على أهل الكتاب إذا سلموا :
في الصحيحين عن ابْنِ عُمَرَ قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ الْيَهُودَ إِذَا سَلَّمُوا عَلَيْكُمْ يَقُولُ أَحَدُهُمْ : السَّامُ [ أي الموت ] عَلَيْكُمْ ، فَقُلْ : عَلَيْكَ " وفي رواية : " فَقُولُوا : وَعَلَيْكَ " ( [1] ) ؛
وفيهما عَـنْ أَنَسٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَـالَ : " إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمْ أَهْلُ الْكِتَابِ فَقُولُوا : وَعَلَيْكُمْ " ( [2] ) . وفيهما عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّ الْيَهُودَ دَخَلُوا عَلَى النَّبِيِّ e فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ ، فَلَعَنْتُهُمْ ؛ فَقَالَ : " مَا لَكِ ؟ " قُلْتُ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : " فَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ ؟ " وفي رواية : قَالَتْ : اسْتَأْذَنَ رَهْطٌ مِنْ الْيَهُودِ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكُمْ ؛ فَقَالَتْ عَائِشَةُ : بَلْ عَلَيْكُمْ السَّامُ وَاللَّعْنَةُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " يَا عَائِشَةُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الرِّفْقَ فِي الْأَمْرِ كُلِّهِ " قَالَتْ : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟ قَالَ : " قَدْ قُلْتُ : وَعَلَيْكُمْ " وفي رواية عند مسلم : " عَلَيْكُمْ السَّام وَالذَّامُ " وَهُوَ الذَّمّ ( [3] ) ، وفي رواية عند البخاري أَنَّ يَهُودَ أَتَوْا النَّبِيَّ e فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكُمْ ! فَقَالَتْ عَائِشَةُ : عَلَيْكُمْ وَلَعَنَكُمْ اللَّهُ وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ ؛ قَالَ : " مَهْلًا يَا عَائِشَةُ عَلَيْكِ بِالرِّفْقِ وَإِيَّاكِ وَالْعُنْفَ وَالْفُحْشَ " قَالَتْ : أَوَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟! قَالَ : " أَوَلَمْ تَسْمَعِي مَا قُلْتُ ؟ رَدَدْتُ عَلَيْهِمْ ، فَيُسْتَجَابُ لِي فِيهِمْ ، وَلَا يُسْتَجَابُ لَهُمْ فِيَّ " ( [4] ) . وروى مسلم عَنْ جَابِرٍ t قَالَ : سَلَّمَ نَاسٌ مِنْ يَهُودَ عَلَى رَسُولِ اللَّهِ e فَقَالُوا : السَّامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا الْقَاسِمِ ! فَقَالَ : " وَعَلَيْكُمْ " فَقَالَتْ عَائِشَةُ وَغَضِبَتْ : أَلَمْ تَسْمَعْ مَا قَالُوا ؟! قَالَ : " بَلَى قَدْ سَمِعْتُ فَرَدَدْتُ عَلَيْهِمْ ، وَإِنَّا نُجَابُ عَلَيْهِمْ وَلَا يُجَابُونَ عَلَيْنَا " ( [5] ) .
قال النووي - رحمه الله - في ( شرح مسلم ) : اتَّفَقَ الْعُلَمَاء عَلَى الرَّدّ عَلَى أَهْل الْكِتَاب إِذَا سَلَّمُوا , لَكِنْ لَا يُقَال لَهُمْ : وَعَلَيْكُمْ السَّلَام , بَلْ يُقَال : ( عَلَيْكُمْ ) فَقَطْ , أَوْ ( وَعَلَيْكُمْ ) . وَقَدْ جَاءَتْ الْأَحَادِيث الَّتِي ذَكَرهَا ( مُسْلِم ) ( عَلَيْكُمْ ) ( وَعَلَيْكُمْ ) بِإِثْبَاتِ الْوَاو وَحَذْفهَا , وَأَكْثَر الرِّوَايَات بِإِثْبَاتِهَا , وَعَلَى هَذَا فِي مَعْنَاهُ وَجْهَانِ : أَحَدهمَا أَنَّهُ عَلَى ظَاهِره , فَقَالُوا : عَلَيْكُمْ الْمَوْت , فَقَالَ : وَعَلَيْكُمْ أَيْضًا ؛ أَيْ نَحْنُ وَأَنْتُمْ فِيهِ سَوَاء , وَكُلّنَا نَمُوت . وَالثَّانِي أَنَّ الْوَاو هُنَا لِلِاسْتِئْنَافِ لَا لِلْعَطْفِ وَالتَّشْرِيك ؛ وَتَقْـدِيره : وَعَلَيْكُمْ مَا تَسْتَحِقُّونَهُ مِنْ الذَّمّ . وَأَمَّا حَذْف الْوَاو فَتَقْدِيره : بَلْ عَلَيْكُمْ السَّام ( [6] ) .
وأضاف ابن القيم - رحمه الله - هاهنا إضافات حسنة ؛ قال : استشكلت طائفة دخول هذه الواو ههنا ، إذ هي للتقرير وإثبات الأول ، كما إذا قيل لك : فعلت كذا وكذا وكذا ، فقلت : وأنت فعلته ؛ أو قال : فلان يصلي الخمس ، فتقول : ويزكي ماله ؛ قالوا : فالموضع موضع إضراب لا موضع تقرير ومشاركة ، فهو موضع ( بل عليكم ) لا موضع : ( وعليكم ) فإذا حذف الواو كان إعادة لمثل قوله من غير إشعار بأنك علمت مراده ، وإذا أتيت بلفظة بل أشعرته أنك فهمت مراده ورددته عليه قصاصا ؛ والأول أليق بالكرم والفضل ، ولهذا السر - والله أعلم - دخلت الواو ؛ على أنه ليس في دخولها إشكال ، فإن الموت لا ينجو منه أحد ؛ وكأن الراد يقول الذي أخبرت بوقوعه علينا نحن وأنت فيه سواء ، فهو علينا وعليك ... وجواب آخر - ولعله أحسن من الجواب الأول - أنه ليس في دخول الواو تقرير لمضمون تحيتهم بل فيه ردها وتقريرها لهم ، أي : ونحن أيضا ندعو لكم بما دعوتم به علينا ، فإن دعاءهم قد حصل ووقع منهم ، فإذا رد عليهم المجيب بقوله : وعليكم كان في ذكر الواو سر لطيف ؛ وهو أن هذا الذي طلبتموه لنا ودعوتم به هو بعينه مردود عليكم ، لا تحية لكم غيره ، والمعنى : ونحن نقول لكم ما قلتم بعينه ، كما إذا قال رجل لمن يسبه : عليك كذا وكذا ، فقال : وعليك ؛ أي : وأنا أيضا قائل لك ذلك ، وليس معناه أن هذا قد حصل لي وهو حصل لك معي .. فتأمله ؛ وكذلك إذا قال : غفر الله لك ، فقلت : ولك ، وليس المعنى أن المغفرة قد حصلت لي ولك ؛ فإن هذا علم غيب ، وإنما معناه أن الدعوة قد اشتركت فيها أنا وأنت ؛ ولو قال : غفر الله لك ، فقلت : لك لم يكن فيه إشعار بذلك .
وعلى هذا فالصواب إثبات الواو ، وبه جاءت أكثر الروايات ، وذكرها الثقات الأثبات ؛ والله أعلم ( [7] ) . انتهى باختصار . ونقل ابن حجر عن اِبْن دَقِيق الْعِيد أنه حكى عَنْ اِبْن رُشْد تَفْصِيلًا يَجْمَع الرِّوَايَتَيْنِ إِثْبَات الْوَاو وَحَذْفهَا فَقَالَ : مَنْ تَحَقَّقَ أَنَّهُ قَالَ : السَّام أَوْ السِّلَام بِكَسْرِ السِّين [ أي الحجر ] ، فَلْيَرُدَّ عَلَيْهِ بِحَذْفِ الْوَاو ؛ وَمَنْ لَمْ يَتَحَقَّق مِنْهُ فَلْيَرُدَّ بِإِثْبَاتِ الْوَاو ( [8] ) ؛ والله تعالى أعلم .

[1] - البخاري ( 6257 ) ، ومسلم ( 2164 ) .

[2] - البخاري ( 6258 ) ، ومسلم ( 2163 ) .

[3] - البخاري ( 2935 ) ، ومسلم ( 2165 ) .

[4] - البخاري ( 6030 ) .

[5] - مسلم ( 2166 ) .

[6] - انظر شرح مسلم للنووي : 14 / 144 .

[7] - انظر أحكام أهل الذمة : 1 / 422 : 424 – تحقيق يوسف أحمد البكري ، وشاكر توفيق – دار ابن حزم .

[8] - انظر فتح الباري : 11 / .
 
كيف يرد من تحقق لديه أنهم قالوا : السلام عليكم ؟
قال ابن القيم - رحمه الله - ما خلاصته : لو تحقق السامع أن الذمي قال له : سلام عليكم ، لا شك فيه ، فهل له أن يقول : وعليك السلام ، أو يقتصر على قوله : وعليك ؟ فالذي تقتضيه الأدلة الشرعية وقواعد الشريعة أن يقال له : وعليك السلام ؛ فإن هذا من باب العدل ، والله يأمر بالعدل والإحسان ؛ وقد قال تعالى : ] وإذا حييتم بتحية فحيوا بأحسن منها أو ردوها [ فندب إلى الفضل ، وأوجب العدل ؛ ولا ينافي هذا شيئًا من أحاديث الباب بوجه ما ، فإنه إنما أمر بالاقتصار على قول الراد : ( وعليكم ) بناء على السبب المذكور الذي كانوا يعتمدونه في تحيتهم ، وأشار إليه في حديث عائشة - رضي الله عنها – فقالت : قال : " ألا ترينني قلت : وعليكم ، لما قالوا : السام عليكم ؟ " ثم قال : " إذا سلم عليكم أهل الكتاب فقولوا وعليكم " ، والاعتبار وإن كان لعموم اللفظ ، فإنما يعتبر عمومه في نظير المذكور لا فيما يخالفه ؛ قال تعالى : ] وإذا جاؤوك حيوك بما لم يحيك به الله ويقولون في أنفسهم لولا يعذبنا الله بما نقول [ فإذا زال هذا السبب ، وقال الكتابي : سلام عليكم ورحمة الله ؛ فالعدل في التحية يقتضي أن يرد عليه نظير سلامه ؛ وبالله التوفيق ( [1] ) . قلت : وهو تقرير حسن ؛ وأما ما أَخْرَجَه أَحْمَد عَنْ أَنَس : أُمِرْنَا أَنْ لَا نَزِيد عَلَى أَهْل الْكِتَاب عَلَى : وَعَلَيْكُمْ ؛ فلم يروه بهذا اللفظ عن أنس إلا حميد بن زاذويه الأزرق ، وهو مجهول ؛ ولو صح هذا اللفظ لرفع الإشكال ، لكن قد يقال أن : ( وعليكم ) كافٍ في الرد للأحاديث السابقة ، وفيه المعنى المراد في ( وعليكم السلام ) إن تحقق قولها منهم ، والعلم عند الله تعالى ؛ قال ابن عبد البر - رحمه الله - بعد أن أورد حديث أبي هريرة وأبي عبد الرحمن الجهني : فهذا الوجه المعمول به في السلام على أهل الذمة والرد عليهم ؛ ولا أعلم في ذلك خلافًا .. ثم روى عن ابن طاووس أنه قال : إذا سلم عليك اليهودي أو النصراني فقل : علاك السلام ؛ أي : ارتفع عنك السلام .. ثم قال : هذا لا وجه له مع ما ثبت عن النبي e ، ولو جاز مخالفة الحديث إلى الرأي في مثل هذا لاتسع في ذلك القول وكثرت المعاني ؛ ومثل قول ابن طاووس في هذا الباب قول من قال : يرد على أهل الكتاب : عليك السِّلام ، بكسر السين يعني الحجارة ؛ وهذا غاية في ضعف المعنى ، ولم يبح لنا أن نشتمهم ابتداء ؛ وحسبنا أن نرد عليهم بمثل ما يقولون في قول : وعليك ، مع امتثال السنة التي فيها النجاة لمن تبعها ؛ وبالله التوفيق ( [2] ) .
وروى البخاري في ( الأدب المفرد ) عن عقبة بن عامر الجهني t أنه مر برجل هيأته هيأة مسلم فسلَّم ، فرد عليه : وعليك ورحمة الله وبركاته ؛ فقال له الغلام : إنه نصراني ، فقام عقبة فتبعه حتى أدركه ، فقال : إن رحمة الله وبركاته على المؤمنين ؛ لكن أطال الله حياتك وأكثر مالك وولدك ([3])؛ وكان السلف يدعون بذلك لأهل الذمة رجاء أن يسلم ، أو يزيد في دفع الجزية .
قال ابن كثير - رحمه الله : المراد أن يرد بأحسن مما حياه به ، فإن بلغ المسلم غاية ما شرع في السلام رد عليه مثل ما قال ؛ فأما أهل الذمة فلا يبدءون بالسلام ، ولا يزادون ، بل يرد عليهم بما ثبت في الصحيحين عَنْ ابْنِ عُمَرَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " إِذَا سَلَّمَ عَلَيْكُمُ الْيَهُودُ فَإِنَّمَا يَقُولُ أَحَدُهُمُ : السَّامُ عَلَيْكَ ، فَقُلْ : وَعَلَيْكَ " ، وعند مسلم عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " لَا تَبْدَءُوا الْيَهُودَ وَلَا النَّصَارَى بِالسَّلَامِ ، فَإِذَا لَقِيتُمْ أَحَدَهُمْ فِي طَرِيقٍ فَاضْطَرُّوهُ إِلَى أَضْيَقِهِ " .ا.هـ.

[1] - انظر أحكام أهل الذمة : 1 / 425 ، 426 – تحقيق يوسف أحمد البكري ، وشاكر توفيق – دار ابن حزم .

[2] - التمهيد : 17 / 93 ، 94 .

[3] - الأدب المفرد ( 1112 ) .
 
فائدة :
قال ابن حجر - رحمه الله : اسْتُدِلَّ بِهِ [ حديث ابن عمر ، أي : وعليكم ] عَلَى أَنَّ هَذَا الرَّدَّ خَاصّ بِالْكُفَّارِ فَلَا يُجْزِئ فِي الرَّدّ عَلَى الْمُسْلِم , وَقِيلَ : إِنْ أَجَابَ بِالْوَاوِ أَجْزَأَ وَإِلَّا فَلَا . وَقَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد التَّحْقِيق أَنَّهُ كَافٍ فِي حُصُول مَعْنَى السَّلَام لَا فِي اِمْتِثَال الْأَمْر فِي قَوْله : ] فَحَيُّوا بِأَحْسَن مِنْهَا أَوْ رُدُّوهَا [ ؛ قال ابن حجر : قُلْت : لَكِنْ لَمَّا اِشْتَهَرَتْ هَذِهِ الصِّيغَة لِلرَّدِّ عَلَى غَيْر الْمُسْلِم يَنْبَغِي تَرْك جَوَاب الْمُسْلِم بِهَا ، وَإِنْ كَانَتْ مُجْزِئَة فِي أَصْل الرَّدّ , وَاَللَّه أَعْلَم ( [1] ) .

[1] - انظر فتح الباري : 11 / .
 
السلام على جمع فيه أخلاط من المسلمين وغيرهم
في حَدِيث أُسَامَة بْن زَيْد فِي قِصَّة عَبْد اللَّه بْن أُبَيّ : حَتَّى مَرَّ فِي الْمَجْلِس فِيهِ أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ... فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ e " ( [1] ) . قال النووي - رحمه الله : قَوْله : ( فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيّ e ) فِيهِ : جَوَاز الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ عَلَى قَوْم فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّار ؛ وَهَذَا مُجْمَع عَلَيْهِ ...
قال : وَيَجُوز الِابْتِدَاء بِالسَّلَامِ عَلَى جَمْع فِيهِمْ مُسْلِمُونَ وَكُفَّار , أَوْ مُسْلِم وَكُفَّار , وَيَقْصِد الْمُسْلِمِينَ لِحَدِيثِ أَنَّهُ e سَلَّمَ عَلَى مَجْلِس فِيهِ أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ( [2] ) .
وقال ابن قدامة في ( المغني ) : وَقَالَ يَعْقُوبُ بْنُ بُخْتَانَ : سَأَلْت أَبَا عَبْدِ اللَّهِ ، فَقُلْت نُعَامِلُ الْيَهُودَ وَالنَّصَارَى ، فَنَأْتِيهِمْ فِي مَنَازِلِهِمْ ، وَعِنْدَهُمْ قَوْمٌ مُسْلِمُونَ ، أُسَلِّمُ عَلَيْهِمْ ؟ قَالَ : نَعَمْ ، تَنْوِي السَّلَامَ عَلَى الْمُسْلِمِينَ ؛ وَسُئِلَ عَنْ مُصَافَحَةِ أَهْلِ الذِّمَّةِ ، فَكَرِهَهُ .ا.هـ ( [3] ) .
وقد بوب البخاري ( بَاب التَّسْلِيم فِي مَجْلِس فِيهِ أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ) أَوْرَدَ فِيهِ حديث أسامة المتقدم . قال ابن حجر - رحمه الله : قَالَ الطَّبَرِيُّ : لَا مُخَالَفَة بَيْن حَدِيث أُسَامَة فِي سَلَام النَّبِيّ e عَلَى الْكُفَّار حَيْثُ كَانُوا مَعَ الْمُسْلِمِينَ ، وَبَيْن حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة فِي النَّهْي عَنْ السَّلَام عَلَى الْكُفَّار ; لِأَنَّ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة عَامّ ، وَحَدِيث أُسَامَة خَاصّ , فَيَخْتَصّ مِنْ حَدِيث أَبِي هُرَيْرَة مَا إِذَا كَانَ الِابْتِدَاء لِغَيْرِ سَبَب وَلَا حَاجَة مِنْ حَقّ صُحْبَة أَوْ مُجَاوَرَة أَوْ مُكَافَأَة أَوْ نَحْو ذَلِكَ , وَالْمُرَاد مَنْع اِبْتِدَائِهِمْ بِالسَّلَامِ الْمَشْرُوع , فَأَمَّا لَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ بِلَفْظٍ يَقْتَضِي خُرُوجهمْ عَنْهُ كَأَنْ يَقُول : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ فَهُوَ جَائِز ، كَمَا كَتَبَ النَّبِيّ e إِلَى هِرَقْل وَغَيْره : " سَلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى " . وَأَخْرَجَ عَبْد الرَّزَّاق عَنْ مَعْمَر عَنْ قَتَادَة قَالَ : السَّلَام عَلَى أَهْل الْكِتَاب إِذَا دَخَلْت عَلَيْهِمْ بُيُوتهمْ : السَّلَام عَلَى مَنْ اِتَّبَعَ الْهُدَى ( [4] ) ؛ وَأَخْرَجَ اِبْن أَبِي شَيْبَة عَنْ مُحَمَّد بْن سِيرِينَ مِثْله . وَمِنْ طَرِيق أَبِي مَالِك : إِذَا سَلَّمْت عَلَى الْمُشْرِكِينَ فَقُلْ : السَّلَام عَلَيْنَا وَعَلَى عِبَاد اللَّه الصَّالِحِينَ ؛ فَيَحْسِبُونَ أَنَّك سَلَّمْت عَلَيْهِمْ ، وَقَدْ صَرَفْت السَّلَام عَنْهُمْ ( [5] ) .

[1] - البخاري ( 6207 ) ، ومسلم ( 1798 ) .

[2] - انظر شرح مسلم للنووي : 14 / 144 ، 145 .

[3] - المغني : 10 / 616 .

[4] - عبد الرزاق ( 19459 ) ، ومن طريقه البيهقي في الشعب ( 8907 ) .

[5] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 39 ، 40 ؛ وأثر أبي مالك رواه ابن أبي شيبة ( 25989 ) .
 
التحية على أهل الكتاب بغير السلام
أمّا حكم التّحيّة بغير السّلام للكافر ، فنقل النووي في ( الأذكار ) عن أبي سعد المتولي قال : لو أراد تحية ذميِّ فعلَها بغير السلام ، بأن يقول : هداك الله ، أو أنعم الله صباحك ؛ ثم قال النووي : هذا الذي قاله أبو سعد لا بأس به إذا احتاج إليه فيقول : صُبِّحْتَ بالخير أو بالسعادة أو بالعافية أو صبَّحَك اللّه بالسرور أو بالسعادة والنعمة أو بالمسرّة أو ما أشبه ذلك . وأما إذا لم يحتج إليه فالاختيار أن لا يقول شيئًا ؛ فإن ذلك بسطٌ له وإيناس وإظهار صورة ودٍّ ، ونحن مأمورون بالإِغلاظ عليهم ومنهيّون عن ودّهم فلا نظهره ؛ واللّه أعلم .ا.هـ . وذكر نحو هذا في ( المجموع ) ( [1] ) .
وفي ( الموسوعة الفقهية الكويتية ) : يرى الحنفيّة والمالكيّة ، وبعض الشّافعيّة والحنابلة : أنّها مكروهة ما لم تكن لعذر ، أو غرض كحاجة أو جوار أو قرابة ، فإذا كانت لعذر فلا كراهة فيها .
وذهب الشّافعيّة والحنابلة في الرّاجح عندهم ، إلى حرمة تحيّة الكفَّار ولو بغير السَّلام ( [2] ) .

[1] - انظر الأذكار ص 254 ، والمجموع : 4 / 607 ، 608 .

[2] - الموسوعة الفقهية الكويتية ( سلام ) .
 
هل يستقيل المسلم من الذمي سلامه إذا ابتدأه وهو يجهل أنه ذمي ؟

الاستقالة أن يقول له : ردَّ علي سلامي الذي سلَّمته عليك ؛ وقد نقل هذا عن عبد الله بن عمر وأبي هريرة y ؛ فقد روى البخاري في ( الأدب المفرد ) أن ابن عمر t مر بنصراني فسلم عليه ، فرد عليه ؛ فأخبر أنه نصراني ، فلما علم رجع إليه فقال : رد علي سلامي ( [1] ) ؛ ورواه البيهقي في ( الشعب ) وزاد بعد : رد علي سلامي ؛ قال له : نعم لقد رددته عليك ؛ قال ابن عمر : أكثر الله مالك وولدك ( [2] ) . وروى البيهقي - أيضا - عن نافع : أن ابن عمر سلَّم على أناس من يهود ، فأخبر أنهم يهود ، فرجع إليهم فقال : ردوا علي سلامي ( [3] ) . وعند ابن أبي شيبة أن أبا هريرة t مر على يهودي فسلم ، فقيل له : إنه يهودي ، فقال : يا يهودي ! رد علي سلامي ، وأدعو لك ، قال: قد رددته ، قال : اللهم كثر ماله وولده ( [4] ) . ونقل النووي في ( الأذكار ) عن أبي سعد المتولي قال : ولو سلَّم على رجل ظنَّه مسلمًا فبان كافرًا يستحَبُّ أن يستردَّ سلامَه فيقول له : رُدّ عليّ سلامي ؛ والغرض من ذلك أن يوحشه ويُظهرَ له أنه ليس بينهما ألفة .. ثم ذكر أثر ابن عمر .ا.هـ ( [5] ) .
فيستحب عند الشافعية أن يستقيل من سلَّم عليه فبان له أنه غير مسلم ، بأن يقول له : رد علي سلامي ؛ وهو قول الحنابلة ، كما في ( المبدع ) و ( دليل الطالب ) و ( الفروع ) وغيرها ( [6] ) .
وقال أبو الوليد الباجي - رحمه الله - في ( المنتقى شرح الموطأ ) : إِنَّ مَنْ سَلَّمَ عَلَى مَنْ لَيْسَ بِأَهْلِ السَّلَامِ فَلَا يَسْتَقِيلُهُ ؛ لِأَنَّهُ لَا فَائِدَةَ فِي هَذِهِ الْإِقَالَةِ وَلَا مَعْنَى لَهَا ؛ لِأَنَّ السَّلَامَ عَلَيْهِ إِنْ كَانَ حَسَنَةً فَلَا يَجِبُ الرُّجُوعُ عَنْهَا ، وَإِنْ كَانَ سَيِّئَةً فَلَيْسَ بِيَدِ الْيَهُودِيِّ تَكْفِيرُهَا ؛ لِأَنَّهَا لَيْسَتْ مِنْ حُقُوقِهِ وَإِنَّمَا هِيَ مِنْ حُقُوقِ اللَّهِ U ، وَمَا رُوِيَ عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عُمَرَ أَنَّهُ اسْتَقَالَهُ فَإِنَّهُ يُحْتَمَلُ أَنْ يُعْلِمَهُ أَنَّهُ أَخْطَأَ وَلَمْ يَعْرِفْهُ حِينَ سَلَّمَ عَلَيْهِ عَلَى وَجْهِ الصَّغَارِ لَهُ ، وَلِئَلَّا يَعْتَقِدَ ذَلِكَ هُوَ أَوْ غَيْرُهُ أَنَّ عَبْدَ اللَّهِ يَعْتَقِدُ قَصْدَهُ بِابْتِدَاءِ السَّلَامِ ، وَاَللَّهُ أَعْلَمُ وَأَحْكَمُ .ا.هـ . قلت : ما ذكره - رحمه الله - تعليلا لفعل ابن عمر t هو عين الفائدة ، وهو المراد من الاستقالة ؛ والعلم عند الله تعالى .
وسُئِلَ مَالِك عَمَّنْ سَلَّمَ عَلَى الْيَهُودِيِّ أَوْ النَّصْرَانِيِّ هَلْ يَسْتَقِيلُهُ ذَلِكَ ؟ فَقَالَ : لَا ( [7] ) . وَنَقَلَ اِبْن الْعَرَبِيّ ذَلك عَنْ مَالِك : ثُمَّ قَالَ : لِأَنَّ الِاسْتِرْدَاد حِينَئِذٍ لَا فَائِدَة لَهُ ، لِأَنَّهُ لَمْ يَحْصُل لَهُ مِنْهُ شَيْء لِكَوْنِهِ قَصَدَ السَّلَام عَلَى الْمُسْلِم .. قال الحافظ في ( الفتح ) : وَقَالَ غَيْره : لَهُ فَائِدَة ؛ وَهُوَ إِعْلَام الْكَافِر بِأَنَّهُ لَيْسَ أَهْلًا لِلِابْتِدَاءِ بِالسَّلَامِ .. قال : وَيَتَأَكَّد إِذَا كَانَ هُنَاكَ مَنْ يُخْشَى إِنْكَاره لِذَلِكَ ، أَوْ اِقْتِدَاؤُهُ بِهِ إِذَا كَانَ الَّذِي سَلَّمَ مِمَّنْ يُقْتَدَى بِهِ ( [8] ) . وهو الذي أشرنا إليه آنفًا .

[1]- الأدب المفرد ( 1115 ) ، ورواه بنحوه عبد الرزاق في مصنفه ( 19458 ) .

[2] - شعب الإيمان للبيهقي ( 8906 ) .

[3] - شعب الإيمان للبيهقي (8905 ) .

[4] - مصنف ابن أبي شيبة ( 25868 ) .

[5] - انظر الأذكار ص 254 .

[6] - انظر ( إعانة الطالبين ) للدمياطي الشافعي : 4 / 189؛ وانظر ( المبدع ) : 3 / 418 ، و( دليل الطالب ) ص 105 ، و ( الفروع ) : 6 / 247 .

[7] - موطأ مالك : 2 / 960 ( 1723 ) .

[8] - انظر فتح الباري : 11 / 46 .
 
تَرْكُ السّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا

ذكر العلماء أنَّ المبتدع ومن اقترف ذنبًا عظيمًا ولم يتب منه ، ينبغي أن لا يُسلَّم عليهم ولا يردَّ عليهم السَّلام حتى يحدثوا توبة ؛ وقد جاء ذلك من فعل النبي e ؛ قال ابن القيم - رحمه الله : وَكَانَ مِنْ هَدْيِهِ e تَرْكُ السّلَامِ ابْتِدَاءً وَرَدًّا عَلَى مَنْ أَحْدَثَ حَدَثًا حَتّى يَتُوبَ مِنْهُ ؛كَمَا هَجَرَ كَعْبَ بْنَ مَالِكٍ وَصَاحِبَيْهِ ، وَكَانَ كَعْبٌ يُسَلّمُ عَلَيْهِ وَلَا يَدْرِي هَلْ حَرّكَ شَفَتَيْهِ بِرَدّ السّلَامِ عَلَيْهِ أَمْ لَا ؟ وَسَلّمَ عَلَيْهِ عَمّارُ بْنُ يَاسِرٍ - وَقَدْ خَلَّقَهُ أَهْلُهُ بِزَعْفَرَانٍ - فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ ، فَقَالَ : " اذْهَبْ فَاغْسِلْ هَذَا عَنْك " ( [1] ) .
وروى أحمد والنسائي وابن حبان عَنْ أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ t قَالَ : أَقْبَلَ رَجُلٌ مِنْ الْبَحْرَيْنِ إِلَى النَّبِيِّ e فَسَلَّمَ فَلَمْ يُرَدَّ عَلَيْهِ ؛ وَكَانَ فِي يَدِهِ خَاتَمٌ مِنْ ذَهَبٍ وَجُبَّةُ حَرِيرٍ ، فَأَلْقَاهُمَا ثُمَّ سَلَّمَ فَرَدَّ عَلَيْهِ السَّلَامَ ، ثُمَّ قَالَ : يَا رَسُولَ اللَّهِ أَتَيْتُكَ آنِفًا فَأَعْرَضْتَ عَنِّي ! فَقَالَ : " إِنَّهُ كَانَ فِي يَدِكَ جَمْرَةٌ مِنْ نَارٍ " قَالَ : لَقَدْ جِئْتُ إِذًا بِجَمْرٍ كَثِيرٍ ! قَالَ : " إِنَّ مَا جِئْتَ بِهِ لَيْسَ بِأَجْزَأَ عَنَّا مِنْ حِجَارَةِ الْحَرَّةِ وَلَكِنَّهُ مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا " قَـالَ : فَمَاذَا أَتَخَتَّمُ ؟ قَـالَ : " حَلْقَةً مِنْ حَدِيدٍ أَوْ وَرِقٍ أَوْ صُفْرٍ " ( [2] ) . وروى أهل السنن عَنْ نَافِعٍ أَنَّ رَجُلًا أَتَى ابْنَ عُمَرَ t فَقَالَ : إِنَّ فُلَانًا يُقْرِئُكَ السَّلَامَ ، قَالَ : إِنَّهُ بَلَغَنِي أَنَّهُ قَدْ أَحْدَثَ ! فَإِنْ كَانَ قَدْ أَحْدَثَ فَلَا تُقْرِئْهُ مِنِّي السَّلَامَ ؛ فَإِنِّي سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " يَكُونُ فِي أُمَّتِي - أَوْ فِي هَذِهِ الْأُمَّةِ - مَسْخٌ وَخَسْفٌ وَقَذْفٌ ، وَذَلِكَ فِي أَهْلِ الْقَدَرِ " ( [3] ) .
ففي هذه الأحاديث دليل على أن ردَّ السّلام على من أحدث حدثًا أو ارتكب مخالفة شرعية لا يجب زجرًا له ؛ قَالَ الْقَارِي - رحمه الله : الْأَظْهَرُ أَنَّ مُرَادَهُ أَنْ لَا تُبَلِّغْهُ مِنِّي السَّلَامَ أَوْ رَدَّهُ ، فَإِنَّهُ بِبِدْعَتِهِ لَا يَسْتَحِقُّ جَوَابَ السَّلَامِ وَلَوْ كَانَ مِنْ أَهْلِ الْإِسْلَامِ ( [4] ) . وقال البخاري - رحمه الله : ( بَاب مَنْ لَمْ يُسَلِّمْ عَلَى مَنْ اقْتَرَفَ ذَنْبًا ، وَلَمْ يَرُدَّ سَلَامَهُ حَتَّى تَتَبَيَّنَ تَوْبَتُهُ ، وَإِلَى مَتَى تَتَبَيَّنُ تَوْبَةُ الْعَاصِي ) وَقَالَ عَبْدُ اللَّهِ بْنُ عَمْرٍو : لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شَرَبَةِ الْخَمْرِ ( [5] ) .ا.هـ . قال ابن حجر - رحمه الله : ذَهَبَ الْجُمْهُور إِلَى أَنَّهُ لَا يُسَلَّم عَلَى الْفَاسِق وَلَا الْمُبْتَدِع ؛ قَالَ النَّوَوِيّ : فَإِنْ اِضْطَرَّ إِلَى السَّلَام بِأَنْ خَافَ تَرَتُّب مَفْسَدَة فِي دَيْن أَوْ دُنْيَا إِنْ لَمْ يُسَلِّم سَلَّمَ ، وَكَذَا قَالَ اِبْن الْعَرَبِيِّ ، وَزَادَ : وَيَنْوِي أَنَّ السَّلَام اِسْم مِنْ أَسْمَاء اللَّه تَعَالَى ؛ فَكَأَنَّهُ قَالَ : اللَّه رَقِيب عَلَيْكُمْ . وَقَالَ الْمُهَلَّب : تَرْك السَّلَام عَلَى أَهْل الْمَعَاصِي سُنَّة مَاضِيَة ، وَبِهِ قَالَ كَثِير مِنْ أَهْل الْعِلْم فِي أَهْل الْبِدَع . وَأَلْحَقَ بَعْض الْحَنَفِيَّة بِأَهْلِ الْمَعَاصِي مَنْ يَتَعَاطَى خَوَارِم الْمُرُوءَة ، كَكَثْرَةِ الْمِزَاح وَاللَّهْو وَفُحْش الْقَوْل ، وَالْجُلُوس فِي الْأَسْوَاق لِرُؤْيَةِ مَنْ يَمُرّ مِنْ النِّسَاء وَنَحْو ذَلِكَ ؛ وَحَكَى اِبْن رُشْد قَالَ : قَالَ مَالِك : لَا يُسَلَّم عَلَى أَهْل الْأَهْوَاء . قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد : وَيَكُون ذَلِكَ عَلَى سَبِيل التَّأْدِيب لَهُمْ وَالتَّبَرِّي مِنْهُمْ .
وَقَالَ النَّوَوِيّ : وَأَمَّا الْمُبْتَدِع وَمَنْ اِقْتَرَفَ ذَنْبًا عَظِيمًا وَلَمْ يَتُبْ مِنْهُ فَلَا يُسَلَّم عَلَيْهِمْ وَلَا يُرَدّ عَلَيْهِمْ السَّلَام كَمَا قَالَ جَمَاعَة مِنْ أَهْل الْعِلْم ، وَاحْتَجَّ الْبُخَارِيّ لِذَلِكَ بِقِصَّةِ كَعْب بْن مَالِك اِنْتَهَى( [6] ). وَالتَّقْيِيد بِمَنْ لَمْ يَتُبْ جَيِّد لَكِنْ فِي الِاسْتِدْلَال لِذَلِكَ بِقِصَّةِ كَعْب نَظَر ، فَإِنَّهُ نَدِمَ عَلَى مَا صَدَرَ مِنْهُ وَتَابَ ، وَلَكِنْ أَخَّرَ الْكَلَام مَعَهُ حَتَّى قَبِلَ اللَّه تَوْبَته ، وَقَضَيْته أَنْ لَا يُكَلَّمَ حَتَّى تُقْبَل تَوْبَته ، وَيُمْكِن الْجَوَاب بِأَنَّ الِاطِّلَاع عَلَى الْقَبُول فِي قِصَّة كَعْب كَانَ مُمْكِنًا ، وَأَمَّا بَعْده فَيَكْفِي ظُهُور عَلَامَة النَّدَم وَالْإِقْلَاع وَأَمَارَة صِدْق ذَلِكَ ( [7] ) ؛ وقال ابن عابدين في ( رد المحتار ) : يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْفَاسِقِ لَوْ مُعْلِنًا وَإِلَّا لَا ؛ وَفِي ( فُصُولِ الْعَلَامِيِّ ) : وَلَا يُسَلِّمُ عَلَى الشَّيْخِ الْمُمَازِحِ وَالْكَذَّابِ وَاللَّاغِي ، وَلَا عَلَى مَنْ يَسُبُّهُ النَّاسُ أَوْ يَنْظُرُ وُجُوهَ الْأَجْنَبِيَّاتِ ، وَلَا عَلَى الْفَاسِقِ الْمُعْلِنِ ، وَلَا عَلَى مَنْ يُغْنِي أَوْ يُطَيِّرُ الْحَمَامَ مَا لَمْ تُعْرَفْ تَوْبَتُهُمْ ( [8] ) .
وأما إذا مر بمجلس فيه أخلاط من أهل السنة وأهل البدعة نقل ابن حجر عن ابْنِ الْعَرَبِيِّ أَنْ من مَرَّ بِمَجْلِسٍ يَجْمَع أَهْل السُّنَّة وَالْبِدْعَة , وَبِمَجْلِسٍ فِيهِ عُدُول وَظَلَمَة , وَبِمَجْلِسٍ فِيهِ مُحِبّ وَمُبْغِض ؛ أنه يُسَلِّم بِلَفْظِ التَّعْمِيم وَيَقْصِد بِهِ الْمُسْلِم ( [9] ) ؛ وهو مستنبط من حديث أسامة t أن النبي e مَرَّ فِي بمَجْلِسٍ فِيهِ أَخْلَاط مِنْ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ... فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ النَّبِيُّ e ؛ والعلم عند الله تعالى .

[1] - زاد المعاد : 2 / 390 ، 391 ؛ وحديث توبة كعب بن مالك مشهور في الصحيحين ؛ وحديث عمار رواه أحمد : 4 / 320 ، وأبو داود ( 4176 ) وفي إسناده مجهول .

[2] - أحمد : 3 / 14 ، والنسائي ( 5206 ) ، وابن حبان ( 5489 ) .

[3] - أحمد : 2 / 136 ، وأبو داود ( 4613 ) ، والترمذي ( 2152 ) وصححه ، وابن ماجة ( 4061 ) .

[4] - نقلا عن تحفة الأحوذي : 6 / 306 .

[5] - أثر عبد الله بن عمرو رواه البخاري في ( الأدب ) المفرد ( 1017 ) بلفظ : لَا تُسَلِّمُوا عَلَى شُرَّاب الْخَمْر .

[6] - انظر الأذكار ص 255 .

[7] - انظر فتح الباري : 11 / 40 ، 41 باختصار .

[8] - انظر رد المحتار على الدر المختار : 1 / 617 – دار الفكر - بيروت .

[9] - انظر فتح الباري : 11 / 39 .
 
الأحوال الاستثنائية من عموم ابتداء السلام

استثنى الفقهاء من عموم البدء بالسلام أحوالا ؛ أذكرها هنا مجموعة عند المذاهب المتبوعة ، ثم أتبعها ببيان بعض ما يحتاج إلى بيان منها ، والله المستعان .
فعند الأحناف : يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْمُصَلِّي ، وَالْقَارِئِ ، وَالْجَالِسِ لِلْقَضَاءِ ، أَوْ الْبَحْثِ فِي الْفِقْهِ ، أَوْ التَّخَلِّي ، وعلى خَطِيبٍ وَمَنْ يَصْغَى إلَيْهِ ، ومُكَرِّرِ فِقْهٍ ليحفظه ، ومُؤَذِّنٍ أَوْ مُقِيمٍ ، ومُدَرِّسٍ ، وَعلى الْفَتَيَاتِ الْأَجْنَبِيَّاتِ ، وعلى الكافر ، والعاصي ، والمبتدع ، وعلى الآكل ، والمشتغل بجماع ، والمغني .
والقاعدة عندهم : يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْعَاجِزِ عَنْ الْجَوَابِ حَقِيقَةً كَالْمَشْغُولِ بِالْأَكْلِ أَوْ الِاسْتِفْرَاغِ ؛ أَوْ شَرْعًا كَالْمَشْغُولِ بِالصَّلَاةِ وَقِرَاءَةِ الْقُرْآنِ ، وَلَوْ سَلَّمَ لَا يَسْتَحِقُّ الْجَوَابَ ( [1] ) .
ونظمها صَدْرُ الدِّينِ الْغَزِّيِّ فَقَالَ :

سَلَامُك مَكْرُوهٌ عَلَى مَنْ سَتَسْمَعُ ... وَمِنْ بَعْدِ مَا أُبْدِيَ يُسَنُّ وَيُشْرَعُ


لِمُصَلٍّ وَتَالٍ ذَاكِرٍ وَمُحَدِّثٍ ... خَطِيبٍ وَمَنْ يَصْغَى إلَيْهِمْ وَيَسْمَعُ


مُكَرِّرِ فِقْهٍ جَالِسٍ لِقَضَائِهِ وَمَنْ ... بَحَثُوا فِي الْعِلْمِ دَعْهُمْ لِيَنْفَعُوا


مُؤَذِّنٍ أَيْضًا أَوْ مُقِيمٍ مُدَرِّسٍ ... كَذَا الْأَجْنَبِيَّاتُ الْفَتَيَاتُ تُمْنَعُ


وَلُعَّابُ شِطْرَنْجٍ وَشِبْهٌ بِخُلُقِهِمْ ... وَمَنْ هُوَ مَعَ أَهْلٍ لَهُ يَتَمَتَّعُ


وَدَعْ كَافِرًا وَمَكْشُوفَ عَوْرَةٍ ... وَمَنْ هُوَ فِي حَالِ التَّغَوُّطِ أَشْنَعُ


وَدَعْ آكِلًا إلَّا إذَا كُنْت جَائِعًا ... وَتَعْلَمُ مِنْهُ أَنَّهُ لَيْسَ يَمْنَعُ


كَذَلِكَ أُسْتَاذٌ مُغَنٍّ مُطَيِّرٌ ... فَهَذَا خِتَامٌ وَالزِّيَادَةُ تَنْفَعُ ( [2] ) .

قال ابن عابدين - رحمه الله : وفِي النَّظْمِ أَشْيَاءُ مُتَدَاخِلَةٌ يُغْنِي ذِكْرُ بَعْضِهَا عَنْ بَعْضٍ ؛ ونقل عن عَنْ ( رَوْضَةِ الزَّنْدَوَسْتِيِّ ) ما حاصله : أَنَّهُ يَأْثَمُ بِالسَّلَامِ عَلَى الْمَشْغُولِينَ بِالْخُطْبَةِ أَوْ الصَّلَاةِ أَوْ قِرَاءَةِ الْقُرْآنِ أَوْ مُذَاكَرَةِ الْعِلْمِ أَوْ الْآذَانِ أَوْ الْإِقَامَةِ ، وَأَنَّهُ لَا يَجِبُ الرَّدُّ فِي الْأَوَّلَيْنِ ؛ لِأَنَّهُ يُبْطِلُ الصَّلَاةَ وَالْخُطْبَةَ كَالصَّلَاةِ ، وَيَرُدُّونَ فِي الْبَاقِي ، لِإِمْكَانِ الْجَمْعِ بَيْنَ فَضِيلَتَيْ الرَّدِّ وَمَا هُمْ فِيهِ ، مِنْ غَيْرِ أَنْ يُؤَدِّيَ إلَى قَطْعِ شَيْءٍ تَجِبُ إعَادَتُهُ ؛ ثم قال : : لَكِنَّ فِي ( الْبَحْرِ ) عَنْ الزَّيْلَعِيِّ مَا يُخَالِفُهُ فَإِنَّهُ قَالَ : يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْمُصَلِّي وَالْقَارِئِ ، وَالْجَالِسِ لِلْقَضَاءِ أَوْ الْبَحْثِ فِي الْفِقْهِ أَوْ التَّخَلِّي وَلَوْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَا يَجِبُ عَلَيْهِمْ الرَّدُّ لِأَنَّهُ فِي غَيْرِ مَحَلِّهِ .ا هـ . وَمُفَادُهُ أَنَّ كُلَّ مَحَلِّ لَا يُشْرَعُ فِيهِ السَّلَامُ لَا يَجِبُ رَدُّهُ ( [3] ) .

[1] - انظر : ( البحر الرائق شرح كنز الدقائق ) : 2 / 10 ، وما بعدها ، و( رد المحتار على الدر المختار ) لابن عابدين : 1 / 616 : 618 ؛ و ( روح المعاني ) للألوسي : 5 / 102 دار إحياء التراث العربي .

[2] - انظر : ( البحر الرائق شرح كنز الدقائق ) : 2 / 12 ، والبيت الأخير لصاحب ( النهر ) زاده على النظم .

[3] - انظر حاشية ابن عابدين : 1 / 616 : 618 .
 
وعند المالكية : يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى الْمُلَبِّي ، وَالْمُؤَذِّنُ وَالْمُقِيمِ ، وَعَلَى الْمُصَلِّي ، وَقَاضِي الْحَاجَةِ ، وَالْآكِلُ ، وَالشَّارِبُ ، وقَارِئَ الْقُرْآنِ ، ومَنْ دَخَلَ الْحَمَّامَ وَهُوَ كَاشِفٌ الْعَوْرَةَ أَوْ كَانَ مَشْغُولًا بِمَا دَخَلَ لَهُ الْحَمَّامَ ، وعلى الشَّابَّةِ ، وَأَهْلِ الْبِدَعِ ، وَالْكَافِرِ ، وَأَهْلِ الْمَعَاصِي ( [1] ).

وعند الشافعية : يكره السلام على مشتغل ببول أو جماع ونحوهما ؛ ومن كان نائمًا أو ناعسًا أو في حمام ، وعلى المصلي ، والمشتغل بقراءة القرآن ، والمؤذن والمقيم ، والملبي ، ويكره السلام في حال الخطبة ،
والضَّابِطُ كَمَا قَالَهُ الْإِمَامُ ( أي إمام الحرمين ) أَنْ يَكُونَ الشَّخْصُ بِحَالَةٍ لَا يَلِيقُ بِالْمُرُوءَةِ الْقُرْبُ مِنْهُ فِيهَا فَيَدْخُلُ النَّائِمُ وَالنَّاعِسُ وَالْخَطِيبُ .
وَقَدْ نَظَمَها الْجَلَالُ الْسْيُوطِيُّ - رحمه الله - فَقَالَ :
رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبٌ إلَّا عَلَى ... مَنْ فِي الصَّلَاةِ أَوْ بِأَكْلٍ شُغِلَا
أَوْ شُرْبٍ أَوْ قِرَاءَةٍ أَوْ أَدْعِيَهْ ... أَوْ ذِكْرٍ أَوْ فِي خُطْبَةٍ أَوْ تَلْبِيَهْ
أَوْ فِي قَضَاءِ حَاجَةِ الْإِنْسَانِ ... أَوْ فِـي إقَـامَةٍ أَوْ الْأذَانِ
أَوْ سَلَّمَ الطِّفْلُ أَوْ السَّكْرَانُ ... أَوْ شَابَّةٌ يُخْشَى بِهَا افْتِتَانُ
أَوْ فَاسِقٌ أَوْ نَاعِسٌ أَوْ نَائِمُ ... أَوْ حَالَة الْجِمَاعِ أَوْ تَحَاكُمُ
أَوْ كَانَ فِي الْحَمَّامِ أَوْ مَجْنُونا ... فَوَاحِدٌ مِنْ بَعْدِهَا عِشْرُونَا ( [2] )
وعند الحنابلة :
يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى تَالٍ لِلْقُرْآنِ ، وَعَلَى ذَاكِرٍ لِلَّهِ تَعَالَى ، وَعَلَى مُلَبٍّ ، وَمُحَدِّثٍ لِحَدِيثِ النَّبِيِّ e ، وَخَطِيبٍ وَوَاعِظِ وَعَلَى مَنْ يَسْتَمِعُ لَهُمْ ، أَيْ : لِلْمَذْكُورِينَ جميعا ؛ وَيُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَى مُكَرِّرِ فِقْهٍ ، وَمُدَرِّسٍ لعِلْمٍ مَشْرُوعٍ أَوْ مُبَاحٍ ، وَعَلَى مَنْ يَبْحَثُونَ فِي الْعِلْمِ ، وَعَلَى مَنْ يُؤَذِّنُ أَوْ يُقِيمُ ، وَعلى الْمُصَلِّي وَالصحيح في الْمَذْهَبَ لَا يُكْرَهُ السَّلَامُ عَلَيْهِ ؛ وَيُكْرَه السَّلَامُ عَلَى مَنْ يَأْكُلُ أَوْ يُقَاتِلُ ، وَيُكْرَه السَّلَامُ فِي الْحَمَّامِ ، وَيُكْرَهُ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَى امْرَأَةٍ أَجْنَبِيَّةٍ إلَّا أَنْ تَكُونَ عَجُوزًا ؛ وَعَلَى مَنْ هُوَ عَلَى حَاجَتِهِ ، أَوْ مُتَمَتِّعٍ بِأَهْلِهِ ، أَوْ مُشْتَغِلٍ بِالْقَضَاءِ وَنَحْوِهِمْ ؛ أَيْ : نَحْوِ الْمَذْكُورِينَ مِنْ كُلِّ مَنْ لَهُ شُغْلٍ عَنْ رَدِّ السَّلَامِ .
وَمَنْ سَلَّمَ فِي حَالَةٍ لَا يُسْتَحَبُّ فِيهَا السَّلَامُ ( كَالْأَحْوَالِ السَّابِقَةِ ) لَمْ يَسْتَحِقَّ جَوَابًا لِسَلَامِهِ ( [3] ) .

قال مقيده عفا الله عنه : هذه مسائل اتفق العلماء على بعضها واختلفوا في أخر ، وبعضها يمكن أن يدخل في بعض ولذا وجب بيانها :

[1] - انظر مواهب الجليل : 1 / 459 ، 460 – دار الفكر .

[2] - انظر أذكار النووي ص 251 وما بعده ، والمجموع : 4 / 509 .

[3] - انظر ( كشاف القناع عن متن الإقناع ) للبهوتي : 2 / 153 – دار الفكر .
 
بيان لما سبق إجماله
حال الصلاة:
علل العلماء كراهة إلقاء السلام على المصلي بأنه في حال لا يستطيع الرد فيها ؛ إذ يحرم على المصلى أن يرد السلام بصيغة المخاطب ( عليكم ) وتبطل صلاته ، فالمصلي منشغل بالعبادة ولا يجوز أن يُشغل بغيرها ؛ واستدلوا بقوله e لابن مسعود : " إِنَّ فِي الصَّلَاة شُغْلًا " ( [1] ) فإن في ذَلِكَ إشارة إلى كراهة السلام عليه ؛ ولأنه يشغل المصلي ، وربما سها بسببه فبادر الرد عليهِ ؛ قال النووي في ( شرح مسلم ) فِيه تَحْرِيم رَدِّ السَّلَام فِيهَا بِاللَّفْظِ , وَأَنَّهُ لَا تَضُرّ الْإِشَارَة بَلْ يُسْتَحَبّ رَدُّ السَّلَام بِالْإِشَارَةِ , وَبِهَذِهِ الْجُمْلَة قَالَ الشَّافِعِيّ , وَالْأَكْثَرُونَ ... قال : وَأَمَّا اِبْتِدَاء السَّلَام عَلَى الْمُصَلِّي فَمَذْهَب الشَّافِعِيّ - رَحِمَهُ اللَّه تَعَالَى - أَنَّهُ لَا يُسَلِّم عَلَيْهِ , فَإِنْ سَلَّمَ لَمْ يَسْتَحِقّ جَوَابًا , وَقَالَ بِهِ جَمَاعَة مِنْ الْعُلَمَاء , وَعَنْ مَالِك t رِوَايَتَانِ إِحْدَاهُمَا : كَرَاهَة السَّلَام . وَالثَّانِيَة جَوَازه . وقَوْله e : " إِنَّ فِي الصَّلَاة شُغْلًا " مَعْنَاهُ : إِنَّ الْمُصَلِّي وَظِيفَته أَنْ يَشْتَغِل بِصَلَاتِهِ فَيَتَدَبَّر مَا يَقُولهُ , وَلَا يُعَرِّج عَلَى غَيْرهَا , فَلَا يَرُدّ سَلَامًا وَلَا غَيْره .ا.هـ . وقال في ( المجموع ) : أما المصلى قال الغزالي لا يسلم عليه ؛ وقال المتولي والجمهور : لا مانع من السلام عليه لكن لا يستحق جوابا لا في الحال ولا بعد الفراغ من الصلاة ، لا باللفظ ولا بالإشارة ؛ ويستحب أن يرد في الصلاة بالإشارة ( [2] ) ؛ والصحيح من مذهب أحمد أنه لا يكره ذلك ، ويرد بالإشارة للأحاديث الواردة في ذلك ، وقد تقدمت ، أو يرد بعد الصلاة كما فعل النبي e مع ابن مسعود t ؛ وهو الراجح جمعًا بين الأدلة ، والعلم عند الله تعالى .

حال الأذان والإقامة :
كره الفقهاء إلقاء السلام على المؤذن حال الأذان ، لانشغاله به ، وهو عبادة يكره أن يقطعها لغير عذر ؛ وفي ( مواهب الجليل ) : وَقَالَ أَبُو الْحَسَنِ عَنْ ابْنِ يُونُسَ : لَمَّا كَانَ الْأَذَانُ لَا يُبْطِلُهُ الْكَلَامُ وَإِنَّمَا هُوَ مَكْرُوهٌ ؛ وَكَانَ رَدُّ السَّلَامِ وَاجِبًا لَمْ يَجُزْ لَهُ أَنْ يَرُدَّ إلَّا كَلَامًا ، فَصَارَ الْمُسَلِّمُ عَلَيْهِ أَدْخَلَهُ بِسَلَامِهِ فِي الْكَرَاهَةِ ، فَنُهِيَ أَنْ يُسَلِّمَ عَلَيْهِ حَتَّى يَفْرُغَ مِمَّا هُوَ فِيهِ ، فَإِذَا عَصَى وَسَلَّمَ عَلَيْهِ عُوقِبَ بِأَنْ لَا يَرُدَّ عَلَيْهِ ؛ كَمَنْعِ الْقَاتِلِ الْمِيرَاثَ لِاسْتِعْجَالِهِ ذَلِكَ قَبْلَ وَقْتِهِ .ا.هـ ( [3] ) .
ولكن إن أُلقي عليه السلام فلا يكره للمؤذن أن يرد ، لأنه شيء يسير لا يبطل الأذان ولا يخل به .

الأكل والشرب :
إذا كان المسلَّمُ عليه يأكل واللقمة في فمه ؛ لا يُسلَّم عليه ولا يستحق المسلِّم جوابا ، والرد مندوب أما إذا كان على الأكل وليست اللقمة في فمه فلا بأس بالسلام عليه ، ويجب الجواب .
قال النووي : وأما المشتغل بالأكل ، فقال الشيخ أبو محمد والمتولي : لا يسلَّم عليه ؛ قال إمام الحرمين هذا محمول على ما إذا كانت اللقمة في فيه ، وكان يمضي زمان في المضغ والابتلاع ، ويعسر الجواب في الحال ؛ قال : فأما إن سلم بعد الابتلاع وقبل وضع لقمة أخرى فلا يتوجه المنع ( [4] ) . ومن هنا يعلم أنه لا أصل لما شاع عند العوام : ( لا سلام على طعام ) ؛ بل ينظر في حال من يأكل حتى لا يتضرر أن يتنكد بالرد وهو في حال المضغ أو الابتلاع .

الجماع : لِمَا فِيهِ مِنْ الْأَذَى وَالتَّخْجِيلِ وَقِلَّةِ الْحَيَاءِ ؛ وذلك إن كان عالما بحاله ، وإلا فلا يكره ، إذ هذه الحالة موطنها الستر ، فمن سلم من خلف بابٍ أو جدار على إنسان يعلم وجوده لكنه لا يعلم حاله ، فلا يكره ؛ لكن يسقط وجوب الرد عن من هذه حاله . والعلم عند الله تعالى .
حال البول والغائط :
إذا كان المسلَّم عليه مشغولا بالبول أو بالغائط فيكره إلقاء السلام عليه ، ولا يستحق جوابا إن سلَّم بل يكره ، لما رواه مسلم عَنْ ابْنِ عُمَرَ t أَنَّ رَجُلًا مَرَّ وَرَسُولُ اللَّهِ e يَبُولُ فَسَلَّمَ فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ " ( [5] ) ؛ وبوب الترمذي ( بَاب مَا جَاءَ فِي كَرَاهِيَةِ التَّسْلِيمِ عَلَى مَنْ يَبُولُ ) وأورد فيه حديث ابن عمر هذا ؛ قال النووي - رحمه الله : فِيهِ أَنَّ الْمُسَلِّم فِي هَذَا الْحَال لَا يَسْتَحِقّ جَوَابًا , وَهَذَا مُتَّفَق عَلَيْهِ ؛ قَالَ أَصْحَابنَا : وَيُكْرَه أَنْ يُسَلِّم عَلَى الْمُشْتَغِل بِقَضَاءِ حَاجَة الْبَوْل وَالْغَائِط , فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كُرِهَ لَهُ رَدّ السَّلَام .ا.هـ ( [6] ) .
وإذا رد بعد انتهائه من بوله فلا بأس ؛ لحديث الْمُهَاجِرِ بْنِ قُنْفُذٍ أَنَّهُ أَتَى النَّبِيَّ e وَهُوَ يَبُولُ فَسَلَّمَ عَلَيْهِ ، فَلَمْ يَرُدَّ عَلَيْهِ حَتَّى تَوَضَّأَ ، ثُمَّ اعْتَذَرَ إِلَيْهِ فَقَالَ : " إِنِّي كَرِهْتُ أَنْ أَذْكُرَ اللَّهَ U إِلَّا عَلَى طُهْرٍ " أَوْ قَالَ : " عَلَى طَهَارَةٍ " .

[1] - البخاري ( 3875 ) ، ومسلم ( 538 ) .

[2] - انظر المجموع : 4 / 609 .

[3] - انظر مواهب الجليل : 1 / 459 .

[4] - انظر المجموع : 4 / 609 .

[5] - مسلم ( 370 ) .

[6] - انظر شرح مسلم للنووي : 4 / 65 .
 
من كان في الحمام :
والمراد بالحمام هنا ؛ الحمام العام الذي كانوا يدخلونه للتنظيف أو الاستشفاء ؛ قَالَ اِبْن دَقِيق الْعِيد - رحمه الله : اِحْتَجَّ مَنْ مَنَعَ السَّلَام عَلَى مَنْ فِي الْحَمَّام بِأَنَّهُ بَيْت الشَّيْطَان وَلَيْسَ مَوْضِع التَّحِيَّة لِاشْتِغَالِ مَنْ فِيهِ بِالتَّنْظِيفِ ، قَالَ وَلَيْسَ هَذَا الْمَعْنَى بِالْقَوِيِّ فِي الْكَرَاهَة ، بَلْ يَدُلّ عَلَى عَدَم الِاسْتِحْبَاب ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَار فَيُسَلِّم وَإِلَّا فَلَا ؛ وَقَدْ ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ أُمّ هَانِئ : أَتَيْتُ النَّبِيّ e وَهُوَ يَغْتَسِل وَفَاطِمَة تَسْتُرهُ فَسَلَّمْتُ عَلَيْهِ .. الْحَدِيث ( [1] ) . وقال في موضع آخر في تعليقه على قول إبراهيم النخعي ( إِنْ كَانَ عَلَيْهِمْ إِزَارٌ فَسَلِّمْ وَإِلَّا فَلَا تُسَلِّمْ ) : وَالنَّهْي عَنْ السَّلَام عَلَيْهِمْ إِمَّا إِهَانَة لَهُمْ لِكَوْنِهِمْ عَلَى بِدْعَة ، وَإِمَّا لِكَوْنِهِ يَسْتَدْعِي مِنْهُمْ الرَّدّ ، وَالتَّلَفُّظ بِالسَّلَامِ فِيهِ ذِكْر اللَّه لِأَنَّ السَّلَام مِنْ أَسْمَائِهِ ، وَأَنَّ لَفْظ سَلَامٌ عَلَيْكُمْ مِنْ الْقُرْآن ، وَالْمُتَعَرِّي عَنْ الْإِزَار مُشَابِه لِمَنْ هُوَ فِي الْخَلَاء ( [2] ) .

من كان نائما أو ناعسًا ؛ والنعاس أول النوم ، ومن كان هذا حاله فلا يُلقى عليه السلام لأنه يتنكد بذلك ويشوش عليه راحته ؛ والسُّنَّة فِيهِ مَا ثَبَتَ فِي صَحِيح مُسْلِم عَنْ الْمِقْدَاد t قَالَ : كَانَ النَّبِيُّ e يَجِيء مِنْ اللَّيْل فَيُسَلِّم تَسْلِيمًا لَا يُوقِظ نَائِمًا وَيُسْمِع الْيَقْظَان ( [3] ) .

حال الخطبة :
قَالَ النَّوَوِيّ : وَأَمَّا السَّلَام حَال الْخُطْبَة فِي الْجُمُعَة فَيُكْرَه لِلْأَمْرِ بِالْإِنْصَاتِ ، فَلَوْ سَلَّمَ لَمْ يَجِب الرَّدّ عِنْدَ مَنْ قَالَ الْإِنْصَات وَاجِب ، وَيَجِبُ عِنْدَ مَنْ قَالَ إِنَّهُ سُنَّة ، وَعَلَى الْوَجْهَيْنِ لَا يَنْبَغِي أَنْ يَرُدّ أَكْثَر مِنْ وَاحِد ( [4] ) . وهذا الحكم في حق الخطيب ومن يستمعون له ؛ وسحبه جمهور الفقهاء على المدرس والواعظ ومن يستمعون إليهم .

حال قراءة القرآن والدعاء والذكر :
أَمَّا الْمُشْتَغِل بِقِرَاءَةِ الْقُرْآن فَنقل النووي – رحمه الله عن الْوَاحِدِيّ قَالَ : الْأَوْلَى تَرْك السَّلَام عَلَيْهِ ، فَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِ كَفَاهُ الرَّدّ بِالْإِشَارَةِ ، وَإِنْ رَدَّ لَفْظًا اِسْتَأْنَفَ الِاسْتِعَاذَة وَقَرَأَ . قَالَ النَّوَوِيّ : وَفِيهِ نَظَرٌ ، وَالظَّاهِر أَنَّهُ يُشْرَع السَّلَام عَلَيْهِ وَيَجِب عَلَيْهِ الرَّدّ ( [5] ) ، ثُمَّ قَالَ : وَأَمَّا مَنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالدُّعَاءِ مُسْتَغْرِقًا فِيهِ مُسْتَجْمِع الْقَلْب فَيَحْتَمِل أَنْ يُقَال هُوَ كَالْقَارِئِ ، وَالْأَظْهَر عِنْدِي أَنَّهُ يُكْرَه السَّلَام عَلَيْهِ لِأَنَّهُ يَتَنَكَّد بِهِ وَيَشُقّ عَلَيْهِ أَكْثَر مِنْ مَشَقَّة الْأَكْل ( [6] ) .
والظاهر أنه إن سُلِّم عليه وجب الردُّ ، ثم يستأنف القراءة ، ولا يُكتفى بالرد بالإِشارة كما قال الواحدي ؛ لأن الرد لفظًا هو المتعين ولا يمنع منه التلاوة بخلاف الصلاة ؛ ومثل قارئ القرآن المشتغل بالدعاء والذكر ؛ والعلم عند الله تعالى . قال ابن حجر - رحمه الله : وَذَكَرَ بَعْضُ الْحَنَفِيَّة أَنَّ مَنْ جَلَسَ فِي الْمَسْجِد لِلْقِرَاءَةِ أَوْ التَّسْبِيح أَوْ لِانْتِظَارِهِ الصَّلَاة لَا يُشْرَع السَّلَام عَلَيْهِمْ ، وَإِنْ سَلَّمَ عَلَيْهِمْ لَمْ يَجِب الْجَوَاب ، قَالَ وَكَذَا الْخَصْم إِذَا سَلَّمَ عَلَى الْقَاضِي لَا يَجِب عَلَيْهِ الرَّدّ ؛ وَكَذَلِكَ الْأُسْتَاذ إِذَا سَلَّمَ عَلَيْهِ تِلْمِيذه لَا يَجِب الرَّدُّ عَلَيْهِ ، كَذَا قَالَ . وَهَذَا الْأَخِير لَا يُوَافَقُ عَلَيْهِ ( [7] ) ؛ قلت : لكون أصحاب النبي e كانوا يسلمون عليه ويرد عليهم e ؛ وأما في حال الدرس فحكمه كغيره ، وسبق الحديث عنه .

التلبية :
يُكْرَه أَنْ يُسَلِّم عَلَى الْمُلَبِّي فِي الْإِحْرَام ، لِأَنَّ قَطْعه التَّلْبِيَة مَكْرُوه ، وَيَجِب عَلَيْهِ الرَّدُّ مَعَ ذَلِكَ لَفْظًا لَوْ سُلَّمَ عَلَيْهِ ، قال النووي في ( المجموع ) : وأما الملبي بالحج أو العمرة فيكره السلام عليه ؛ فإن سُلِّم رد عليه لفظا ، نص عليه الشافعي والأصحاب ؛ والسلام على المؤذن ومقيم الصلاة في معنى السلام علي الملبي ( [8] ) .

حال التقاضي :
من جلس للقضاء فلا يُسلِّم عليه الخصوم ، ونقل ابن عابدين عن السرخسي : الْخُصُومُ لَا يُسَلِّمُونَ عَلَى الْقُضَاةِ ؛ لأَنَّ السَّلَامَ تَحِيَّةُ الزَّائِرِينَ وَالْخُصُومُ مَا تَقَدَّمُوا إلَى الْقَاضِي زَائِرِينَ ، فَعَلَى هَذَا لَوْ جَلَسَ الْقَاضِي لِلزِّيَارَةِ فَالْخُصُومُ يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ، وَلَوْ جَلَسَ الْأَمِيرُ لِفَصْلِ الْخُصُومَةِ لَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ ، قال ابن عابدين : وَمُقْتَضَى هَذَا أَنَّ الْخُصُومَ إذَا دَخَلُوا عَلَى الْمُفْتِي لَا يُسَلِّمُونَ عَلَيْهِ .. تَأَمَّلْ ( [9] ) ؛ قلت : لكون المجلس مجلس قضاء لا مجلس إفتاء .. والعلم عند الله تعالى .

المرأة الأجنبية :
المرأة الأجنبية إن كانت جميلة يخاف الافتتان بها لا يسلِّم الرجل عليها، ولو سلَّم لم يجز لها الجواب ، وهى لا تسلم عليه ابتداء ، وإن سلمت لم تستحق جوابًا ، فإن أجابها كره له ذلك .
وإن كانت عجوزًا لا يفتتن بها جاز أن تسلم على الرجل ، وعلى الرجل رد السلام عليها ، وإذا كانت النساء جمعًا فيسلم عليهن الرجل ، أو كان الرجال جمعًا كثيرًا فسلموا على المرأة الواحدة جاز إذا لم يخف عليه ولا عليهن ولا عليها أو عليهم فتنة ؛ وقد مر حكم السلام على النساء بتفصيل .

الفاسق بارتكاب منكرٍ لم يتب منه ؛ لا يسلَّم عليه ، ولا يُرَدُّ عليه السلام ، زجرا له ، وقد مر تفصيل ذلك .

غير المسلم ؛ سواء أكان من أهل الكتاب أو غيرهم من الكفار .
فهؤلاء جميعًا لا يُسَلَّم عليهم تحريمًا أو كراهة ، وقد مر الكلام عن ذلك مفصلا .

[1] - انظر فتح الباري : 11 / 20 ، وحديث أن هانئ تقدم تخريجه .

[2] - فتح الباري 1 / 287 .

[3] - مسلم ( 2055 ) .

[4] - انظر الأذكار ص 251 باختصار .

[5] - هذا كلامه في ( الأذكار ) ص 251 ؛ ولفظه في ( المجموع ) : 4 / 608 : وهذا الذي قاله ضعيف ؛ والمختار أنه يسلم عليه ويجب الرد باللفظ .

[6] - الأذكار ص 251 .

[7] - انظر فتح الباري

[8] - ( المجموع ) : 4 / 610 ، 611 ، وانظر الأذكار ص 251 .

[9] - انظر حاشية ابن عابدين : 1 / 616 .
 
فائدة :
قَالَ النووي : وَلَوْ تَبَرَّعَ وَاحِد مِنْ هَؤُلَاءِ بِرَدِّ السَّلَام إِنْ كَانَ مُشْتَغِلًا بِالْبَوْلِ وَنَحْوه فَيُكْرَه ؛ وَإِنْ كَانَ آكِلًا وَنَحْوه فَيُسْتَحَبّ فِي الْمَوْضِع الَّذِي لَا يَجِب ، وَإِنْ كَانَ مُصَلِّيًا لَمْ يَجُزْ أَنْ يَقُول بِلَفْظِ الْمُخَاطَبَة كَعَلَيْك السَّلَام ، أَوْ عَلَيْك فَقَطْ ، فَلَوْ فَعَلَ بَطَلَتْ إِنْ عَلِمَ التَّحْرِيم لَا إِنْ جَهِلَ فِي الْأَصَحّ ، فَلَوْ أَتَى بِضَمِيرِ الْغَيْبَة لَمْ تَبْطُل ، وَيُسْتَحَبُّ أَنْ يَرُدَّ بِالْإِشَارَةِ ، وَإِنْ رَدَّ بَعْد فَرَاغ الصَّلَاة لَفْظًا فَهُوَ أَحَبُّ ، وَإِنْ كَانَ مُؤَذِّنًا أَوْ مُلَبِّيًا لَمْ يُكْرَه لَهُ الرَّدّ لَفْظًا ؛ لِأَنَّهُ قَدْر يَسِير لَا يُبْطِل الْمُوَالَاة ( [1] ) .

[1] - انظر ( الأذكار ) ص 252 .
 
آداب تتعلق بالسلام
للإسلام في كل حال أدب ، فللسلام آداب ينبغي مراعاتها ، ومن هذه الآداب ما هو واجب ، ومنها ما هو مستحب ، وقد ورد بعضها مجموعًا في حديث واحد ، وجمعت أحاديث مفردة بعضًا آخر ، وبيانها كالتالي .
1 - يُسَلِّم الْقَلِيل عَلَى الْكَثِير
هُوَ أَمْر نِسْبِيّ يَشْمَل الْوَاحِد بِالنِّسْبَةِ لِلِاثْنَيْنِ فَصَاعِدًا ، وَالِاثْنَيْنِ بِالنِّسْبَةِ لِلثَّلَاثَةِ فَصَاعِدًا ، وَمَا فَوْق ذَلِكَ ؛ ففي الصحيحين عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " يُسَلِّمُ الصَّغِيرُ عَلَى الْكَبِيرِ ، وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ " ( [1] ) . قَالَ النَّوَوِيُّ - رحمه الله : هَذَا الْأَدَبُ إِنَّمَا هُوَ فِيمَا إِذَا تَلَاقَى اِثْنَانِ فِي طَرِيقٍ ، أَمَّا إِذَا وَرَدَ عَلَى قَاعِدٍ أَوْ قُعُودٍ فَإِنَّ الْوَارِدَ يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ بِكُلِّ حَالٍ ، سَوَاءٌ كَانَ صَغِيرًا أَوْ كَبِيرًا ، قَلِيلًا أَوْ كَثِيرًا ( [2] ) . وتسليم القليل على الكثير من باب التواضع ، لأن حق الكثير أعظم من حق القليل ، وكذلك فعل آدم e - كان وحده والملأ من الملائكة كثير - حين أمر بالسلام عليهم ، وتقدم الحديث .

[1] - البخاري ( 6231 ) ، ومسلم ( 2160 ) .

[2] - انظر روضة الطالبين وعمدة المفتين للنووي : 10 / 229 ، والمجموع : 4 / 505 .
 
2 - يُسَلِّم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي :
لقوله e : " يُسَلِّمُ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي " وهو رواية لحديث أبي هريرة المتقدم وفي حديث عبد الرحمن بن شبل الآتي : " يُسَلِّم الرَّاكِب عَلَى الرَّاجِل " والراجل ، أي الماشي على رجله ؛ وروى أحمد والبخاري في ( الأدب المفرد ) والترمذي والنسائي عَنْ فَضَالَةَ بْنِ عُبَيْدٍ t أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ e قَالَ : " يُسَلِّمُ الْفَارِسُ عَلَى الْمَاشِي ، وَالْمَاشِي عَلَى الْقَائِمِ ، وَالْقَلِيلُ عَلَى الْكَثِيرِ " ( [1] ) . قال أبو الوليد الباجي في ( المنتقى شرح الموطأ ) : يُرِيدُ أَنَّهُ شُرِعَ فِي حَقِّهِ أَنْ يَبْدَأَ بِالسَّلَامِ وَذَلِكَ لأَنَّ الرَّجُلَيْنِ إِذَا تَسَاوَيَا فِي الْمُرُورِ سَلَّمَ الرَّاكِبُ عَلَى الْمَاشِي ؛ لِأَنَّهُ أَرْفَعُ حَالًا مِنْهُ فِي أَمْرِ الدُّنْيَا ، فَتَرْكُهُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ فَضُلَ عَلَيْهِ فِي الدُّنْيَا مِنْ بَابِ الْكِبْرِ . ا.هـ مختصرًا . فعلاجا لداء الكبر لابد وأن يتواضع فيبدأ بالسلام على من هو دونه في الدنيا ؛ وأيضا إعزازًا لمن هو أقل حالا ممن يركب ، حتى لا يظن من له نصيب من الدنيا أن لابد أن يقدمه الناس في كل شيء فيتأصل عنده داء الكبر ؛ فسلام الراكب على الماشي لئلا يتكبر بركوبه على الماشي فأُمِر بالتواضع ؛ والعلم عند الله تعالى .

[1] - أحمد : 6 / 19 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 996 ، 999 ) ، والترمذي ( 2705 ) وصححه ، والنسائي في الكبرى ( 10170 ) ، وابن حبان ( 497 ) .
 
3 - يُسَلِّم الْمَاشِي عَلَى الْقَاعِدِ :
لحديث أبي هريرة المتقدم ، وفي رواية : " وَالْمَارُّ عَلَى الْقَاعِدِ " ؛ وَأَخْرَجَ عَبْد الرَّزَّاق وَأَحْمَد عن عَبْد الرَّحْمَن بْن شِبْل t مرفوعا : " يُسَلِّم الرَّاكِب عَلَى الرَّاجِل ، وَالرَّاجِل عَلَى الْجَالِس وَالْأَقَلّ عَلَى الْأَكْثَر . فَمَنْ أَجَابَ كَانَ لَهُ وَمَنْ لَمْ يُجِبْ فَلَا شَيْء لَهُ " ( [1] ) ؛ ورواه ابن السني بلفظ " من أجاب السلام فهو له ، ومن لم يجب فليس منا " ( [2] ) . ومعنى : " ومن لم يجب فلا شيء له " : أي من الأجر ؛ بل عليه الوزر إن تركه بلا عذر .
وتسليم المار على القاعد هو من باب الداخل على القوم فعليه أن يبدأهم بالسلام ، وكذلك فعل آدم مع الملائكة حين قيل له : " اذْهَبْ فَسَلِّمْ عَلَى أُولَئِكَ النَّفَرِ - وَهُمْ نَفَرٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ جُلُوسٌ " . وقيل : لِأَنَّ الْقَاعِدَ يَشُقُّ عَلَيْهِ مُرَاعَاةُ الْمَارِّينَ مَعَ كَثْرَتِهِمْ فَسَقَطَتْ الْبُدَاءَةُ عَنْهُ لِلْمَشَقَّةِ بِخِلَافِ الْمَارِّ فَلَا مَشَقَّةَ عَلَيْهِ ؛ والعلم عند الله تعالى .

[1] - عبد الرزاق ( 19444 ) ، وأحمد : 3 / 444 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 992 ) ، وهو حديث صحيح .

[2] - ( اليوم والليلة ) لابن السني ( 207 ) .
 
4 – يسلم الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ :
لحديث أبي هريرة المتقدم ؛ وَكَأَنَّهُ لِمُرَاعَاةِ السِّنِّ فَإِنَّهُ مُعْتَبَرٌ فِي أُمُورٍ كَثِيرَةٍ فِي الشَّرْعِ ، ذلك للتواضع المقرون بالاحترام والإكرام المعتبر في السلام ، مع أن الغالب وجود التكبير في الكثير ، وأيضا وضع السلام للتواد ، والمناسب فيه أن يكون الصغير مع الكبير والقليل مع الكثير بمقتضى الأدب المعتبر شرعا وعرفا ؛ فوجه تسليم الصغير على الكبير فمن أجل حق الكبير على الصغير بالتواضع له والتوقير ، فعند أحمد والترمذي عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ عَنِ النَّبِيِّ e قَالَ : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يُوَقِّرِ الْكَبِيرَ ، وَيَرْحَمِ الصَّغِيرَ ، وَيَأْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَى عَنِ الْمُنْكَرِ " ( [1] ) ، وروى أحمد عَنْ عُبَادَةَ بْنِ الصَّامِتِ t أَنَّ رَسُولَ اللهِ e قَالَ : " لَيْسَ مِنْ أُمَّتِي مَنْ لَمْ يُجِلَّ كَبِيرَنَا ، وَيَرْحَمْ صَغِيرَنَا ، وَيَعْرِفْ لِعَالِمِنَا حَقَّهُ " ، وروى أحمد والترمذي عَنِ ابنِ عَمْرِو t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللهِ e : " لَيْسَ مِنَّا مَنْ لَمْ يَرْحَمْ صَغِيرَنَا وَيَعْرِفْ شَرَفَ كَبِيرِنَا " وفي رواية : " وَيَعْرِفْ حَقَّ كَبِيرِنَا " ( [2] ) ؛ أَي : ما يستحقه من التعظيم والتبجيل والتوقير .
وَنَقَلَ اِبْنُ دَقِيقِ الْعِيدِ عَنْ اِبْنِ رُشْدٍ أَنَّ مَحَلَّ الْأَمْرِ فِي تَسْلِيمِ الصَّغِيرِ عَلَى الْكَبِيرِ إِذَا اِلْتَقَيَا فَإِنْ كَانَ أَحَدُهُمَا رَاكِبًا وَالْآخَرُ مَاشِيًا بَدَأَ الرَّاكِبُ ، وَإِنْ كَانَا رَاكِبَيْنِ أَوْ مَاشِيَيْنِ بَدَأَ الصَّغِيرُ ( [3] ) .

[1] - أحمد : 1 / ، والترمذي ( 1921 ) .

[2] - أحمد : 2 / 185 ، والترمذي ( 1920 ) ، ورواه أحمد : 2 / 268 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 354 ) ، وأبو داود ( 4943 ) عن ابن عمرو من وجه آخر .

[3] - نقلا عن فتح الباري :
 
فائدة :
قال النووي : وَتَسْلِيم الرَّاكِب عَلَى الْمَاشِي , وَالْقَائِم عَلَى الْقَاعِد , وَالْقَلِيل عَلَى الْكَثِير , وَالصَّغِير عَلَى الْكَبِير , كُلّه لِلِاسْتِحْبَابِ , فَلَوْ عَكَسُوا جَازَ , وَكَانَ خِلَاف الْأَفْضَل .ا.هـ ( [1] ) .
قلت : ويؤيده ما رواه الجماعة عَنْ أَنَسِ t أَنَّهُ مَرَّ عَلَى صِبْيَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ، وَقَالَ : كَانَ النَّبِيُّ e يَفْعَلُهُ . وعند مسلم أَنَّ رَسُولَ اللهِ e مَرَّ عَلَى غِلْمَانٍ فَسَلَّمَ عَلَيْهِمْ ؛ وفي رواية عند أحمد وأبي داود : مر النبي e بصبيان يلعبون فسلم عليهم ( [2] ) ؛ وَأَخْرَجَ النَّسَائِيُّ وابن حبان عَنْ أَنَسِ t : كَانَ رَسُولُ اللَّهِ e يَزُورُ الْأَنْصَارَ فَيُسَلِّمُ عَلَى صِبْيَانِهِمْ وَيَمْسَحُ عَلَى رُءُوسِهِمْ وَيَدْعُو لَهُمْ ( [3] ) . قَالَ النَّوَوِيُّ فِي ( شَرْحِ مُسْلِمٍ ) : فِيهِ اِسْتِحْبَابُ السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ الْمُمَيِّزِينَ ، وَالنَّدْبُ إِلَى التَّوَاضُعِ ، وَبَذْلِ السَّلَامِ لِلنَّاسِ كُلِّهِمْ ، وَبَيَانُ تَوَاضُعِهِ e ، وَكَمَالِ شَفَقَتِهِ عَلَى الْعَالَمِينَ ؛ وَاتَّفَقَ الْعُلَمَاءُ عَلَى اِسْتِحْبَابِ السَّلَامِ عَلَى الصِّبْيَانِ .ا.هـ ( [4] ) . ونقلَ ابن حجر في ( الفتح ) عن الْمَازِرِيُّ وَغَيْره : هَذِهِ الْمُنَاسَبَات لَا يُعْتَرَض عَلَيْهَا بِجُزْئِيَّاتٍ تُخَالِفهَا لِأَنَّهَا لَمْ تُنْصَب نَصْب الْعِلَل الْوَاجِبَة الِاعْتِبَار حَتَّى لَا يَجُوز أَنْ يُعْدَل عَنْهَا ، حَتَّى لَوْ اِبْتَدَأَ الْمَاشِي فَسَلَّمَ عَلَى الرَّاكِب لَمْ يَمْتَنِع لِأَنَّهُ مُمْتَثِل لِلْأَمْرِ بِإِظْهَارِ السَّلَام وَإِفْشَائِهِ ، غَيْر أَنَّ مُرَاعَاة مَا ثَبَتَ فِي الْحَدِيث أَوْلَى وَهُوَ خَبَر بِمَعْنَى الْأَمْر عَلَى سَبِيل الِاسْتِحْبَاب ، وَلَا يَلْزَم مِنْ تَرْك الْمُسْتَحَبِّ الْكَرَاهَة ، بَلْ يَكُون خِلَاف الْأَوْلَى ، فَلَوْ تَرَكَ الْمَأْمُور بِالِابْتِدَاءِ فَبَدَأَهُ الْآخَر كَانَ الْمَأْمُور تَارِكًا لِلْمُسْتَحَبِّ وَالْآخَر فَاعِلًا لِلسُّنَّةِ ، إِلَّا إِنْ بَادَرَ فَيَكُون تَارِكًا لِلْمُسْتَحَبِّ أَيْضًا ( [5] ) .

[1] - انظر شرح مسلم : 14 / 141 .

[2] - أحمد : 3 / 131 ، 169 ، 235 ، والبخاري ( 6247 ) ، ومسلم ( 2168 ) ، وأبو داود ( 5202 ) ، والترمذي ( 2696 ) ، والنسائي في اليوم والليلة ( 332 ، 333 ) ، وابن ماجة ( 3700 ) .

[3] - النسائي في الكبرى ( 8349 ) ، وابن حبان ( 459 ) .

[4] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 14 / 149 .

[5] - انظر فتح الباري : 11 / 17 .
 
5 – إِذَا تَلَاقَى مَارَّانِ رَاكِبَانِ أَوْ مَاشِيَانِ ؛ قَالَ الْمَازِرِيُّ : يَبْدَأ الْأَدْنَى مِنْهُمَا الْأَعْلَى قَدْرًا فِي الدِّين إِجْلَالًا لِفَضْلِهِ ؛ لِأَنَّ فَضِيلَة الدِّين مُرَغَّب فِيهَا فِي الشَّرْع ( [1] ) .

6 - إِذَا تَسَاوَى الْمُتَلَاقِيَانِ مِنْ كُلّ جِهَة ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : فَكُلّ مِنْهُمَا مَأْمُور بِالِابْتِدَاءِ ، وَخَيْرهمَا الَّذِي يَبْدَأ بِالسَّلَامِ ، كَمَا فِي حَدِيث الْمُتَهَاجِرَيْنِ ؛ وَأَخْرَجَ الْبُخَارِيّ فِي ( الْأَدَب الْمُفْرَد ) بِسَنَدٍ صَحِيح مِنْ حَدِيث جَابِر قَالَ : " الْمَاشِيَانِ إِذَا اِجْتَمَعَا فَأَيّهمَا بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أَفْضَل " ( [2] ) ، وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ بِسَنَدٍ صَحِيح عَنْ الْأَغَرّ الْمُزَنِيِّ : قَالَ لِي أَبُو بَكْر : لَا يَسْبِقك أَحَد إِلَى السَّلَام ؛ وَالتِّرْمِذِيّ مِنْ حَدِيث أَبِي أُمَامَةَ رَفَعَهُ : " إِنَّ أَوْلَى النَّاس بِاَللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ " وَقَالَ : حَسَن ( [3] ) . وَأَخْرَجَ الطَّبَرَانِيُّ مِنْ حَدِيث أَبِي الدَّرْدَاء : قُلْنَا : يَا رَسُول اللَّه إِنَّا نَلْتَقِي فَأَيّنَا يَبْدَأ بِالسَّلَامِ ؟ قَالَ : " أَطْوَعكُمْ لِلَّهِ " ( [4] ) .

[1] - نقلا عن فتح الباري : 11 / 16 .

[2] - الأدب المفرد ( 994 ) .

[3] - الترمذي ( 2694 ) ، ورواه أحمد : 5 / 254 ، وأبو داود ( 5197 ) بنحوه .

[4] - انظر فتح الباري : 11 / 16 ، وحديث أبي الدرداء ، قال الهيثمي في مجمع الزوائد : 8 / 32: رواه الطبراني وفيه من لم أعرفهم .
 
7 - يسلم على من يعرف ومن لا يعرف :
ومن آداب السلام التي ندب إليها الشرع المطهر أن يسلم المسلم على من يعرف ومن لا يعرف من المسلمين ؛ فلَا يَخُصّ بِالسَّلَامِ مَنْ يَعْرِفهُ دُون مَنْ لَا يَعْرِفهُ ؛ ففي الصحيحين عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرٍو t أَنَّ رَجُلًا سَأَلَ النَّبِيَّ e : أَيُّ الْإِسْلَامِ خَيْرٌ ؟ قَالَ : " تُطْعِمُ الطَّعَامَ ، وَتَقْرَأُ السَّلَامَ عَلَى مَنْ عَرَفْتَ وَعَلَى مَنْ لَمْ تَعْرِفْ " ( [1] ) . قال النووي - رحمه الله : أَيْ : تُسَلِّم عَلَى كُلّ مَنْ لَقِيته , عَرَفْته أَمْ لَمْ تَعْرِفهُ ؛ وَلَا تَخُصّ بِهِ مَنْ تَعْرِفهُ كَمَا يَفْعَلهُ كَثِيرُونَ مِنْ النَّاس .... وَفِيه الْحَثُّ عَلَى تَأَلُّف قُلُوب الْمُسْلِمِينَ وَاجْتِمَاع كَلِمَتهمْ وَتَوَادّهمْ وَاسْتِجْلَاب مَا يُحَصِّلُ ذَلِكَ .. وَفِيهِ اِسْتِعْمَال خُلُق التَّوَاضُع وَإِفْشَاء شِعَار هَذِهِ الْأُمَّة .ا.هـ ( [2] ) . وقال ابن حجر : وَفِيهِ مِنْ الْفَوَائِد أَنَّهُ لَوْ تَرَكَ السَّلَام عَلَى مَنْ لَمْ يَعْرِفِ احْتَمَلَ أَنْ يَظْهَر أَنَّهُ مِنْ مَعَارِفه ، فَقَدْ يُوقِعهُ فِي الِاسْتِيحَاش مِنْهُ..وَقَالَ اِبْن بَطَّال : فِي مَشْرُوعِيَّة السَّلَام عَلَى غَيْر الْمَعْرِفَة اِسْتِفْتَاح لِلْمُخَاطَبَةِ لِلتَّأْنِيسِ ، لِيَكُونَ الْمُؤْمِنُونَ كُلّهمْ إِخْوَة فَلَا يَسْتَوْحِش أَحَد مِنْ أَحَد .ا.هـ ( [3] ) .
ثُمَّ إِنَّ هَذَا الْعُمُوم مَخْصُوص بِالْمُسْلِمِينَ ، فَلَا يُسَلَّم اِبْتِدَاءً عَلَى كَافِر ؛ وقد تقدم الكلام في هذه المسألة ؛ قال ابن حجر - رحمه الله : قَدْ تَمَسَّكَ بِهِ مَنْ أَجَازَ اِبْتِدَاء الْكَافِر بِالسَّلَامِ ، وَلَا حُجَّة فِيهِ لِأَنَّ الْأَصْل مَشْرُوعِيَّة السَّلَام لِلْمُسْلِمِ فَيُحْمَل قَوْله " مَنْ عَرَفْت " عَلَيْهِ ، وَأَمَّا " مِنْ لَمْ تَعْرِف " فَلَا دَلَالَة فِيهِ ، بَلْ إِنْ عَرَفَ أَنَّهُ مُسْلِم فَذَاكَ وَإِلَّا فَلَوْ سَلَّمَ اِحْتِيَاطًا لَمْ يَمْتَنِع حَتَّى يَعْرِف أَنَّهُ كَافِر ( [4] ) .

[1] - البخاري ( 12 ، 28 ، 6236 ) ، ومسلم ( 39 ) .

[2] - انظر شرح النووي على صحيح مسلم : 2 / 10 ، 11 باختصار .

[3] - انظر فتح الباري : 11 / 21 .

[4] - انظر فتح الباري : 11 / 21 .
 
السلام للمعرفة من علامات الساعة :
روى الإمام أحمد عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللَّهِ e : " إِنَّ مِنْ أَشْرَاطِ السَّاعَةِ أَنْ يُسَلِّمَ الرَّجُلُ عَلَى الرَّجُلِ لَا يُسَلِّمُ عَلَيْهِ إِلَّا لِلْمَعْرِفَةِ " ( [1] ) ؛ وروى الطبراني عَنْ عَلْقَمَةَ ، قَالَ : لَقِيَ عَبْدَ اللَّهِ بن مَسْعُودٍ t أَعْرَابِيٌّ وَنَحْنُ مَعَهُ ، فَقَالَ : السَّلامُ عَلَيْكَ يَا أَبَا عَبْدِ الرَّحْمَنِ ، فَضَحِكَ ، فَقَالَ : صَدَقَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ، سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ e يَقُولُ : " لا تَقُومُ السَّاعَةُ حَتَّى يَكُونَ السَّلامُ عَلَى الْمَعْرِفَةِ - وَإِنَّ هَذَا عَرَفَنِي مِنْ بَيْنِكُمْ فَسَلَّمَ عَلَيَّ - وَحَتَّى تُتَّخَذَ الْمَسَاجِدُ طُرُقًا فَلا يُسْجَدُ لِلَّهِ فِيهَا ، وَحَتَّى يَبْعَثَ الْغُلامُ الشَّيْخَ بَرِيدًا بَيْنَ الأُفُقَيْنِ ، وَحَتَّى يَبْلُغَ التَّاجِرُ بَيْنَ الأُفُقَيْنِ فَلا يَجِدُ رِبْحًا " ( [2] ) .

[1] - أحمد : 1 / 405 .

[2] - الطبراني في الكبير : 9 / 297 ( 9491 ) .
 
8 – السلام دليل الخيرية :
روى الشيخان عَنْ أَبِي أَيُّوبَ t عَنْ النَّبِيِّ e قَالَ : " لَا يَحِلُّ لِمُسْلِمٍ أَنْ يَهْجُرَ أَخَاهُ فَوْقَ ثَلَاثٍ ، يَلْتَقِيَانِ ، فَيَصُدُّ هَذَا ، وَيَصُدُّ هَذَا ، وَخَيْرُهُمَا الَّذِي يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ " ( [1] ) . قال العلماء : أَيْ هُوَ أَفْضَلهمَا . وروى أحمد وأبو داود والترمذي عَنْ أَبِي أُمَامَةَ t قَالَ : قِيلَ يَا رَسُولَ اللَّهِ الرَّجُلَانِ يَلْتَقِيَانِ أَيُّهُمَا يَبْدَأُ بِالسَّلَامِ ؟ فَقَالَ : " أَوْلَاهُمَا بِاللَّهِ " هذا لفظ الترمذي ، ولفظ أحمد : " مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ فَهُوَ أَوْلَى بِاللَّهِ U وَرَسُولِهِ " ، ولفظ أَبِي دَاوُدَ : " إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِاللَّهِ تَعَالَى مَنْ بَدَأَهُمْ بِالسَّلَامِ " ( [2] ) ؛ ومعنى ذلك : أَنَّ أَطْوَعَ الْمُتَلَاقِيَيْنِ وأَقْرَبَهُمَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ مَنْ بَدَأَ بِالسَّلَامِ .

[1] - البخاري ( 6077 ) ، ومسلم ( 2560 ) .

[2] - أحمد : 5 / 254 ، وأبو داود ( 5197 ) ، والترمذي ( 2694 ) وحسنه .
 
9 – السّلَامُ قَبْلَ الْكَلَام :
رَوَى الطبراني في ( الأوسط ) عَنْ ابْنِ عُمَرَ t قَالَ : قَالَ رَسُولُ اللّهِ e : " من بدأ بالسؤال قبل السلام فلا تجيبوه " ، ورواه أَبُو أَحْمَدَ ابن عدي في ( الكامل ) بلفظ : " السّلَامُ قَبْلَ السّؤَالِ ، فَمَنْ بَدَأَكُمْ بِالسّؤَالِ قَبْلَ السّلَامِ فَلَا تُجِيبُوهُ " ؛ ولفظ أبي نعيم في ( الحلية ) وابن السني في ( عمل اليوم و الليلة ) : " من بدأ الكلام قبل السلام فلا تجيبوه " ( [1] ) .
قال العلماء : السنة أن يبدأ بالسلام قبل الكلام والسؤال ؛ لأن في الابتداء بالسلام إشعارًا بالسلامة ؛ وتفاؤلا بها ، وإيناسًا لمن يخاطبه ، وتبركًا بالابتداء بذكر الله ؛ ولأنه تحية يُبدأ به ، فيفوت بالافتتاح بالكلام ، كتحية المسجد فإنها قبل الجلوس وتفوت به .
قال المناوي في ( فيض القدير ) : لما تقرر أن السلام مأمن للعباد فيما بينهم ، فمن أهمله وبدأ بالكلام فقد ترك الحق والحرمة ؛ فحقيق أن لا يجاب ، وجدير بأن يهان ولا يهاب .ا.هـ ( [2] ) .
وروى أحمد وأبو داود وَالتّرْمِذِيّ عَنْ كَلَدَةَ بِنْ حَنْبَلٍ ، أَنّ صَفْوَانَ بْنَ أُمَيّةَ بَعَثَهُ بِلَبَنٍ وَلِبَإٍ وَجَدَايَةٍ وَضَغَابِيسَ إلَى النّبِيِّ e وَالنّبِيّ e بِأَعْلَى الْوَادِي قَالَ : فَدَخَلْتُ عَلَيْهِ وَلَمْ أُسَلّمْ ، وَلَمْ أَسْتَأْذِنْ فَقَال النّبِيّ e : " ارْجِعْ فَقُلْ السّلَامُ عَلَيْكُمْ ، أَأَدْخُل ؟ " ( [3] ) . و عند أحمد والبخاري في ( الأدب ) وأبو داود عَنْ رِبْعِيٍّ قَالَ : حَدَّثَنَا رَجُلٌ مَنْ بَنِي عَامِرٍ أَنَّهُ اسْتَأْذَنَ عَلَى النَّبِيِّ e وَهُوَ فِي بَيْتٍ ، فَقَالَ : أَلِجُ ؟ ؛ فَقَالَ النَّبِيُّ e لِخَادِمِهِ : " اخْرُجْ إِلَى هَذَا فَعَلِّمْهُ الِاسْتِئْذَانَ ، فَقُلْ لَهُ : قُلْ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ ، أَأَدْخُلُ ؟ " فَسَمِعَهُ الرَّجُلُ فَقَالَ : السَّلَامُ عَلَيْكُمْ أَأَدْخُلُ ( [4] ) ، وفيهما دليل على أنه يبدأ بالسلام قبل الكلام والاستئذان ، ولا يؤذن لمن لم يبدأ بالسلام ؛ والعلم عند الله تعالى .

[1] - الطبراني في الأوسط ( 429 ) ؛ والكامل لابن عدي : 5 / 291 ، وحلية الأولياء لأبي نعيم : 8 / 199 ؛ وابن السني في عمل اليوم و الليلة ( 210 ) ، وحسنه الألباني في ( السلسلة الصحيحة : 2 / 477 (816 ) ، وصحيح الجامع (3699 ) .

[2] - فيض القدير 6 / 94 .

[3] - أحمد : 3 / 414 ، وأبو داود ( 5176 ) ، والترمذي ( 2710 ) وحسنه .وَاللِبَإٍ هُوَ أَوَّلُ مَا يُحْلَبُ عِنْدَ الْوِلَادَةِ ؛ وَالجَدَايَة : أَوْلَاد الظِّبَاء ذَكَرًا كَانَ أَوْ أُنْثَى مِمَّا بَلَغَ سِتَّة أَشْهُر أَوْ سَبْعَة أَشْهُر بِمَنْزِلَةِ الْجَدْي مِنْ الْمَعْز ؛ وَالضَغَابِيس: جَمْع ضُغْبُوس وَهُوَ صَغِير الْقِثَّاء .

[4] - أحمد : 5 / 368 ، والبخاري في الأدب المفرد ( 1084 ) ، وأبو داود ( 5177 ) .
 
عودة
أعلى