القارئ المليجي
New member
أنا أحترمُ نفسي.
وأعلمُ أنّي إنْ أهنتُها لم يحترمْها بعدي أحدٌ.
وأحترمُ سنّي.
وأعرفُ أنَّ أمورًا يُقدِمُ عليها بعضُ الناسِ لا تُناسبُ سنّي.
وأحترمُ علمي.
فأنا أُنسَبُ إلى علْمِ الدّينِ.
وأحفظُ كرامتي.
فليس لديَّ ما هو أعزُّ منها.
غيرَ أنّي أتوقُ إلى السَّعادةِ أحيانًا كما يبحثُ عنْها الآخَرونَ، أوْ كما يحصُلُ عليْها الآخَرونَ.
والسعادةُ في الدنيا بالشَّرائطِ التي يحدّدُها مثلي عزيزة.
إنّما السّعادةُ في الدّنيا لمن يقبلُها على علاتها.
إمّا لحظيّةٌ لا تستمرّ طويلا.
وإما مغتصبةٌ مسروقةٌ لم تحلَّ لصاحبِها.
أوْ وهميّةٌ زائفةٌ يتباهى بها صاحبُها وليسَ يملكُها، بل ليْس في يدِه منها شيء.
واحْترامي لنفسي يمنعُني أن أقبلَ واحدةً منْ تلك السَّعاداتِ.
واحتِرامي لسنّي لا يُناسبُه أن أزاحِمَ عليْها.
واحتِرامي لعِلْمي لا يجعلُني أقْنعُ بها.
وكرامتي لا تسمحُ أن أرْضى.
آه ... كيف أحصُلُ على السَّعادةِ بالشَّرائطِ التي أرْتضيها؟!
حيثُ لا زيفَ ولا اغتِصابَ، ولا مُزاحمةَ منَ الأصْحابِ أوِ الأغْرابِ.
إنه الحلْمُ البَديعُ، ذلكَ العالَم الذي أجدُ فيه سعادةً دنيويةً غيرَ تلك السَّعاداتِ المنقوصة.
أجدُ فيه السَّعادةَ كما أتمنّاها أو كما أترسَّمها.
رأيتُني ...
كنتُ نائمًا، أو شبهَ نائمٍ، أو في يقظةٍ.
رأيتُني في قاعةٍ فخمةٍ ممتدّة.
أضواءٌ تتلألأ.
أصواتٌ تنبَعِثُ.
ضحِكاتٌ تنطلِقُ في مرحٍ، في صخَبٍ، في جُرأةٍ.
أناسٌ يذهبونَ ويجيئونَ.
ويتمايلونَ.
ويتدافعونَ.
ما هذه المناسبةُ؟
مَنْ هؤلاء؟
كيف جئتُ إلى هذا المكان؟
لا أدْري.
لا تشغلْ نفسَكَ بِهذه الأسئلةِ، هذا وقتُ بحثِك عنِ السعادةِ التي تتوقُ إليها.
مَع مَنْ أضحكُ؟ مع مَن أتمايلُ؟ لا أرَبَ لي في هذا.
أنا سعيدٌ بِالأضواءِ، سعيدٌ بالأصْواتِ، سعيدٌ حين أرى السَّعادةِ تُرفرفُ في المكانِ.
سعيدٌ حين أرى النّاسَ يَمرحونَ.
أنا سعيد ... أنا سعيد ...
- يا مسكينُ، ما هذه القناعةُ في غير موضِعِها؟
ما هذه الزّهادةُ المتكلَّفةُ؟
ألا تغترفُ منَ السَّعادةِ قبلَ أن تُغادرَ هذا المكانَ؟
ما زلتُ أجولُ في المكانِ، أبحثُ عن عناصرِ السّعادةِ التي تُوافقُني.
ضحِكاتٌ تنطلقُ، أناسٌ يذهبون ويجيئون.
ويتمايلونَ.
ويتدافعونَ.
لا، لستُ أعرفُهم، ليْسوا لي بأصْحاب.
هناكَ أغانٍ وموسيقى ... لا، لن أشاركَ فيها.
هناك كؤوسٌ وأكوابٌ، تدورُ بينَ الحاضرينَ.
الكؤوسُ والأكوابُ تتلألأُ تحتَ الأضْواءِ.
وتلألُؤُها ينمُّ عنِ البهجةِ التي يحْويها ما بها من مشْروبات.
تاقتْ نفْسي إلى المشْروبات.
ليتني أجدُ مشروبًا يوافقني.
أما الخمر، فإيّاي والخمر.
مضيتُ سريعًا، أطردُ عنْ خاطري التعلُّقَ بالمشْروباتِ.
غير أنَّ الكؤوسَ والأكوابَ لا تزالُ تتلألأُ تحتَ الأضْواءِ.
أنظرُ إليْها، إنهمْ يتبادلونَها، يتداولونَها.
ليتني أجدُ مشروبًا أشربُه وحْدي.
لا أحبُّ أن أشربَ من إناءٍ شرِبَ منْهُ غيري، ولا أن يشرَبَ غيري منْ إناءٍ شربتُ منْهُ.
مضيتُ...
إلى مكانٍ هادئٍ في القاعةِ.
أنظرُ إليهِمْ من بَعيدٍ.
لماذا أنا لا توافقُني السَّعادةُ التي أنتُمْ فيها؟
بالقُربِ منّي بدتْ لي زجاجةٌ، منعزلةٌ عنِ الصخَبِ مثلي.
ربّما لم يفطِنْ إليْها أحدٌ منهُم قبْلي.
إنها مُغْلقةٌ، وتتلألأُ تحتَ الأضواءِ، حسبتُ أنَّ الضوءَ إنَّما يَنبعثُ منْ داخلِها.
إنَّ بِها مشروبًا ليسَ ككلِّ هذه المشْروبات التي يتداولونَها.
إنَّ بها مشروبًا يأبى على مَن ينالُه أن يُديرَه بين الرّفاقِ.
اقتربتُ من الزُّجاجةِ وجعلْتُها بين يديَّ، وأمام عينيَّ.
ما المشروبُ الذي تحوينه أيتُها الزجاجة؟
مكتوبٌ عليْها بخط دقيق: شربات.
أنا أحبُّ الشَّربات، ولي ذكرياتٌ حبيبةٌ معَ الشَّربات.
لقد أدركتُ جيلًا لم يكونوا يعْرفونَ في أفراحِهم إلّا الشّربات.
الشّربات عندي شعارٌ على السّعادةِ والفرَحِ.
أيتُها الزجاجةُ، مرحبًا بكِ وأهلا.
ستكونين ينبوعَ سعادتي.
تأملتُها.
الشّرباتُ الذي بداخلِها يتألَّقُ، هو الذي يشعُّ الضَّوءَ الَّذي يتلألأُ حولها.
أيتُها الزجاجة، أتكونين نَصيبي من هذا الحفل البهيج؟!
إني بهذا راضٍ، راغبٌ.
تدافعٌ منَ المتمايلين المتضاحِكينَ يتَّجه نحوي.
أيتُها الزجاجةُ الحبيبةُ، أجيبيني قبلَ أن يَقتربَ هؤلاءِ الثُّقلاءُ.
ألستِ تُحبّينَ أن تَكوني لي؟!
ويْحي! هل تردُّ عليَّ الزُّجاجةُ؟ وأردتُ أن أنصرفَ عنْها بوجهي.
ما هذا؟ يا للفرحة!
لمحتُ صورتي على الزجاجة.
نعم. إنّها صورتي تظهرُ على الزُّجاجةِ جليَّةً، بلْ بارزة.
الزجاجةُ ترحّبُ بي.
تدافعٌ منَ الثُّقلاءِ.
لم أبالِ هذه المرَّةَ، فصورتي منطبعةٌ على الزُّجاجةِ.
وهذا يُطمْئِنُني.
ما هوَ إلّا يسيرٌ حتى أجِدَ مَنْ أستأْذِنُهُ في أن آخُذَ الزُّجاجةَ لنفْسي، وأنصرفَ بها عن هذا المكان، فقدْ نلتُ منه بغْيتي.
يا تُرى مَن الذي أستأذِنُه؟ ستسعَدُ الزُّجاجةُ الأبيّة الوادعةُ، المصونة الحالمة حين أنصَرِفُ بها من هذا المكانِ الصّاخب.
التدافعُ يزدادُ ويقتربُ منّي ومنَ الزُّجاجة.
إنَّهم ثقلاءُ باردونَ، وليستْ زجاجةُ الشرباتِ ممّا يستهْويهِم، فعندَهم مشاريبُهُم.
وليسَ لهمْ ذكرياتٌ حبيبةٌ معَ الشَّربات كذِكْرياتي.
يقترِبونَ منَ الزُّجاجةِ.
ابتعِدوا يا ثقلاءُ، ما تركتُمْ في القاعة شيئًا جميلًا إلّا أفسدتُموه، لكنَّ هذه الزُّجاجةَ أبعدُ ما تكون عن فسادِكم، إنَّها لن تقبلَكم...
ظهرتْ صورُ بعضِهم على الزُّجاجةِ.
لكنَّ صورتي أقوى.
يتدافعون...
أتأخَّر مبتعدًا عنِ الزُّجاجةِ قليلًا.
صورتي تخفتُ وتفتر.
صورُهُم تبرز.
ويحك أيتها الزجاجة، لا تستقْبِلي صورَ هؤلاءِ الأنكادِ على صفْحتِكِ النّاصِعةِ.
ويحكِ أيَّتها الزجاجة، أكلَّما اقتربَ منكِ شخصٌ ظهرتْ صورتُه عليْكِ!
اختفتْ صورتي، أَمسكَ بالزُّجاجةِ بعضُهم، أو لعلَّهم دفَعوها.
الزجاجةُ تسقُطُ على الأرْضِ، ويَسيلُ الشَّرباتُ.
لا بدَّ أن أبتعِدَ الآنَ.
لن أقتربَ منَ الزّجاجةِ المتكسّرةِ، ولا منَ الشَّرباتِ المسْكوبِ.
لم تعُدْ لي حاجةٌ فيه.
هنيئًا للذُّبابِ يحوِّمُ حولَه، هنيئًا لأشْباهِ الذُّباب منَ الشَّبابِ.
نعَمْ.. بعدَ أنِ انسكبَ الشَّرباتُ أكبّوا عليْهِ.
ما أشْبهَهُم بالذُّبابِ!
نازعتْني نفْسي للحظاتٍ أن أشاركَهم، وأهوي إلى الشَّربات المسكوب.
لكن هيهات، الأمر لديَّ محسوم.
لا حظَّ لي فيما أكبَّ عليْه الثُّقلاءُ.
كنتُ أودُّ أن أشربَ من إناءٍ مصونٍ لم يشربْ منْهُ أحدٌ قبْلي.
لحظاتٌ وهجمَ عليَّ حزنٌ لا سبيلَ إلى دفعِه.
حزنتُ على الزُّجاجةِ المتكسِّرةِ بعدَ أنْ حدَّثتْني نفْسي أنَّها لي.
حزنتُ على الشَّرباتِ الَّذي سالَ وانْسكبَ بعد أن تاقَتْ نفْسي إليْه.
لحظاتٌ وأنا أُدافعُ ذلك الحزْنَ.
يا ربّ، أخْرجْني من هذا الحزنِ الثّقيلِ؟
اليقظةُ ... هيَ التي تُدركُني، تنقذُني منْ هذا الحلْمِ الَّذي حسِبْتُه سعيدًا، فإذا به يُعيدُني للحزْنِ ويغْرِقني فيه.
لكنّي وأنا أُفارقُ ذلك الحلمَ - الحزنَ وأعودَ إلى يقظتي، سمعتُ مثلَ هاتفٍ يردِّدُ في جنباتِ المكان:
يا بُنيَّ، ارضَ بالمكْتوبِ، ولا تبْكِ على الشَّرباتِ المسْكوبِ.
ابتسمتُ، وعدتُ بفضْلِ الله موفورًا.
أحترمُ نفسي.. وأعلمُ أنّي إنْ أهنتُها لم يحترمْها بعدي أحدٌ.
وأحترمُ سنّي.. وأعرفُ أنَّ أمورًا يُقدِمُ عليها بعضُ الناسِ لا تُناسبُ سنّي.
وأحترمُ عِلْمي.. فأنا أُنسَبُ إلى علْمِ الدّينِ.
وأحفظُ كرامتي. فليس لديَّ ما هو أعزُّ منها.
وأعلمُ أنّي إنْ أهنتُها لم يحترمْها بعدي أحدٌ.
وأحترمُ سنّي.
وأعرفُ أنَّ أمورًا يُقدِمُ عليها بعضُ الناسِ لا تُناسبُ سنّي.
وأحترمُ علمي.
فأنا أُنسَبُ إلى علْمِ الدّينِ.
وأحفظُ كرامتي.
فليس لديَّ ما هو أعزُّ منها.
غيرَ أنّي أتوقُ إلى السَّعادةِ أحيانًا كما يبحثُ عنْها الآخَرونَ، أوْ كما يحصُلُ عليْها الآخَرونَ.
والسعادةُ في الدنيا بالشَّرائطِ التي يحدّدُها مثلي عزيزة.
إنّما السّعادةُ في الدّنيا لمن يقبلُها على علاتها.
إمّا لحظيّةٌ لا تستمرّ طويلا.
وإما مغتصبةٌ مسروقةٌ لم تحلَّ لصاحبِها.
أوْ وهميّةٌ زائفةٌ يتباهى بها صاحبُها وليسَ يملكُها، بل ليْس في يدِه منها شيء.
واحْترامي لنفسي يمنعُني أن أقبلَ واحدةً منْ تلك السَّعاداتِ.
واحتِرامي لسنّي لا يُناسبُه أن أزاحِمَ عليْها.
واحتِرامي لعِلْمي لا يجعلُني أقْنعُ بها.
وكرامتي لا تسمحُ أن أرْضى.
آه ... كيف أحصُلُ على السَّعادةِ بالشَّرائطِ التي أرْتضيها؟!
حيثُ لا زيفَ ولا اغتِصابَ، ولا مُزاحمةَ منَ الأصْحابِ أوِ الأغْرابِ.
إنه الحلْمُ البَديعُ، ذلكَ العالَم الذي أجدُ فيه سعادةً دنيويةً غيرَ تلك السَّعاداتِ المنقوصة.
أجدُ فيه السَّعادةَ كما أتمنّاها أو كما أترسَّمها.
رأيتُني ...
كنتُ نائمًا، أو شبهَ نائمٍ، أو في يقظةٍ.
رأيتُني في قاعةٍ فخمةٍ ممتدّة.
أضواءٌ تتلألأ.
أصواتٌ تنبَعِثُ.
ضحِكاتٌ تنطلِقُ في مرحٍ، في صخَبٍ، في جُرأةٍ.
أناسٌ يذهبونَ ويجيئونَ.
ويتمايلونَ.
ويتدافعونَ.
ما هذه المناسبةُ؟
مَنْ هؤلاء؟
كيف جئتُ إلى هذا المكان؟
لا أدْري.
لا تشغلْ نفسَكَ بِهذه الأسئلةِ، هذا وقتُ بحثِك عنِ السعادةِ التي تتوقُ إليها.
مَع مَنْ أضحكُ؟ مع مَن أتمايلُ؟ لا أرَبَ لي في هذا.
أنا سعيدٌ بِالأضواءِ، سعيدٌ بالأصْواتِ، سعيدٌ حين أرى السَّعادةِ تُرفرفُ في المكانِ.
سعيدٌ حين أرى النّاسَ يَمرحونَ.
أنا سعيد ... أنا سعيد ...
- يا مسكينُ، ما هذه القناعةُ في غير موضِعِها؟
ما هذه الزّهادةُ المتكلَّفةُ؟
ألا تغترفُ منَ السَّعادةِ قبلَ أن تُغادرَ هذا المكانَ؟
ما زلتُ أجولُ في المكانِ، أبحثُ عن عناصرِ السّعادةِ التي تُوافقُني.
ضحِكاتٌ تنطلقُ، أناسٌ يذهبون ويجيئون.
ويتمايلونَ.
ويتدافعونَ.
لا، لستُ أعرفُهم، ليْسوا لي بأصْحاب.
هناكَ أغانٍ وموسيقى ... لا، لن أشاركَ فيها.
هناك كؤوسٌ وأكوابٌ، تدورُ بينَ الحاضرينَ.
الكؤوسُ والأكوابُ تتلألأُ تحتَ الأضْواءِ.
وتلألُؤُها ينمُّ عنِ البهجةِ التي يحْويها ما بها من مشْروبات.
تاقتْ نفْسي إلى المشْروبات.
ليتني أجدُ مشروبًا يوافقني.
أما الخمر، فإيّاي والخمر.
مضيتُ سريعًا، أطردُ عنْ خاطري التعلُّقَ بالمشْروباتِ.
غير أنَّ الكؤوسَ والأكوابَ لا تزالُ تتلألأُ تحتَ الأضْواءِ.
أنظرُ إليْها، إنهمْ يتبادلونَها، يتداولونَها.
ليتني أجدُ مشروبًا أشربُه وحْدي.
لا أحبُّ أن أشربَ من إناءٍ شرِبَ منْهُ غيري، ولا أن يشرَبَ غيري منْ إناءٍ شربتُ منْهُ.
مضيتُ...
إلى مكانٍ هادئٍ في القاعةِ.
أنظرُ إليهِمْ من بَعيدٍ.
لماذا أنا لا توافقُني السَّعادةُ التي أنتُمْ فيها؟
بالقُربِ منّي بدتْ لي زجاجةٌ، منعزلةٌ عنِ الصخَبِ مثلي.
ربّما لم يفطِنْ إليْها أحدٌ منهُم قبْلي.
إنها مُغْلقةٌ، وتتلألأُ تحتَ الأضواءِ، حسبتُ أنَّ الضوءَ إنَّما يَنبعثُ منْ داخلِها.
إنَّ بِها مشروبًا ليسَ ككلِّ هذه المشْروبات التي يتداولونَها.
إنَّ بها مشروبًا يأبى على مَن ينالُه أن يُديرَه بين الرّفاقِ.
اقتربتُ من الزُّجاجةِ وجعلْتُها بين يديَّ، وأمام عينيَّ.
ما المشروبُ الذي تحوينه أيتُها الزجاجة؟
مكتوبٌ عليْها بخط دقيق: شربات.
أنا أحبُّ الشَّربات، ولي ذكرياتٌ حبيبةٌ معَ الشَّربات.
لقد أدركتُ جيلًا لم يكونوا يعْرفونَ في أفراحِهم إلّا الشّربات.
الشّربات عندي شعارٌ على السّعادةِ والفرَحِ.
أيتُها الزجاجةُ، مرحبًا بكِ وأهلا.
ستكونين ينبوعَ سعادتي.
تأملتُها.
الشّرباتُ الذي بداخلِها يتألَّقُ، هو الذي يشعُّ الضَّوءَ الَّذي يتلألأُ حولها.
أيتُها الزجاجة، أتكونين نَصيبي من هذا الحفل البهيج؟!
إني بهذا راضٍ، راغبٌ.
تدافعٌ منَ المتمايلين المتضاحِكينَ يتَّجه نحوي.
أيتُها الزجاجةُ الحبيبةُ، أجيبيني قبلَ أن يَقتربَ هؤلاءِ الثُّقلاءُ.
ألستِ تُحبّينَ أن تَكوني لي؟!
ويْحي! هل تردُّ عليَّ الزُّجاجةُ؟ وأردتُ أن أنصرفَ عنْها بوجهي.
ما هذا؟ يا للفرحة!
لمحتُ صورتي على الزجاجة.
نعم. إنّها صورتي تظهرُ على الزُّجاجةِ جليَّةً، بلْ بارزة.
الزجاجةُ ترحّبُ بي.
تدافعٌ منَ الثُّقلاءِ.
لم أبالِ هذه المرَّةَ، فصورتي منطبعةٌ على الزُّجاجةِ.
وهذا يُطمْئِنُني.
ما هوَ إلّا يسيرٌ حتى أجِدَ مَنْ أستأْذِنُهُ في أن آخُذَ الزُّجاجةَ لنفْسي، وأنصرفَ بها عن هذا المكان، فقدْ نلتُ منه بغْيتي.
يا تُرى مَن الذي أستأذِنُه؟ ستسعَدُ الزُّجاجةُ الأبيّة الوادعةُ، المصونة الحالمة حين أنصَرِفُ بها من هذا المكانِ الصّاخب.
التدافعُ يزدادُ ويقتربُ منّي ومنَ الزُّجاجة.
إنَّهم ثقلاءُ باردونَ، وليستْ زجاجةُ الشرباتِ ممّا يستهْويهِم، فعندَهم مشاريبُهُم.
وليسَ لهمْ ذكرياتٌ حبيبةٌ معَ الشَّربات كذِكْرياتي.
يقترِبونَ منَ الزُّجاجةِ.
ابتعِدوا يا ثقلاءُ، ما تركتُمْ في القاعة شيئًا جميلًا إلّا أفسدتُموه، لكنَّ هذه الزُّجاجةَ أبعدُ ما تكون عن فسادِكم، إنَّها لن تقبلَكم...
ظهرتْ صورُ بعضِهم على الزُّجاجةِ.
لكنَّ صورتي أقوى.
يتدافعون...
أتأخَّر مبتعدًا عنِ الزُّجاجةِ قليلًا.
صورتي تخفتُ وتفتر.
صورُهُم تبرز.
ويحك أيتها الزجاجة، لا تستقْبِلي صورَ هؤلاءِ الأنكادِ على صفْحتِكِ النّاصِعةِ.
ويحكِ أيَّتها الزجاجة، أكلَّما اقتربَ منكِ شخصٌ ظهرتْ صورتُه عليْكِ!
اختفتْ صورتي، أَمسكَ بالزُّجاجةِ بعضُهم، أو لعلَّهم دفَعوها.
الزجاجةُ تسقُطُ على الأرْضِ، ويَسيلُ الشَّرباتُ.
لا بدَّ أن أبتعِدَ الآنَ.
لن أقتربَ منَ الزّجاجةِ المتكسّرةِ، ولا منَ الشَّرباتِ المسْكوبِ.
لم تعُدْ لي حاجةٌ فيه.
هنيئًا للذُّبابِ يحوِّمُ حولَه، هنيئًا لأشْباهِ الذُّباب منَ الشَّبابِ.
نعَمْ.. بعدَ أنِ انسكبَ الشَّرباتُ أكبّوا عليْهِ.
ما أشْبهَهُم بالذُّبابِ!
نازعتْني نفْسي للحظاتٍ أن أشاركَهم، وأهوي إلى الشَّربات المسكوب.
لكن هيهات، الأمر لديَّ محسوم.
لا حظَّ لي فيما أكبَّ عليْه الثُّقلاءُ.
كنتُ أودُّ أن أشربَ من إناءٍ مصونٍ لم يشربْ منْهُ أحدٌ قبْلي.
لحظاتٌ وهجمَ عليَّ حزنٌ لا سبيلَ إلى دفعِه.
حزنتُ على الزُّجاجةِ المتكسِّرةِ بعدَ أنْ حدَّثتْني نفْسي أنَّها لي.
حزنتُ على الشَّرباتِ الَّذي سالَ وانْسكبَ بعد أن تاقَتْ نفْسي إليْه.
لحظاتٌ وأنا أُدافعُ ذلك الحزْنَ.
يا ربّ، أخْرجْني من هذا الحزنِ الثّقيلِ؟
اليقظةُ ... هيَ التي تُدركُني، تنقذُني منْ هذا الحلْمِ الَّذي حسِبْتُه سعيدًا، فإذا به يُعيدُني للحزْنِ ويغْرِقني فيه.
لكنّي وأنا أُفارقُ ذلك الحلمَ - الحزنَ وأعودَ إلى يقظتي، سمعتُ مثلَ هاتفٍ يردِّدُ في جنباتِ المكان:
يا بُنيَّ، ارضَ بالمكْتوبِ، ولا تبْكِ على الشَّرباتِ المسْكوبِ.
ابتسمتُ، وعدتُ بفضْلِ الله موفورًا.
أحترمُ نفسي.. وأعلمُ أنّي إنْ أهنتُها لم يحترمْها بعدي أحدٌ.
وأحترمُ سنّي.. وأعرفُ أنَّ أمورًا يُقدِمُ عليها بعضُ الناسِ لا تُناسبُ سنّي.
وأحترمُ عِلْمي.. فأنا أُنسَبُ إلى علْمِ الدّينِ.
وأحفظُ كرامتي. فليس لديَّ ما هو أعزُّ منها.