السعادة الزائفة

إنضم
20 سبتمبر 2008
المشاركات
376
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الموقع الالكتروني
www.alukah.net
أنا أحترمُ نفسي.
وأعلمُ أنّي إنْ أهنتُها لم يحترمْها بعدي أحدٌ.
وأحترمُ سنّي.
وأعرفُ أنَّ أمورًا يُقدِمُ عليها بعضُ الناسِ لا تُناسبُ سنّي.
وأحترمُ علمي.
فأنا أُنسَبُ إلى علْمِ الدّينِ.
وأحفظُ كرامتي.
فليس لديَّ ما هو أعزُّ منها.
غيرَ أنّي أتوقُ إلى السَّعادةِ أحيانًا كما يبحثُ عنْها الآخَرونَ، أوْ كما يحصُلُ عليْها الآخَرونَ.
والسعادةُ في الدنيا بالشَّرائطِ التي يحدّدُها مثلي عزيزة.
إنّما السّعادةُ في الدّنيا لمن يقبلُها على علاتها.
إمّا لحظيّةٌ لا تستمرّ طويلا.
وإما مغتصبةٌ مسروقةٌ لم تحلَّ لصاحبِها.
أوْ وهميّةٌ زائفةٌ يتباهى بها صاحبُها وليسَ يملكُها، بل ليْس في يدِه منها شيء.
واحْترامي لنفسي يمنعُني أن أقبلَ واحدةً منْ تلك السَّعاداتِ.
واحتِرامي لسنّي لا يُناسبُه أن أزاحِمَ عليْها.
واحتِرامي لعِلْمي لا يجعلُني أقْنعُ بها.
وكرامتي لا تسمحُ أن أرْضى.
آه ... كيف أحصُلُ على السَّعادةِ بالشَّرائطِ التي أرْتضيها؟!
حيثُ لا زيفَ ولا اغتِصابَ، ولا مُزاحمةَ منَ الأصْحابِ أوِ الأغْرابِ.
إنه الحلْمُ البَديعُ، ذلكَ العالَم الذي أجدُ فيه سعادةً دنيويةً غيرَ تلك السَّعاداتِ المنقوصة.
أجدُ فيه السَّعادةَ كما أتمنّاها أو كما أترسَّمها.
رأيتُني ...
كنتُ نائمًا، أو شبهَ نائمٍ، أو في يقظةٍ.
رأيتُني في قاعةٍ فخمةٍ ممتدّة.
أضواءٌ تتلألأ.
أصواتٌ تنبَعِثُ.
ضحِكاتٌ تنطلِقُ في مرحٍ، في صخَبٍ، في جُرأةٍ.
أناسٌ يذهبونَ ويجيئونَ.
ويتمايلونَ.
ويتدافعونَ.
ما هذه المناسبةُ؟
مَنْ هؤلاء؟
كيف جئتُ إلى هذا المكان؟
لا أدْري.
لا تشغلْ نفسَكَ بِهذه الأسئلةِ، هذا وقتُ بحثِك عنِ السعادةِ التي تتوقُ إليها.
مَع مَنْ أضحكُ؟ مع مَن أتمايلُ؟ لا أرَبَ لي في هذا.
أنا سعيدٌ بِالأضواءِ، سعيدٌ بالأصْواتِ، سعيدٌ حين أرى السَّعادةِ تُرفرفُ في المكانِ.
سعيدٌ حين أرى النّاسَ يَمرحونَ.
أنا سعيد ... أنا سعيد ...
- يا مسكينُ، ما هذه القناعةُ في غير موضِعِها؟
ما هذه الزّهادةُ المتكلَّفةُ؟
ألا تغترفُ منَ السَّعادةِ قبلَ أن تُغادرَ هذا المكانَ؟
ما زلتُ أجولُ في المكانِ، أبحثُ عن عناصرِ السّعادةِ التي تُوافقُني.
ضحِكاتٌ تنطلقُ، أناسٌ يذهبون ويجيئون.
ويتمايلونَ.
ويتدافعونَ.
لا، لستُ أعرفُهم، ليْسوا لي بأصْحاب.
هناكَ أغانٍ وموسيقى ... لا، لن أشاركَ فيها.
هناك كؤوسٌ وأكوابٌ، تدورُ بينَ الحاضرينَ.
الكؤوسُ والأكوابُ تتلألأُ تحتَ الأضْواءِ.
وتلألُؤُها ينمُّ عنِ البهجةِ التي يحْويها ما بها من مشْروبات.
تاقتْ نفْسي إلى المشْروبات.
ليتني أجدُ مشروبًا يوافقني.
أما الخمر، فإيّاي والخمر.
مضيتُ سريعًا، أطردُ عنْ خاطري التعلُّقَ بالمشْروباتِ.
غير أنَّ الكؤوسَ والأكوابَ لا تزالُ تتلألأُ تحتَ الأضْواءِ.
أنظرُ إليْها، إنهمْ يتبادلونَها، يتداولونَها.
ليتني أجدُ مشروبًا أشربُه وحْدي.
لا أحبُّ أن أشربَ من إناءٍ شرِبَ منْهُ غيري، ولا أن يشرَبَ غيري منْ إناءٍ شربتُ منْهُ.
مضيتُ...
إلى مكانٍ هادئٍ في القاعةِ.
أنظرُ إليهِمْ من بَعيدٍ.
لماذا أنا لا توافقُني السَّعادةُ التي أنتُمْ فيها؟
بالقُربِ منّي بدتْ لي زجاجةٌ، منعزلةٌ عنِ الصخَبِ مثلي.
ربّما لم يفطِنْ إليْها أحدٌ منهُم قبْلي.
إنها مُغْلقةٌ، وتتلألأُ تحتَ الأضواءِ، حسبتُ أنَّ الضوءَ إنَّما يَنبعثُ منْ داخلِها.
إنَّ بِها مشروبًا ليسَ ككلِّ هذه المشْروبات التي يتداولونَها.
إنَّ بها مشروبًا يأبى على مَن ينالُه أن يُديرَه بين الرّفاقِ.
اقتربتُ من الزُّجاجةِ وجعلْتُها بين يديَّ، وأمام عينيَّ.
ما المشروبُ الذي تحوينه أيتُها الزجاجة؟
مكتوبٌ عليْها بخط دقيق: شربات.
أنا أحبُّ الشَّربات، ولي ذكرياتٌ حبيبةٌ معَ الشَّربات.
لقد أدركتُ جيلًا لم يكونوا يعْرفونَ في أفراحِهم إلّا الشّربات.
الشّربات عندي شعارٌ على السّعادةِ والفرَحِ.
أيتُها الزجاجةُ، مرحبًا بكِ وأهلا.
ستكونين ينبوعَ سعادتي.
تأملتُها.
الشّرباتُ الذي بداخلِها يتألَّقُ، هو الذي يشعُّ الضَّوءَ الَّذي يتلألأُ حولها.
أيتُها الزجاجة، أتكونين نَصيبي من هذا الحفل البهيج؟!
إني بهذا راضٍ، راغبٌ.
تدافعٌ منَ المتمايلين المتضاحِكينَ يتَّجه نحوي.
أيتُها الزجاجةُ الحبيبةُ، أجيبيني قبلَ أن يَقتربَ هؤلاءِ الثُّقلاءُ.
ألستِ تُحبّينَ أن تَكوني لي؟!
ويْحي! هل تردُّ عليَّ الزُّجاجةُ؟ وأردتُ أن أنصرفَ عنْها بوجهي.
ما هذا؟ يا للفرحة!
لمحتُ صورتي على الزجاجة.
نعم. إنّها صورتي تظهرُ على الزُّجاجةِ جليَّةً، بلْ بارزة.
الزجاجةُ ترحّبُ بي.
تدافعٌ منَ الثُّقلاءِ.
لم أبالِ هذه المرَّةَ، فصورتي منطبعةٌ على الزُّجاجةِ.
وهذا يُطمْئِنُني.
ما هوَ إلّا يسيرٌ حتى أجِدَ مَنْ أستأْذِنُهُ في أن آخُذَ الزُّجاجةَ لنفْسي، وأنصرفَ بها عن هذا المكان، فقدْ نلتُ منه بغْيتي.
يا تُرى مَن الذي أستأذِنُه؟ ستسعَدُ الزُّجاجةُ الأبيّة الوادعةُ، المصونة الحالمة حين أنصَرِفُ بها من هذا المكانِ الصّاخب.
التدافعُ يزدادُ ويقتربُ منّي ومنَ الزُّجاجة.
إنَّهم ثقلاءُ باردونَ، وليستْ زجاجةُ الشرباتِ ممّا يستهْويهِم، فعندَهم مشاريبُهُم.
وليسَ لهمْ ذكرياتٌ حبيبةٌ معَ الشَّربات كذِكْرياتي.
يقترِبونَ منَ الزُّجاجةِ.
ابتعِدوا يا ثقلاءُ، ما تركتُمْ في القاعة شيئًا جميلًا إلّا أفسدتُموه، لكنَّ هذه الزُّجاجةَ أبعدُ ما تكون عن فسادِكم، إنَّها لن تقبلَكم...
ظهرتْ صورُ بعضِهم على الزُّجاجةِ.
لكنَّ صورتي أقوى.
يتدافعون...
أتأخَّر مبتعدًا عنِ الزُّجاجةِ قليلًا.
صورتي تخفتُ وتفتر.
صورُهُم تبرز.
ويحك أيتها الزجاجة، لا تستقْبِلي صورَ هؤلاءِ الأنكادِ على صفْحتِكِ النّاصِعةِ.
ويحكِ أيَّتها الزجاجة، أكلَّما اقتربَ منكِ شخصٌ ظهرتْ صورتُه عليْكِ!
اختفتْ صورتي، أَمسكَ بالزُّجاجةِ بعضُهم، أو لعلَّهم دفَعوها.
الزجاجةُ تسقُطُ على الأرْضِ، ويَسيلُ الشَّرباتُ.
لا بدَّ أن أبتعِدَ الآنَ.
لن أقتربَ منَ الزّجاجةِ المتكسّرةِ، ولا منَ الشَّرباتِ المسْكوبِ.
لم تعُدْ لي حاجةٌ فيه.
هنيئًا للذُّبابِ يحوِّمُ حولَه، هنيئًا لأشْباهِ الذُّباب منَ الشَّبابِ.
نعَمْ.. بعدَ أنِ انسكبَ الشَّرباتُ أكبّوا عليْهِ.
ما أشْبهَهُم بالذُّبابِ!
نازعتْني نفْسي للحظاتٍ أن أشاركَهم، وأهوي إلى الشَّربات المسكوب.
لكن هيهات، الأمر لديَّ محسوم.
لا حظَّ لي فيما أكبَّ عليْه الثُّقلاءُ.
كنتُ أودُّ أن أشربَ من إناءٍ مصونٍ لم يشربْ منْهُ أحدٌ قبْلي.
لحظاتٌ وهجمَ عليَّ حزنٌ لا سبيلَ إلى دفعِه.
حزنتُ على الزُّجاجةِ المتكسِّرةِ بعدَ أنْ حدَّثتْني نفْسي أنَّها لي.
حزنتُ على الشَّرباتِ الَّذي سالَ وانْسكبَ بعد أن تاقَتْ نفْسي إليْه.
لحظاتٌ وأنا أُدافعُ ذلك الحزْنَ.
يا ربّ، أخْرجْني من هذا الحزنِ الثّقيلِ؟
اليقظةُ ... هيَ التي تُدركُني، تنقذُني منْ هذا الحلْمِ الَّذي حسِبْتُه سعيدًا، فإذا به يُعيدُني للحزْنِ ويغْرِقني فيه.
لكنّي وأنا أُفارقُ ذلك الحلمَ - الحزنَ وأعودَ إلى يقظتي، سمعتُ مثلَ هاتفٍ يردِّدُ في جنباتِ المكان:
يا بُنيَّ، ارضَ بالمكْتوبِ، ولا تبْكِ على الشَّرباتِ المسْكوبِ.
ابتسمتُ، وعدتُ بفضْلِ الله موفورًا.
أحترمُ نفسي.. وأعلمُ أنّي إنْ أهنتُها لم يحترمْها بعدي أحدٌ.
وأحترمُ سنّي.. وأعرفُ أنَّ أمورًا يُقدِمُ عليها بعضُ الناسِ لا تُناسبُ سنّي.
وأحترمُ عِلْمي.. فأنا أُنسَبُ إلى علْمِ الدّينِ.
وأحفظُ كرامتي. فليس لديَّ ما هو أعزُّ منها.
 
السعادة الزائفة ... القصّةُ الكامِلة
أحمد محمد سليمان
(1) قبلَ البدْءِ
هذه قصّةٌ يائسةٌ وأحداثٌ بائسةٌ، لا تستحِقُّ أن تُرْوى، وما كانَ لها أنْ تُحكى، لوْلا أنَّها اقْترنَتْ لديَّ بِكتاباتٍ أدبيَّةٍ، شعرًا ونثرًا، فصارَتْ جزءًا مِنْ تكْوِيني.
وبعضُ النّاسِ لا يقبَلُ منّي أنْ أَبوحَ بمثْلِ ما في هَذه القِصَّةِ؛ استِعْظامًا أنْ أُنسبَ إلى القِراءاتِ وأُشغَلَ بتِلْكَ التُّرهاتِ.
ولستُ أخدعُ النّاسَ عنْ نفْسي، وأدَّعي مِنَ الورَعِ الزّائدِ ما لا يَلْزمُني؛ إذ خلقَني الله بشرًا، ومَن ذا حرَّم على الإنسانِ أنْ يُحبّ، أو أنكَرَ عليْهِ أن يَميلَ قلبُه، وأينَ أنا ممّنْ سبَقني مِنْ أفاضلِ العُلماءِ والكُتّابِ، الَّذين يرْوي النّاسُ شِعرَهُم بغيرِ نَكير، وتقعُ قِصَصُ حبِّهم على النُّفوسِ صافيةً بِلا تَكْدير.
معَ أنّي لم أطْلِقْ لقلبيَ العِنانَ استِخْفافًا بألَم الجوى، وتماديًا في التلذُّذِ بالهوَى، وإنّما لم أَقعْ فيما وقعتُ فيهِ إلّا وقدْ غلَبني القلْبُ الجَموح، وشرَدَ بيَ الوجدُ الطَّموح، فأنا مغلوبٌ غيرَ أنّي لا أعتذِرُ، فما أُلجئتُ إلّا إلى أمرٍ مُباح، ولم يغِبْ عنّي: "لم يرَ للمتحابّين مثل النِّكاحِ"، فلمْ يكُنْ مقْصودي إلّا إليْه، وهوَ وإنْ لم يتيسَّرْ لِطالبِه فبقِيَ بِهذا القلْبِ المحْزون، فذلك قدرُ الله قدَّرهُ ولله في خلقِهِ شئون.

(2) اللِّقاء الأول
مضى اللقاءُ الأوَّلُ كأحسَنِ ما يكونُ، تعارفْنا، أبديْتُ ارتياحًا، أبدتْ رضًا.

(3) اللِّقاء الثاني

لم يكُنْ بيْننا ميعاد.
غير أني ترصَّدتُ وقتَ مجيئِها، لأصطنعَ لقاءً كانت تتوقَّعُه هي أيضًا.
وتأخَّرتْ عن موعدِها المُعتادِ وقتًا أتاحَ لي كِتابةَ هذهِ الكلِماتِ:
قدْ أطلْتُ الوقوفَ حتَّى تَجيئي = = = وطردتُ الظُّنونَ عنْ أنْ تُسيئي
وتوسَّمتُ أن تَجيئي لأنّي = = = لم أزَلْ مُمتعًا بقلْبٍ بَريءِ
فأنا مُفعَمٌ بحبٍّ وشوقٍ = = = وحنانٍ ما مطْلبي بالدَّنيءِ
والَّذي ينشُدُ المحبَّةَ صفْوًا = = = دونَ ريْبٍ يَمضي بقلْبٍ جَريءِ
يا فتاةً بدتْ لقلْبٍ خليٍّ = = = صرْتِ كالماءِ للفُؤادِ الظَّميءِ
اهنئي إن أردتِ قُربي فإنّي = = = راغبٌ وانْعَمي بقُربٍ هَنيءِ
وَدَعيني كذاكِ أهْنا بقُربٍ = = = منْكِ في رقَّةٍ وحُسنٍ وَضيءِ

(4) التصافي
وكانتْ سعادة غامرة لي حينَ التقيْنا؛ إذْ وافَقَتْ رغْبَتي في حديثِها رغبةً لديْها في الحديثِ.
وتكرَّرَ اللِّقاءُ قليلًا.
وقد سجَّلْتُ مشْهدًا منْ ذلِكَ بعْدَ أنِ انقَضَتِ القصَّةُ
سوْفَ أَحْكي حِكايَتي يا ولادي[SUP]([1])[/SUP] = = = حينَ سِرْنا معًا وراءَ النّادي
واحْتِكاكُ الأكْتافِ يَشْهدُ أنّا = = = نَتَهادى معَ الْتِصاقِ الأَيادي
وَحديثٌ أرَقُّ منْ قَطراتٍ = = = حانِياتٍ قدْ ضُمِّخَتْ بِالوِدادِ
أَعْجَبُ الأمْرِ أنَّنا نَتلاقى = = = كُلَّ يومٍ لكِنْ بِلا ميعادِ

(5) صَديقتُها
ثُمَّ أبدَتْ صاحبَتي تحوُّلًا وإعْراضًا، وبدَأَتْ تطلُبُ منّي أنْ أبتعِدَ، فاضطُرِرتُ إلى استِشارَةِ صديقتِها الَّتي تُتابعُنا باهتِمامٍ، فنصحتْني أيضًا أن أبتعِدَ.
لكنَّ صاحِبَتي لم تكُنْ جادَّةً في طلَبِها، أوْ هكَذا بَدا لي، وصديقتُها لم أكُنْ واثقًا أنَّها تُمحِّضُني النُّصحَ، فلَمْ آخُذْ بقَوْلِ إحْداهُما، ومضيتُ كما أنا أتقرَّبُ إليْها، وسجَّلتُ موقِفَ صَديقتِها.
نصَحَتْني فَما انتصَحْتُ لأَنّي = = = كنْتُ مُسْتَمْسِكًا بِحبْلٍ واهِ
غارقًا في الودادِ غيرَ مُصيخٍ = = = لِنَصيحٍ وَلا مُبالٍ بِناهِ
كاذِبًا نفْسيَ الغَريرةَ أنّي = = = واحِدٌ عنْدَها بِلا أشْباهِ
اترُكيني في وصْلِها في انتِشاءٍ = = = لا تَرومي إفاقَتي وانتِباهي
واعذُريني لنْ أَستجيبَ لنُصحٍ = = = لا يقولُ انطلقْ بغيْرِ تَناهي
(6) المُكابَرة
ثمَّ تمادَتْ صاحِبَتي مكابِرةً، وبدا أنَّ تحوُّلَها مقترنٌ بظُهورِ آخَرينَ، وأنَّها ترضى بالعلاقات الزّائفة؛ علاقاتِ العمَل، وذلك ما لا يُوافقُني؛ لأنّي كنتُ ارتقَيْتُ عنْ ذلِكَ درجةً لا أُحبُّ أنْ أنْحدِرَ عنْها.
وشكَتْني إلى اثنَينِ ممنْ لا يُعْبأُ بِهم.
إنَّ اللَّذيْنِ شَكوتِني لَهُما = = = ليْسا بِأدْنى منْكِ في الجهْلِ
قدْ يُسعِفانِكِ في مُلاوَمتي = = = لا عَنْ هُدًى لكِنْ مِنَ الذَّحْلِ
قدْ أزْمَعا هَجْري وَهجْرُهُما = = = مِمّا يُسَرُّ بِمِثلِهِ مِثْلِي
ومضيتِ في الهِجْرانِ مُصْغِيةً = = = لَهُما بلا رأيٍ ولا عقْلِ
لم يدْرِيا منْ سوءِ جهْلِهِما = = = أنّي أصَبْتُ القلْبَ بِالنَّصلِ
أَصميْتُ قلْبَكِ غيْرَ متَّئدٍ = = = ورَميتِني بالأَعْيُنِ النُّجْلِ
أَقْوى علَى الهجْرَان مُصْطبرًا = = = فَخُذي دواءَ الصَّبرِ مِنْ أَجْلِي
وَدعيهِما يتحرَّقانِ معًا = = = كالنّارِ إذْ حُرِمتْ مِنَ الأكْلِ

معَ أمورٍ صارِفَةٍ أخرى، قررتُ معَها أنْ أبتعِدَ، وأردتُ أنْ أُسجِّلَ قَراري هذا في أبياتٍ، فقلتُ:
أتظُنّينَ أنَّني سأعودُ ......

[[أو قلتُ:
استَريبِنَّ كيفَ شئتِ وقولي
ما تُريدينَ إنَّني لنْ أعودا
إنَّ عقْلي لوْ كانَ يدْري مَكاني
منكِ أمْضى على كِلَيْنا الحدودا
]]
وزدتُ عليْها كلماتٍ لم أُكملْ بِها أبياتًا، بلْ أُنسيتُها.
(7) القصّة
لكني كنتُ إذْ ذاكَ أكتبُ القصَّة كاملةً:


عبَّرتْ عنْ سَعادةٍ بِلِقائيمَـــــرَّةً تِلْوَ مَــــرَّةٍ يا هَنائي
وركِبْنا معًا ضحِكْنا سرورًاوَغضِبْنا لكِنْ بِغيْرِ عَداءِ
ومَشيْنا يدي تُلامِسُ بِالحبِّيدًا تَشْتَهي يَدي ورِضائي
واحْتِكاكُ الأكْتافِ يَشْهدُ أَنّانَتَهادَى ووُدُّنا في نَماءِ
غَيْرَ أَنّي عَفَفْتُ حَتَّى أَصونَ الــحُبَّ مُسْتَعْلِيًا نقِيَّ الرِّداءِ
وحَكَتْ لي كما حَكيْتُ فصِرْنامِثلَ طفْلَينِ لا نَهابُ التَّنائي
وَتحدَّثْتُ بانطِلاقَةِ حِبٍّمعَها دونَ رهْبةٍ أوْ حَياءِ
فرْحةٌ تَمخُرُ العُبابَ بيَمّيوَهَناءٌ يَشُقُّ سُحْبَ سَمائي
ثمَّ جاءتْ بُعيْدَ ذلِكَ تَهْذييا أَخانا لا تَمشِيَنَّ وَرائي
ويْحَ هَذي الْفتاةِ ماذا دَهاهافهْيَ تَهْوى تَلوُّنَ الحِرْباءِ
نَسِيتْ ودَّنا وصارَ كلاميذاهِبًا عنْدَها كَمِثْل ِالهَباءِ
وأصاختْ إلى سِوايَ أَتَبْغيوُدَّهُ أَمْ إِغارَتي وَعَنائي
أهْوَ كيْدٌ والكَيدُ فيهِنَّ أَصْلٌأمْ دَلالٌ فَأَيْنَ بَعضُ الوَفاءِ
جَهِلَتْ مِنْ شَريعَةِ الحُبِّ أَشْياءَ فَأَبْدَتْ تَخبُّطَ الجُهَلاءِ
يا فَتاةُ اهْدَئي كَفيْتُكِ أَمْريقدْ ضَللتِ الطَّريقَ في بَيْدائي
اذْهبي كمْ صحِبْتُ قبلَكِ أُنْثىذاتَ دلٍّ ولَم تنَلْ منْ إِبائي
مرَّةً بعدَ مرَّةٍ أخَذتْنيعِزَّةٌ وَاطَّرحْتُ حُبّي ورائي
لا أُبالي حَبيبةً ذاتَ حُسْنٍلَوْ تُجازي هوايَ بالكِبْرياء
إنْ يكُنْ ذلكَ الهيامُ سَبيلًالِخضوعي فَيا لَهُ مِنْ بَلاءِ
لا أُداريكِ لَمْ أَكُنْ في اقْتِرابيمنْكِ إلّا مُغامرًا بنَقائي
فأَشيعي ما شئْتِ عنّي فَإنّيسادِرٌ لا أَزالُ في غُلَوائي



وهكذا اخترتُ في النّهايةِ ألّا أفي لِمَنْ يَخون؛ فإنَّ مقامَ الحبِّ عنْدي مَصون، ومذْهبي فيه غيرُ مذْهبِ ابْنِ زَيْدون[SUP]([2])[/SUP].




[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP] أعني: يا أولادي، وقد تسامحتُ في كتابة هذه اللفظة على هذا النحو كما تسامحَ بعضُهم قبلي فقالوا: يا ستي؛ يريدون: يا سيدتي.

[SUP]([/SUP][2][SUP])[/SUP] أعجبني – كما أعجب الناس - شعر ابن زيدون ورسائله، لكني في الحقيقة غير راضٍ عنْ مذهبِه في الحبِّ، فقد اختار أن يفي لمحبوبته ولادة ويتغنى بحبه لها إلى آخر حياته، مع أنها - كما قال الرواة - قلتْه بعد المحبة وصدتْه بعد الوصال، واشتهر أمرها بأنها مالتْ إلى الوزير ابن عبدوس، ولم تكتفِ بهذا بلْ هجتْ صاحبَنا ابنَ زيْدون هجاءً مقذعًا، ورمته بأقبحِ الأوصافِ.
 
إني أحب قصائدي
أحمد محمد سليمان​
يا من أهنتِ قصيدتي
شعري يحلق في الفضاءْ
ورضاكِ عنْهُ أوِ امتعاضُكِ كلُّ ذا عِندي سواءْ
يا مَن أسأتِ إلى الهوى، ماذا أقولُ لمن أَساءْ؟
من أنتِ في سوق النساءْ؟
* * *
يا من أثرتِ الذكرياتْ
وقتلتِ كلَّ الأمنياتْ [SUP]([/SUP][SUP][1][/SUP][SUP])[/SUP]
سفَّهتِ كلَّ الأغنياتْ
من أنتِ في سوق البنات؟
* * *
قلبي يحبُّ كما يشاءْ
أنا شاعرٌ متنقلُ
كالشَّنفَرى لي عنكِ منأًى واسعٌ
لي عن مكانٍ للأذى متحوَّلُ
لو لم يكنْ في الأرضِ أرنو للسَّماءْ
من أنتِ في سوق النساء؟
* * *
يهتزُّ غصنُكِ في المجيءِ وفي الذَّهاب
فكأنَّ أطيارًا بنَتْ أعشاشَها في فرعِكِ الميّاد
لكنْ غدوتِ كصخرةٍ
لم تطربي لتدفُّقِ الأنّاتْ
لم تشعُري بحلاوةِ الأبْياتْ
من أنت في سوق البناتْ؟
* * *
بيتٌ أحبُّ إليَّ منكِ، وكلُّ أشْعاري تُردَّدُ في المساءْ
فإذا أهنتِ قصيدتي، لا تعْجبي أنا لن أُساءْ
مَن أنتِ في سوقِ النساءْ؟
* * *
يا من أثرتِ مواجدي
إني أحبُّ قصائدي
كانتْ قصيدةَ عاشقٍ أبياتُها قلبٌ يَذوب
أوتُنكرين قصيدةً كلماتُها ذوْبُ القُلوب
ما أنت عندي غير لاهية لعوب
ما أنت في حكم الهوى إلا كذوب
لكنني سأظل أعتقد المحبة لا أتوب
أولى بحبي أخريات
من أنت في سوق البناتْ؟
* * *
شعرٌ يُصاغ من الدموع من الدماء من الأنينْ
حمَّلْتُه ما لا يُطاقُ منَ المواجدِ والحنينْ
وأهنتِهِ فارتدَّ يحكي وهْو مكلومٌ حزينْ
لنْ أُرسلَ الأشْعارَ ثانيةً إليْكِ أنا ضَنينْ
أصبحتِ رمزًا للجفاءِ معَ الغَباءِ... أتضْحكينْ؟!
* * *
شعْري أحوِّلُه إلى أُخْرى سِواكِ ستشْتَهيه
أنا لم أُقدِّرْ أن يُهانَ وقدْ بذلْتُ الحبَّ فيه
هل كانَ ينقُصُني التوسُّلُ والتَّضرُّعُ: أكْرميه؟
مَن أنتِ في سوقِ النِّساءِ لترْفعي أوْ تخْفضيه؟!
* * *
الحب ليس عليكِ وقفًا للماتْ
خدعتْك نفسُك لستِ سيدةَ البناتْ
لكنني سأظلُّ رمزًا للإباءْ
وتحولَ الحبُّ الشديدُ إلى العداءْ
يا هذِه منْ أنتِ في سوقِ النساءْ؟!



[SUP]([/SUP][1][SUP])[/SUP] بتخفيف الياء، نحو قراءة أبي جعفر المدني في قوله تعالى: ((ألقى الشيطان في أمنيته)).
 
أهل التفسير، وأصحاب المنظومات، وشروحها ينبغي أن يكون لهم التفاتة إلى مثل هذا.....
 
عودة
أعلى