السدر المخضود والطلح المنضود في رحلة الفردوس المفقود

إنضم
28/03/2011
المشاركات
618
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
1

[FONT=&quot]كانت الرحلة إلى إسبانيا الأندلس العربية الإسلامية حلما راودني مذ عقلت[FONT=&quot] على نفسي قارئا نهما للتراث الأندلسي الذي كتبه الأعلام في الدين و الفكر والأدب في هذه الجهة الغربية من الوطن الإسلامي الكبير...وكان شوقي يزداد إلى زورة إلى أرض الفردوس المفقود كلما ازددت قراءة لكل أثر أندلسي...وكانت النفس مع شوقها تخشى هذا اللقاء المرتقب إلى تلك الأرض الطيبة المباركة التي مشى عليها ودرج عمالقة الفكر الإسلامي من أعلام العالم، وجهابذة الدنيا طرا....لقد كانت النفس تخشى من أن يكون هذا اللقاء مُهلكا لها[/FONT][/FONT][FONT=&quot]....إذ ربما طار العقل...وذهب التصون...وتفلت الإنضباط ...عندما تجابه بالحقيقة التي لطالما قرأتها في الكتب من أن الإسلام انحسر ضياؤه عن الجزيرة الأندلسية...وأن قرطبة وغرناطة وإشبيلية والمرية وطليطلة...وسرقسطة ومرسية ودانية وطلبيرة ومجريط كلها مدن لا وجود لها اليوم في عالم الناس...إلا من جهة ما تبقى من أسمائها من حروف ميتة محرفة على ألسنة الإسبان....إنها الصدمة إذن التي تخشى منها النفس عندما يقال لها إن الأرض التي مشى ودرج عليها بقي بن مخلد ومحمد بن وضاح ناشريْن الحديث في أرض أندلس اغتصبت في أرضين كثيرة سرقت من هذه الأمة....إنها الرجة إذن التي قد تصاب بها النفس عندما يقال لها إن الثرى الذي كان ابن حزم القرطبي وابن عبد البر الإشبيلي، وابن سكرة الصدفي السرقسطي، وابن الدلائي العذري المري، وابن بشكوال القرطبي وابن الزبير الغرناطي... قد مسخت حباته...وبدلت ذراته...ونسفت أجزاؤه..فالأرض قد زلزلت...والسماء قد نسفت...والبحار قد فجرت..والناس قد هجرت وشردت وقتلت وأبيدت....كانت هذه المعاني وغيرها تختلج في صدري وتدور في خلدي وأنا أصل إلى مطار مدريد قادما إلى الديار الإسبانية في مهمة رسمية ضمن الوفد المغربي الذي سيقيم دروسا وعظية لأفراد الجالية المغربية المقيمة بإسبانيا...
[/FONT]
 
2

[FONT=&quot]حطت رجلي على أرض إسبانيا وأنا أتفكر في أنها الأرض التي دخلها المسلمون[FONT=&quot] القادمون من الشرق عبر المغرب من أجل الدعوة إلى الله، وتبليغ هذا الدين إلى الآفاق...يا لتلك الهمم التي طوفت الدنيا وهي لا ينهزها إلاكلمة الله والتعريف بدينه وأداء الأمانة والنصح للأمة ....ويا لأولئك الرجال والنساء الذين كانوا حملة رسالة، وأصحاب دعوة، وأرباب منهاج معروف في الحياة...لا يحول بينهم وبين ذلك بحر أو جبل...ولا يمنعهم منه مفازة أو صحراء...كنت أتدبر في هذه المعاني وأنا أطأ الأرض التي وطئتها أقدام المجاهدين مع طارق بن زياد...وموسى بن نصير...أقول لنفسي أهذه هي الأرض نفسها...أو ذاك هو التراب نفسه...أتساءل وأنا أمشي خارجا من مطار مدريد الدولي الذي يبعد عن العاصمة ببضعة كيلومترات...تلقانا المستقبلون الكرام بالبشر والحبور...والتجلة والسرور...بيد أني كنت أبحث في وجوههم هل أجد من ذاك الطراز الأول رجلا...أقبل بين عينيه وأمشي بين يديه..وأمسح رجليه...وأعانقه عناق مشتاق...وأصافحه مصافحة محب وامق...لبثت على هذا لبضعة ثوان....ولم يرُعني بعدُ إلا صوت محرك سيارة تقلني إلى حيث هيئ المقام والمستقر....[/FONT][/FONT]
 
3

توقفت السيارة بعد وقت طال عليَّ مضيه لموضع التعب الذي فيَّ من أثر السفر، فإذا أنا في مزرعة خارج مدينة قرب مدريد عرفت من بعد أنها كواكبكارـ هكذا يلفظنونها ...آواني مضيفي الشاب المغربي الذي رافقني من مطار مدريد في بيت أبيه مؤقتا في غرفة صغيرة جدا...تُشرف على الدنيا من خلال نافذة صغيرة...وضعتُ جنبي على ما وضع لي مهادا..بعد هذه الرحلة التي أضنت الجسم...ألتمس قسطا من الراحة...بيْد أن عياء الجسم لم يفعل فعله لكي أسلم الروح إلى بارئها في نومة هنيئة تسعفني ببعض الرّوْح...لكن كيف للنوم أن يتسلل إلى جفني المجهد وأنا في أرض قريبة من الأندلس...بل انا في حكم من وطئ أندلس العلم والثقافة...وأندلس ابن حزم وابن عبد البر..وأندلس ابن رشد والباجي ولسان الدين ابن لخطيب...استويتُ جالسا على الفرش...تساءلت مع نفسي عن أي جزء أنا من الليل...راجعتُ خط رحلتي من المغرب فتذكرت أننا غادرنا العُدوة بعد المغرب...ووصلنا مدريد ليلا..وما خلصتُ إلى نفسي بعد العشاء ومظاهر الإستقبال إلا بعد مضي ساعات...فلا ريب أن يكون الوقت سحرا...إن لم يكن فجرا...تسللتُ من فراشي مطلا من تلك النافذة الصغيرة إلى السماء...كان الوقت يؤذن بتنفس الدنيا عن يوم جديد...خرجتُ أتوضأ للصلاة قبل فواتها...صليتُ ثم جلستُ أتفكر في شريط الأحداث...أقول لنفسي أنت في أرض لطالما برّح بك الشوقُ إلى زيارتها...والكوْن فيها والتجوال في أنحائها...فقرّي واهدئي...واثبتي واستريحي قليلا...دراتْ بي الأرضُ بعدها فلستُ أعقل على شيء...حتى جاء الشاب يدقُّ عليَّ باب الغرفة دقا خفيفا...يقول السلام عليكم كيف أصبحتم يا دكتور.
 
4

كانت أول طلة على الأندلس في صباح ذاك اليوم الجميل...أينما يممت وجهي طالعتني خضرة وأشجار....وبساتين وماء وأنهار...هذي بلاد أندلس العلم والمنبر والقرآن..هذي حاضرة المعرفة الإنسانية..شادتها قرطبة وإشبيلية وغرناطة والمرية والجزيرة الخضراء....دعيت أفطر فطورا مغربيا في آخريوم من أيام شهر الله شعبان...فجلست بجسدي بين زمرة من الإخوان...والروح ذاهلة والنفس كأنها غيرمستقرة ترنو لرؤية معاهد الإسلام على الأرض التي أحبت هذا الدين...ونشرت في العالمين له ذكرا حسنا بما أبدعت وشيدت من حضارة اغترفت منها أوروبا وغيرها من أمم الأرض.
 
5

شرعت في دروسي الوعظية عشية ذاك اليوم الأخير من شعبان من عام 1430هـ، فكانت دروسا مسلسلة بين العشاءين طيلة الشهر الفضيل ..تعرفتُ فيها على ضرب جديد من الجمهور المخاطبين الذين يعيشون في بلاد الغربة، ولهم مشاكل ومسائل يخوضون فيها ليس يخوض فيها من سواهم من المسلمين في بلادهم...تواصلت الدروس...وتواصل المقام الكريم في تلك الديار...وكنت في تلك الأثناء كثيرالسؤال عن الأندلس وما تبقى من مدنها ومعالمها...وكان يقال لي إن إقليم الأندلس يوجد في الجنوب على بعد أكثر من خمسمائة كيلو من مدريد التي ألقيتُ في بعض قراها عصا التسيار...فكنت أتفكر في سبيل مسهل للمجاز إلى ذاك الإقليم الذي هو ملء السمع والبصر...وأقول لبعض من كان يحضرني في دروسي من الشباب لابد لي أن أزور ذاك الإقليم...إذ كيف لي وقد وطئت قدمي هذه الديار أن لا أقضي منها وطري في زيارة محبوبتي التي تخصصت في بعض جوانبها الحضارية المشرقة....ولبثت على ذلك زمنا طويلا أمني النفس بتلك الزيارة...وأرغبها في تحقيق تلك الأمنية....كل ذلك وأنا شديد الحرص على السؤال عن المواصلات إلى تلك البقاع...والسعي إلى التعرف على أقرب المناطق الأندلسية القديمة القريبة من مدريد ونواحيها....فأوقفني السؤال والبحث على أن من بقايا آثار المسلمين القديمة القريبة من مدريد مدينة طليطلة التي تبعد عن العاصمة بسبعين كيلو على طريق سيار لاحب...فأنشأ الله فيَّ الرغبة إلى زيارتها والوقوف على معالمها في يوم رمضاني مشهود أنا مقتص بعدُ ما قد اتفق لي فيه من عجائب الأخبار ونوادر الأنباء.
 

6

دلجنا مسافرين إلى طليطلة التي يطلق عليها أهل هذه الديار
TOLIDO فسرنا في سيارة فارهة سريعة السرعة في طريق سيار ناهج...وحثثنا السير حتى وصلنا إلى طليطلة مبكرين قبل اشتداد الحر...ودخلنا المدينة عابرين نهرها الذي تشتهر به والذي يسمى في المصادر التاريخية التاجو، وهو في واد سحيق يسقي حقولا وبساتين تصطف على جانبي الوادي....توجهنا رأسا إلى مأرب للسيارات حيث آوت سيارتنا....ثم خرجنا إلى قلب المدينة العتيقة .
 
7
أول ما يواجه الزائر المتجول في طليطلة أسوارها العالية وأبراجها المحصنة
التي بنيت لتكون سدا حصينا ضد هجمات القشتاليين المتربصين، والنصارى الموتورين...ولقد كانت هذه الأسوار يوم أن زرتها في حالة جيدة إذ بادرت السلطات الإسبانية إلى ترميمها وصيانتها لأنها أولا من التراث العالمي المشترك بين الإنسانية، وثانيا لأنها مصدر مهم من مصادر الدخل القومي الإسباني الذي تموله السياحة الداخلية والعالمية....
ولجتُ إلى قلب طليطلة من أحد أبوابها العتيقة...وقد طار خاطري يخترق العصور والدهور ليقف عند زمن طليطلة الإسلامية إبان الحكم الإسلامي لها....ورأيتني أتخيل عهدها الزاهر مع بني ذي النون الذين ملكوها ووسعوا عمرانها ، ورفعوا مناراتهاوشيدوا قصورها وأعلوا بنيان مساجدها، وصيروها مفخرة من مفاخر الأندلس فيالثغر الأعلى....كنت أتفكر في مثل هذه المعاني وأنا أطوف مع رفيقيَّ في هذه الرحلة الأندلسية الشائقة...وبيَ من الذهول والحزن ما الله به عليم...إذكيف ضاع هذا الكنز الذي ليس يقدر بثمن؟؟... كيف أصبح ذاك كله من الماضيالذي لن يعود أبدا...أم كيف أصبح الحديث عن أيام العرب والمسلمين في طليطلة ضربا من الخيال والأحلام ...رباه ...ألم تقل عز جارك وتقدست أسماؤك في محكم تنزيلك" وتلك الأيام نداولها بين الناس"...ألم يكن المسلمون ناسا من الناس؟؟؟...كانوا في الأندلس سادة وقادة وأعلاما وحكاما...ثم ضرب الدهر ضرباته فتغير الحال فنكست أعلام..وانتهكت أعراض وحرمات...فحصلت الزلزلة..وتغير مجرى التاريخ...وأديل من الإسلام في أرض أندلس...وأصبحت آثارهم التي شادوها في زمن العزة وإقبال الدولة ذكرى من التاريخ الماضي للأمة الإسلامية
...
 
8

كان اليوم صائفا في طليطلة شديد الحر، وكنا صائمين في يوم من أيام الشهرالفضيل، ومع ذلك فما أصابنا الجهدُ ولا أدركنا التعبُ من التطواف بين أزقة ودروب المدينة العتيقة...وكانت طليطلة شديدةَ الشبه بفاس أو تطوان أوالرباط... أخذت منها فاسٌ طلعاتها وعقباتها، وأخذت منها تطوان ضيق أزقتهاودروبها، وأخذت منها الرباط اصطفاف دُورها في سماط طويل من الأبواب المتقنةالصُّنع، المزخرفة الواجهات، المقوسة المداخل، البهية الطلعة، الجميلة البناء، الفسيحة الأرجاء، الكثيرة الغرف، العالية في العمارة والبنيان...كنت أقول لنفسي وأنا أطََوّفُ في هاتيك المعاهد والمعالم: أيتهاالنفس إنك لست ههنا غريبة...لقد عرفتك هذه الدروب، وتلك الأزقة، وهاتيك المآذن والمنارات التي حولت كلها إلى كنائس أو غُيرت معالمها لتصبح فنادق ونُزلا، أو دورا للسكن أو للإستعمال العادي....أيتها النفس المحزونة التي أصابها الضنى والأسف...وغلب عليها الأسى..وأوشكت عبراتُها على الخد تنسكب...ودموعها من الأجفان تنهمر...ههنا كان أجدادك وههنا درج آباؤك ...ممن علم الدنيا وأسمع الشرق والغرب..وأبدع ما لم يبدعه إنسان...لأنه خدم الإنسان...وكان ساعيا في حضارة الإنسان...ورقي الإنسان...فمات إنسانا...وبقي بعدُ على مر الأزمان ذكرى للإنسان....
 
9

[FONT=&quot]اشتد الحر ونحن نطوف في دروب وأزقة طليطلة...وكانت بين أيدينا خريطة المدينة[/FONT] باللغة الإسبانية وكان بعض مرافقيّ يتقنون فهمها والتعبير بها...وكان وُكدنا أن نجد معلما تاريخيا إسلاميا، أو منارة مسجد أندلسي قديم...وكانت الخريطة التي بين أيدينا تدلنا على أن المساجد في طليطلة الإسلامية كثيرة...وأن من بين أهمها وأروعها وأبقاها على ضرباته الدهر مسجد باب المردوم...فجعلنا هدفنا البحث عن هذا المسجد والوقوف على ما تبقى منه....ومرت الساعة أويزيد ونحن في تجوال بين دروب طليطلة التي تتبدى من بعيد كنيستها الرئيسية التي كانت مسجدا حوّل وغير...وأسلمنا البحثُ مع الخريطة التي كانت بين أيدينا إلى الهدف المنشود والمقصد المطلوب...إذ وقفنا قريبَ يأسنا من الوقوف على الأثر الإسلامي البارز في طليطلة على المسجد المنوه به... كانت تلك اللحظات عسيرةً عليَّ ...فهأنذا وجها لوجه أمام دليل قاطع على الوجودالإسلامي في هذه المدينة التي كانت عاصمة القوط قبل الفتح...اقتربتُ من المسجد بخطى مترددة...ويدي ترتعش...ونفس يخيل إليها أنها ستجد داخل المسجد أهل المسجد من الأندلسيين الذين سكنوا هذه المدينة العجيبة...كان المسجد مغلق الباب...قد أوشك أن يسقط من القدم والبلى...وكان صغير الحجم...مرتفع السقف لا منارة له...يتوسط حديقة فيها أشجار وفيها قبور قديمة، الظاهر أنه قد دفن فيها مسلمون من أهل الأندلس في أزمنة سابقة مختلفة...وقد علت باب المسجد نقوش قرأت فيها:" لا إله إلا الله..." وأحيط المسجدُ وما فيه من حديقة وقبور بسياج لمنع من يريد الدخول...وسألنا عن سبيل لدخول المسجد فقيل لنا إن ذلك يؤدى عنه كذا كذا يورو...وأن الزيارة تقع في مدة وجيزة وفي مكان محدود لوجود أعمال الصيانة والترميم...فاستقر الرأي بعد إجالة نظرومشورة على عدم الدخول لأن باطن المسجد يُرى من ظاهره..
 
10

استوقفتني قصة فتاة أمريكية آتية من أمريكا إلى طليطلة للبحث في تاريخ وحضارة الإسلام في الأندلس...كانت الفتاة في العشرين من عمرها...بادية الجمال...ظاهرة الجد والنشاط...واقفة أمام مسجد باب المردوم مشدوهة معجبة...تحمل بين يديها كاميرا صغيرة...تلتقط بها صورا عديدة للمسجد ولما حوله...وجدتها تدور حول المسجد وقد أغلقت أبوابه...وارتفعت أسوار الحديد المحيط به...تتساءل هل يمكنني الدخول...قلت لها بالإنجليزية ...ما كتب على الجدار الأمامي للمسجد يفيد أنه مغلق للصيانة وأن وقت الدخول بُعيْد الثانية زوالا...قالت مشيرة براسها نعم نعم، ثم سألت: هل أنت زائرسائح مثلي أم أنك باحث دارس لحضارة العرب في الأندلس...قلت لها بل أنا سائح زائر متألم...قالت:ولمه ؟؟؟ قلت:لأننا ضيعنا من بين أيدينا هذا المجد وهذا العز وهذه الحضارة الأندلسية الجميلة الساحرة...وهل أنت باحثة زائرة سائحة؟؟؟؟ قالت نعم إنني أبحث في الحضارة العربية الإسلامية الأندلسية منذ دهر...وأنا آتية من أقصى امريكا وحدي لكي أقف بنفسي على معالم هذه الحضارة العجيبة المدهشة..وههنا انتهى الحوار ومضت الباحثة لحال سبيلها تاركة فيما ذكرته عبرة...رجعت إلى نفسي قلت انظر إلى هذه الهمم، كيف لم تقنع بقراءة المسطور حتى قرنته بالمنظور....فتاة صغيرة شابة تجيء من امريكا لوحدها للبحث في تاريخ المسلمين وآثارهم الباقية في الأندلس...تبذل في سبيل الوصول إلى ذلك من المال والجهد والوقت الشيء الكثير...إنها الهمة الأندلسية القديمة التي طوفت الدنيا بحثا عن الكلمة الهادفة والعلم النافع والفائدة الزائدة هي التي أثرت في هذه الفتاة فغدت أندلسية أمريكية!!!
 
11

قادتنا جولتنا في طليطلة الإسلامية التي كانت فيها حركة الترجمة نشيطة من العربية إلى اللغات الأوروبية الأخرى إلى كنيسة المدينة العظمى التي اختلطت فيها معالم الحضارتين الإسلامية والقوطية...كانت الكنيسة فارهة البناء..عظيمة العمارة...تزهو على بقية مباني المدينة بطول تاريخها الضارب في القدم من العهد القوطي إلى العهد الإسلامي إلى ما والى ذلك من عهود وأزمان....هممت أن أدخل إلى الكنيسة لكي أتفرج على معالمها ولأرى هل حولت إلى مسجد إسلامي زمن الحكم الإسلامي أم لا...ثم ذكرت أن بها صلبانا وتماثيل ...وأن بعض مرتاديها من النصارى يقومون بطقوسهم في صلواتهم وترانيمهم فتركت الدخول واكتفيت بالتفرج على بناية الكنيسة من خارجها...على أن السلطات الإسبانية لا تمنع المسلمين من دخول مثل هذه الكنيسة لكن بشرط أداء رسوم الدخول!!!!
جاوزنا الظهر بقليل وكنا قريبا من العصر...ففكرنا أين يمكن أن نجمع بين الصلاتين فالسلطات تمنع من ممارسة الصلاة أمام الملإ في العراء...لكن بعد نظر وتشاور استقر رأينا على أننا على وشك مغادرة المدينة فلقد أتينا على أغلب معالمها تجوالا على الأقدام مذ ساعات....وفي الطريق إلى السيارة نزلنا منحدرا مؤديا إلى الباب الذي يخرج منه الناس من المدينة ...واجهنا بناء فخم كأنه قصر عربي أندلسي قديم أعيد ترميمه وتجديده فبدا في حالة جيدة....فسألنا بعض من كان قريبا منه فقال لنا إنه قصر الحكم...وفي أسفل المنحدر الذي شرعنا في النزول فيه اعترضتنا جملة من الحوانيت الصغيرة المصطفة على يمين النازل...كانت هذه الحوانيت تبيع تحف طليطلة ومقتنيات من النحاس تزين بها الدور والمنازل على أنها لون من ألوان الزينة والديكور...وشدني إلى ذلك منظر طليطلة وقد نحت على صينية من نحاس...وبدت المدينة فيه بمآذنها ومساجدها كما لو كانت ما زالت إسلامية عربية....ودخلنا حانوتا من تلك الحوانيت وكان صاحبه رجلا طاعنا في السن...تبدو عليه سمة تجارب الدهر...وحنكة العمر...سأله مرافقي الذي يحسن الإسبانية عن سعر قطعة من تلك القطع التحف التي مر وصفها...فأجاب بصوت يتقطع من الكبر...وفهمنا بعدُ أنه يهودي من يهود طليطلة الذين عمروها زمن حكم المسلمين...وأن ذريتهم فيها باقية إلى اليوم....ولا يخفى على قارئ تاريخ سقوط قلاع الأندلس ومدنها ما كان لليهود من دور في ذاك السقوط المريع....ثم لم ننشب بعد أن غادرنا طليطلة والقلب في كمد والنفس في حَرَق...والخاطر منكسر ودمع العين يكاد ينهمر...أنْ هوت عاصمة الثغر الأعلى طليطلة مبكرا وأخذها الإسبان انتزاعا...وهي ما زالت بأيديهم أسيرة....والأمر لله من قبل ومن بعد...
 
صراحة كلام أقل ما يمكن وصفه بأنه رائع, سبحان الله لكأني عشت معكم الزيارة لحظة بلحظة.
الأندلس, تقع على بعد كيلومترات من مدينتي وقد جعلتني أحس كأنني أول مرة أسمع عنها , جعلني كلامك أتحسر بالفعل على فقدانها, (ابتسامة) وقد ذكرتني في قصيدة مرت علي في دراستي قديما وهي في رثاء الأندلس , فلم أحسك أقل تحسرا من أبي البقاء الرندي وهو كاتب القصيدة .
لكل شيء إذا ما تم نقصان ...... فلا يغر بطيب العــيــش إنسانُ

هي الأمور كما شاهدتها دول ...... من سرهُ زَمنٌ ساءته أزمانُ

وقد صدق عمر رضي الله عنه حين قال , نحن قوم أعزنا الله بالإسلام , فإن ابتغينا العزة فيما دونه أذلنا الله,
اللهم ردنا الى الحق ردا جميلا
 
12

ما إن عدت من طليطلة حتى سعيت أشد ما يكون السعي لكي أحظى بزورة إلى بقية مدن الأندلس الشهيرة: قرطبة وغرناطة وإشبيلية...وكانت هذه المدن في إقليم الأندلس بعيدة عن مدريد بعدي عن المغرب...فكانت تلك الشقة مانعا من أن أرغب إلى بعض من كان يحضرني في مجالس الدرس أن يصحبني زائرا متجولا في أندلس الأمس....فلم أجد بدا لما قاربت على إنهاء مهمتي في السابع وعشرين من رمضان من أن أقرر زيارة قرطبة وغرناطة في يومين من غرر أيام حياتي...ومهدت لذلك بجملة استعدادات...وأخذت للأمر اهبته من تعلم لبعض الكلمات الإسبانية التي لا غنى لي عنها في السفر... كالتذكرة والحافلة والوقت والفندق وغير ذلك مما أحتاج إلى النطق به لكي أَفهم وأُفهم....ولقد يعرف القارئ اللبيب أن الإسبان من اشد الناس تعصبا للغتهم واعتزازا بها...وهم وإن كان فيهم من يعرف غيرها فإنهم لا يعدلون بها لغة أخرى مهما حدث وحصل...وكذلك تكون العزائم ويكون الإعتزاز بالهوية والإنتماء...ولما شاء الله لي أن أشرع في الرحلة الأندلسية إلى الديار الغرناطية فالقرطبية...سافرتُ باكرا بعيْد الفجر من مدريد ميمَّما وجهي تلقاء غرناطة آخر معقل من معاقل المسلمين في الأندلس...فكانت الرحلة المشهودة التي لن أنساها ما حييت..
 
13

خرجتُ بُعيْد فجر اليوم الثامن والعشرين من رمضان عام 1429هـ من GALAPAGAR برفقة بعض الشباب الذين كانوا يغشْون مجلسي ...متوجهين إلى محطة الحافلات في مدريد...قلت لمرافقي وأنا في السيارة:" ماذا ترى هل أذهب رأسا إلى قرطبة أم إلى غرناطة؟؟" قال مجيبا:" أنتَ بالخيار..ولأَنْ تذهب إلى غرناطة أولى، لأنها بعيدة من مدريد وقرطبة بينها وبين مدريد...وعلى كل حال، فسوف يخير الله لك...إذ الحافلة الجاهزة للإنطلاق من المحطة الآن ..هي التي سوف تحدد لك الوجهة..."...وصلنا بعد مضي وقت ليس بالقليل إلى المحطة...كانت الساعة تشير إلى قريب الثامنة صباحا...رافقني صاحبي إلى شباك التذاكر وسأل العامل هناك...عن الحافلة المنطلقة الآن...كانت حافلة غرناطة هي المنطلقة السابقة...قال لي صاحبي:" هذا من التوفيق الحسن...توكل على الله"..كان مرافقي يودعني على الباب المؤدي إلى مواقف الحافلات...لمح شابا في مقتبل العمر جائيا حاملا حقيبة...دل شكله على أنه مغربي مسافر إلى غرناطة...خاطب صاحبي الشاب قائلا:" هل أنت مغربي؟" قال الشاب:" نعم" قال صاحبي:" وهل أنت ذاهبٌ إلى غرناطة؟" قال الشاب برأسه نعم/ قال صاحبي:" إن لك صاحبا سيرافقك في السفر..وأشار إلي...أرجو أن تمد إليه يد المساعدة فإنه غريب في هذه البلاد..." ...قطع الشاب على صاحبي حديثَه قائلا:" سأكون في خدمة الأستاذ ، ولن أدعه حتى يقضي من هذه الرحلة نهمته".....ودعت مرافقي داعيا له...وتوجهت مع الشاب إلى الحافلة...وبعد ركوبنا لم تلبث الحافلة أن انطلقت في موعدها المحدد لم تتقدم ذلك لحظة ولم تتأخر عنه لحظة...وههنا ابتدأت فصول من درر جواهر الرحلة الأندلسية إلى الحضرة الغرناطية.....
 
14
كان الشاب المغربي الذي صحبني في الحافلة من سكان غرناطة...فقلت في نفسي لأسألنه عن كل شيء عن هذه المدينة الساحرة الحالمة طيلة الطريق الذي سوف يمتد خمس ساعات على طريق سيار ناهج...فسألته عن الآثار الغرناطية الباقية للمسلمين ...وعن قصر الحمراء وعن المساجد والجوامع وعن العادات والتقاليد الإسلامية الأندلسية...وعن أحوال المسلمين اليوم من أبناء الجالية العربية والمسلمة...كانت أجوبة الشاب مقتضبة موجزة...وألفيته شهد الله شابا على جانب كبير من الخلق الكريم والأدب الجم...وطيب المعشر ودماثة الخصال...إلا أنه كما لاحظتُ يميل إلى النوم لأنه كما ذكر لي :" لم ينم الليلة الماضية ...وقد كانت أرجى ليلة في رمضان...لأنها قد تكون ليلة القدر...قال:"سهرت قائما أتهجد.."....تركتُ صاحبي وما قد أسلم له نفسه من الراحة والهجعة...ورجعت إلى نفسي متأملا هذا الطريق الذي يشق جبالا وأنهارا...فيها مناظر خلابة...من بساتين فيحاء ومروج خضراء...قلت: أهذا هو الطريق الذي سلكه الفاتحون الأوائل إلى طليطلة عاصمة مُلك لذريق...حيث كان هناك اللقاء الحاسم بين الجيشين...وبين الملتين...أم تراه طريق آخر...كم مر من هذا الطريق من عالم أندلسي راحل بين مدن الأندلس في عهود مختلفة من عصر دولة الإسلام في الأندلس: عصر الولاة، فعصر الخلفاء، فعصر ملوك الطوائف، فعصر المرابطين فالموحدبين فالمرينيين فعصر أواخر ملوك بني الأحمر..لابد أن يكون تحت ثرى هذه الطريق قبور وأجداث أندلسيين من مختلف طبقات المجتمع المسلم الذين سكن هذه الأرض ودرج عليها...لابد أن تكون قوافل المهاجرين زمن حرب الإسترداد ـ من المسلمين الذين سكنوا مدن الثغر الأعلى كسرقسطة وطليطلة قد مرت من هذا الطريق...وسلكت هذه الأودية...وقضت ليالي وأياما حتى تصل إلى مدن الجنوب الأندلسي حيث كان الإسلام قائما وظل دولته لم ينحسر بعدُ...هل شهد هذا الطريق فتكا بأندلسي مسلم في عهد محاكم التفتيش والقهر...هل أهريقت قطرة دم أندلسي مسلم بغير حق وقد أعطي أمان غادر صليبي حاقد؟؟؟ كنت أتحدث إلى نفسي بمثل هذه الأحاديث وقد نزل بي من الغم والكرب والحسرة ما الله بذلك عليم...ولم يرعني إلا والحافلة قد توقفت للراحة وإجمام النفس...فانقطع شريط الأحداث..وأفقت مما كنت فيه...
 
15

لم يكن بين مدريد وغرناطة في الطريق السيار الذي سلكته الحافلة مدن أندلسية قديمة مبثوثة على جانبي الطريق...وغاية الموجود إشارات إلى بعض القرى التي يصعب القطع بأنها كانت عربية أندلسية فحولت أسماؤها إلى الأعجمية الإسبانية... خلا مدينة جيان الأندلسية التي ميزتُ اسمها بالحروف الأعجمية...وأثبت الواقع الجغرافي وجودها على الطريق إلى غرناطة...وهي كما في المصادر الأندلسية كورة جليلة طيبة كثيرة الثمرة غزيرة السقي باطراد العيون....قلت ومازالت كذلك ناضرة الأرضين...تشتهر بزيت الزيتون..وبالخضرة والجمال...تذكرتُ وأنا أمر على هذه الديار...بعضَ أهل الأندلس ممن قيل في نسبتهم جياني...آه..تذكرتُ فقيها مالكيا ومحدثا حافظا ...قلت لنفسي أين أبو الأصبغ عيسى بن سهل بن عبد الله الأسدي الذي ولد بجيان .. الذي خاصم ابن حزم و كان أحد مناوئيه الألداء...آه...أين أبو علي الغساني الجياني أحد أعلام الحديث والرواية في الأندلس...ومؤلف تقييد المهمل...تذكرت هذين الفاضلين ومددتُ نفَسا عميقا ...أتنفس فيه نسمات جيان التي نسب إليها مثل هذين العلميْن...وملأت الرئة بهوى جيان...عساه يُذهب عني ما أنا فيه من الحسرة والأسى على دروس هذا الناد...وأفول شمسه...وذهاب رسمه...
حثت الحافلةُ السيرَ إلى غرناطة التي تبدت دُورها من بعيد ..تنادي تقول أنا شاهدة أنْ قد مر بواديَ قوم نزلت فيهم النبوةُ...وكانت فيهم الرسالةُ...وبُعث فيهم محمد صلى الله عليه وسلم...قوم رباهم دينهم على بذل هذا الدين إلى كل أحد...فركبوا الصعب والذلول...فاتحين البلاد..مشرقا ومغربا...حتى وصلوا إلى بلاد القوط..فعبَروا إليه البحر وجازوا إلى العدوة...فدخلوها فاتحين ...وعمروها ...فكنتُ أنا مما عُمر ومُصر...ثم شيدوا بعدُ بأندلس حضارة هي ما وُسم في كتب التاريخ بـ:" الحضارة الأندلسية المسلمة"...

 
16

كانت الحافلة تقترب من غرناطة...وكلما اقتربت من تلك المدينة الساحرة ازداد الشوق وعيل الصبر لتداني الديار وقرب تحقق الرجاء...رمقت عيني وأنا أنظر إلى الطريق ونحن في أحواز غرناطة إشارات تدل على المرية أو مالقة قد كتبت بحرف عربي على ما قد تهيأ هناك من ورق مقوى ألصق بحجر أو جعل على عصا...وعلمت من بعد أن ذلك من صنيع بعض أهل شمال إفريقيا ممن يكثر استعمالهم لهذا الطريق...يرشدون بذلك التالف الآخذ في غير الطريق السالك إلى ذينك المدينتين اللتين قد يكون منهما الجواز إلى العدوة الأخرى...رجعت إلى نفسي أقول...كم شهدت هذه الديار من رحلات أهل العلم بالعربية الذين أقاموا لها سوقا، فأثمر ذلك قوة في العربية...في كلماتها ومفرداتها ونحوها وأصول قوانينها...فهذا ابن سيده المرسي الأعمى صاحب المحكم والمحيط الأعظم، وذاك ابن مالك صاحب الألفية الجياني الأندلسي، لقد كان للعربية في هذه البقاع دولة وصولة..واليومَ يُستحيى ههنا من كتابة كلمة منها..فسبحان مزيل النعم ومغير السقم...ومصرف الأحوال حالا بعد حال...اقتربت الحافلة كثيرا من غرناطة فبدت المدينة واقفا على رأسها جبل شُلير الذي تعلوه الثلوج صيفا وشتاء، ولذلك سماه أهل غرناطة قديما جبل الثلج...تبدت المدينة الساحرة من بعيد ممتدة على واد ينبسط على ربويتين عظيمتين يخترقهما نهر حدره...ربوة في الجنوب وهي ربوة الحمراء...وربوة في الشمال وهي ربوة البيازين والقصبة...رمقت عيني المجهدتين خضرة غرناطة...فأرضها تشتهر بالخصوبة والنضرة..لمكان جريان الأنهار والوديان فيها ..تذكرت وأنا أنظر إلى هذا الجمال والجلال...مقالة أحد مؤرخي غرناطة لسان الدين ابن الخطيب الذي يقول في الإحاطة في أخبار غرناطة:" ...ومن فضائلها أن أرضها لا تعدم زريعة ولا رعيا طول العام..
بلد يحف به الرياض كأنمـا وجه جميل والرياض عـــذاره
وكــــأنما واديه معصم غادة ومن الجسور المحكمــات سواره......
 
17

سرت فيَّ روح جديدة وأنا أطأ أرض غرناطة مع صاحبي المغربي الذي سعدت برفقته طيلة الرحلة من مدريد إلى غرناطة...كانت المدينة تبدو عصرية حديثة...بطابعها الأوروبي... وأحيائها الجديدة..التي بنيت بعد السقوط المريع للمسلمين..وما والى ذلك من عهود...قلت مخاطبا نفسي وأنا أمشي أول خطواتي أهذه هي غرناطة بني الأحمر...أين ما يدل على المجد الإسلامي...والأبهة العربية...والحضارة الأندلسية...والإزدهار الإنساني..أين قصور الحمراء..وجنة العريف ...وساحة الأسود...وقاعة استقبال السفراء...أين كانت مجالس العلم ومدارسه ومعاهده في غرناطة الإسلامية...أين مسجد غرناطة الجامع الذي كان فيه كرسي ابن رشيد السبتي حيث كان يملي من الجامع الصحيح حديثين فيتكلم عليهما سندا ومتنا وترجمة...أين كان دست بني زيري...ومجلس لسان الدين ابن الخطيب في الحكم ..أين ما قصه من أنباء في الإحاطة في أخبار غرناطة...أين كان ابن الرومية النباتي وابن ورد في غرناطة...يا إلهي أين مساجد غرناطة ودورها العربية...بخصاتها وأقواسها...ونباتها وزليجها ونقوشها...وزينتها وبهرجها...يا إلهي أكل ذاك الذي نقرؤه في الكتب ذهب وامحى...و درس وانقضى...يا رب أأنا أطوف في غرناطة...أم في مدريد...ومازلت في هواجسي وفي تاريخ المدينة الحمراء أطوف بمخيلتي حتى نبهني صوت صاحبي يقول لي أنت الآن في غرناطة محبوبتك...سوف نأخذ الحافلة إلى وسط المدينة حيث من هناك سنصَّعد إلى قصور الحمراء ونزور تلك المعاهد ...ونقتطف من وقتنا الحاضر ردحا من الزمن نعيش فيه في الزمان الماضي عساك تلقى في أزقة المدينة من يذكرك بتاريخها التليد...
 
18

ركبنا الحافلة من أرباض غرناطة ونواحيها البعيدة عن قصور الحمراء...سارت بنا الحافلة تطَّوف في المدينة...كنتُ جالسا على كرسي وبجانبي صاحبي المغربي أصلا الغرناطي دارا ومستقرا...أخذت في النظر إلى هذه المدينة التي شهدت آخر فصول تاريخ المسلمين الرسمي على أرض الفردوس المفقود...ما أكبرها وأرحبها ...وما أجملها وأنضرها...وما أبهجها وأخلبها للب الرجل الحازم...نظرت إلى جامعة غرناطة الحديثة التي مرت الحافلة بجانبها...قلت في نفسي أوَ يُعترف فيها بتاريخ المسلمين في هذه المدينة...أوَ تُدرس فيها علوم شرعية لطالما عرفتها هذه البقاع...وأذِنت لها تلك الساحات والردهات...أو يقال فيها إن التاريخ الثقافي لإسبانيا متصل بتاريخ المسلمين على أرضها...أو ليس يحتفى بابن حزم في قرطبة وثمتَ من يقول إنه مفكر إسباني !!! لنا فكرُه ونظراته ورأيه وشعره وأدبه وسيرته الذاتية الرائدة طوق الحمامة...وعليه إسلامُه وظاهريته فكل ذلك ليس يعنينا في شيء!!!!
مرت لحظات وأنا مستغرق في مثل هذه الأفكار التي تأتيني من الماضي نفحاتٍ تلهب مشاعري...وتُبكي ناظري...وتجعلني ذا أسى ظاهر، وعَبرة تكاد تفر من مقلتيَّ...فَطِن صاحبي إليَّ وأنا على تلك الحال فقال لي بصوت مسموع ذي نبرة...لقد وصلنا إلى وسط المدينة استعد للقاء من تهوى...وأحضر منك السمعَ والبصرَ...وإياك أن تبكي على ذاك المجد الذاهب...واصبر واحتسب فالله معوضنا دارا بدار...ومجدا بمجد...وتاريخا بتاريخ...
 
19

استوقفني منظر تمثال في وسط غرناطة ونحن نهمُّ بالصعود إلى الحافلة التي سوف تقلنا أنا وصاحبي المغربي إلى قصر الحمراء في أعلى الربوة المطلة على حي البيازين العربي المسلم...تجلس الملكة إيزابيلا النصرانية الحاقدة ويقف بين يديها جاثيا على رجليه فاسكو ديكاما ناشرا بين يديها خريطة العالم الذي تم استكشافه....تأملتُ التمثال متذكرا ما صنعته إزابيلا بالمسلمين الغرناطيين الذين استسلموا ...من تقتيل وفتك وتشريد وتفريق وتمثيل...مع الغدر والمكر...والخديعة والتهجير..كم قتلت وشردت وأزهقت، وأفسدت وأحرقت....وتذكرتُ رحلة الشباب الأندلسي المسلم الخارجين في البحر إلى عالم جديد لاستكشاف أرض قد ترفع فيها راية الإسلام...تذكَّرتُ ازدهار الملاحة العربية الإسلامية في شواطئ المرية وجزر شرق الأندلس...صعدنا الحافلة ...فجعلت تدور بنا بين أزقة ملتوية صعودا إلى قصر الحمراء...حبستُ فيَّ النَّفَسَ...أقول لنفسي سيكون اللقاء بعد قليل بأثر إسلامي جليل القدر، عظيم المنزلة..آخر معقل من معاقل الإسلام في أرض أندلس....نزلنا بعد مضي وقت قصير...فوقفنا صفوفا أمام الحمراء ننتظر دوْرنا لشراء تذاكر الدخول إلى القصر...سبحان الله قصر بناه الأجداد ورفعوا مناره وأعلْوا بنيانه...ندخل إليه بعد دهر طويل بمقابل....أوَ َيدخل صاحب الدار إلى داره بمال؟؟؟؟
 
20

انتظرت طويلا قبل أن يؤذن لي في الدخول إلى تراث الأجداد من أهل غرناطة ...إلى حدائق قصر الحمراء...كان الزحام شديدا على الباب...وقف عشرات السائحين والسائحات من الغرب...لم أر فيهم عربيا واحدا...أفواج من السائحين تراهم مفرقين في جنان الحمراء...ينظرون ويتأملون ماذا صنعت يد العربي المسلم في إسبانيا....إنا كنا إذا سدنا حكمنا بالعدل وأنصفنا الإنسان والحيوان والجماد....هذا الجماد من أرض وبناء...وتراب وجبال...شهد معنا على أرض أندلس أزهى العهود وأرقى الفصول...وأبهى الأزمان...هذه الأرض تزينت بالمسلمين وأخرجت من خيراتها وبركاتها ...وأزهرت بساتين وجنانا تفوح عطرا وشذى وطيبا...وهذا البنيان ..رُفع مناره في عهد المسلمين الذين كانوا في أندلس الأمس أحذق يدا وأمهر تخطيطا وهندسة...هذه مساجدهم الباقية في غرناطة الجريحة...تشهد على عظم ما قد أبدعت أيديهم في العمارة والبنيان...وهذه قصور حكامهم ممن تأنق في المسكن وأفرط فيه...فأعلى البنيان وأسرف في الزخرفة وعصى الرحمن...بيْد أنه لم ينس الديان فنقش الآيات الكريمات على الحيطان...وكتبَ عليها من الحِكم والأمثال ما يبقى على الدهر دررا مرصعة، وجواهر مضيئة..كنت وحيدا أدور في جنان الحمراء لا أعرف لي طريقا إلى القصور فلقد كُتبتْ إشارات التعريف بالمكان بالإسبانية...وفهمتُ منها أنه من طريق هناك ينتهي إلى القصر...أخذتِ السماء تمطر مطرا خفيفا سرعان ما اشتد وتتابع....قلت لنفسي..أهي السماء تبكي معي لفقدان هذا المُلك التليد...والتاريخ المجيد...والموروث الأثير...قلتُ ولم لا تبكي معي الأرض والسما...وقد كنا ههنا سادة فأصبحنا قد أديل منا...وتُنُقِّص من بلادنا وأرضنا وحضارتنا وهويتنا...أخذتُّ أجري هنا وهناك لإشتداد المطر...لا أدري لي وزرا ولا ملجأ...وكأني أعيد ما قد جرى هنا في ساحات هذا القصر وبين ردهاته...من فصول تلك المأساة التي لم يشهد لها التاريخ مثيلا...قتلٌ وتشريد وفتك ودماء واغتصاب وحرق لتراث أمة وسرقة لتاريخ حضارة....يا إلهي كم مات ههنا من مسلم معصوم الدم...وكم سفك دم امرأة مسلمة بعد أن انتهك منها العرض...وكم فُرِّق بين أب وأبنائه...فلمْ ولنْ يرهم أبدا إلى يوم القيامة...أسلمتني رجلي وقد أخذ مني التعبُ مأخذا عظيما لموضع الصَّوم والسفر وقلة النوم...والأسى الذي يعتصر مني الفؤاد مذ دخلتُ الأندلس متجولا...ولذكرياتها باعثاـ إلى حيث يكون الدخول إلى قصر الحمراء، كان المدخل مزدحما ازدحاما شديدا...هؤلاء من فرنسا وآخرون من ألمانيا...وفريق ثالث من اليابان والصين...يا إلهي أين العرب أين المسلمون؟؟؟ لم أر منهم من مكاني ذاك أحدا....وقفتُ في الصف الطويل الذي لا يكاد يتحرك إلا لماما....طويلا طويلا...كنت صائما فالشهر شهر الله رمضان...قدَّرتُ أني إنْ لبثت في الصف من أجل الدخول إلى القصر فلن أحضر دعوة على الفطور ـ وقد أوشك المؤذن أن يرفع الأذان ـ دعاني إليها أحد الإخوة من المغرب...وشددَّ علي في الحضور، فكرهتُ أن أحْرجه إذا أنا تخلفتُ...وقلت ُ لن أدرك اليوم الدخول إلى القصر حيث جنة العريف وساحة الأُسود...لكثرة من كان في الصف منتظرا...ربما قُدر لي أن أرجع قريبا لأحقق الرجاء....بيْد أنه لم يحن إلى الآن ذلك الموعد...
 
21

خرجت من الصف الذي فيه ازدحام شديد متصدقا بمكاني للنصارى المتلهفين إلى زيارة قصر الحمراء، واشتد هطول المطر...فأخذت في التجوال فيما تهيأ لي من قلاع وحصون القصر المرتفع عن غرناطة ...وكأن القصر سيد مشرف على المدينة ينظرها من علٍ، ويرمقها من مرتَفع...يحرسها بعينه...ويكنفها برعايته...أشرفت من إحدى القلاع على غرناطة التي أحاطت بها سحابة غطت حي البيازين فتبدى لي الحي العربي المسلم بأزقته الضيقة ودوره العربية التي تحكي ألف حكاية ، وقصة...حكايات قوم قد درجوا...وقصص أناس قد درس ذكرهم ...أفناهم الموت...وأبادهم القهر...قلت وأنا أنظر في البيازين وبقية أحياء المدينة أين دور أهل العلم الغرناطيين ...أين بيت ابن عطية الغرناطي المفسر وبيت آله أهلِ العلم والتقى والسؤدد والفضل....بل أين كان موضع ومثوى المعتمد بن عباد لما دخل غرناطة منتصرا على بعض ملوكها الخوارين المستنجدين بالنصارى الحاقدين ...وأين كان موقف أمير المسلمين يوسف بن تاشفين بعدُ لما دخل غرناطة مؤدبا بعض ملوك الطوائف لمااستنصر بالقشتاليين ضد بني جلدته من المسلمين...أخذت صورا في مطر لا ينفك عن الهطول...وأنا أجري بين تلك القلاع والحصون ...أدور مطَّوفا بين تلك الآثار الباقية والمعاهد الدارسة...متقهقرا إلى الخلف مغادرا القصر وجناته....مواصلا السير إلى مدخل القصر....وما إن وصلتُ بعد وقت من المسير حتى أذن مؤذن المغرب...ألفيتُ صاحبي جالسا ينتظرني ...قررنا الهبوط راجليْن إلى المدينة...سرنا في طريق هابط...مررنا على عيون جارية وماء منسكب رقراق...ينساب انسيابا...مرت نصف ساعة ونحن في الهبوط إلى المدينة حيث حي البيازين....وصلنا بعد ذلك إلى حيث أخذنا الحافلة إلى دار صاحبنا المغربي الذي دعانا إلى فطور مغربي تفنن فيه غاية الإفتنان...وتأنق فيه غاية التأنق...فأحسن إحسانا كبيرا، وأجاد إجادة رائعة....فسقى الله من ظمإ وروى من عطش...وأتم علينا صيامنا وتقبل منا قيامنا...وأقر عيوننا بزيارة غرناطة الإسلام ودار السلام...ومثوى العلم والعرفان...
 
22

استيقظت في اليوم التالي من ضجعة في غرناطة مبكرا ...لكي أسافر متعجلا إلى قرطبة....كانت الطريق بين غرناطة وقرطبة تأخذ ساعات في حافلة مكيفة مرت على عدة قرى كأنها حواضر لا بوادي....شدني منها بيانة وهي من أعمال قرطبة ...وهي بلدة صغيرة بها بساتين وكروم وزيتون ...تركها العرب وخرجوا وخلفها المسلمون ودرجوا...تذكرت وأنا أمر على هذه البلدة الوادعة الساحرة قاسم بن أصبغ البياني محدث قرطبة ومؤلف الكتاب المستخرج على صحيح مسلم من أهل المائة الرابعة الهجرية ....كنت خلال الرحلة العربي المسلم الوحيد في الحافلة ...وأمارة ذلك إقبال كل من كان معي من ركاب الحافلة وهم قلة على الماء والطعام...فكنت صائما بين مفطرين...رجعت إلى نفسي وأنا أنظر إلى هذه السهول المترامية الأطراف في الطريق إلى قرطبة...كم مر من هذا الطريق من أندلسي راحلا بين غرناطة وقرطبة....لم تكن الحدود بين المدن والإمارات الإسلامية معترفا بها في عهد ملوك الطوائف...كانت سوق العلم يومئذ رائجة...والمنتسبون إليه قوما مختلفي الطبقات والصفات والنعوت فمنهم المفسر والمحدث والفقيه والأديب شاعرا كان أم غير ذلك..أفواج من أهل العلم ساروا في هذا الطريق..وحملتهم هذه الأرض...شادوا حضارة وبنوا مجدا...أو كانوا على وعي أنهم يفعلون ذلك؟؟؟أظن أنهم كانوا كذلك...لأنهم تعلموا وعلموا وكتبوا وأبدعوا ...وكانوا على يقين من أنهم تركوا ما قد يخلد لهم في العالمين ذكرا...ويرفع لهم بين الناس اسما...وكذلك كان فما زلنا إلى اليوم نقف على من خلده منهم العلم وأحياه الفهم ، فنُكبر الجهود ونحيي النفوس...ونفخر بتلك الهامات ...كنت أتحرق شوقا إلى قرطبة...دار العلم ومأوى الآداب ومثوى كبار المحدثين والمفسرين والفقهاء الأعلام...ودار الإمارة وسدة الحكم وعاصمة العواصم...ومدينة الكتب والمكتبات...وموضع المجالس العلمية...وموئل المسجد الجامع الذي بني على تقوى من الله...كنت أستحضر ههنا وصف المقري لقرطبة في نفح الطيب فلقد أبلغ في الوصف والنعت..وأحسن وأجاد ورفع من ذكر المدينة بما لامزيد عليه...فلم يرعني إلا والحافلة تقترب من قرطبة دار محمد بن وضاح القرطبي، وابن حزم القرطبي وابن رشد القرطبي....كانت المدينة تفتح لي ذراعيها وكأنها تعرفني فلطالما قرأت وكتبت عنها...وهاهي ذي أمامي تمتد في الأفق كدُرَّة تتلألأ تتهادى مختالة ....
 
حبست أنفاسي وأنا أتنسم نسائم قرطبة وقد تبدت لي طلائعها ...وبشائرها...وكان أول ما وقع عليه بصري منها جامعها الأنور، ومسجدها الأبهر، موئل القرآن والحديث ..ومعقد الحكم والألوية...ومأرز الآداب..ومصلى السلطان فمن دونه...وكرسي اهل العلم من فضلاء الأندلس وعدوة المغرب...والمشرق...توقفت الحافلة في المحطة...بادرت مسرعا سيارة أجرة كلمت صاحبه بإسبانية كأنها عربية قلت له:" ميزكيتا" يعني المسجد الجامع لقرطبة...ففهمني الرجل وقال اركب...كنت وحيدا في الطاكسي...أخذت أنظر إلى المدينة...فألفيتها مدينة عصرية فيها الشوارع والممرات والعمارات الشاهقة والمؤسسات ومرافق الحياة المعاصرة...قلت هل هذه هي قرطبة الناصر و الحكم المستنصر بالله الخليفة العالم، أم أن هذه هي قرطبة ابن حزم ، أم هذه هي قرطبة ابن وضاح وبقي بن مخلد الذي كان كما قال الذهبي جاريا في مضمار البخاري ومسلم والنسائي وغيرهم...ام هذه هي قرطبة التي كانت فيها المكتبة الشهيرة في القصر الأموي التي جمعت فيها الكتب والأعلاق النفيسة التي جمعها الحكم المستنصر بالله...وذهبت شذر مدر لما خرب البربر قرطبة وأحرقوها...
 
24
وقفت سيارة الأجرة أمام المسجد الجامع لقرطبة العلم والحضارة..بلد تباهى بها الشعراء وتفاخروا، وأرض ملكها السادة النجباء وتباروا في كرسيها وحكمها...ومدينة ما شبهت إلا بأم المدائن بغداد العلم والعلماء...قرطبة التي كانت مرمى القلوب ومحط أنظار الرحالة من أنحاء الأرض...جاءها أبو علي القالي البغدادي صاحب الأمالي والنوادر فدخلها دخول الملوك والأمراء...إذ أرسل إليه الحكم المستنصر الأموي الأندلسي من يشيعه قادما من المشرق...وهناك بين مساجدها ودور علمها بث القالي علمه ونشر أدبه شعره ونثره...وقفت أمام المسجد الجامع بقرطبة متأملا أركانه وجدرانه من ظاهره...قلت رحم الله من رفع هذا البيت الذي ذكر فيه اسم الله...ورحم الله من وسعه وزاد فيه...ورحم الله من دخله آمنا مصليا...ورحم الله من عده مفخرة من مفاخر قرطبة الأربع...حيث قال القاضي أبو محمد ابن عطية:
بأربع فاقت الأمصار قرطبة منهن: قنطرة الوادي، وجامعها
هاتان ثنتان، والزهراء ثالثة والعلم، أكبر شيء وهو رابعها
يممت باب المسجد ظانا أني سأدخل إليه للصلاة فيه...والجلوس...وتلاوة القرآن فلقد كنت في شهر القرآن..بيد أنني سُقط في يدي...إذ على أبواب المسجد حراس وسدنة يرشدون السائحين إلى مكتب هناك صغير...تباع فيه تذاكر الدخول إلى المسجد...قلت في نفسي...يا إلهي أو يدخل المسلم إلى المسجد بمقابل...تذكرت حينئذ أن المسجد أسير يئن ...يبكي تاريخه التليد يقول: أين الناصر لدين الدين الأموي، أين الحكم المستنصر بالله...أين المنصور ابن أبي عامر...أين الخلفاء الذين عمَّروني...وأغدقوا من مال الدولة عليَّ...أين أهل العلم الذين ملأوا جنباتي وبلاطاتي علما قرآنا وحديثا وأصولا وفقها...وأدبا شعرا ونثرا...أين سعيد بن كرسلين من أهل بطليوس ت سنة 300هـ الذي كان يتحلق في المسجد بموضعه ويقرأ عليه، بل أين عبد الله بن أبا القرطبي الذي كان متقدما في الفتيا متحلقا في المسجد الجامع؟؟؟ يا إلهي :ذهب بهائي، وأبنائي ومجدي وإسلامي..وصرت متحفا يزورني الناس من كل حدب وصوب من مشرق الأرض ومغربها....
 
دلفتُ إلى المسجد الجامع في قرطبة قبة الإسلام ودار الآداب وموئل الفضلاء...وحيث كانت أفواج العلماء...دخلت إلى الجامعة الإسلامية الأولى في أوربا...حيث كان يأتيها البابوات يتعلمون يجثون بين يدي علمائنا يتلقون العلم ويحملونه إلى بلدانهم...رفعت بصري إلى سقف المسجد رأيت الزيادة الأولى في المسجد ...دوائر فوقها دوائر، وأعمدة فوقها أعمدة...بترتيب عجيب ونظام غريب ما رأيته بعدُ إلا في مسجد مركز الملك فهد رحمه الله بمدريد....أخذت أطوف بين بلاطات المسجد ...إنها مساحات واسعة...ومواضع للمصلي فيها متسع...وقفت أمام المحراب حيث جعل حوله سياج من حديد حتى لا يقربه أحد...زخرفة إسلامية رائعة لم يتسن لي قراءة ما دوّن على جانبي المحراب من كتابة، ميزت بعض حروفها التي تفيد تاريخ البناء والباني....وقف بحذائي أحد الزوار من أهل الغرب..يتكلم الفرنسية قال لي:" إن هذا لرائع" وأخذ يلتقط صورا لتلك التحفة الإسلامية الرائعة بنقوشها وبعبق تاريخها الذي يفوح علما وادبا وفنا إسلاميا رائعا...أخذت أتجول في المسجد...يارب أأدخل مسجدا لااصلي فيه تحية المسجد...وأين أصلي ..والصليب على رأسي ومن أمامي ومن خلفي وعن يميني وعن شمالي....المسجد حوّل إلى كنيسة والكنيسة إلى كنائس صغيرة بين كل ساريتين كنيسة صغيرة فيها صلبان وصور لقديسين وقساوسة...يا إلهي لقد مسخت معالم المسجد مسخا...حتى المئذنة حولت إلى معلم كنسي عليه جرس كبير يدق عند الحاجة...أخذت أتجول في المسجد عساي أجد من يذكرني بالعهد الزاهر لهذا الجامع...تعبت من التطواف ..جلست على دكة هناك مرتفعة...تنفست بهدوء سددت عيني ...تخيلت مجالس الفضلاء الذين كانوا نجوما في سماء قرطبة في الزمان الغابر...تذكرت أبا علي حسين بن محمد الغساني الجياني الحافظ المشهور والمسند الأندلسي المعروف الذي جلس في هذا المسجد متصدرا للرواية والتحديث.. ترى أين كان موضع جلوسه في هذا المسجد هنا أو هناك...أمْ بدلت الأرض غير الأرض...فليست هذه هي الأرض التي عرفت الجياني...تذكرت مكي بن أبي طالب القيسي المقرئ صاحب الرعاية والتبصرة والهداية وغير ذلك ـ الذي دخل قرطبة أيام المظفر بن ابي عامر ..وأُجلس في الجامع، فنشر علمه وعلا ذكره ورحل الناس إليه من كل قطر...إيه أين زمان هؤلاء في هذا المسجد ؟؟؟ انتبهت فزِعا ...فخرجت إلى ساحة المسجد حيث الأشجار وفراغٌ فُتح في الوسط يدخل منه الهواء والنور...
 
26

في فناء المسجد حيث فُتح للمصلين بالمسجد الجامع فراغٌ تُرى منه السماء..والمئذنة الغريبة الشكل والهيئة...هذه المئذنة التي مرت عليها أحداث جسام...كانت في أول عهدها يُرفع فيها الأذان خمس مرات في اليوم...وأصبحت اليوم وقد بُح َّ صوت المؤذن فيها، فلا أذان ولا إقامة....يا إلهي لماذا يبلغ الحقد بالإنسان إلى أن يمنعه من ممارسة العبادة في مكان كان يعبد الله فيه مذْ قرون؟؟؟ لماذا لا يصلى في المسجد الجامع لقرطبة؟؟؟ أفي الصلاة إيذانٌ بعودة الإسلام إلى إسبانيا؟؟؟ أم هو التعصب النصراني...والكراهية الكنسية الحاقدة؟؟؟
عدت إلى داخل المسجد كرة أخرى لم أكن أنتوي الخروج منه سريعا... ...كلما هممت بذلك شدني إليه الحنين إلى تاريخه الرائع الجميل...قلت لنفسي لا عليك أن تحلمي بذاك الماضي الحسن الجميل من تاريخ هذا المسجد الكبير...جعلت أدور بين سواري المسجد ..أقول مستلهما التاريخ ...أين كان مجلس بقي بن مخلد القرطبي في هذا المسجد ناشرا علما كثيرا من حديث وغيره مما قد حمله أثناء الرحلة..بل أين كان مجلس محمد بن وضاح القرطبي باثا ما قد أفاء الله عليه من رواية وحديث...قال الذهبي في السير في ترجمة بقي:" وبه وبمحمد بن وضاح صارت تلك الناحية دار حديث".. يا إلهي أين ما بُثَّ من حديث في هذه النواحي...ياالله كمْ سُمع في هذا المسجد من ختمات للقرآن الكريم كان قطب دائرتها القارئ مكي بن ابي طالب القيسي الذي دخل الأندلس مرارا..وكم سمُع بهذا المسجد من ختمات لكتب الحديث: البخاري فمن هو دونه...كان نجمَ تلك المجالس أبُو محمد الأصيلي الرحالة المغربي الأندلسي...ههنا موضعٌ ليس كبقية المواضع...ومسجدٌ ليس كبقية المساجد...ومجلسُ علمٍ ليس كبقية المجالس...هنا قرطبة وهذا مسجدها الجامع...إن كل لبنة في هذا المسجد تحكي تاريخ عالم أو حافظ أو فقيه لامسها جسمه..وإنَّ كلَّ ذرة من أرض هذا المسجد تقصُّ خبر فاضل أو سيد أو مقدَّم في علمٍ مشى عليها...بهذا المسجد الجامع صارت الأندلس كلها دار علم وحديث...وبه غدت قرطبة مهوى قلوب العاشقين للكلمة المقروءة أو المسموعة أو المدبجة المنمقة....كنت في المسجد وحيدا إلا من كتاب في تاريخ الإسلام في أندلس أحفظه في صدري...وغريبا إلا من ذكرى جميلة أعيش لحظاتها وأنا أتجول بين فصول تاريخ هذا المسجد لوحدي...هممتُ بالخروج من المسجد مرارا فلم أفلح...شيءٌ بجذبني إلى البقاء في أروقة هذا المسجد...ثم إلى أين أخرج؟؟ أأخرج حيث أُصدم بواقع حال قرطبة الحديثة...التي ليس فيها أهل قرطبة الذين أعرفهم من تاريخ ابن الفرضي ولا من جذوة الحميدي، ولا في بغية الملتمس للضبي، ولا في الصلة لابن بشكوال، ولا في صلة الصلة لابن الزبير، ولا في الذيل والتكملة للمراكشي، ولا في نفح الطيب للمقري...أو يكون هؤلاء قد قصوا علينا تاريخ قوم لم يكونوا أبدا في قرطبة ولا في الأندلس كلها؟؟؟ وإذا كان هؤلاء قد برُّوا وصدقوا...فأين هذا الطراز الرفيع من الذين نقرأ تراجمهم من أهل قرطبة في هذه الدواوين؟؟؟؟ لست أدري كيف خرجتُ من المسجد الجامع فلقد كنت مستغرقا في مثل هذه الأحلام أو قُلِ الذكريات...لكنني خرجت..والأسى يعتصرني...والحزن يكاد يفلق قلبي...أقول لنفسي باكيا مجد الآباء والأجداد كيف ضاع هذا الأثر الإسلامي...والمعلم الحضاري...إنا لله وإنا إليه راجعون...
 
[FONT=&quot]27
وجدتني وأنا خارج المسجد في جهة الوادي الكبير.تأملتُ المسجد ومئذنته الشامخة التي صمدت رغم التنصير والتدنيس والتدجين...ما أجمل هذا الجمال...وأحسن هذا الحسن ...وأبهى هذا البهاء..وأنْور هذا النور...كأن المئذنة تستمد صمودها من عبق ما كانت تشهده من دخول وخروج أهل العلم للمسجد، من مفسرين ومقرئين ورفعاء سادة مبدعين...سِرْت بضع خطوات متجها إلى الوادي الكبير...كان الجو صحوا...شديد الحر...قررت أن اقف على قنطرة الوادي الكبير التي فاخرت بها قرطبة ُالمدائن...سرت قليلا...لأجد نفسي على الوادي الكبير...كانت المياه تجري ...من تحت القنطرة التي لولاها ما اتصل بعض قرطبة ببعض...وقفت على القنطرة أرى المسجد من بعيد...قلت هذا الذي يمثل مجد قرطبة العلمي...وتاريخها
الأدبي، وماضيها الفكري...هذا ضمير الأندلس الغابرة...ومستودع علمها وديوان شعرها وكتاب دهرها...يا الله...قلًَّبت نظري بعدُ في الوادي الذي يجري...قلت له مخاطبا:كم جريت يا وادي بدماء زكية ...وذهبت فيك أنفس بريئة...وكم عبرك من طالب علم...وراغب أدب...وشادي ظرف وخبر....كم من جيوش سلم عبرتك...وطبول حرب جاوزتك....كم من سلطان وخليفة مر عليك...وبموكبه الأميري ترنح فوقك....كانت قنطرة الوادي فارغة إلا مني...كنت كأني في زمان غير زماني...وعهد غير عهدي....يغمرني فرح وسرور...وحزن وأسى وإحباط...سرعان ما امتلأت جنبات القنطرة بالناس...لعلهم رأوا مكاني...ورمقوا شخصي...الغريب معروف...والأجنبي حاله مكشوف...أوشكت أن أوقفهم ..أن أصرخ فيهم...أن أنادي بأعلى صوتي...هذه قرطبة التي عرفت عدل المسلمين...وحضارة العرب...وعلم أهل الشرق والمغرب...هذه قرطبة منا نحن معاشر أهل الإسلام...إنها صنعة آبائنا وأجدادنا...فنحن منها وهي منا...ولن ننساها أبدا ..كيف ينسى الوالد صغيره...أم كيف تنسى الأم وليدها...قرطبة حاضرة فينا معاشر المسلمين ما بقينا: في علوم قرآننا وحديثنا، في فقهنا وأصولنا، في أدبنا ونحونا وشعرنا ونثرنا...لن يزول منا ذكرها ما حيينا...
[/FONT]
 
27
[FONT=&quot]وجدتني وأنا خارج المسجد في جهة الوادي الكبير....متأملا المسجدَ ومئذنته الشامخة التي صمدت رغم التنصير والتدنيس والتدجين...ما أحسن هذا الجمال...وأجمل هذا الحسن وأبهى هذا البهاء..وأنور هذا النور...كأن المئذنة تستمد صمودها من عبق ما كانت تشهده من دخول وخروج أهل العلم للمسجد، من مفسرين ومقرئين ورفعاء سادة مبدعين...سِرْت بضع خطوات متجها إلى الوادي الكبير...كان الجو صحوا...شديد الحر...قررت أن اقف على قنطرة الوادي الكبير التي فاخرت بها قرطبة المدائن...سرت قليلا...لأجد نفسي على الوادي الكبير...كانت المياه تجري ...من تحت القنطرة التي لولاها ما انضم بعض قرطبة إلى بعض...تأملت المسجد الجامع من بعيد كرة أخرى...قلت: هذا الذي هو سبب مجد قرطبة العلمي، وتاريخها الفكري، وازدهارها الأدبي...هذا الذي أبقى لقرطبة ذكرا...وخلد في العصور أخبارها...قلبت النظر في الوادي...ماؤه يجري...قلت لنفسي: أيها الوادي الكبير...كم من الأحداث قد جرت على قرطبة وكنت أنت شاهدها...خراب قرطبة وفتنة البربر فيها، ومقتلتهم للفضلاء...ابن الفرضي قتل في داره مات شهيدا أدركه بعضهم يروي حديثا متصلا بسنده في النزع الأخير فيمن مات شهيدا...كم يا أيها الوادي الكبير من عالم فاضل قد عبرك مشتاقا إلى علم قرطبة في جامعها الأنور...ومسجدها الأكبر...كم من جيوش سلم عبرتك ترمي توحيد صف...وصد عدو...وجمع كلمة...كم أيها الوادي الكبير من خلائف وأمراء وسلاطين جازوك منتصرين فرحين بحيازة قرطبة والظَّفر بها....ألم تكن شاهدا على دماء زكية قد سُفكت، وأعراض بريئة قد انتهكت أيام محاكم التفتيش والقهر والإبادة الفردية والجماعية؟؟ لله درك من واد عشقك العربُ والمسلمون...وعشقتَ أنتَ مماشهم على قنطرتك...[/FONT]​
 
28
[FONT=&quot]لبثت على [/FONT][FONT=&quot]قنطرة الوادي أملأ العين والفؤاد من رؤية قرطبة الإسلامية...كان الوقت يزاحمني...لابد من السفر زوالا إلى مدريد عبر الطريق السيار...للوصول قبل المغرب إلى حيث المثوى والمستقر...مضيت مسرعا أطوف في أزقة قرطبة المحيطة بالمسجد الجامع...أمضيت وقتا غير قليل في التجوال...هذه الدور العربية البيضاء المنظر...البهية الشكل..العامرة بالنور والإيمان من يسكنها...من يملكها...من تُراه يوجد فيها...قدَّرتُ أني إن طرقت باب واحدة منها أن يخرج لي ابن حزم مطلا بهيئته...ولحيته ...وكتبه المحلى والفصل والإعراب عن الحيرة والإلتباس...يُسلِّم عليَّ ويرحِّب بي يقول أحيى الله ذكرك أنْ أحييتَ ذكري بنشر كتابي الإعراب في قرنك وزمانك...كنت أتوقع خروج بقي بن مخلد وأبنائه وأحفاده وما تناسل منه وابن وضاح وابن عتاب، و...و...إلى الصلاة وقد أذن المؤذن أن حي على صلاة الظهر...بيد أن شيئا من ذلك لم يقع...رجعتُ إلى نفسي...لابد أن أزور أسوار المدينة ..أتجول بين الأبواب...وأدور بين الحيطان أشم عبق التاريخ الزاهر لقرطبة الإسلامية...أتنسم من أزاهير قرطبة...ورياحين قرطبة...وأقحوان قرطبة...وعلم قرطبة وأدب وفكر قرطبة...[/FONT]
 
29
تعجلت في الإنصراف عن قرطبة لأن الحافلة التي سوف تقلني إلى مدريد كانت ستقلع قريبا...ولذلك اختصرت جولتي في دروب وأزقة قرطبة...وأخذت أدور بين أسوارها العربية الإسلامية...وأتأمل متانة البناء وقوته وصبره على عوادي الدهر...مع وقوع التجديد فيه حديثا والصيانة له...وبينا أنا كذلك ميمما وجهي صوب محطة الحافلات ...محاذيا أسوار المدينة ـ إذا بي أمام تمثال ابن رشد القرطبي جالسا على مرتفع بين يديه كتاب...وقفت قليلا أمام هذا العلم...قلت هذا هو الفقيه القاضي الفيلسوف شارح ارسطو المشهور بابن رشد الحفيد القرطبي...صاحب:" تهافت التهافت"، و" الكشف عن مناهج الأدلة" و" فصل المقال وتقرير ما بين الشريعة والحكمة من اتصال"..و"بداية المجتهد ونهاية المقتصد...استحضرت ذكرى هذا الرجل وأنا أهمُّ بالإنصراف عن قرطبة لأخذ العبرة من تاريخه وسيرته فلقد كان الرجل فقيها قاضيا...ألف بداية المجتهد على الفقه المالكي...ومع ذلك اشتغل بالفلسفة وعلوم الأوائل...وقرب مادتها وشرح غامضها ...وكان معه في ذلك إيمانه وإسلامه والتزامه وفقهه ..ولم يفقد هويته ولا سُلب ثقافته ولا مرجعيته...نسوق هذا دفعا لمن يقول من التغريبيين في هذا العصر إن ابن رشد قد نكص على عقبيه ومرق وقد كان فقيها...وفسق وقد كان قاضيا...وكلا فالرجل فقيه فيلسوف...وملتزم له قناعة فكرية معينة...ولكل وجهة هو موليها...
ودعت قرطبة ...وأنا في حسرة وكمد ...لم أشف منها النفس في تجوال ولا تطواف...إذ كيف يختصر تاريخ هذه المدينة في صبيحة يوم...وهي التي ملأت الدنيا بأخبارها ومحاسنها وفوائدها...والأندلسَ عطرا وطيبا...ومسكا وريحانا...
 
30
كان الطريق بين قرطبة ومدريد طويلا...امتد لنصف يوم تقريبا...بدأت قرطبة تغيب عن ناظري وأنا في الحافلة متوجها إلى مدريد..كنت أنظر إلى جبالها من بعيد وهي تختفي من أمامي أودع فيها ذكرى جميلة عشتها بين تلك الدروب والأزقة وبين ذاك المسجد الجامع الذي يقف شامخا رغم محاولات المسخ والتغيير...اختفت قرطبة أو كادت عن ناظري...بيْد أني كنتُ أحاول أن أتتبع ما تبقى منها ظاهرا في الأفق البعيد من مكاني...لأُبقي منه ذكرى أحملها معي ما حييتُ...وأملأ العين والفؤاد منها...ومع سيْر الحافلة السريع...اختفى من قرطبة كلُّ شيء ولم يبق منها شيءٌ...إلا ما أحمله منها في صدري من تاريخها وأخبارها وسِيَر أعلامها ابن حزم وابن عبد البر، والزهراوي وابن رشد...قرأتُ وأنا في أحواز قرطبة وضواحيها ولماَّ تبتعد الحافلة عنها كثيرا ما يفيد أن مدينة الزهراء تبعد عن قرطبة قليلا...فتذكرتُ كيف بنيت الزهراء مدينة جميلة البناء...حسنة الترتيب...فكانت من أعاجيب قرطبة ومحاسنها ونوادرها وغرائبها...لكن الخراب أدركها والهدم طالها..فما أدري أهو بطرُ النعمة أنسى القوم المنعِم بها...أمْ هو القدَرُ جرى بما كان عِبرة للمعتَبر، وعِظة لمن كان له قلبٌ أو ألقى السَّمع وهو شهيد....
 
31
كانت الأندلس في زمن الحكم الإسلامي دار علم وخزانة كتب، تنافس أهلها مذْ وطئت أقدامهم أرضها في جمع نوادرها، ووحيازة أعلاقها، فملئت خزائن قرطبة خاصة وبقية المدن الأندلسية المشهورة بنفائس الدواوين، وبغرائب التصانيف وبعجائب الاصول والمخطوطات...وكان جمع الكتب مما يمتدح به في ذاك الزمان...وليس يسود ناشئ الفضلاء في قرطبة إلا إذا كانت له مكتبة خاصة تضم منها ألوفا، ونفقت لذلك سوق الكتب، وأزهرت صناعة لنسخ، وتؤنق في الخط تجويدا وتحسينا، وتسفيرا وتجليدا...وتكونت الخزائن الملوكية...والمكتبات الأميرية...ودور الكتب الرسمية...ونشأت المكتبات الخاصة التي انتشرت بتعدد أهل العلم وتنوع طبقاتهم ومراتبهم...واشتهر بجمع الكتب في العهد الأموي في قرطبة خاصة الحكم المستنصر بالله الأموي الذي كان له ولع بها، لا يانس بغيرها، فجمع منها ما لم يجمعه خليفة قبله ولا بعده...وجعل المجموع في مكتبة قصره...وعاصمة ملكه قرطبة العالمة...وكذلك فعل غيره ممن سار على درب الفضلاء بالتزين بالعلم، والتدثر بدثاره، والتلبس بلبوسه وشعاره...كابن الأفطس وغيره...فصارت الأندلس بذلك دار كتب، ومجمع نوادر، ومأوى أعلاق ونفائس...ومع حرورب الإسترداد التي قادتها جيوش الصلبيين الحاقدين ...ذهب أغلب المدجموع من هذه لكتب الأعلاق، والنفائس الخطيرة المقام...ولم يبق من ذلك سوى بضعة عشرات تأوي في قصر الإسكوريال الذي ذهبت إليه ـ آملا أن أجد فيه ضالتي من كتب كنت أسمع أنها به...فكانت الرحلة من موضع إقامتي إلى قرية الإسكوريال على بعد 30 مدريد
 
31
كانت الأندلس في زمن الحكم الإسلامي دار علم وخزانة كتب، تنافس أهلها مذْ وطئت أقدامهم أرضها في جمع نوادرها، وحيازة أعلاقها، فملُئت خزائن قرطبة خاصة وبقية المدن الأندلسية المشهورة بنفائس الدواوين، وبغرائب التصانيف وبعجائب الاصول والمخطوطات...وكان جمع الكتب مما يمتدح به في ذاك الزمان...وليس يسود ناشئ الفضلاء في قرطبة إلا إذا كانت له مكتبة خاصة تضم منها ألوفا، ونفقت لذلك سوق الكتب، وأزهرت صناعة النسخ، وتؤنق في الخط تجويدا وتحسينا، و في الكتاب تسفيرا وتجليدا...وتكونت الخزائن الملوكية...والمكتبات الأميرية...ودُور الكتب الرسمية...ونشأت المكتبات الخاصة التي انتشرت بتعدد أهل العلم وتنوع طبقاتهم ومراتبهم...واشتهر بجمع الكتب في العهد الأموي في قرطبة خاصة الحكمُ المستنصر بالله الأموي الذي كان له ولع بها، لا يانس بغيرها، فجمع منها ما لم يجمعه خليفة قبله ولا بعده...وجعل المجموع في مكتبة قصره...وعاصمة ملكه قرطبة العالمة...وكذلك فعل غيره ممن سار على درب الفضلاء بالتزين بالعلم، والتدثر بدثاره، والتلبس بلبوسه وشعاره...كابن الأفطس وغيره...فصارت الأندلس بذلك دار كتب، ومجمع نوادر، ومأوى أعلاق ونفائس...ومع حرورب الإسترداد التي قادتها جيوش الصلبيين الحاقدين ...ذهب أغلب المجموع من هذه الكتب الأعلاق، والنفائس الخطيرة المقام...ولم يبق من ذلك سوى بضعة عشرات تأوي في قصر الإسكوريال الذي ذهبت إليه ـ آملا أن أجد فيه ضالتي من كتب كنت أسمع أنها به...فكانت الرحلة من موضع إقامتي إلى قرية الإسكوريال على بعد 30 كلم مدريد
 
32

كان قصر الإسكوريال على بُعد 50 كلم من مدريد ـ أقول هذا مستدركا على نفسي وهمًا هذا صواب القول فيه ـ على منطقة جبلية جميلة الجمال، رائعة الروعة، حسنة الحسن، يتبدى القصر من بُعد فيها متوسطا خضرة ونضرة، ..كان البناء قديما قدم الحضارة الأروبية في البناء والعمارة...قد فسح للقصر الذي يحتوي على عدة مرافق في الأرض فسحا...ومد له فيها مدا...ويرجع تاريخ بناء هذا المعلم إلى القرن السادس عشر الميلادي على يد ملك الإسبان فيليب الثاني..وهو يشتمل على أجنحة كثيرة للسكن ودير وكنيسة، كما أنه يحتوي على مدافن لعدة ملوك إسبان...نصبت لأغلبهم تماثيل رأيتها لما فتح بهو كبير من القصر فدخلنا إلى ساحة كبيرة ضمت أشكال الملوك وتماثيلهم...وبالجملة فالقصر عظيم البناء...فارِهُ العمارة...كثيرةٌ نوافذه .... متعددةٌ سلالمه ...كثيرة أبوابه...لم يتهيأ لي الدخول إلى جناج المكتبة فيه عند أول قدمة لي عليه...لأنه صادف مقدمي عيدا وطنيا إسبانيا تعطل فيه مصالح الدولة وخدماتها فرجعت خاوي الوفاض...ولم أقض منها طلبتي...
 
33
كانت زيارة مكتبة الإسكوريال أمنية لطالما حلُمت بها، فلما أن ْسهل الله في زيارة القصر في القدمة الأولى، وحال دون الوصول إلى المكتبة حائل...وجدت في نفسي وجْدا...قررتُ على إثره أن أعاود الكرة ...فلما تهيأ ذلك فرحت فرحا عظيما...فقدمت مدينةً جميلة جذابة...رائعة الحسن بما أفاء الله عليها من سحر الطبيعة التي خلقها الخالق وأوجدها الواجد، وبرأها البارئ...جبال عالية...وأشجار فارهة الطول...في خضرة ونضارة...في برودة جو...وكثرة ماء...وسلاسة تهدٍّ...طوَّفتُ في القرية المدينة التي تتواجد فيها جميعُ مرافق الحياة الحديثة...زرت مسجدا صغيرا ....صليتُ فيه ظهرا وعصرا جمعا وتقديما....أكرمنا الإمام بجلسة أخبرنا فيها بتوافد طائفة من الباحثين على هذه القرية...للنظر في بعض المخطوطات...خرجت إلى شوارع قرية المدينة...ألفيتها ذات عقبات صاعدة صعودا متجا إلى السماء...ذكرني ذلك بالمدن القديمة التي زرتها في شمال المغرب كالشاون وغيرها...طفت القرية كلها تقريبا ...أسلمني التجوال إلى حديقة كبيرة كبرا لم أحده...أشجارٌ طويلة الطول...وخضرة يانعة...وأمن وأمان....وسُكُونٌ وهدوءٌ يَلُفُّ المكان...وحركات السيارات منسابة...ومرور الناس سلس..قرية هيئت لكي تكون قبلة للباحثين...ومحجة للقارئين المطلعين على المخطوطات والكتب...كانت المكتبة في الإسكوريال مأوى الكتب العربية والإسلامية التي بقيت من بقايا كتب أهل الأندلس...التي أبيدت ومزقت وخرقت وأحرقت...وحرِّم النظر فيها وحُظر تداولها...وهكذا تكون الحرية وإلا فلا.....بعد أن سقطت غرناطة الإسلام وحصلت النكبة...أمر الكاردينال خمنيس ثيسنيروس بجمع الكتب الإسلامية فكان يجاء بها أكداسا وضعت في ميدان الرملة...فأطلقت النيران فيها...وما نجا من هذه الكتب هو الذي يشكل المجموعة العربية من كتب الإسكوريال....ومن هذه الكتب مجموعة الأمير زيدان بن المنصور التي سلبها الإسبان القراصنة في البحر بين مدينتي آسفي والصويرة المغربيتين....
 
34
[FONT=&quot]أتيتُ الإسكوريال للمرة الثالثة زائرا مكتبتها، قاضيا منها لبانتي، فقدمتُ على قرية جبلية قد اخضرت أشجارها...وازينت أرضها...وأينعت ثمارها...وأسفرتْ سماؤُها عن صبح أشرق من غرة ما ضمَّته مكتبتها العربية في قصرها ...من نوادر المخطوطات، وذخائر الكتب التي نجت من أيدي العبث والإحراق والإغتصاب[/FONT][FONT=&quot]... اشتريت تذكرة الدخول إلى المكتبة، رقيتُ بعدُ إلى دُرج أسلمني إلى بهو قاعة كبيرة، قد صُفت فيها الكتب صفوفا...تأملت تلك الكتب...ألفيتها بلغات أجنبية لعلها اللاتينية أو الإيطالية أو الإسبانية...تأملتُ الكتب مليا كرة أخرى...أبحث عن الكتب العربية الإسلامية التي نجت أو سُلبت أو سرقت...لكن لم أجد شيئا...استوقفني في البحث كتاب هناك أو كتابان عربيان معروضان داخل زجاجة...فهمتُ أن القاعة التي أنا فيها قاعة عرض للكتب للسائحين...وليست قاعة درْس أو بحث أو اطلاع على المخطوطات...ربَّاهُ أين أجد ما أبحث عنه من كتب ومخطوطات...ومن أسأل لأجد من يفيدني؟؟ أرَجلُ الحراسة الواقف في ركنٍ منزوٍ هناك لا يحسن من اللسان إلا الإسبانية..أخذت في البحث عن قاعات أو قاعة هناك للإطلاع على الكتب العربية...قادتني رجلايْ إلى قاعة تفضي إلى درج نازل...نزلت مع نازلين...وهبطت مع الهابطين...أفضى بي النزول إلى خارج المكتبة إلى الباب الذي دخلت منه...أدركت أنني لن أقف على طلبتي...لأنني ضللت الطريق...ولم أهتد إلى أقوم سبيل...وحسبي الله ونعم الوكيل.. [/FONT]
 
35
[FONT=&quot] مضيت في دروسي في [/FONT][FONT=&quot]موضعي الذي يبعد عن مدريد قليلا طيلة ليالي الشهر الفضيل...ودُعيت للمحاضرة في سقوبيا على بعد 20 كيلو أو يزيد من قرية كلبكار...انطلقت بنا سيارة أحد الإخوة مسرعة عبر الطريق السيار...وصلنا بعد فترة إلى المدينة...أفطرنا فطورا مغربيا أنسانا عناء الطريق...وكانت المحاضرة بعدُ قبيلَ العشاء...خرجنا بعدها إلى المدينة نتفرج في ظلمة الليل على ما اشتهرت به من تلك الأقواس المعلقة بعضها على بعض...وشاهدنا بعدُ سور المدينة...وكأنه عربي...وحالت ظلمة الليل دون التجوال في المدينة وتمييز معالمها بوضوح....مع اجتهاد الإخوة المغاربة في الإعراب عما فيها من آثار ومعالم... [/FONT]​
 
36
لقد خار الله لي أن أختم هذه الرحلة الأندلسية المباركة بجملة من المشاهدات والخواطر التي اتفقت لي أثناء الرحلة مفيدا بها القارئ الكريم....
المشاهدة الأولى
سعدت غاية السعادة...وأكملها وأقرها للأعين وأثلجها للصدور...لما علمت أن بمطار مدريد الدولي مسجدا خاصا للمسلمين...فذهبت إليه مهرولا...وتوضأت في المكان المخصص لذلك قبل دخول المسجد...وكان المسجد إليه الغاية في الحسن والجمال...من غير زخرفة ولا نقش ولا تصاوير...بل إنما هي أناقة في البناء...وحسن في العمارة...وانسجام في الألوان...وانسياب في الفراش...إن أهل الإسلام يبادرون إلى التنويه بكل من أحسن سواء أكان من أهل الملة أم من غيرها...اعترافا منهم بنعمة المنعِم...وتحدثا بما قد هدي إليه المنعَم عليه....
 
تشابهٌ في العناوين ...

تشابهٌ في العناوين ...

ذكّرني عنوان هذا الموضوع الرائق بقصيدة قرأتها قبل سنين عدداً ، تحمل عنواناً مشابهاً ..
وهي لرئيس وزراء جمهورية السودان - قبل خمسة وأربعين عاماً - : محمد أحمد المحجوب رحمه الله
وقد وسم قصيدته بعنوان : الفردوس المفقود ..
فكان وصفه لرحلته شعراً ، ووصف أستاذنا محمد رستم لرحلته نثراً ، مع تشابه العنوانَين ..
ومشاركةً مني في هذا الموضوع الذي أعجبني مخبره ، وشدني حسنه ومنظره ، اسمحوا لي أيها الأفاضل بإيقافكم على نص قصيدة الفردوس المفقود كاملةً ، مع تحفظّي على بعض ما فيها ..
وشكري العميق لأستاذنا محمد زين العابدين رستم على إتحافاته القيمة في رحلته المباركة ..

قال الشاعر في نونيته الرائقة الرائعة :

نزلتُ شطّكِ بعد البينِ ولهانا
فذقتُ فيكِ من التبريحِ ألوانا

وسرتُ فيكِ، غريباً ضلَّ سامرُهُ
داراً وشوْقـاً وأحباباً وإخوانـا

فلا اللسانُ لسانُ العُرْب نَعْرِفُهُ
ولا الزمانُ كما كنّا وما كانـا

ولا الخمائلُ تُشْجينا بلابِلُها
ولا النخيلُ، سقاهُ الطَّلُّ، يلقانا

ولا المساجدُ يسعى في مآذِنِها
مع العشيّاتِ صوتُ اللهِ رَيّانـا

كم فارسٍ فيكِ أوْفى المجدَ شرعتَهُ
وأوردَ الخيـلَ وديـاناً وشطآنـا

وشاد للعُرْبِ أمجاداً مؤثّلةً
دانتْ لسطوتِهِ الدنيا وما دَانـا

وهَلْهلَ الشعرَ، زفزافاً مقَاطِعُهُ
وفجّرَ الروضَ: أطيافاً وألحانـا

يسعى إلى اللهِ في محرابِهِ وَرِعاً
وللجمالِ يَمدُّ الروحَ قُربانـا

لمَ يَبقَ منكِ: سوى ذكرى تُؤرّقُنا
وغيرُ دارِ هوىً أصْغتْ لنجوانـا

أكادُ أسمعُ فيها همسَ واجفةٍ
من الرقيبِ، تَمنّى طيبَ لُقيانـا

اللهُ أكبرُ هذا الحسـنُ أعرِفُهُ
ريّانَ يضحكُ أعطافاً وأجفانـا

أثار فِيَّ شُجوناً، كنتُ أكتمُها
عَفّاً وأذكرُ وادي النيـل هَيْمانا

فللعيونِ جمالٌ سِحرُهُ قدَرٌ
وللقدودِ إباءٌ يفضحُ البانـا

فتلكَ «دَعْدٌ»، سوادُ الشَعْرِ كلَّلها
أختي: لقيتُكِ بَعْدَ الهجـرِ أزْمانـا

أختي لقيتُكِ، لكنْ أيْنَ سامُرنا
في السالفاتِ ؟ فهذا البعدُ أشقانـا

أختي لقيتُ: ولكنْ ليس تَعْرِفُني
فقد تبـاعدَ، بعد القُربِ حيَّـانا

طُفنا بقرطبةَ الفيحاءَ نَسْألهـا
عن الجدودِ.. وعن آثارِ مَرْوانـا

عن المساجد، قد طالت منائرُها
تُعانق السُحبَ تسبيحاً وعرفانـا

وعن ملاعبَ كانتْ للهوى قُدُساً
وعن مسارحِ حُسنٍ كُنَّ بسْتانـا

وعن حبيبٍ، يزِينُ التاجَ مِفْرقُهُ
والعِقدُ جال على النّهدين ظمآنـا

أبو الوليد تَغَنّى في مرابِعِها
وأجَّجَ الشَوقَ: نيراناً وأشْجانـا

لم يُنْسِه السجنُ أعطافاً مُرنَّحةً
ولا حبيباً بخمرِ الدَّلِّ نَشْوانـا

فما تَغرّبَ، إلاّ عن ديارهمُ
والقلبُ ظلَّ بذاك الحبِّ ولهانـا

فكم تَذكّرَ أيّامَ الهوى شَرِقـاً
وكم تَذكّرَ: أعطـافاً وأردانـا

قد هاجَ منه هوى «ولادةٍ» شَجَناً
بَرْحاً وشوْقاً، وتغريـداً وتَحْنانـا

فأسْمَعَ الكونَ شِعْراً بالهوى عَطِراً
ولقّـنَ الطيرَ شكـواه فأشجانـا

وعاشَ للحُسنِ يرعى الحسنَ في وَلَهٍ
وعاش للمجـدِ يبني المجـدَ ألوانـا

تلكَ السماواتُ كُنّاها نُجمّلُها
بالحُبِّ حيـناً وبالعليـاء أحيانـا

فرْدَوسُ مجدٍ أضاعَ الخَلْفُ رَوْعَتَهُ
من بعدِ ما كانَ للإسـلامِ عنوانـا

أبا الوليدِ أعِنِّـي ضاعَ تالدُنا
وقد تَناوحَ أحجـاراً وجُدرانـا

هذي فلسطينُ كادتْ، والوغى دولٌ
تكونُ أندلسـاً أخـرى وأحزانـا

كنّا سُراةً تُخيف الكونَ وحدتُنا
واليومَ صرْنا لأهلِ الشركِ عُبدانـا

نغدو على الذلِّ، أحزاباً مُفرَّقةً
ونحن كنّـا لحزب اللهِ فرسـانـا

رماحُنا في جبين الشمسِ مُشرَعةٌ
والأرضُ كانت لخيلِ العُرب ميدانا

أبا الوليدِ، عَقَدْنا العزمَ أنّ لنـا
في غَمرةِ الثأرِ ميعـاداً وبرهانـا

الجرحُ وحّدَنا، والثأرُ جَمّعـنا
للنصر فيـه إراداتٍ ووجدانـا

لهفي على «القدسِ» في البأساء داميةً
نفديكِ يـا قدسُ أرواحـاً وأبدانـا

سنجعل الأرضَ بركاناً نُفجّرهُ
في وجه بـاغٍ يراه اللهُ شيطانـا

وينمحي العارُ في رأد الضحى فَنَرى
أنَّ العـروبةَ تبـني مجـدَها الآنـا

وجزاكم الله خيراً ...
 
المشاهدة الثانية
استوقفتني وأنا أنظر إلى وجوه الإسبان هذه السحنة العربية الإسلامية...فكأن الدم العربي يجري في عروقهم...وكأن كل عرق في وجوههم يحكي قصة عهد من العهود العربية الإسلامية...والتاريخ يحدثنا أن إسبانيا لم يخلها الله تعالى من دائن له بالإسلام...رغم القهر والقتل والفتك والطغيان....لقد كنت أرى معالم الحضارة العربية الإسلامية بادية للعيان في المدن الإسبانية التي زرتها..حتى كان يخيل إلي أحيانا أني في شوارع فاس أو دمشق أو القاهرة أو تطوان...
 
المشاهدة الثالثة
استوقفني في مدريد الأثرُ الطيب المبارك الذي عُرف به مركز الملك فهد بمسجده الجامع الذي بني على هيئة المسجد الجامع لقرطبة، وبملحقاته الثقافية : المكتبة الجامعة التي دخلت إليها مستفيدا، وقضيت فيها وقتا طويلا في إعداد خطب جُمَع الشهر الفضيل...وقاعات المحاضرات التي طوفت بها برفقة مدير المركز أو من ينوب عنه...وقاعات الرياضة...وفضاءات أخرى للمعارض...والفعاليات الثقافية...والمطاعم والمطابخ التي هيئت لإطعام الطعام وإفطار الصُّوَّم...لقد سرني ما رأيت من تلك الصفوف البشرية التي امتدت بُعيد صلاة المغرب...لتأخذ دوْرها من أجل الإفطار...وفي المصطفين المغربي والمشرقي والأوروبي وغيرهم...وزادت سعادتي لما رأيت للمركز منارة يرفع من خلالها الأذان خمس مرات...بيْد أن ذلك يُسمع داخل المركز لا خارجه...إن الإشعاع العلمي والتوعوي الذي يضطلع به المركز ليبعثُ على الشعور بأن لهذا الدين من يحميه ويدفع عنه وإن كان ذلك في ديار الغربة والمهجر....
 
المشاهدة الثالثة
في غرناطة في محطة حافلاتها التي تقل المسافرين إلى مدن مختلفة من إسبانيا دخلت متوضأً لكي أتوضأ ...والمتوضأ لم يهيأ لغسل الرجلين كما يعرف ذلك كلُّ من له أدنى معرفة بمتوضآتنا الحديثة...فنزعت الحذاء لأمسح على الجوربين فأنا مسافر، ولا حيلة في الغسل...والوقت ضيق...فلعل الحافلة تمضي...فرمقني أحد الإسبان...وقف متعجبا من صنيعي لم ينبس ببنت شفة، وخيل إلي أنه يقول ماذا تفعل؟؟؟ وهل ما تفعله عبادة أو عادة؟؟ لم يرعني صنيعه بقدر ما راعني سكوته وعدم تدخله قولا...تصور معي أيها القارئ الكريم لو أنك في إحدى البلاد الإسلامية وصنعت فعلا يُرى أنه شاذ خارج عن المعتاد ...ماذا كان الناس يفعلون...ظني أنهم سيقولون ويفعلون...ولعل نكيرهم سيشتد..إلى حد التثريب والتعنيف و...و....
 
المشاهدة الخامسة
استوقفتني كثيرا صورة الثور في مناطق مختلفة من إسبانيا خارج العمران...تساءلت لم يعظم هؤلاء الإسبان هذا الحيوان...فيضعون له صورا على هيئة تماثيل بين الأشجار...والزروع ...وفي أرض قفر حيث لا ماء ولا شجر...وتكون صورة الثور أو العجل كبيرة الحجم بحيث تُرى من مكان بعيد...وترى هؤلاء الإسبان يلعبون بالثيران في ساحة مدينة معروفة عندهم يسابقون بينهم وبينها في صراع عجيب...ونزاع غريب... ينقل على الفضائيات...كما أنك تجدهم يقيمون مسابقات لمصارعة الثيران في حلبات معروفة وساحات مشهودة...وبلباس معروف...ونظام مرتب مشهور...وكأني قرأتُ قديما ـ ولستُ أحقق هذا الآن ـ أن ذلك كان معمولا به أيام العرب والمسلمين...فهل يثبت ذلك أمام البحث العلمي والتحقيق التاريخي؟؟؟
 
المشاهدة السادسة
استوقفتني قصة امرأة إسبانية نصرانية قيل لي إنها تصوم مع المسلمين شهرهم الفضيل...تطببا لا تعبدا...قلت لمن أخبرني من الإخوة بالخبر متعجبا ظانا أن ذلك خبر الأخبار، ونادرة النوادر، وعجيبة العجائب...فقلت له لقد كان النصارى في عهد الدولة الإسلامية يصوم بعضهم بصيام المسلمين ...قرأت قديما أن الصولي الكاتب الوزير كان يفعل ذلك تحببا للمسلمين ...إن ذلك لعمر الله من عظمة الإسلام ورفعة المسلمين...وقد يُسلم ذلك الصنيع إلى محبة الإسلام والدخول فيه...
 
المشاهدة السابعة

استوقفني بناء الكنائس حديثا في إسبانيا ...إذ يشبه في أغلبه الطراز الإسلامي في المعمار...وأكثر ما أنت واجدٌ التشابه حاصلا بين العمارتين....في المنارة...فمنارة كنيسة كلبكار القرية الصغيرة التي كانت مثواي حيث باشرت مهمتي الوعظية تشبه قباب قصور غرناطة...وكأن الأثر الذي غرسته الحضارة العربية الإسلامية في إسبانيا لن ينزع إلا بخروج المسيح الدجال...
 
المشاهدة الثامنة
استوقفني وأنا أتجول في مدريد منظر لم يدرْ في خلدي أني أراه في حياتي ...رأيتُ في ساحة إسبانيا وهي من أشهر ساحات العاصمة الإسبانية وأقدمها وأعمرها بالمآثر والمعالم...في حديقة الساحة...رجلين نائمان على خضرة ...حسبتهما في وضع عادي لا شائبة فيه...لكن بدر منهما ما أطار عقلي وأذهب صوابي...من التحول إلى وضع شاذ تمجه الطباع وتنفر منه العادات والفطر السليمة....قلت: في ساحة مشهورة تمثل الدولة يرتكب مثل هذا الصنيع الشاذ الشنيع ؟؟؟؟ حمدت الله على السلامة أنْ ليس في بلادنا العربية والإسلامية منكر ظاهر ظهورا تمجه الطباع وتقشعر منه الأبدان....فالحمد لله حمدا كثيرا طيبا مباركا فيه...
 
المشاهدة التاسعة
استوقفني إمام مسجد مركز الملك فهد بمدريد صاحب الصوت الندي، والقراءة المتقنة برواية حفص عن عاصم...حضرني الشيخ الدكتور منير في محاضرتي في المسجد...فسلمت عليه بعد الإنتهاء منها، وأهديته كتابا من كتبي، فوعد أنه سيهديني كتابه وهو أطروحته لنيل الدكتوراه...ودعته مقدِّرا جهوده في نشر العلم في هذه المنارة ...وبعد أيام جاءتني هديته في القرية التي كانت مثواي في إسبانيا فأكبرت الرجل...وشكرت عمله...وحمدت صنيعه..
 
المشاهدة العاشرة
استوقفتني الصحوة الإسلامية التي انتشرت بركاتها بين صفوف شباب المهجر في إسبانيا...كان حضورهم الدروس مميزا...وكان حضورهم الجماعات والجمع مميزا...وكان حضورهم التراويح مميزا...وكانت أسئلتهم عن أمور دينهم مميزة...التزام في غربة...جهاد ونية....لمستُ حرصا على إقامة شعائر الدين.....وإرضاء رب العالمين...والإقتداء بسنة المصطفى الحبيب...كان الجمع عظيما يوم العيد...صلى الشباب في ازدحام شديد داخل المسجد الصغير...امتدت الصفوف خارج المسجد في الزقاق المتصل به...عشرات الشباب...في لباس العيد...فاليوم يوم مميز...وإن كنا في غربة و ديار غير ديارنا...رباه ماذا أقول ألم نكن في تلك الديار؟؟ ونُعيِّد أعيادا كثيرة في أعوام عديدة؟؟؟ وحضرَنا الخلفاء والسلاطين يتقدمون المصلين...وصلينا العيد في هذه الأرض كبيرا ـ عيد أضحى أم صغيرا ـ عيد فطر ـ لقرون ثمانية لم نمُنع منه لحظة...لكن تبدل الحال..وآذن المؤذن بالزوال...فزُلنا وفي القلب حسرة...وخرجنا وفي الكبد جمرة...ومضت السنون والدهور ...ومازلنا نحنُّ إلى تلك الديار حنين أمٍّ شطَّ بها النوى عن وليدها...وفُرق بينها وبين عيالها...فهي تَبكيهم أبد الدهر..وإنا لله وإنا إليه راجعون...
 
عودة
أعلى