د محمد الجبالي
Well-known member
سألني أحد الشيوخ الماليزيين قال: ابنتي حامل، وهي ضعيفة لا تتحمل الصيام، فما حكمها؟
فقلتُ له : تفطر وتفدي عن كل يوم بإطعام مسكين. ثم شككت في جوابي، إذ تذكرتُ أن المسألة فيها خلاف واسع، فقلتُ له: انتظر، ثم بحثتُ فوجدت أن جمهور العلماء يقولون بالقضاء وليس بالفدية، فعدتُ وقلتُ له: الرأي الراجح هو أن تفطر، ثم تبدأ في القضاء بعد أن تغتسل من دم النفاس.
فقال الرجل: إن ابنتي ضعيفة ولو صامت أثناء الرضاعة فإن لبن ابنها قد يقل أو ينقطع.
فقلت له: لا تصوم حتى تنتهي من رضاعة ابنها. فشكرني الرجل ومضى.
تركني الرجل ومضى، وبقيتُ أنا مدهوشا؛ كيف ذلك؟!
لقد تراكم على المرأة ثلاثة رمضانات كاملة يجب أن تصومها؟! فمتى؟! وكيف؟!
فعدتُ إلى الكتب أبحث وفي مواقع العلماء على الشبكة، وطرحتُ القضية على ثلة من أساتذة الجامعات الأزهريين وعدد من الشيوخ والدعاة عربا وماليزيين مشهود لهم بالعلم والفضل، وطرحتُ المسألة للمناقشة، وللأسف الشديد أكثرهم توقف وتجنب أن يدلي بدلوه.
إنها مسألة اختلف فيها العلماء إلى حد التناقض والتضاد، وكل فريق له أدلته وأسانيده.
وأخذتني الحيرة، ألا يوجد في تلك المسألة قول فصل؟
فأخذتُ في البحث والنظر في فتاوى العلماء في هذه المسألة [صيام الحامل والمرضع] ليس لأجل أن أضيف رأيا جديدا، أو فتوى جديدة، لا، ولكن لأجل الوقوف على أفضل هذه الفتاوى وأقربها للحق والصواب.
إن السادة العلماء جزاهم الله عنا خيرا، إذا اختلفوا في حكم قضية ما، فإن الاختلاف عادة ما يكون بسبب الدليل الذي وقف عليه كل منهم، وقد يكون الدليل واحدا للجميع، لكن اختلف تأويل ونظر كل منهم لهذا الدليل، فاختلفت فتاواهم في المسألة الواحدة.
إن حكم صيام الحامل والمرضع لدى علماء المذاهب الأربعة [الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة] وإن اختلف اختلافا شديدا، لكني ألاحظ كأنهم اتفقوا جميعا على أن الحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما فإن حكمهما حكم المريض.
ولو افترضنا أننا سنعامل الحامل والمرضع اللتين لا تطيقان الصيام معاملة المريض، فإن الحامل والمرضع تقومان مقام المريض الزَّمَني، وذلك لطول الفترة الزمنية [حمل ورضاعة] ما يقرب من ثلاث سنوات، أي ثلاثة رمضانات، وعادة ما تطول أكثر بتتابع الحمل والرضاعة، وبالتالي تتراكم شهور رمضان على الحامل والمرضع.
فهل من المعقول أن نطالبها بقضاء شهور رمضان المتراكمة التي فاتتها بسبب الحمل والرضاعة؟! متى ؟! وكيف؟!
حتى وإن كان الحمل لمرة واحدة، وشق عليها الصوم، فأفطرت رمضان، ثم خافت ضياع لبنها [غذاء ابنها] فأفطرت رمضانين في فترة الرضاعة، فإن مطالبتها بقضاء ثلاثة رمضانات فيه مشقة بالغة تخالف طبيعة التشريع الإسلامي الذي قام على اليسر والرحمة، ونجد الله عز وجل في آخر آية [شهر رمضان] يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. ويخالف قول الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
ولهذا فإن افترضنا معاملة الحامل والمرضع اللتين لا تطيقان الصيام معاملة المريض، إذن لابد من معاملتهما معاملة المريض الزمني، ومن المعلوم أن حكم المريض الزمني هو الفدية، والفدية فقط.
ولقد وجدتُ أن أفضل الذين كتبوا في أحكام الحامل والمرضع هو الشيخ مصطفى العدوي - غفر الله له – في كتابه الرائع [جامع أحكام النساء]، فيكفي الباحث في هذه المسألة أن يقرأ ما قدمه الشيخ العدوي فيشفي به صدره.
وإليكم ملخص كلام العدوي فقد وجد أن العلماء في هذه المسألة اختلفوا حكمها على أربعة أقوال:
الأول: تفطران وعليهما القضاء والفدية [إطعام مسكين عن كل يوم] كلاهما،
وقال بهذا الرأي: سفيان ومالك والشافعي وأحمد.
ثم علق العدوي على هذا الرأي قائلا: "لا أكاد أعلم لهم دليلا يُلْزِم الحامل والمرضع بالفدية والقضاء معا لا من كتاب ولا من سنة".
الثاني: تفطران ولهما الخيار بين الفدية أو الإطعام. وقال بهذا الرأي إسحاق.
الثالث: تفطران وعليهما القضاء بلا فدية.
وقال بهذا الرأي الأوزاعي، والثوري، وقال الخطابي أن ممن قال بذلك: الحسن، وعطاء، والنخعي، والزهري.
الرابع: تفطران، وليس عليهما فدية ولا قضاء
وقال بهذا الرأي ابن حزم رحمه الله.
وبعد أن ساق الشيخ العدوي الأقوال الأربعة أخذ يسوق أدلة كل فريق من العلماء، وألاحظ شيئا دقيقا هنا، الشيخ العدوي لم يفصل في أدلة الأقوال الثلاثة الأولى ، بل أوجز واختصر، فلما تكلم عن رأي ابن حزم رحمه الله [لا فدية ولا قضاء عليهما] تجده قد فصل أدلته تفصيلا، وساق أدلته جميعا، بما يشعرك أنت كقارئ كأن المؤلف [الشيخ العدوي] يميل إلى رأي ابن حزم، رغم أنه لم يصرح بذلك، لكن فِعْلَه وَشَى به.
فقد لاحظتُ كأنه يميل لرأي ابن حزم، لكنه لم يختره صراحة، وظاهر كلامه اختيار القول بالفدية، فقال آخر كلامه: " قلت أي العدوي: "وبعد هذا العرض في أقوال أهل العلم في الآية ألا هو قول الله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ليس فيها دلالة على إيجاب القضاء على الحامل والمرضع، والله تعالى أعلم"
انتهى كلام الشيخ العدوي، وإني أختار ما اختار الشيخ العدوي، وظاهر كلامه يقول بالفدية بلا قضاء، رغم أنه نفى القضاء صراحة، ولم يقل صراحة بوجوب الفدية، وسوف نختار معه الفدية للحامل والمرضع حال ضعفهما عن الصيام.
لكن يبقى لفتة قصيرة، ألا وهي: إن الحامل أو المرضع إن كانتا من ذوات العوز والحاجة، أي فقيرتان، فهنا تسقط عنهما الفدية مع القضاء، فلا فدية ولا قضاء.
هذا والله أعلم
د. محمد الجبالي
فقلتُ له : تفطر وتفدي عن كل يوم بإطعام مسكين. ثم شككت في جوابي، إذ تذكرتُ أن المسألة فيها خلاف واسع، فقلتُ له: انتظر، ثم بحثتُ فوجدت أن جمهور العلماء يقولون بالقضاء وليس بالفدية، فعدتُ وقلتُ له: الرأي الراجح هو أن تفطر، ثم تبدأ في القضاء بعد أن تغتسل من دم النفاس.
فقال الرجل: إن ابنتي ضعيفة ولو صامت أثناء الرضاعة فإن لبن ابنها قد يقل أو ينقطع.
فقلت له: لا تصوم حتى تنتهي من رضاعة ابنها. فشكرني الرجل ومضى.
تركني الرجل ومضى، وبقيتُ أنا مدهوشا؛ كيف ذلك؟!
لقد تراكم على المرأة ثلاثة رمضانات كاملة يجب أن تصومها؟! فمتى؟! وكيف؟!
فعدتُ إلى الكتب أبحث وفي مواقع العلماء على الشبكة، وطرحتُ القضية على ثلة من أساتذة الجامعات الأزهريين وعدد من الشيوخ والدعاة عربا وماليزيين مشهود لهم بالعلم والفضل، وطرحتُ المسألة للمناقشة، وللأسف الشديد أكثرهم توقف وتجنب أن يدلي بدلوه.
إنها مسألة اختلف فيها العلماء إلى حد التناقض والتضاد، وكل فريق له أدلته وأسانيده.
وأخذتني الحيرة، ألا يوجد في تلك المسألة قول فصل؟
فأخذتُ في البحث والنظر في فتاوى العلماء في هذه المسألة [صيام الحامل والمرضع] ليس لأجل أن أضيف رأيا جديدا، أو فتوى جديدة، لا، ولكن لأجل الوقوف على أفضل هذه الفتاوى وأقربها للحق والصواب.
إن السادة العلماء جزاهم الله عنا خيرا، إذا اختلفوا في حكم قضية ما، فإن الاختلاف عادة ما يكون بسبب الدليل الذي وقف عليه كل منهم، وقد يكون الدليل واحدا للجميع، لكن اختلف تأويل ونظر كل منهم لهذا الدليل، فاختلفت فتاواهم في المسألة الواحدة.
إن حكم صيام الحامل والمرضع لدى علماء المذاهب الأربعة [الحنفية، المالكية، الشافعية، الحنابلة] وإن اختلف اختلافا شديدا، لكني ألاحظ كأنهم اتفقوا جميعا على أن الحامل والمرضع إن خافتا على أنفسهما فإن حكمهما حكم المريض.
ولو افترضنا أننا سنعامل الحامل والمرضع اللتين لا تطيقان الصيام معاملة المريض، فإن الحامل والمرضع تقومان مقام المريض الزَّمَني، وذلك لطول الفترة الزمنية [حمل ورضاعة] ما يقرب من ثلاث سنوات، أي ثلاثة رمضانات، وعادة ما تطول أكثر بتتابع الحمل والرضاعة، وبالتالي تتراكم شهور رمضان على الحامل والمرضع.
فهل من المعقول أن نطالبها بقضاء شهور رمضان المتراكمة التي فاتتها بسبب الحمل والرضاعة؟! متى ؟! وكيف؟!
حتى وإن كان الحمل لمرة واحدة، وشق عليها الصوم، فأفطرت رمضان، ثم خافت ضياع لبنها [غذاء ابنها] فأفطرت رمضانين في فترة الرضاعة، فإن مطالبتها بقضاء ثلاثة رمضانات فيه مشقة بالغة تخالف طبيعة التشريع الإسلامي الذي قام على اليسر والرحمة، ونجد الله عز وجل في آخر آية [شهر رمضان] يقول: {يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَلَا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ}. ويخالف قول الله تعالى: { لَا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا}.
ولهذا فإن افترضنا معاملة الحامل والمرضع اللتين لا تطيقان الصيام معاملة المريض، إذن لابد من معاملتهما معاملة المريض الزمني، ومن المعلوم أن حكم المريض الزمني هو الفدية، والفدية فقط.
ولقد وجدتُ أن أفضل الذين كتبوا في أحكام الحامل والمرضع هو الشيخ مصطفى العدوي - غفر الله له – في كتابه الرائع [جامع أحكام النساء]، فيكفي الباحث في هذه المسألة أن يقرأ ما قدمه الشيخ العدوي فيشفي به صدره.
وإليكم ملخص كلام العدوي فقد وجد أن العلماء في هذه المسألة اختلفوا حكمها على أربعة أقوال:
الأول: تفطران وعليهما القضاء والفدية [إطعام مسكين عن كل يوم] كلاهما،
وقال بهذا الرأي: سفيان ومالك والشافعي وأحمد.
ثم علق العدوي على هذا الرأي قائلا: "لا أكاد أعلم لهم دليلا يُلْزِم الحامل والمرضع بالفدية والقضاء معا لا من كتاب ولا من سنة".
الثاني: تفطران ولهما الخيار بين الفدية أو الإطعام. وقال بهذا الرأي إسحاق.
الثالث: تفطران وعليهما القضاء بلا فدية.
وقال بهذا الرأي الأوزاعي، والثوري، وقال الخطابي أن ممن قال بذلك: الحسن، وعطاء، والنخعي، والزهري.
الرابع: تفطران، وليس عليهما فدية ولا قضاء
وقال بهذا الرأي ابن حزم رحمه الله.
وبعد أن ساق الشيخ العدوي الأقوال الأربعة أخذ يسوق أدلة كل فريق من العلماء، وألاحظ شيئا دقيقا هنا، الشيخ العدوي لم يفصل في أدلة الأقوال الثلاثة الأولى ، بل أوجز واختصر، فلما تكلم عن رأي ابن حزم رحمه الله [لا فدية ولا قضاء عليهما] تجده قد فصل أدلته تفصيلا، وساق أدلته جميعا، بما يشعرك أنت كقارئ كأن المؤلف [الشيخ العدوي] يميل إلى رأي ابن حزم، رغم أنه لم يصرح بذلك، لكن فِعْلَه وَشَى به.
فقد لاحظتُ كأنه يميل لرأي ابن حزم، لكنه لم يختره صراحة، وظاهر كلامه اختيار القول بالفدية، فقال آخر كلامه: " قلت أي العدوي: "وبعد هذا العرض في أقوال أهل العلم في الآية ألا هو قول الله تعالى: { وَعَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعَامُ مِسْكِينٍ} ليس فيها دلالة على إيجاب القضاء على الحامل والمرضع، والله تعالى أعلم"
انتهى كلام الشيخ العدوي، وإني أختار ما اختار الشيخ العدوي، وظاهر كلامه يقول بالفدية بلا قضاء، رغم أنه نفى القضاء صراحة، ولم يقل صراحة بوجوب الفدية، وسوف نختار معه الفدية للحامل والمرضع حال ضعفهما عن الصيام.
لكن يبقى لفتة قصيرة، ألا وهي: إن الحامل أو المرضع إن كانتا من ذوات العوز والحاجة، أي فقيرتان، فهنا تسقط عنهما الفدية مع القضاء، فلا فدية ولا قضاء.
هذا والله أعلم
د. محمد الجبالي