الذب عن مذهب أهل الحديث في المنع من الخروج على ولي الأمر الجائر

الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.

محمد براء

New member
إنضم
12/03/2006
المشاركات
375
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
بسم الله الرحمن الرحيم
الذب عن مذهب أهل الحديث في المنع من الخروج على ولي الأمر الجائر
فطر الله الخلق على بغض الظلم وأهله ، ومحبة العدل وأهله ، فالعدل من المستحسنات العقلية التي لا يتوقف إدراكها على إرسال الرسل وإنزال الكتب ، والظلم من المستقبحات العقلية التي لا يتوقف إدراكها على إرسال الرسل وإنزال الكتب ، ولذا تجد الأمم كلها اتفقت على مدح العدل واعتقاد حسنه ، وذم الظلم واعتقاد قبحه .
ومن أشد أنواع الطعن في المقالات : نصب التعارض بينها وبين ما تقرر حسنه في الفطر والعقول ، إذ إن ذلك كاف في النفور منها ومن أهلها والتشنيع عليهم .
وقد سلك بعض المناوئين لأهل الحديث رضي الله عنهم هذا المسلك في الطعن في موقفهم في منع الخروج على ولي الأمر الجائر ، فزعم هؤلاء : إن مذهب أهل الحديث يقرُّ ظلم ولاة الأمور ويعطيه شرعية دينية !
وينبغي التمييز هنا بين هذا الصنف الذي يطعن في أخلاقية مذهب أهل الحديث في هذه المسألة ويشنع عليهم ، وبين صنف آخر من أهل العلم يرون في المسألة خلافًا بين الصحابة فيزيفون لأجل ذلك دعوى الإجماع على منع الخروج ، كما ذهب إلى ذلك ابن حزم في مراتب الإجماع ، ونص عليه من المعاصرين الشيخ عبد الرحمن المعلمي رحمه الله تعالى ، فالمقصود هم الصنف الأول دون الثاني .
ويمكن في هذا المقام سرد النصوص التي استدل بها أهل الحديث لمذهبهم هذا ، لكن لما كان هؤلاء مُستندين إلى مستند أخلاقي ، وهو قبح الظلم ، كان من المناسب الرد عليهم ببيان البعد الأخلاقي في منع أهل الحديث الخروج على أئمة الجور .
ويتضح لنا ذلك البعد الأخلاقي بالنظر في كلام إمام من جلة أئمة أهل الحديث وهو الإمام أحمد بن حنبل رضي الله عنه ؛ قال أبو الحارث الصائغ : سألت أبا عبد الله في أمر كان حدث ببغداد، وهمَّ قومٌ بالخروج، فقلت : " يا أبا عبد الله ، ما تقول في الخروج مع هؤلاء القوم ، فأنكر ذلك عليهم ، وجعل يقول : سبحان الله ! الدماء الدماء ! لا أرى ذلك ، ولا آمر به ، الصبر على ما نحن فيه خير من الفتنة يسفك فيها الدماء ، ويستباح فيها الأموال ، وينتهك فيها المحارم ، أما علمت ما كان الناس فيه ، يعني أيام الفتنة .
قلتُ : والناس اليوم، أليس هم في فتنة يا أبا عبد الله ؟
قال : وإن كان ، فإنما هي فتنة خاصة ، فإذا وقع السيف عمَّت الفتنة ، وانقطعت السبل ، الصبر على هذا ، ويسلم لك دينك خير لك .
ورأيته ينكر الخروج على الأئمة ، وقال: الدماء ! لا أرى ذلك ، ولا آمر به " .
[ أخرجه الخلال في السنة برقم (89) ] .
فالإمام أحمد رحمه الله تعالى يفرق بين الفتنة العامة والخاصة ، ويؤثر وقوع الثانية على الأولى ، ولا ريب أن صبر المرء على ذهاب مصلحته الخاصة من أجل مصلحة مجموع المسلمين ، وتقديم مصلحة المجموع وإيثارهم على نفسه ومصلحته ، من الأخلاق الحسنة الحميدة .
قال ابن تيمية في منهاج السنة (4 / 540 - 541) : " وكثير ممن خرج على ولاة الأمور أو أكثرهم إنما خرج لينازعهم مع استئثارهم عليه ، ولم يصبروا على الاستئثار ، ثم إنه يكون لولي الأمر ذنوب أخرى ، فيبقى بغضه لاستئثاره يعظم تلك السيئات ، ويبقى المقاتل له ظانًّا أنه يقاتله لئلا تكون فتنة ويكون الدين كله لله ، ومن أعظم ما حرَّكه عليه طلب غرضه : إما ولاية ، وإما مال " .
فالذي يصبر على الولاية أو المال الذي يستحقه ، من أجل أن لا تسيل دماء المسلمين وتنقطع سبلهم وتتوقف مصالحهم ، أولى بالحمد ممن لا يُبصِر إلا مصلحة نفسه ويسعى في تحقيقها وإن جرَّ ذلك إلى الفتن والمصائب والمحن .
ولهذا فرق ابن تيمية بين قتال المحاربين أو قطاع الطريق وبين قتال ولاة الأمور لطلب المال أو الولاية بأمرين:
الأول : أن قطاع الطريق ضررهم عام على جميع الناس ، فهم يعادون جميع الناس ، وجميع الناس يعينون على قتالهم . أي أن فتنتهم فتنة عامة .
الثاني : أنهم يبتدؤون الناس بالقتال .
وهذا الفرق الثاني فرق مهم أيضًا ، إذ إن أهل الحديث في قولهم هذا إنما عنوا مبادءة الولاة بالخروج بالسيف ، إذ من شأن ولاة الأمور أنهم " لا يبتدؤون بالقتال للرعية " ، - كما يقول ابن تيمية - .
أما إذا اعتدى ولي الأمر بنفسه أو بجنوده ورجاله على حرمات المسلمين من دماء وأعراض ، فهذا شأن آخر ، ليس هو محل النظر في مسألة الخروج على ولي الأمر ، إذ المقصود بالخروج الممنوع : مبادءتهم بالقتال.
فإذا أمر ولي الأمر بقتل رجل معصوم الدم ظلمًا وعدوانًا فإنه يقتل به ، فالمسلمون تتكافأ دماؤهم ، ولا فرق بين دم ولي الأمر ودم أقل مسلم من الرعية ، قال الإمام أبو عبد الله الشافعي رحمه الله في الأم (7/107) : " وإذا أمر الإمامُ الرجلَ بقتل الرجل فقتله المأمور فعلى الإمام القود إلا أن يشاء ورثة المقتول أن يأخذوا الدية " .
وفي مصنف الإمام عبد الرزاق الصنعاني رحمه الله تعالى باب في القود من السلطان روى فيه آثارًا عن السلف في هذا الباب ، منها قول حبيب بن صهبان عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه : " ظهور المسلمين حمى الله لا تحلُّ لأحد ، إلا أن يخرجها حدٌّ .
قال حبيب : " ولقد رأيت بياض إبطه قائمًا يقيد من نفسه " . أخرجه عبد الرزاق برقم (18036) .
ولو فُرض أن ولي الأمر صال على حريم المسلمين فإن له أحكام الصائل ، فيجب قتاله ودفعه بالأخف فالأخف ، ويهدر دمه إذا قُتل خلال ذلك ، شأنه شأن غيره ، وإذا جس للكفار فإن له حكم الجاسوس - وقد ذهب بعض الأئمة إلى قتله - شأنه شأن غيره ، لا يمنعه من ذلك اسم ولي الأمر ولا منصبه ، وهكذا سائر الجنايات .
وهنا كلمة للإمام أبي بكر الآجري رحمه الله في كتاب الشريعة قد يراها البعض مشكلة على ما تقدم وهي قوله : " ومن أُمِّر عليك من عربي أو غيره أسود أو أبيض أو عجمي فأطعه فيما ليس لله فيه معصية ، وإن حرمك حقًّا لك ، أو ضربك ظلمًا لك ، أو انتهك عرضك ، أو أخذ مالك ، فلا يحملك ذلك على أن تخرج عليه بسيفك حتى تقاتله ، ولا تخرج مع خارجي يقاتله ، ولا تحرض غيرك على الخروج عليه ، ولكن اصبر عليه " .
فقد يستشكل البعض أمره بالصبر على انتهاك العرض ، وهذا الإشكال يزول بفهم معنى انتهاك العرض ، قال الأصمعي رحمه الله - كما نقله الأزهري في تهذيب اللغة - : " النهك أن تبالغ في العمل , وإن بالغت في شتم العرض قال : انتهك عرضه " .
فليس المراد أن يصبر الإنسان على ولي الأمر إذا صال على حريمه وأراد انتهاك أعراضهن !! هذا معلوم البطلان من الإسلام بالضرورة .
ثم إذا قلنا إن الأفعال المذكورة من الضرب وحرمان الحقوق وانتهاك العرض - بالمعنى المذكور آنفًا - وأخذ المال ليس فيها شيء موجب للخروج على ولي الأمر ، فليس في ذلك ما يمنع من أن يقيم المجني عليه دعوى ضد ولي الأمر ، فيقتص منه ، ففرق بين موجبات الخروج ، وموجبات القصاص وغيره من العقوبات على الجنايات ، وهذا أمر لا ينبغي أن يفوت من يروم فهم كلام الأئمة .
فأهل الحديث هم حفظة سنة النبي صلى الله عليه وسلم ، والذابون عنها ، ومقاصدهم شريفة نبيلة ، ليس لهم غرض في دنيا أو مال ، حتى يحرفوا الشرع ليطابق مقاصد الولاة ، والطاعنون في مذهبهم بمثل هذه الطعون أولى بالاتهام بسوء القصد وخبث الطوية .
واعلم أنني لم أقصد مما تقدم الدفاع عن نظام من الأنظمة العربية المعاصرة ، حتى يعترض معترض بأنهم ليسوا ولاة أمور شرعيين أو أنهم وكلاء للكفار على أموال المسلمين ومقدراتهم ، فهذه مسألة أخرى ، وإنما المقصود الذب عن مذهب أهل الحديث وتفهمه ، وإذا استعمل بعض الناس هذا المذهب في الدفاع عن الأنظمة العربية المعاصرة لمقاصد دنيوية خسيسة فليس ذلك بموجب للقدح في نفس المذهب ، والله تعالى أعلم .

مجلة حراس الشريعة - العدد السابع - ذي القعدة 1434 هـ
لتحميل العدد كاملا:
Horras#07
 
الحالة
مغلق و غير مفتوح للمزيد من الردود.
عودة
أعلى