مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
كنت قد طرحت في حلقة سابقة ( لطائف من ترجمة ابن عباس ) ، وهاأنذا أتبعها بهذه الحلقة التي تتعلق بتربيته العلمية ، وإليك هذه النقاط :
أولاً : عنايته بتعليم طلابه :
عن عكرمة قال: ( كان بن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ويعلمني السنة) .
فانظر كيف اعتنى ابن عباس بمولاه عكرمة ، لما رأى فيه من النجابة والذكاء ، ولم يفعل ذلك مع من هو أقرب منه ؛ ابنه علي بن عبد الله بن عباس .
وانظر الفرق بين موقف ابن عباس من عكرمة وعنايته به ، وموقف ابنه علي من عكرمة ، ، عن يحيى بن معين ، قال : ( مات ابن عباس وعكرمة عبد لم يعتقه، فباعه على بن عبد الله بن عباس، فقيل له: تبيع علم أبيك، فاسترده ) .
ثانيًا : مدارسة العلم ، وإلقاء المشكل من العلم مع الطلاب .
عن عكرمة قال: ( قرأ ابن عباس هذه الآية: ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) . قال قال بن عباس: لم أدر أنجا القوم أم هلكوا. فما زلت أبين له أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا، قال: فكساني حلة ) .
وفي رواية أخرى عند الطبري بسنده عن عن عكرمة قال: ( دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداءك؟ قال: فقرأ: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، إلى قوله:(بما كانوا يفسقون".) قال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم! فقلت: أما تسمع الله يقول: "فلما عتوا عمّا نهوا عنه"؟ فسُرِّي عنه، وكساني حُلّة ) .
هذا ابن عباس ـ مع ما آتاه الله من علم بتأويل القرآن ومعرفة بعلومه ودقائقه ـ يقف حائرًا عند هذه المشكلة العلمية التي خطرة عليه ، وإذا بتلميذه يفتح عليه بها ، فما استنكر لذلك ، ولا قال له : ( وما يدريك أنت ؟! ) ، بل كساه حُلَّة جائزة على ما قدَّم له من هذه المعلومة الثمينة ، وهذا يدل على :
1 ـ الفرح بالمعلومة .
2 ـ إعطاء الشيخ الجوائز التشجيعية لطلابه الذين يتقدمون في العلم .
3 ـ أن العلم لا يرتبط بالسِّنِ ولا بكثرةِ العلم ، فقد يُوصل إليك المعلومة من يصغرك سنًّا وعلمًا .
4 ـ تواضع ابن عباس العلمي لقبوله بتعليم تلميذه له في هذه المسألة .
5 ـ أنه قد يقع خطأ في التدبر ، كما هو الحال في تدبر ابن عباس رضي الله عنه .
6 ـ في هذه المسألة استدراك التابعي على الصحابي ، وهذا النوع من الاستدراك قليل جدًا ، إذ العكس أكثر .
ثالثًا : تدريبه لطلابه في العلم والفتوى :
ـ عن عكرمة قال: ( قال لي بن عباس ونحن ذاهبون من منى إلى عرفات: هذا يوم من أيامك. فجعلت أرجن به ويفتح علي بن عباس ) .
ـ عن عكرمة قال : ( قال ابن عباس انطلق فأفت الناس وأنا لك عون قال قلت لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم . قال انطلق فأفت الناس فمن جاءك سألك عما يعنيه فأفته ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس ) .
ـ روى البيهقي في المدخل عن ابن عباس ، أنه قال لسعيد بن جبير : ( حَدِّثْ ، قال : أُحدِّثُ وأنت شاهد ؟!
قال : أوليس من نعمة الله عليك وأنت تحدث وأنا شاهد ؟ فإن أخطأت علمتك ) .
وفي هذه النصوص فوائد :
1 ـ حرص ابن عباس على تدريب طلابه وإبرازهم للعامة ليكون محله إذا غاب عنهم ، وهذا مما قد يفتقده بعض الأشياخ إذ يغيب عنهم أن يجعلوا لهم خلفًا يعرِّفون الناس بهم ، ويردونهم إليهم ، ومن هذا الباب ما قاله تميم بن حدير عن الرباب : ( سألت ابن عباس عن شيء فقال: تسألوني وفيكم جابر بن زيد وهو أحد العلماء؟ ) .
وكذا قوله رضي الله عنه : ( لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله ) .
وهذا المنهج ـ وهو إبراز الطلاب المتميزين الذين يصلحون لخلافة العالم ـ مما يحسن للعلماء التنبه له .
ومن هذا الباب ما روى البيهقي في المدخل عن أبي العالية قال : ( كنت آتي ابن عباس فيرفعني على السرير ، وقريش أسفل من السرير ، فتغامز بي قريش ، وقالوا : يرفع هذا العبد على السرير فعطن بهم ابن عباس فقال : إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا ، ويجلس المملوك على الأسرة ) .
2 ـ إن التدريب قد يقع فيه أخطاء وأوهام ، ومهمة العالم أن يصبر على تدريب طلابه ، وأ، يفتح عليهم ، فانظر مقام عكرمة بعد وفاة ابن عباس ، وكيف كان إمامًا للناس في العلم بتأويل القرآن .
3 ـ بصر ابن عباس بأسئلة الناس ، وخبرته فيما لا يصلح أن يُفتى فيه ، وأن التوقف عنه يطرح عن المفتي مؤنة كبيرة ، وأسئلة كثيرة .
ومن هنا فإنه يحسن تبصير المستفتين بما لا يصلح من أسئلتهم بأسلوب حسن وفاقًا لقوله تعالى : ( وأما السائل فلا تنهر ) .
رابعًا : عنايته بتدريب طلابه على طرق التعليم والفتيا
عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( حدِّث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ، ولا تُمِلَّ الناس هذا القرآنَ ، ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم ، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ، إياك والسجع في الدعاء فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك )
ـ عن عكرمة قال : ( قال ابن عباس انطلق فأفت الناس وأنا لك عون قال قلت لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم . قال انطلق فأفت الناس فمن جاءك سألك عما يعنيه فأفته ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس ) .
وفي هذه الآثار فوائد :
1 ـ إن قلة التحديث كان منهجًا يسلكه ابن عباس وغيره من الصحابة خشية الملل والسآمة من الحاضرين .
2 ـ من آداب المجلس عدم قطعه ، ولو كان بحديث فاضل ؛ لأن المراد إيصال العلم للناس وهم مستعدون له ، فإذا كانوا منشغلين عنه ثم قطعهم أحد عن مجلسهم به ، فإنه يكون ثقيلاً عليهم ، ومثل هذا ما يقع من بعض الناس من اتخاذ بعض الأعراس أو التجمعات الاجتماعية التي المقصود منها السلام والحديث وتجاذب الأخبار بين قوم قد انقطعوا عن بعضهم بمشاغل الحياة أو بكونهم في مدينة أخرى ، والوقت الذي يحضرونه لا يتجاوز الساعتين في الغالب ، فيذهب منه جزء لا بأس به بدعوى الوعظ والتذكير ؛ فهل ياترى هذا موضعه ؟!
3 ـ كراهية السجع ، خصوصًا تكلفه ، ولا يخفى أن تكلف السجع مما جاءت كراهة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال : ( أسجعًا كسجع الكهان ) ، وإذا تأملت بعض أدعية القنوت الرمضانية لم تخطئك الأدعية المسجوعة المتكلفة التي ورد النهي عنها .
4 ـ عدم إملال الناس من العلم ، حتى لو كان العلم بالقرآن ، وإتيانهم به حال رغبتهم أنفع لهم لاستعدادهم لذلك ، وليس من المنهج الصحيح اصتغلال وجود الشيخ فلان في المجلس لإعطائه الحديث والوعظ ، بل إن النظر في طلب الناس واستعدادهم هو المقدم في ذلك ، وهو الانفع في بلوغ العلم والموعظة .
خامسًا : توقفه عن ما لا يعلم ، وتصريحه بذلك لطلابه:
ـ قال ابن عباس : « إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله »
ـ عن عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: ( والله ما أدري ما حنانا ) .
ويبدو أنه قد علم ذلك بعد ذلك ، فقد ورد عنه تفسير ( حنانا ) من طريق علي بن أبي طلحة ، قال : (عن ابن عباس، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: ورحمة من عندنا ).
وقد ورد عنه مثل ذلك ، فقد قال : ( كل القرآن أعلمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقيم ) .
ـ وعن عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: ( قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب، أم بنيان؟ ) .
ثم إنك تجد له تفسيرًا للرقيم ،رواه عنه علي بن أبي طلحة ، قال : ( عن ابن عباس، قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) يقول: الكتاب ) ، وهذا يعني أنه قد علمه بعد جهله به .
ـ قال الطبري : ( حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فهذا يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك غير القول الذي ذكرنا عنه، وذلك ما:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن رجلا سأل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، قال: هما يومان ذكرهما الله في القرآن، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم ) .
ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: ( سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة؟
قال: فاتهمه، فقيل له فيه ، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني !
فقال: هما يومان ذكرهما الله جلّ وعزّ، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم ) .
ومن فوائد هذه الآثار :
1 ـ إن إعلان العالم عدم علمه بمسألة من مسائل العلم ليس منقصة في حقه ، بل هو رفعة له ، تدل على كماله في علمه .
2 ـ كما أن إعلان العالم عن جهله بهذه المسألة فيه تدريب عملي لطلابه بأن لا يفتوا بما لا يعلمون ، وأن يقفوا عند ما يعلمونه ولا يتعدونه ، وقد طبق ذلك في السؤال الذي الذي سأله عنه الرجل عن يوم كان مقداره ألف سنة ، وقد صرح له بسبب عدم جوابه ( وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم ) .
سادسًا : سماحته مع طلابه ، وكرم نفسه معهم
قال الطبري : حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، في قوله:( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال: سئل عنها ابن عباس، فقال ابن جبير: هم قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيهم قرابة، قال: فنزلت( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال:"إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها" ) .
ومن فوائد هذا الأثر :
1 ـ كريم خلقه رضي الله عنه ، إذ لم يعتب على تقدم تلميذه عليه في الجواب .
وأما سماحته وكرم نفسه فقد شهد له بذلك فئام ممن رآه ، ومن ذلك ما وقع معه من مخالفة تلاميذه له في الكتابة عنه ، ففي المدخل للبيهقي : عن طاوس ، قال : ( كنا عند ابن عباس قال : وكان سعيد بن جبير يكتب قال : فقيل لابن عباس : إنهم يكتبون قال : أتكتبون ؟ ثم قام ، قال : وكان حسن الخلق ولولا حسن خلقه لغير بأشد من القيام ) .
2 ـ حسن لفظه في بيان خطأ تلميذه ، فلم يقل له : ( أخطأت ) ، بل قال : ( عجلت ) ، وهي ألطف وأحسن من الأولى ، ويعجبني في مثل هذا المقام ما كان يقوله بعض أساتذتنا ـ إذا كان الجواب خطأ ـ : ( كلامك صحيح ، وجوابك خطأ ) ففي ذلك تلطيف وتخفيف على الطالب .
3 ـ إن تقدُّم الطالب على شيخه في الجواب لا يلزم أن يكون من سوء خلق الطالب البتة ، بل الحال يختلف من وقت إلى وقت ومن تلميذ إلى تلميذ إلى غير ذلك ، وليس المقصود أنه يجوز مثل هذا الحال مطلقًا ، لكن المقصود أن مثل هذا لا يلزم أن يكون سوء أدب مع الشيخ .
والمقصود أن الأحوال تختلف ، ولو حدث هذا عند بعض العلماء لعده بعضهم سوء أدب والأمر ليس كذلك ، ولكل شيخ طريقة .
سابعًا : مراعاة أحوال السائلين
قال الطبري : حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمي الأشعري، عن جعفر بن أبي المُغيرة الخزاعي، عن سعيد بن جبَير، قال: قال رجل لابن عباس( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) ... الآية، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر.
ومراده بالكفر : التكذيب ، كما شرح ذلك في الرواية الأخرى ، قال الطبري حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
وقد فسرها في رواية أخرى عنه ، قال الطبري : : حدثني عمرو بن عليّ ومحمد بن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أَبي الضحى، عن ابن عباس، قال في هذه الآية:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) قال عمرو: قال: ( في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى: في كلّ سماء إبراهيم ) .
وإذا تاملت إلى غرابة هذا التفسير ؛ بان لك خوف ابن عباس من تكذيب السائل .
وفي هذا فائدة عزيزة ، وهي أنه لا يلزم أن تلقي كل العلم لكل سائل ، فيعض السائلين قد لا يتحمل المعنى الذي تقوله فيكون له فتنة ، وهذا المنهج ظاهر في آثار السلف ، ومن ذلك مارواه البخاري عن علي بن أبي طالب قال : ( حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) .
ثامنًا : طلب السؤال من الطلاب :
روى البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال : ( إنا لعند ابن عباس في بيته ؛ إذ قال : سلوني .
قلت : أي أبا عباس ـ جعلني الله فداءك ـ بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل ... فقال لي قد كذب عدو الله ، ثم ذكر خبر موسى مع الخضر ) .
من فوائد هذا الأثر :
1 ـ حرصالشيخ على وقته مع طلابه الذين يستفيدون منه ، بحيث يشغل وقتهم بالعلم ، بخلاف ما مرَّ من منهجه مع عامة الناس .
2 ـ إن السؤال من مذاكرة العلم ، ومما يُظهر علمًا مكنزنًا عند الشيخ ، لذا يحسن بالشيخ أن لا يضجر من أسئلة الطلاب العلمية ؛ إذ كم من سؤال فتح بابًا من العلم على كثير من العلماء .
تاسعًا : توقفه عن التعليم بسبب عارض العمى .
وعن عكرمة، قال: كان ابن عباس في العلم بحرا ينشق له الأمر من الامور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل " فلما عمي، أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم وعلمه - أو قال كتب من كتبه - فجعلوا يستقرؤونه، وجعل يقدم ويؤخر، فلما رأى ذلك، قال: إني قد تهلت من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فليقرأ علي، فإن إقراري له كقراءتي عليه.
قال فقرؤوا عليه.
تلهت: تحيرت، والاصل ولهت كما قيل في وجاه تجاه ..
ولعل هذا يفسر سبب كراهيته للكتابة في الرواية التي ذكرها البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى قال: عن طاوس ، قال : ( كنا عند ابن عباس قال : وكان سعيد بن جبير يكتب قال : فقيل لابن عباس : إنهم يكتبون قال : أتكتبون ؟ ثم قام ، قال : وكان حسن الخلق ولولا حسن خلقه لغير بأشد من القيام ) .
وهذا يدل على تورعه رضي الله عنه ، وحرصه على أن لا يلقي ما لم يتيقن منه ، فالعلم دين .
عاشرًا : حرصه على تعليم الناس
وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يغشى الناس في رمضان وهو أمير البصرة فما ينقضي الشهر حتى يفقههم.وهذا لا ينافي ما سبق من بيان منهجه ؛ لأن اختياره لهذا الشهر يدل على حسن اختياره ؛ لأن الناس يكونون مقبلين على العلم ، فضلاً عن أن الناس يفرحون بغشيان أمرائهم لمجالسهم ، كيف إذا كان الأمير عالمًا أيضًا .
وبعد ، فهذه وقفات من سيرة ابن عباس العلمية ، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها .
أولاً : عنايته بتعليم طلابه :
عن عكرمة قال: ( كان بن عباس يجعل في رجلي الكبل يعلمني القرآن ويعلمني السنة) .
فانظر كيف اعتنى ابن عباس بمولاه عكرمة ، لما رأى فيه من النجابة والذكاء ، ولم يفعل ذلك مع من هو أقرب منه ؛ ابنه علي بن عبد الله بن عباس .
وانظر الفرق بين موقف ابن عباس من عكرمة وعنايته به ، وموقف ابنه علي من عكرمة ، ، عن يحيى بن معين ، قال : ( مات ابن عباس وعكرمة عبد لم يعتقه، فباعه على بن عبد الله بن عباس، فقيل له: تبيع علم أبيك، فاسترده ) .
ثانيًا : مدارسة العلم ، وإلقاء المشكل من العلم مع الطلاب .
عن عكرمة قال: ( قرأ ابن عباس هذه الآية: ( لم تعظون قوما الله مهلكهم أو معذبهم عذابا شديدا ) . قال قال بن عباس: لم أدر أنجا القوم أم هلكوا. فما زلت أبين له أبصره حتى عرف أنهم قد نجوا، قال: فكساني حلة ) .
وفي رواية أخرى عند الطبري بسنده عن عن عكرمة قال: ( دخلت على ابن عباس والمصحف في حجره، وهو يبكي، فقلت: ما يبكيك، جعلني الله فداءك؟ قال: فقرأ: "واسألهم عن القرية التي كانت حاضرة البحر"، إلى قوله:(بما كانوا يفسقون".) قال ابن عباس: لا أسمع الفرقة الثالثة ذكرت، نخاف أن نكون مثلهم! فقلت: أما تسمع الله يقول: "فلما عتوا عمّا نهوا عنه"؟ فسُرِّي عنه، وكساني حُلّة ) .
هذا ابن عباس ـ مع ما آتاه الله من علم بتأويل القرآن ومعرفة بعلومه ودقائقه ـ يقف حائرًا عند هذه المشكلة العلمية التي خطرة عليه ، وإذا بتلميذه يفتح عليه بها ، فما استنكر لذلك ، ولا قال له : ( وما يدريك أنت ؟! ) ، بل كساه حُلَّة جائزة على ما قدَّم له من هذه المعلومة الثمينة ، وهذا يدل على :
1 ـ الفرح بالمعلومة .
2 ـ إعطاء الشيخ الجوائز التشجيعية لطلابه الذين يتقدمون في العلم .
3 ـ أن العلم لا يرتبط بالسِّنِ ولا بكثرةِ العلم ، فقد يُوصل إليك المعلومة من يصغرك سنًّا وعلمًا .
4 ـ تواضع ابن عباس العلمي لقبوله بتعليم تلميذه له في هذه المسألة .
5 ـ أنه قد يقع خطأ في التدبر ، كما هو الحال في تدبر ابن عباس رضي الله عنه .
6 ـ في هذه المسألة استدراك التابعي على الصحابي ، وهذا النوع من الاستدراك قليل جدًا ، إذ العكس أكثر .
ثالثًا : تدريبه لطلابه في العلم والفتوى :
ـ عن عكرمة قال: ( قال لي بن عباس ونحن ذاهبون من منى إلى عرفات: هذا يوم من أيامك. فجعلت أرجن به ويفتح علي بن عباس ) .
ـ عن عكرمة قال : ( قال ابن عباس انطلق فأفت الناس وأنا لك عون قال قلت لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم . قال انطلق فأفت الناس فمن جاءك سألك عما يعنيه فأفته ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس ) .
ـ روى البيهقي في المدخل عن ابن عباس ، أنه قال لسعيد بن جبير : ( حَدِّثْ ، قال : أُحدِّثُ وأنت شاهد ؟!
قال : أوليس من نعمة الله عليك وأنت تحدث وأنا شاهد ؟ فإن أخطأت علمتك ) .
وفي هذه النصوص فوائد :
1 ـ حرص ابن عباس على تدريب طلابه وإبرازهم للعامة ليكون محله إذا غاب عنهم ، وهذا مما قد يفتقده بعض الأشياخ إذ يغيب عنهم أن يجعلوا لهم خلفًا يعرِّفون الناس بهم ، ويردونهم إليهم ، ومن هذا الباب ما قاله تميم بن حدير عن الرباب : ( سألت ابن عباس عن شيء فقال: تسألوني وفيكم جابر بن زيد وهو أحد العلماء؟ ) .
وكذا قوله رضي الله عنه : ( لو أن أهل البصرة نزلوا عند قول جابر بن زيد لأوسعهم علماً من كتاب الله ) .
وهذا المنهج ـ وهو إبراز الطلاب المتميزين الذين يصلحون لخلافة العالم ـ مما يحسن للعلماء التنبه له .
ومن هذا الباب ما روى البيهقي في المدخل عن أبي العالية قال : ( كنت آتي ابن عباس فيرفعني على السرير ، وقريش أسفل من السرير ، فتغامز بي قريش ، وقالوا : يرفع هذا العبد على السرير فعطن بهم ابن عباس فقال : إن هذا العلم يزيد الشريف شرفا ، ويجلس المملوك على الأسرة ) .
2 ـ إن التدريب قد يقع فيه أخطاء وأوهام ، ومهمة العالم أن يصبر على تدريب طلابه ، وأ، يفتح عليهم ، فانظر مقام عكرمة بعد وفاة ابن عباس ، وكيف كان إمامًا للناس في العلم بتأويل القرآن .
3 ـ بصر ابن عباس بأسئلة الناس ، وخبرته فيما لا يصلح أن يُفتى فيه ، وأن التوقف عنه يطرح عن المفتي مؤنة كبيرة ، وأسئلة كثيرة .
ومن هنا فإنه يحسن تبصير المستفتين بما لا يصلح من أسئلتهم بأسلوب حسن وفاقًا لقوله تعالى : ( وأما السائل فلا تنهر ) .
رابعًا : عنايته بتدريب طلابه على طرق التعليم والفتيا
عن عكرمة ، عن ابن عباس ، قال : ( حدِّث الناس كل جمعة مرة ، فإن أبيت فمرتين ، فإن أكثرت فثلاث مرات ، ولا تُمِلَّ الناس هذا القرآنَ ، ولا تأت القوم وهم في حديث فتقطع عليهم حديثهم ، ولكن أنصت فإذا أمروك فحدثهم وهم يشتهونه ، إياك والسجع في الدعاء فإني عهدت رسول الله صلى الله عليه وسلم وأصحابه لا يفعلون ذلك )
ـ عن عكرمة قال : ( قال ابن عباس انطلق فأفت الناس وأنا لك عون قال قلت لو أن هذا الناس مثلهم مرتين لأفتيتهم . قال انطلق فأفت الناس فمن جاءك سألك عما يعنيه فأفته ، ومن سألك عما لا يعنيه فلا تفته فإنك تطرح عن نفسك ثلثي مؤنة الناس ) .
وفي هذه الآثار فوائد :
1 ـ إن قلة التحديث كان منهجًا يسلكه ابن عباس وغيره من الصحابة خشية الملل والسآمة من الحاضرين .
2 ـ من آداب المجلس عدم قطعه ، ولو كان بحديث فاضل ؛ لأن المراد إيصال العلم للناس وهم مستعدون له ، فإذا كانوا منشغلين عنه ثم قطعهم أحد عن مجلسهم به ، فإنه يكون ثقيلاً عليهم ، ومثل هذا ما يقع من بعض الناس من اتخاذ بعض الأعراس أو التجمعات الاجتماعية التي المقصود منها السلام والحديث وتجاذب الأخبار بين قوم قد انقطعوا عن بعضهم بمشاغل الحياة أو بكونهم في مدينة أخرى ، والوقت الذي يحضرونه لا يتجاوز الساعتين في الغالب ، فيذهب منه جزء لا بأس به بدعوى الوعظ والتذكير ؛ فهل ياترى هذا موضعه ؟!
3 ـ كراهية السجع ، خصوصًا تكلفه ، ولا يخفى أن تكلف السجع مما جاءت كراهة على لسان رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال : ( أسجعًا كسجع الكهان ) ، وإذا تأملت بعض أدعية القنوت الرمضانية لم تخطئك الأدعية المسجوعة المتكلفة التي ورد النهي عنها .
4 ـ عدم إملال الناس من العلم ، حتى لو كان العلم بالقرآن ، وإتيانهم به حال رغبتهم أنفع لهم لاستعدادهم لذلك ، وليس من المنهج الصحيح اصتغلال وجود الشيخ فلان في المجلس لإعطائه الحديث والوعظ ، بل إن النظر في طلب الناس واستعدادهم هو المقدم في ذلك ، وهو الانفع في بلوغ العلم والموعظة .
خامسًا : توقفه عن ما لا يعلم ، وتصريحه بذلك لطلابه:
ـ قال ابن عباس : « إذا ترك العالم لا أدري أصيبت مقاتله »
ـ عن عمرو بن دينار أنه سمع عكرمة، عن ابن عباس، قال: ( والله ما أدري ما حنانا ) .
ويبدو أنه قد علم ذلك بعد ذلك ، فقد ورد عنه تفسير ( حنانا ) من طريق علي بن أبي طلحة ، قال : (عن ابن عباس، قوله( وَحَنَانًا مِنْ لَدُنَّا ) يقول: ورحمة من عندنا ).
وقد ورد عنه مثل ذلك ، فقد قال : ( كل القرآن أعلمه، إلا حنانا، والأوّاه، والرقيم ) .
ـ وعن عمرو بن دينار، أنه سمع عكرمة يقول: ( قال ابن عباس: ما أدري ما الرقيم، أكتاب، أم بنيان؟ ) .
ثم إنك تجد له تفسيرًا للرقيم ،رواه عنه علي بن أبي طلحة ، قال : ( عن ابن عباس، قوله:( أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ ) يقول: الكتاب ) ، وهذا يعني أنه قد علمه بعد جهله به .
ـ قال الطبري : ( حدثني عليّ، قال: ثنا أبو صالح، قال: ثني معاوية، عن عليّ، عن ابن عباس، في قوله:( تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَالرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ ) فهذا يوم القيامة، جعله الله على الكافرين مقدار خمسين ألف سنة .
وقد رُوي عن ابن عباس في ذلك غير القول الذي ذكرنا عنه، وذلك ما:
حدثني يعقوب بن إبراهيم، قال: ثنا ابن علية، عن أيوب، عن ابن أبي مليكة، أن رجلا سأل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ قال: إنما سألتك لتخبرني، قال: هما يومان ذكرهما الله في القرآن، الله أعلم بهما، فكره أن يقول في كتاب الله ما لا يعلم ) .
ـ حدثنا ابن بشار، قال: ثنا عبد الوهاب، قال: ثنا أيوب، عن ابن أبي مليكة، قال: ( سأل رجل ابن عباس عن يوم كان مقداره ألف سنة؟
قال: فاتهمه، فقيل له فيه ، فقال: ما يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ؟ فقال: إنما سألتك لتخبرني !
فقال: هما يومان ذكرهما الله جلّ وعزّ، الله أعلم بهما، وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم ) .
ومن فوائد هذه الآثار :
1 ـ إن إعلان العالم عدم علمه بمسألة من مسائل العلم ليس منقصة في حقه ، بل هو رفعة له ، تدل على كماله في علمه .
2 ـ كما أن إعلان العالم عن جهله بهذه المسألة فيه تدريب عملي لطلابه بأن لا يفتوا بما لا يعلمون ، وأن يقفوا عند ما يعلمونه ولا يتعدونه ، وقد طبق ذلك في السؤال الذي الذي سأله عنه الرجل عن يوم كان مقداره ألف سنة ، وقد صرح له بسبب عدم جوابه ( وأكره أن أقول في كتاب الله بما لا أعلم ) .
سادسًا : سماحته مع طلابه ، وكرم نفسه معهم
قال الطبري : حدثنا أبو كُرَيب، قال: ثنا أبو أسامة، قال: ثنا شعبة، عن عبد الملك بن ميسرة عن طاوس، في قوله:( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال: سئل عنها ابن عباس، فقال ابن جبير: هم قربى آل محمد، فقال ابن عباس: عجلت، إن رسول الله صَلَّى الله عَلَيْهِ وَسَلَّم لم يكن بطن من بطون قريش إلا وله فيهم قرابة، قال: فنزلت( قُلْ لا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْرًا إِلا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى ) قال:"إلا القرابة التي بيني وبينكم أن تصلوها" ) .
ومن فوائد هذا الأثر :
1 ـ كريم خلقه رضي الله عنه ، إذ لم يعتب على تقدم تلميذه عليه في الجواب .
وأما سماحته وكرم نفسه فقد شهد له بذلك فئام ممن رآه ، ومن ذلك ما وقع معه من مخالفة تلاميذه له في الكتابة عنه ، ففي المدخل للبيهقي : عن طاوس ، قال : ( كنا عند ابن عباس قال : وكان سعيد بن جبير يكتب قال : فقيل لابن عباس : إنهم يكتبون قال : أتكتبون ؟ ثم قام ، قال : وكان حسن الخلق ولولا حسن خلقه لغير بأشد من القيام ) .
2 ـ حسن لفظه في بيان خطأ تلميذه ، فلم يقل له : ( أخطأت ) ، بل قال : ( عجلت ) ، وهي ألطف وأحسن من الأولى ، ويعجبني في مثل هذا المقام ما كان يقوله بعض أساتذتنا ـ إذا كان الجواب خطأ ـ : ( كلامك صحيح ، وجوابك خطأ ) ففي ذلك تلطيف وتخفيف على الطالب .
3 ـ إن تقدُّم الطالب على شيخه في الجواب لا يلزم أن يكون من سوء خلق الطالب البتة ، بل الحال يختلف من وقت إلى وقت ومن تلميذ إلى تلميذ إلى غير ذلك ، وليس المقصود أنه يجوز مثل هذا الحال مطلقًا ، لكن المقصود أن مثل هذا لا يلزم أن يكون سوء أدب مع الشيخ .
والمقصود أن الأحوال تختلف ، ولو حدث هذا عند بعض العلماء لعده بعضهم سوء أدب والأمر ليس كذلك ، ولكل شيخ طريقة .
سابعًا : مراعاة أحوال السائلين
قال الطبري : حدثنا ابن حُمَيد، قال: ثنا يعقوب بن عبد الله بن سعد القُمي الأشعري، عن جعفر بن أبي المُغيرة الخزاعي، عن سعيد بن جبَير، قال: قال رجل لابن عباس( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) ... الآية، فقال ابن عباس: ما يؤمنك أن أخبرك بها فتكفر.
ومراده بالكفر : التكذيب ، كما شرح ذلك في الرواية الأخرى ، قال الطبري حدثنا عمرو بن عليّ، قال: ثنا وكيع، قال: ثنا الأعمش، عن إبراهيم بن مهاجر، عن مجاهد، عن ابن عباس، في قوله:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) قال: لو حدثتكم بتفسيرها لكفرتم وكفركم تكذيبكم بها.
وقد فسرها في رواية أخرى عنه ، قال الطبري : : حدثني عمرو بن عليّ ومحمد بن المثنى، قالا ثنا محمد بن جعفر، قال: ثنا شعبة، عن عمرو بن مرّة، عن أَبي الضحى، عن ابن عباس، قال في هذه الآية:( اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ وَمِنَ الأرْضِ مِثْلَهُنَّ ) قال عمرو: قال: ( في كل أرض مثل إبراهيم ونحو ما على الأرض من الخلق. وقال ابن المثنى: في كلّ سماء إبراهيم ) .
وإذا تاملت إلى غرابة هذا التفسير ؛ بان لك خوف ابن عباس من تكذيب السائل .
وفي هذا فائدة عزيزة ، وهي أنه لا يلزم أن تلقي كل العلم لكل سائل ، فيعض السائلين قد لا يتحمل المعنى الذي تقوله فيكون له فتنة ، وهذا المنهج ظاهر في آثار السلف ، ومن ذلك مارواه البخاري عن علي بن أبي طالب قال : ( حَدِّثُوا النَّاسَ بِمَا يَعْرِفُونَ ، أَتُحِبُّونَ أَنْ يُكَذَّبَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ ) .
ثامنًا : طلب السؤال من الطلاب :
روى البخاري بسنده عن سعيد بن جبير قال : ( إنا لعند ابن عباس في بيته ؛ إذ قال : سلوني .
قلت : أي أبا عباس ـ جعلني الله فداءك ـ بالكوفة رجل قاص يقال له نوف يزعم أنه ليس بموسى بني إسرائيل ... فقال لي قد كذب عدو الله ، ثم ذكر خبر موسى مع الخضر ) .
من فوائد هذا الأثر :
1 ـ حرصالشيخ على وقته مع طلابه الذين يستفيدون منه ، بحيث يشغل وقتهم بالعلم ، بخلاف ما مرَّ من منهجه مع عامة الناس .
2 ـ إن السؤال من مذاكرة العلم ، ومما يُظهر علمًا مكنزنًا عند الشيخ ، لذا يحسن بالشيخ أن لا يضجر من أسئلة الطلاب العلمية ؛ إذ كم من سؤال فتح بابًا من العلم على كثير من العلماء .
تاسعًا : توقفه عن التعليم بسبب عارض العمى .
وعن عكرمة، قال: كان ابن عباس في العلم بحرا ينشق له الأمر من الامور، وكان النبي صلى الله عليه وسلم قال: " اللهم ألهمه الحكمة وعلمه التأويل " فلما عمي، أتاه الناس من أهل الطائف ومعهم علم وعلمه - أو قال كتب من كتبه - فجعلوا يستقرؤونه، وجعل يقدم ويؤخر، فلما رأى ذلك، قال: إني قد تهلت من مصيبتي هذه، فمن كان عنده علم من علمي، فليقرأ علي، فإن إقراري له كقراءتي عليه.
قال فقرؤوا عليه.
تلهت: تحيرت، والاصل ولهت كما قيل في وجاه تجاه ..
ولعل هذا يفسر سبب كراهيته للكتابة في الرواية التي ذكرها البيهقي في المدخل إلى السنن الكبرى قال: عن طاوس ، قال : ( كنا عند ابن عباس قال : وكان سعيد بن جبير يكتب قال : فقيل لابن عباس : إنهم يكتبون قال : أتكتبون ؟ ثم قام ، قال : وكان حسن الخلق ولولا حسن خلقه لغير بأشد من القيام ) .
وهذا يدل على تورعه رضي الله عنه ، وحرصه على أن لا يلقي ما لم يتيقن منه ، فالعلم دين .
عاشرًا : حرصه على تعليم الناس
وأخرج الزبير بسند له أن ابن عباس كان يغشى الناس في رمضان وهو أمير البصرة فما ينقضي الشهر حتى يفقههم.وهذا لا ينافي ما سبق من بيان منهجه ؛ لأن اختياره لهذا الشهر يدل على حسن اختياره ؛ لأن الناس يكونون مقبلين على العلم ، فضلاً عن أن الناس يفرحون بغشيان أمرائهم لمجالسهم ، كيف إذا كان الأمير عالمًا أيضًا .
وبعد ، فهذه وقفات من سيرة ابن عباس العلمية ، أسأل الله أن ينفعني وإياكم بها .