الحلقة الرابعة من (المهمات في علوم القرآن) لفضيلة الشيخ / خالد السبت ـ حفظه الله ـ

إنضم
03/04/2003
المشاركات
34
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم[/align]
الحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه .. أما بعد :
الموضوع الثالث من هذه المهمات: هو:
[color=0033CC][align=center]أسباب النزول [/align][/color]
فما المراد بسبب النزول ؟
نقول: هو ما نزلت الآية أو الآيات متحدثة عنه أو مبينة لحكمه أيام وقوعه سواء كان حادثة أو سؤال .
وقولنا:( أيام وقوعه ) يخرج نحو قوله تعالى: (أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ) (الفيل:1) فهي تتحدث عن قصة؛ لكن هل يقال سبب نزول سورة الفيل هو قدوم أبرهة؟ الجواب : لا .
وكذلك الآيات التي تحدثت عن فلق البحر لموسى صلى الله عليه وسلم هل نقول: سبب النزول: فلق الله البحر لموسى ؟ الجواب : لا.
فقولنا:( أيام وقوعه ) يعني أن تكون القضية جديدة عايشها الصحابة فيتحدث القرآن عنها، وليست قضية غابرة قديمة قصها القرآن علينا فإن هذا من قصص القرآن ومن أخبار القرآن .
ومعلوم أن القرآن منه ما ينزل ابتداء وهو الغالب، ومنه ما ينزل بسبب واقعة أو سؤال، كأن يوجه للنبي صلى الله عليه وسلم سؤال فتنزل آية أو آيات معينة في الجواب عنه، وإذا عرفت هذا حصل لك التوسط بين من بالغ وأراد أن يبحث لكل آية عن سبب نزول، حتى صار يتكلف في أشياء لم يرد فيها رواية أصلاً ويقول: سبب نزول هذه الآية كذا، وبين من لم يلتفت إلى هذا أصلاً؛ كأبي عبيدة معمر بن المثنى المعتزلي صاحب مجاز القرآن،فإنه يأتي فيفسر قوله تعالى : (إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعَاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَيُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطَانِ وَلِيَرْبِطَ عَلَى قُلُوبِكُمْ وَيُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدَامَ) (لأنفال:11) فيقول: يربط على القلوب فتثبت الأقدام في المعركة فلا تفر. فهذا الكلام غير صحيح؛ فكان من المفترض أن ينظر في سبب النزول قبل أن يفسر هذا التفسير اللغوي، لأن سبب النزول يدل على أن الصحابة كانوا على أرض دهسة تسوخ فيها الأقدام، فأنزل الله عز وجل عليها المطر، فتلبدت فثبتت الأقدام عليها، فمن عرف سبب النزول، والواقعة و الملابسات؛ عرف معنى الآية، وسيأتي ذلك في فوائد معرفة أسباب النزول.
ولهذا نقول إن معرفة هذا الباب ـ أسباب النزول ـ أمر ضروري لمن أراد أن يفهم القرآن، فهو من الشروط الأساسية لذلك، مع أننا نقول بأن أسباب النزول ليست على وتيرة واحدة من الأهمية من حيث انكشاف المعنى الذي يترتب على معرفتها، فأحياناً حتى لو لم نعرف السبب يكون المعنى واضحاً، وأحيانا لا نفهم الآية إلا بسبب النزول، فهو على خمس مراتب من حيث الأهمية كما سيأتي ذكرها بإذن الله.

الفوائد من معرفة سبب النزول:
1/ معرفة الحكمة التي من أجلها شُرِع هذا الحكم، فمثلا قوله عز وجل: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً ذَلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَأَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ) (المجادلة:12) قد يتساءل الإنسان فيقول ما الحكمة من هذه الصدقة ؟! فإذا عرف سبب النزول؛ وهو أنهم أكثروا على النبي صلى الله عليه وسلم من النجوى، فكثر ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وشق عليه، وكان النبي صلى الله عليه وسلم يستحي أن يردهم فنزلت هذه الآية: ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نَاجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْوَاكُمْ صَدَقَةً )(المجادلة: من الآية12) فهذا فيه نفع للفقراء، وفيه تزكية للإنسان حين يتصدق، وفيه أيضاً الأصل من شرع الحكم والحكمة منه؛ وهو التخفيف على الرسول عليه الصلاة والسلام، فلما شرع هذا الحكم توقفوا عن النجوى، فاستراح النبي عليه الصلاة والسلام.
2/ ذكر بعضهم فائدة أخرى، ولا حاجة بنا إليها على قول الجمهور وهي: تخصيص الحكم به عند من يرى العبرة بخصوص السبب، والواقع أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب، وبالتالي لا حاجة بنا إلى هذه الفائدة، إنما يحتاج إليها من يقول بأن العبرة بخصوص السبب .
3/ أن اللفظ قد يكون عاماً، وقد يأتي دليل مخصص يخرج بعض الأفراد، فتبقى صورة السبب قطعيةَ الدخولِ في العام، ولا يجوز إخراجها منه بالاجتهاد.
4/ الوقوف على المعنى وإزالة الإشكال؛ لأنه في كثير من الأحيان لا يمكن الوقوف على المعنى إلا بمعرفة سبب النزول، ولهذا قال شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله : إن معرفة سبب النزول يعين على فهم الآية فإن العلم بالسبب يورث العلم بالمسبب، ومن أمثلة ذلك:
قول الله عز وجل: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93) فقدامة بن مظعون رضي الله عنه شرب الخمر، وكان مِمَن شهد بدراً، فجيء به في عهد عمر رضي الله عنه من البحرين، فقيل له: لماذا شربت الخمر ؟ فقال: الله يقول : ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ...) (المائدة:93) وقال: أنا آمنت، وهاجرت، وشهدت بدراً مع النبي صلى الله عليه وسلم، فبين له عمر أن هذا ليس هو المقصود من الآية، وبين له سبب نزولها،وهو أن بعض الصحابة ـ رضي الله عنهم ـ خرجوا إلى أحد وقد شربوا من الخمر ما شربوا، ومنهم حمزة رضي الله عنه وذلك قبل تحريم الخمر، فقتلوا والخمر في أجوافهم، فلما حرمت الخمر؛ استشكل الصحابة ذلك فقالوا: كيف بإخواننا الذين قتلوا وهي في أجوافهم؟ فأنزل الله عز وجل: ( لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ جُنَاحٌ فِيمَا طَعِمُوا إِذَا مَا اتَّقَوْا وَآمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَآمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَأَحْسَنُوا وَاللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ) (المائدة:93) أي : قبل تحريم الخمر، وبهذا يتبين كيف يكون سبب النزول في غاية الأهمية.
مثال آخر: الله عز وجل يقول : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية115) لو جاء إنسان وأخذها على ظاهرها، لقال: إن الصلاة لا يشترط لها الاتجاه إلى القبلة، وما يذكره الفقهاء من اشتراط ذلك فإن الآية تدل على خلافه، فمعرفة سبب النزول تزيل هذا الإشكال، وذلك أن قوماً اجتهدوا في السفر فصلى كل رجل حسب اجتهاده، ووضعوا خطوطاً في ليلة غائمة، فلما أصبحوا وجدوا أن بعضهم صلى إلى غير القبلة فأنزل الله : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية115)
وأيضاً: صح أن اليهود لما حولت القبلة من بيت المقدس احتجوا ، وقال المؤمنون كيف بصلاتنا السابقة إلى بيت المقدس؟ فقال الله عز وجل : ( فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ)(البقرة: من الآية115) وليس معناه أن تتجه حيث شئت.
وهكذا عروة بن الزبير حينما جاء إلى عائشة رضي الله عنها يقول: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) يعني أن السعي بين الصفا والمروة في الحج والعمرة على التخيير،لقوله :( فلا جناح عليه ) أي : لا حرج عليه، فلا يجب السعي عليه،هكذا فهم، فردت عليه عائشة رضي الله عنها، وبينت سبب النزول وهو: أن الأنصار رضي الله عنهم ـ الأوس والخزرج ـ كانوا يتحرجون من السعي بين الصفا والمروة لأنه كان عليها صنمان ( إساف ونائلة ) فكانوا يطوفون في الجاهلين تقرباً إليهما، فلما أسلموا تحرجوا من السعي؛ شخية أن يكون ذلك من أعمال الجاهلية؛ فقال الله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا وَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شَاكِرٌ عَلِيمٌ) (البقرة:158) لا حرج عليه أن يسعى بين الصفا والمروة، فزال الإشكال بمعرفة سبب النزول .. وهكذا في أمثلة أخرى ..
5/ دفع توهم الحصر: فمثلاً في قول الله عز وجل: ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ)(الأنعام: من الآية145) فذكر ثلاثة أشياء ولم يذكر باقي الأشياء المحرمة، كالأشياء الضارة، ولحوم الحمر الأهلية، وكل ذي ناب من السباع، وكل ذي مخلب من الطير، مع أن الآية ظاهرها الحصر؟ فمن عرف السبب الذي نزلت الآية فيه انحل عنه الإشكال، وذلك أن المشركين في مكة كانوا يحللون أشياء ويحرمون أشياء كما قال تعالى: ( وَقَالُوا هَذِهِ أَنْعَامٌ وَحَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُهَا إِلَّا مَنْ نَشَاءُ بِزَعْمِهِمْ وَأَنْعَامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَأَنْعَامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِرَاءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِمَا كَانُوا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:138) وقوله: ( وَقَالُوا مَا فِي بُطُونِ هَذِهِ الْأَنْعَامِ خَالِصَةٌ لِذُكُورِنَا وَمُحَرَّمٌ عَلَى أَزْوَاجِنَا)(الأنعام: من الآية139) فرد الله عليهم أبلغ الرد ، كأنه قال لهم الحلال ما حرمتم والحرام ما أحللتم، على سبيل المبالغة في الرد ( قُلْ لا أَجِدُ فِي مَا أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلَى طَاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنْزِيرٍ)(الأنعام: من الآية145)لا هذه السفسطة التي تحللون بها وتحرمون من عند أنفسكم.
6/ معرفة المبهم أو اسم من نزلت فيه الآية؛ وهذا قليل الفائدة والجدوى إلا في بعض الحالات القليلة، ومن هذه الحالات القليلة أن مروان بن الحكم حينما كان يخطب على منبر النبي صلى الله عليه وسلم وذكر عهد معاوية إلى ابنه يزيد بالخلافة، وقال سنة أبي بكر وعمر فقال له عبد الرحمن بن أبي بكر الصديق رضي الله عنه : سنة هرقل وقيصر تجعلونها لأبنائكم. فقال مروان للحرس: خذوه، فدخل في بيت عائشة وهي أخته ، فقال مروان على المنبر: هذا الذي أنزل الله فيه: ( وَالَّذِي قَالَ لِوَالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُمَا أَتَعِدَانِنِي أَنْ أُخْرَجَ )(الاحقاف: من الآية17) فقالت عائشة من وراء الحجاب: "والله ما نزلت فينا وما نزل فينا شيء من القرآن غير عذري ـ يعني في قصة الإفك في براءتها رضي الله عنها ـ ولو شئت أن أسمي من نزلت فيه لسميته، فمعرفة من نزلت فيه الآية هنا مفيد لدفع تلك التهمة.
مراتب أسباب النزول من حيث الأهمية :
بقي أن أقول بأن معرفة هذه الفوائد ليس على وزان واحد من حيث الأهمية، فبعض هذه المعرفة أهم من بعض، وإليك بيان ذلك :
القسم الأول : أن يتوقف المعنى على معرفة سبب النزول, ولا تفهم الآية حتى تعرف السبب، وفي هذه الحال يكون معرفة سبب النزول في غاية الأهمية لأن التفسير يتوقف عليه، وهذا له أمثلة متعددة منها :-
أن الله عز وجل قال : ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(النور: من الآية33)والبغاء معروف: مصدر باغت الجارية بغاء فهي بغي، يعني: إذا زنت بأجرة، فهذه الآية لو بقينا مع ظاهرها ( وَلا تُكْرِهُوا فَتَيَاتِكُمْ عَلَى الْبِغَاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً )(النور: من الآية33) فمفهوم المخالفة أنها إذا لم ترد التحصن فلا مانع من إكراهها، وإنما الممنوع من إكراهها ـ في ظاهر الآية ـ هي الجارية الشريفة, وهل هذا هو المعنى ؟!
الجواب : لا .. وإذا عرفت سبب النزول اتضح لك وجه هذا الشرط في الآية (إن أردن تحصناً) وهو أن عبد الله بن أبي بن سلول رئيس المنافقين كان له جاريتان، فأسلمتا، فكان يكرههن على البغاء، ويضربهن من أجل أن يتكسب بهذا العمل الشنيع ـ قبحه الله ـ فالله عز وجل أنزل هذه الآية بهذا السبب ، ليعالج واقعة حاصلة من بعض الناس وإن كان المعنى أعم من ذلك، فالمرأة لا يجوز لها أن تفعل هذا الفعل، ولا يجوز لوليها أو لسيدها أن يسمح لها بذلك سواء كانت تريد التحصن أو لا تريده، وإنما قال (إن أردن تحصناً) لأن هذا يتناسب مع الواقعة التي نزل القرآن ليعالجها فسبب النزول يبين المعنى هنا.
خذ مثالاً آخر: الله عز وجل يقول في سورة البقرة ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ)(البقرة: من الآية189) فهذا التوجيه الرباني، قد لا يفهم الإنسان المراد منه إلا إذا عرف سبب النزول وهو: أن بعض أحياء العرب كان الواحد منهم إذا أحرم بالحج أو العمرة، يرى ديانة أن من محظورات الإحرام أنه لا يدخل بيتاً من بابه، وما كانوا يستظلون أصلا بسقف، فإن عرضت له حاجة ، فإنه يتسور من وراء الجدار حتى يأخذ حاجته، فالله عز وجل يقول: هذا ليس هو البر الذي يتقرب به إلى الله عز وجل؛ من كونكم تتسورون البيوت من ظهورها ولا تدخلون مع الأبواب تقرباً إلى الله عز وجل، فالله لا يتقرب إليه بهذا وإنما البر التقوى ( وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقَى وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(البقرة: من الآية189) فالذي يقرأ الآية قد لا يفهم المعنى إلا إذا عرف سبب النزول، وهكذا ما ذكرنا سابقاً في قوله تعالى: ( إِنَّ الصَّفَا وَالْمَرْوَةَ مِنْ شَعَائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُنَاحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِمَا )(البقرة: من الآية158) حيث قد يفهم من ظاهر الآية عدم وجوب السعي كما فهم عروة بن الزبير فبينت له عائشة ـ رضي الله عنها ـ سبب نزول الآية، فهذا هو القسم الأول وهو ما يتوقف عليه فهم الآية.
القسم الثاني: وهو ما لا أثر له في فهم المعنى كما لو وقعت حادثة فسبَّبَ ذلك تشريعات قررها الله عز وجل في كتابه واضحة بينة ، والوقوف على سبب النزول سبب النزول لا يؤثر في الحكم شيئا، ولا يزيدك وضوحاً على ما في كتاب الله عز وجل، فلو لم نعرف سبب النزول لم يقع لنا أي إشكال ، وإنما يكون ذلك من باب زيادة العلم فقط، مثاله: نزول آية اللعان في قصة هلال بن أمية ، وعويمر العجلاني، وهي: قوله : ( وَالَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْوَاجَهُمْ وَلَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَدَاءُ إِلَّا أَنْفُسُهُمْ فَشَهَادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ شَهَادَاتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ .. . الآيات من سورة النور:6) فلو وقفنا مع ظاهر الآيات فقط ، ولو نعرف سبب النزول فهل يقع إشكال في المعنى؟
الجواب : لا، فسبب النزول إذا عرفته يكون من باب زيادة العلم، لكن المعنى لا يتوقف عليه ولا يحصل لك إشكال في المعنى بسبب جهلك بمعرفة سبب النزول فهذا النوع معرفته ليست ضرورية .
ومن أمثلته أن كعب بن عجرة ـ رضي الله عنه ـ لما كان القمل يتساقط على وجهه من كثرته وكان محرماً مع النبي صلى الله عليه وسلم فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم ما به، نزلت فيه هذه الآيات ( فَمَنْ كَانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ)(البقرة: من الآية196) يقول كعب بن عجرة رضي الله عنه : هي لي خاصة ولكم عامة
فلو لم نعرف قصة كعب بن عجرة رضي الله عنه، فسنفسر الآية: بأنها تصدق على كل من كان به أذىً من رأسه، ولو لم نعرف سبب النزول، فهذا النوع إذاً ليس من الضروري أن يعرفه المفسر أو طالب العلم لكنه يفيد في الجملة: بيان رحمة الله عز وجل، وتوسعته على المكلفين وما شابه ذلك ، وأمثلة ذلك كثيرة منها: ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه في قوله تعالى: ( إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً... الآية) (آل عمران: من الآية77) عن ابن مسعود رضي الله عنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: " من حلف على يمين صبر يقتطع بها مال امرأ مسلم لقي الله وهو عليه غضبان" .. فأنزل الله تصديق ذلك : (إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَأَيْمَانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً )(آل عمران: من الآية77)، فدخل الأشعث بن قيس رضي الله عنه وابن مسعود قد حدث أصحابه بهذا الحديث فقال : ما حدثكم أبو عبد الرحمن ؟! فقالوا : كذا وكذا. قال : فيَّ أنزلت. كان لي بئر في أرض ابن عم لي .. إلى آخر ما ذكر .. فابن مسعود رضي الله عنه حملها على العموم ( إن الذين يشترون ..) والنبي صلى الله عليه وسلم يقول :( من حلف
على يمين صبر يقتطع بها مال امرئ مسلم ) فالحديث مطابق للآية، وكون الأشعث بن قيس رضي الله عنه وقعت له قصة مع ابن عمه فحلف ذاك فنزلت الآية .. الخ .. ، هذا لا يؤثر في معرفة المعنى ولا يغير من الحكم شيئاً لا بتخصيص ولا بتقييد ولا برفع إشكال بوجه من الوجوه.

القسم ثالث: وهو ما يذكره السلف ويعبرون عنه بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، ولا يقصدون به سبب النزول في الغالب، بل يعنون أنها: نزلت في هذا المعنى وأن هذا مما يدخل في عموم الآية وإن لم تكن نزلت فيه، وسيأتي الكلام عليه عند الكلام على صيغة سبب النزول.
مثاله: أن ابن عمر رضي الله عنه مر بالسوق ـ سوق المدينة ـ فأذن المؤذن فرأى الناس يغلقون حوانيتهم فقال: في هؤلاء نزلت ( رِجَالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ )(النور: من الآية37) ومعلوم أن الآية نازلة قبل ذلك بزمن طويل، ولم تنزل في هؤلاء، فالمقصود أنهم مما يدخل في عمومها. فالسلف كثيراً ما يعبرون بهذا التعبير، يقولون: نزلت هذه الآية في كذا .. ولا يقصدون سبب النزول، ومثل هذا أيضاً لا يتوقف عليه فهم المعنى ولا يرتفع به الإشكال .
ومن أمثلته أيضاً: ما أخرجه البخاري في صحيحه في الرواية التي ذكر فيها نزاع الزبير بن العوام رضي الله تعالى عنه مع الرجل الأنصاري في شراج الحرة -مسيل الماء- فكان يأتي الماء (السيل المطر) من هذا المسيل إلى مزرعة الزبير بن العوام أولاً، ومزرعة الأنصاري خلفه، فالأنصاري يريد أن الماء يمر على مزرعة الزبير ثم لا يحبسه حابس ، فينطلق مباشرة إلى مزرعته، فالنبي صلى الله عليه وسلم أرشد الزبير إلى أن يسقي ثم يرسل الماء إلى جاره فقال له:" اسق -لا ضرر ولا ضرار- ثم أرسل الماء إلى جارك" فغضب الأنصاري وقال : أنْ كان ابن عمتك يا رسول الله. يعني (أنك حابيته) مع أن النبي صلى الله عليه وسلم رفق بالأنصاري، و إلا فمن حق الزبير أن يحبس الماء حتى يكتفي تماماً، فغضب النبي صلى الله عليه وسلم وقال للزبير : (اسق يا زبير حتى يبلغ الماء الجدر ) أي: أن هذا من حقك، لكن ما ذكره للزبير أولاً كان رفقاً بالأنصاري فلما أساء الأدب، ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الحق الثابت للزبير، فماذا حصل؟ يقول: فما أحسب هذه الآية إلا نزلت في ذلك ( فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيماً) (النساء:65) نزلت في ذلك يعني هذا مما يدخل في معناها وليس هذا هو سبب النزول .
القسم الرابع : وهو مما يحتاج إليه وإن كان المعنى لا يتوقف عليه تماماً فهو دون الأول، لكن يبقى بعض الغموض وبعض الإشكال، فإذا عرف سبب النزول انجلى هذا الإشكال، فهذا مما نحتاج إلى معرفته .
مثاله :- قول الله عز وجل: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )(البقرة: من الآية223) فقد يفهم منها البعض معنى لم يرده الله عز وجل، ويحتج بها على فعل لا يجوز، والمقصود واضح، فالله عز وجل يقول: ( فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ ) لكن إذا عرفت سبب النزول، انتفى ذلك الفهم؛ وذلك أن اليهود كانوا يقولون: إذا أتى امرأته مدبرة _ في موضع الولد _ جاء الولد أحول، فكذبهم الله عز وجل فقال: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ )(البقرة: من الآية223)يعني كل ذلك في محل الحرث، وأما غيره فلا يجوز؛ فهذا يزول به الإشكال لكن لا يتوقف عليه فهم المعنى.
كيف نعرف سبب النزول :
إذا نظرت في بعض كتب التفسير تجد مبالغة في هذا الباب، فبعض المفسرين يذكرون أشياء في أسباب النزول من غير اعتماد على روايات أصلاً، فيقولون سبب نزول الآية كذا وكذا، ولا يُدرى من أين جاءوا بها، وقد رأيت ابن عاشور في أول تفسيره ينعي على بعض المفسرين هذا الصنيع . .فما هي الطريقة الصحيحة لمعرفة أسباب النزول؟
الجواب : أنه لا يمكن أن نعرف سبب النزول إلا بشيء واحد فقط وهو النقل عمن شاهدوا التنزيل وهم الصحابة،فهم الذين يبينون لنا ذلك، فإذا نقل لنا من بعدهم رواية ـ مثل التابعين ـ فهل يكون ذلك مقبولاً ؟! الجواب : أن هذا يكون من قبيل المرسل، وهو نوع من أنواع الضعيف؛ لأن الواسطة غير معلومة فقد يكون روى عن صحابي وقد يكون روى عن تابعي آخر.

هل سبب النزول له حكم الرفع ؟
الجواب أن يقال:
ينظر إلى الصيغة فإن كانت صريحة حكمنا له بالرفع ـ وسيأتي بيان المراد بالصيغة الصريحة بعد قليل ـ إن شاء الله ـ ، وما جاء بصيغة غير صريحة فليس له حكم الرفع؛ على خلاف في هذا النوع، فبعضهم يجعله في قسم المرفوع أيضاً، وبعضهم لا يجعله.

صيغة سبب النزول :-
الصيغ التي ترد فيها أسباب النزول على قسمين :
الأول : قسم صريح وهو أن يذكر الراوي _ الصحابي مثلاً _ قصة أو واقعة أو سؤالاً أو حادثة أو نحو ذلك ثم يقول: فأنزل الله كذا وكذا، أو يقول: فنزلت هذه الآية، أو يقول سبب نزول الآية كذا وكذا، فهذا يكون من قبيل الصريح وله حكم الرفع إلى النبي صلى الله عليه وسلم، لأنه لا يحتمل أن يكون من قبيل التفسير من الصحابي حتى نحكم له بالوقف.
الثاني: غير الصريح وهو: ما يعبرون عنه بقولهم: نزلت هذه الآية في كذا، يعنى أن هذا مما يدخل في عمومها ومعناها؛ فهذا النوع ليس له حكم الرفع.
مثال ذلك : ما أخرجه البخاري من حديث حذيفة بن اليمان رضي الله عنه في قوله تعالى: ( وَلا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ )(البقرة: من الآية195) قال : نزلت في النفقة. " فهذا غير صريح، فقوله:" نزلت في النفقة " يعني أن مما يدخل في معناها النفقة.
مثال آخر: ما أخرجه البخاري أيضاً من حديث نافع عن ابن عمر رضي الله تعالى عنهما: أنه كان إذا قرأ القرآن لم يتكلم حتى يفرغ منه. يقول: فأخذت عليه يوماً فقرأ سورة البقرة حتى انتهى إلى مكان؛ قال: تدري فيم أنزلت ؟ قلت : لا ، قال : أنزلت في كذا وكذا، ثم مضى . يعني أنه مما يدخل في معناها.
وهنا تنبيه لابد منه: وهو أن بعض الروايات التي نقول إنها وردت بصيغة صريحة؛ قد نجدها إذا استقرأنا الروايات أحياناً في بعض المواضع غير صريحة، بل أحيناً قد تأتي في أول الرواية بصيغة صريحة، وفي آخرها بصيغة غير صريحة أو العكس، فيقال: إن التقسيم السابق بناء على الغالب، أي: أن الغالب أنه إذا قال الراوي سبب نزول هذه الآية كذا، أو ذكر الحادثة ثم قال: فنزلت هذه الآية فإنه قصد بذلك سبب النزول، وليس مقصوده التفسير، لكن هذا باعتبار الغالب وقد يكون الأمر على خلافه، ونحن نعرف أن كل قاعدة لها شواذ، فالقواعد أغلبية، هذا غاية ما يقال في هذا الأمر .
ومن الأمثلة على ما ورد في رواية بصيغة صريحة، وجاء في موضع آخر بصيغة غير صريحة؛ أثر ابن عمر السابق الذي قال فيه: نزلت في كذا وكذا، وهو يقصد قوله تعالى: ( نِسَاؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ)(البقرة: من الآية223) فهذا الأثر جاء عنه في موضع آخر بصيغة صريحة.
وقد يأتي الأمران في نفس الرواية،ومثاله: ما أخرجه البخاري في صحيحه عن البراء رضي الله عنه في قوله تبارك وتعالى : ( وَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوَابِهَا)(البقرة: من الآية 189 ) قال : نزلت هذه الآية فينا، فهذا غير صريح، لو بقينا معه لقلنا هذا من قبيل التفسير، وليس من قبيل سبب النزول، ثم قال : كانت الأنصار إذا حجوا فجاؤا لم يدخلوا من قِبَل أبواب بيوتهم ولكن من ظهورها، فجاء رجل من الأنصار فدخل من قِبَل بابه فكأنه عُيِّر بذلك فنزلت: ( وَلَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِهَا)(البقرة: من الآية189)فقوله: " فنزلت " بعد الواقعة هو من قبيل الصريح، فهنا في نفس الرواية نجد في أولها صيغة غير صريحة وفي آخرها صيغة صريحة .
ومن أمثلة الصريح فقط: ما أخرجه البخاري من حديث البراء رضي الله عنه قال: لما نزل صوم رمضان كانوا لا يقربون النساء رمضان كله، وكان رجال يخونون أنفسهم، فأنزل الله: (عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتَانُونَ أَنْفُسَكُمْ )(البقرة: من الآية187)" فقوله: فأنزل الله. هذا من قبيل الصريح.

أقسام نزول القرآن من جهة الاقتران بين النازل وحكمه أو عدمه :
( يقصد بالحكم هنا ما تتحدث عنه الآية، سواء كان حكما تكليفياً أو غير ذلك)
القسم الأول : ما نزل مع تشريع الحكم، وهذا كثير، مثل: تحريم الخمر ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة:90) لما نزلت هذه الآية نزل معها مباشرة تحريم الخمر، فالآية كانت تحمل هذا الحكم الشرعي.
ومثله أيضاً: فرض الصيام: ( شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ )(البقرة: من الآية185) وقوله تبارك وتعالى: ( كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ ) (البقرة: من الآية183) فكان فرض الصوم عند نزول هذه الآيات.

القسم الثاني: ما نزل قبل تقرير الحكم : وهذا له أمثلة ـ وإن كان بعض هذه الأمثلة يحتاج إلى مناقشة، ونحن في الأمثلة نوسع المجال من أجل أن يتضح المعنى فقط؛ فهي على كل حال على قول بعض العلماء، فمن ذلك: قول الله عز وجل : ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ* وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) ( البلد : 1، 2 ) فللآية أكثر من معنى عند المفسرين لكن المعنى المشهور ( لا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد:1) يعني : مكة، (وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) (البلد:2) أي : مكة.
وقوله ( حِل ) الحِل ضد الحرمة، أي : أنك حلال . فهذه الآية من سورة البلد، نزلت والنبي صلى الله عليه وسلم مستضعف في مكة، فالآية تشير إلى قول النبي صلى الله عليه وسلم في أواخر حياته في عام الفتح: " أحلت لي ساعة من نهار" مع أن سورة البلد مكية، فالآية نازلة قبل الحكم المشار إليه.
وكذلك نزل بمكة قوله تعالى : ( سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45) فعمر رضي الله عنه يقول : فقلت: أي جمع ؟ فلما كان يوم بدر وانهزمت قريش، نظرت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم في آثارهم مصلتاً بالسيف ، ويقول: (سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَيُوَلُّونَ الدُّبُرَ) (القمر:45) فكانت ليوم بدر .
ومن أمثلته الأخرى: قول الله عز وجل: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) ( الأعلى :14 ، 15 ) فهذه السورة مكية قطعاً ، وقوله: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى:14) المعنى الأقرب ، تزكى : يعني زكى نفسه بالإيمان والتقوى وطاعة الله عز وجل ومتابعة الرسول صلى الله عليه وسلم ( وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:15) أي: وذكر اسم ربه وصلى الصلوات المفروضة، وغير المفروضة فهذا الذي أفلح.
لكن هناك معنى آخر ذكره بعض أهل العلم، وكأن شيخ الإسلام بنى عليه بعض الاستنباطات في بعض المواضع، وإن كان هذا المعنى ــ فيما أظن ــ مرجوحاً لكن للفائدة أذكره، فقوله: ( قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى) (الأعلى:14)أي: أخرج زكاة الفطر ، )وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى) (الأعلى:15) إشارة إلى التكبير وهو خارج للصلاة ،(فصلى) صلاة العيد، مع أن ذلك لم يشرع في مكة، فقالوا: هذه الآية تشير إليه، مع أنه لم يشرع إلا في المدينة، وهذا قال به كثير من السلف، ولولا كثرة من قال به ما ذكرته ، وإن كان المعنى الراجح هو الأول، لكن هذا يوضح القضية التي ذكرتها.
وأوضح من هذا كله، قول الله عز وجل في سورة المزمل ( وَآخَرُونَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ) (المزمل: من الآية20) فهذه الآية نزلت في أول ما نزل، فأين الذين يقاتلون في سبيل الله، بل متى فرض الجهاد؟ لاشك أنه في المدينة. فهذه الآية تشير إلى أمر وقع بعد مدة طويلة.


القسم الثالث: ما نزل بعد تقرير الحكم:
ومن أمثلته: ما أخرجه البخاري رحمه الله في صحيحه من حديث عائشة رضي الله عنها قالت: ( خرجنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم في بعض أسفاره حتى إذا كنا بالبيداء أو بذات الجيش، انقطع عقد لي فأقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على التماسه ، وأقام الناس معه وليسوا على ماء -إلى أن قالت - فقام رسول الله صلى الله عليه وسلم حين أصبح على غير ماء فأنزل الله آية التيمم ( فتيمموا) الآية التي في المائدة ، إلى آخر الحديث، فهذه الآية ذكر فيها الوضوء ـ ( إذا قمتم إلى الصلاة ) ـ ونزلت متأخرة في سورة المائدة، وسورة المائدة من أواخر السور نزولاً، فهل كانوا يصلون دون وضوء طوال تلك المدة في مكة وفي المدينة ؟
الجواب : لا .. بل الوضوء فرض قبل ذلك بكثير، ولكنه لم يرد في القرآن فجاءت الآية التي تبين الوضوء وتشير إليه متأخرة بعد ذلك .
يقول ابن عبد البر رحمه الله: معلوم عند أهل المغازي أنه صلى الله عليه وسلم لم يصل منذ افترضت الصلاة عليه إلا بوضوء ولا يدفع ذلك إلا جاهل أو معاند، فأنزلها الله عز وجل ليكون حكمها متلواً مع كونه مفروضاً. والمقصود أن الآية نزلت بعد تقرير الحكم بمدة طويلة.
مثال أخر: الله عز وجل يقول : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسَعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ وَذَرُوا الْبَيْعَ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ) (الجمعة:9) فهذه السورة مدنية، وصلاة الجمعة فرضت بمكة، ولم يصلها النبي صلى الله عليه وسلم بمكة، لكنه أمر مصعب بن عمير رضي الله تعالى عنه فأقامها للناس في المدينة، ثم صلاها النبي صلى الله عليه وسلم بعدما هاجر، لكنه لم يستطع في مكة أن يصلي الجمعة؛ لأنه كان مستضعفاً فآية الجمعة نزلت في سورة مدنية؛ مع أن حكم الجمعة قد شرع وفرض قبل ذلك في مكة.


ما تكرر نزوله :
من الأدلة الظاهرة التي لا يكابر فيها أحد؛ أن القرآن كان ينزل على حرف واحد في مكة، وهو حرف قريش، واستمر على ذلك عشر سنين، ثم نزلت باقي الأحرف الستة في المدينة، وهذه الأحرف الستة، موجودة في ضمن الآيات المكية أ]ضاً، فمعنى ذلك أن جبريل عليه السلام صار ينزل مرة ثانية بالآية التي تقرأ بأكثر من وجه أو جاءت بحروف متنوعة، وهذا قطعاً لا يستطيع أحد أن يعترض عليه، وإن اعترض من اعترض على بعض الأمثلة الأخرى، فيقال: إن الآية قد تنزل مرة ثانية تأكيداً لمضمونها، أو ليبين لهم أن الحكم الذي أشكل عليهم، أو الذي هم بصدد اتخاذ موقف فيه في هذه القضية هو نفس حكم ما سبق في القضية الفلانية، أو مما نزل في الآية الفلانية، وهذا له أمثلة كثيرة جداً أذكر منها مثالين:
الأول: أن الله عز وجل يقول :(الم*غُلِبَتِ الرُّومُ) (الروم 1 :2) فقد صح عند الترمذي من حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه أنه قال: لما كان يوم بدر ظهرت الروم على فارس فأعجب ذلك المؤمنين فنزلت :( الم ) إلى قوله: ( وَيَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ)(الروم: من الآية4) ففرح المؤمنون بظهور الروم على فارس.
وهناك رواية أخرى أشهر من هذه الرواية وهي من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما، في قصة الرهان المشهورة التي وقعت بين أبي بكر الصديق رضي الله عنه وبين بعض المشركين؛ لما تغلبت الفرس على الروم والنبي صلى الله عليه وسلم في مكة قبل الهجرة، ففرح المشركون بذلك لأن الفرس من الوثنين، والروم من أهل الكتاب، فتفاءلوا بهذا وقالوا: نحن سنغلبكم كما غلب إخواننا من المشركين أهل الكتاب، فأنزل الله عز وجل :(الم*غُلِبَتِ الرُّومُ * فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَهُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ * فِي بِضْعِ سِنِينَ )(الروم: 1 – 4 ) فقالوا: تقول: في بضع سنين؟ فتراهنوا مع أبي بكر رضي الله عنه، فقالوا ننظر تصدقون أم لا تصدقون؟ فتراهن معهم أبو بكر في القصة المشهورة فحصلت هذه الغلبة في يوم بدر. فأنزل الله عز وجل الآيات مرة ثانية:(الم*غُلِبَتِ الرُّومُ) (الروم1 :2) نزلت مرتين ، مرة لما افتخر المشركون في مكة، ومرة لما تحقق الوعد بانتصار الروم على الفرس.
المثال الآخر: في قوله تبارك وتعالى: ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَمَا أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلاً)(الاسراء:85) أخرج الشيخان من حديث ابن مسعود رضي الله تعالى عنه قال:( كنت أمشي مع النبي صلى الله عليه وسلم في حرث في المدينة ـ في مزرعة ـ وهو يتوكأ على عسيب فمر بنفر من اليهود ،فقال بعضهم: سلوه، وقال بعضهم: لا تسألوه فإنه يسمعكم ما تكرهون ، فقالوا: يا أبا القاسم حدثنا عن الروح ، فقام النبي صلى الله عليه وسلم ورفع رأسه إلى السماء، يقول ابن مسعود: فعرفت أنه يوحى إليه، حتى صعد الوحي ثم قالِ: ( قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )(الاسراء: من الآية85) فهذا كان في المدينة.
وهناك رواية أخرى صحيحة عند الترمذي؛ من حديث ابن عباس رضي الله تعالى عنهما قال: قالت قريش لليهود – هذا في مكة ـ أعطونا شيئاً نسأل هذا الرجل ،فقالوا: سلوه عن الروح ،فسألوه عن الروح فأنزل الله تعالى: ( وَيَسْأَلونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي )(الاسراء: من الآية85) فهذه نزلت في مكة وتلك في المدينة ؛فيقال: إن الآية نزلت مرتين.. بسببين؛ مرة سأله المشركون بمكة فنزلت الآية.. ومرة سأله بعض اليهود في المدينة فنزلت الآية.

تعدد الآيات النازلة مع اتحاد السبب:
السبب قد يكون واحداً، وتنزل أكثر من آية، و ليس المراد أكثر من آية سردا في موضع واحد من القرآن، بل المقصود آيات متفرقة بسبب واقعة واحدة :
مثاله : ما أخرجه الترمذي، من حديث أم سلمه رضي الله عنها قالت: ( يغزوا الرجال ولا تغزوا النساء وإنما لنا نصف الميراث.. فأنزل الله: ( وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ) (النساء: من الآية32) يقول الترمذي : قال مجاهد : فأنزل فيها ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ )(الأحزاب: من الآية35وأيضا أخرج الترمذي عنها قالت : يا رسول الله لا أسمع الله ذكر النساء في الهجرة؟ فأنزل الله تبارك وتعالى: )أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثَى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ ).. الآية من سورة آل عمران: (من الآية195).
وعند الحاكم عنها قالت: قلت يا رسول الله.. الله يذكر الرجال ولا يذكر النساء فأنزل الله: ( إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَالْمُسْلِمَاتِ )(الأحزاب: من الآية35)في الأحزاب، وأنزل: (أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عَامِلٍ مِنْكُمْ)(في آل عمران: من الآية195).


تعدد سبب النزول مع كون النازل واحداً:
ومثاله: ما ورد في أحد الروايات الصحيحة في سبب نزول صدر سورة التحريم: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ) (التحريم: من الآية1) من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يطوف على نسائه بعد صلاة العصر، وكان يمر على زينب فتسقيه عسلا فغارت منه بعض أزواجه.. فاتفق بعض هؤلاء الأزواج.. أنه إذا دخل على واحدة ؛ أن تقول له: إني أجد منك ريح مغافير ـ وهو طعام له رائحة معينه غير مستساغة ـ والنبي صلى الله عليه وسلم كان يشق عليه أن يوجد منه الريح التي يتأذى منها الناس. .فقال: إنما هو عسل شربته عند زينب فقالت: لعل نحله جرست العرفط – نبت له رائحة ـ ، فلما ذهب إلى الثانية قالت: إني أجد منك ريح مغافير، فقال هو عسل شربته، قالت لعل نحله جرست العرفط. فحرمه النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه. فأنزل الله عز وجل: )يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ)(التحريم: من الآية1)
وصح أيضا في بعض الروايات وهي أشهر : أن ذلك بسبب جارية النبي صلى الله عليه وسلم؛ لما جاءت عائشة رضي الله عنها واحتجت على النبي صلى الله عليه وسلم،لما ـى جاريته، وقالت: في يومي وفي بيتي؛ فحرمها النبي صلى الله عليه وسلم على نفسه فأنزل الله عز وجل هذه الآية.
ومن أمثلته المشهورة المعروفة: ما ذكرته سابقاً في قصة عويمر العجلاني لما قذف امرأته، وكذلك هلال بن أميه لما جاء وقذف امرأته أيضاً ،فكل واحد منهما جاء إلى النبي صلى عليه وسلم على حده..وإذا نظرنا إلى الروايات الواردة في هذا؛ نجد أن الراوي يقول بعد كل واحدة منها فأنزل الله فيه .. ويذكر آية اللعان (والذين يرمون أزواجهم) فيقال: هذه وقائع متقاربة نزلت الآية بعدها جميعا فكل ذلك سبب لنزولها.

العمل عند تعدد الروايات في سبب النزول وتنوعها:
1/ ننظر أول ما ننظر إلى الثبوت.، فالروايات الضعيفة نستبعدها، ثم ننظر بعد ذلك إلى الصيغة، وقد سبق أن أسباب النزول منها ما يكون بصيغه صريحة، ومنها ما ليس بصريح؛ فما كان بصيغة غير صريحة فهذا يستبعد لأنه من قبيل التفسير؛ فيبقى عندنا الصحيح الصريح، وعندئذٍ ننظر: هل الحوادث هذه متقاربة؟ فإن كانت متقاربةً؛ حكمنا بأن الآية نزلت بعد هذه الحوادث جميعاً؛ كما ذكرنا في قصة اللعان قبل قليل ، وإذا كانت الحوادث متباعدة حكمنا بتكرار النزول.
ولعلي أذكر بعض الأمثلة والتطبيقات على هذا:
أولاً: ما اجتمع فيه الضعيف والصحيح وكله صريح في الصيغة :
مثاله: قول الله عز وجل ( وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى* مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) ( الضحى 1 ـ 3 ) أخرج الشيخان من حديث جندب بن سفيان رضي الله تعالى عنه قال:" اشتكى رسول الله صلى الله عليه وسلم فلم يقم ليلتين أو ثلاثا،فجاءت امرأة فقالت يا محمد إني لأرجو أن يكون شيطانك قد تركك لم أراه قربك منذ ليلتين أو ثلاثا فأنزل الله عز وجل: ( وَالضُّحَى* وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) (الضحى1 :2) فهذه الرواية.. صحيحة وهي في نفس الوقت صريحة.
ثم هناك روايات أخرى غير هذه.. فعند الطبراني بإسناد ضعيف في سبب نزولها أن الوحي أبطأ ، وأن جبريل وعد النبي صلى الله عليه وسلم فتأخر عنه ، فقال النبي صلى الله عليه وسلم : ما حدث في بيت رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأمر الجارية أن أن تخم ـ تكنس ـ الدار فأدخلت المكنسة تحت السرير فوجدت جروا قد مات ـ والجرو هو الكلب الصغير ـ فأخرجته وألقته، فجاء جبريل فسأله النبي صلى الله عليه وسلم عن سبب التأخر، فأخبره أن السبب هو هذا الجرو، وقال إن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب" فحديث: " أن الملائكة لا تدخل بيتا فيه كلب ولا صورة" صحيح ثابت ، لكن في قصة سبب النزول لما أخبره أنه لم يدخل بسبب هذا الجرو..هذه الرواية ضعيفة .. فالحاصل أن الصيغة صريحة ولكن الرواية غير صحيحه.. فهذه تستبعد.
وهناك رواية ثالثة عند ابن جرير الطبري من طريق ضعيف عن ابن عباس رضي الله عنهما: لما نزل على رسول الله صلى الله عليه وسلم القرآن أبطأ عنه جبريل أياماً فتغير بذلك فقالوا : ودعه ربه وقلاه فأنزل الله تعالى : (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (الضحى:3)
وهناك رواية أخرى: " فتر الوحي حتى شق ذلك على النبي صلى الله عليه وسلم وأحزنه فقال: لقد خشيت أن يكون صاحبي قلاني- يعني جبريل جفاني- فجاء جبريل بسورة (والضحى..) وهذه رواية ضعيفة أيضاً .
وفي رواية أخرى: " فتر الوحي فقالو لو كان من عند الله لتتابع ولكن الله قلاه فأنزل الله :(والضحى) و ( أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ) (الشرح:1) (الشرح:1) إلى آخر السورة، وهي رواية ضعيفة.
فهذه الروايات كثيرة لكن سبب النزول الحقيقي هو الرواية الأولى ، فنقتصر على هذا السبب الوحيد فقط، ولا نسرد الباقي على أنه من أسباب نزول السورة بل لا نلتفت إليه.

ثانياً: ما اجتمع فيه الصحيح والضعيف ، وفي الصحيح الصريح وغيره:
مثاله: قول الله عز وجل : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية115) و الروايات الواردة في سبب النزول هي :
1- أخرج ابن جرير بإسناد جيد عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: كان أول ما نسخ من القرآن القبلة، وذلك أن رسول صلى الله عليه وسلم لما هاجر إلى المدينة وكان أكثر أهلها اليهود، أمره الله عز وجل أن يستقبل بيت المقدس، ففرحت اليهود فاستقبلها رسول الله صلى الله عليه وسلم بضعة عشر شهراً، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يحب قبلة إبراهيم عليه السلام....... إلى أن حوّلت القبلة .. فارتاب من ذلك اليهود، وقالوا: ما ولاهم عن قبلتهم التي كانوا عليها فأنزل الله عز وجل : ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ)(البقرة: من الآية115) وقال : (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية115) فهذه رواية عن ابن عباس عند ابن جرير بإسناد جيد وهي صريحة لقوله : ( فأنزل الله) إذاً: هي بسبب تحويل القبلة ردا على اليهود.
2-ما أخرجه الترمذي، وابن ماجه من حديث عامر بن ربيعة رضي الله عنه قال: " كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر في ليلة مظلمة فلم ندر أين القبلة فصلى كل رجل منا على حياله على الجهة التي اجتهد فيها يعتقد أن القبلة منها .. ثم وضعوا خطوطاً في الليل .. فلمّا أصبحوا ذكروا لرسول الله صلى الله عليه وسلم ذلك فنزلت (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية115)هذه رواية صحيحة و هي صريحة أيضاً.
3- ما أخرجه الترمذي من حديث ابن عمر قال: كان النبي صلى الله عليه وسلم يصلى على راحلته تطوعا حيثما توجهت به ــ وهو قادم من مكة إلى المدينة ــ ثم قرأ ابن عمر هذه الآية: ( وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ )(البقرة: من الآية115) قال ابن عمر في هذا أنزلت هذه الآية ". فهذه رواية صحيحة لكنها غير صريحة لأن ابن عمر يريدأن هذا مما يدخل في معناها: أي أنه في صلاة التطوع في السفر لا يلزم استقبال القبلة؛ فيصلي الإنسان حيث ما توجهت به راحلته، و هو معنى صحيح دل عليه عموم الآية لكنه ليس بصريح في أنه سبب النزول من جهة الصيغة، فهذه الرواية نستبعدها ولا تعتبر من أسباب نزول الآية.
4-ما أخرجه ابن جرير عن قتادة أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: ( إن أخاكم النجاشي قد مات فصلوا عليه فصلوا عليه – قالوا : نصلي على رجل ليس بمسلم . قال فنزلت: (وَإِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ.. الخ الآية من آل عمران: من الآية199) قال قتادة : قالوا إنه كان لا يصلي إلى القبلة فأنزل الله عز وجل: (وَلِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَالْمَغْرِبُ )(البقرة: من الآية115). فهذه الرواية صريحة لقوله :" فنزلت " ، لكنها لا تصح ؛ لأن قتادة يرويه عن النبي صلى الله عليه وسلم مباشرة، وهذا من قبيل المرسل، وهو ضعيف فهذه الرواية نردها للضعف.
5-ما أخرجه ابن جرير في التفسير عن مجاهد .. لما نزلت ( ادعوني استجب لكم) قالوا: إلى أين؟ فنزلت (فَأَيْنَمَا تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ )(البقرة: من الآية115) فهذه صريحة أيضاً، لكنها لا تصح ؛ لأنها مرسلة فإن مجاهداً من التابعين فهذه الرواية نستبعدها أيضاً.
فهذه خمسة أسباب وردت لنزول هذه الآية في تحويل القبلة؛ الصحيح الصريح منها: أنها بسبب قول اليهود، و أيضاً في من اجتهد وأخطأ القبلة، فننظر هل هذه الحوادث حصلت في وقت متقارب؟ فإذا كانت حصلت في وقت متقارب، نقول نزلت الآية بعدهما، فإذا لم نعلم أنها حصلت في وقت متقارب فنقول: لعل النزول قد تكرر، فنزلت مرة بسبب الواقعة، ومرة بسبب واقعة أخرى فصارت الآية نزلت مرتين، ولا إشكال.

ومن الأمثلة على ما صحت فيه الروايات وكانت صريحة مع تقارب النزول:
المثال السابق في قوله تعالى: ( والذين يرمون أزواجهم) حيث إن الروايات صحيحة وصريحة في قصة عويمر العجلاني وهلال بن أمية، والنزول متقارب ، فتكون الآية نزلت بعدها جميعا، وكذلك تحريم النبي صلى الله عليه وسلم الجارية والعسل .
ومثال : ما صحت فيه الروايات وكانت صريحة ولكن النزول متباعد:
قوله تعالى:( الم * غلبت الروم) نزلت مرة في مكة وأخرى في المدينة كما مر بك سابقاً.
لكن بعض العلماء إذا لم يعلموا بتقارب النزول يذهبون إلى الترجيح، ولا يحكمون بأن الآية نزلت مرتين ، ولا أدري لماذا يلجؤون إلى هذا؟! مع أن القرآن نزل على سبعة أحرف، وما نزل منه من الأحرف المتعلقة بالسور المكية نزل بالمدينة، فمعنى ذلك أن جبريل نزل بها مرة ثانية، وبالتالي فلا غضاضة في هذا كما بينا سابقاً.
أما كيف يرجحون؟
فمثلاً: في المثال السابق لما سأل اليهود الرسول صلى الله عليه وسلم عن الروح،في حديث ابن مسعود، وهو في الصحيحين، وحديث ابن عباس لما سأله المشركون عند الترمذي، ففي هذه الحالة يرجّحون رواية الصحيحين.
وبعضهم يلجأ إلى طريقة أخرى في الترجيح ، فيقولون: نرجح بأن ابن مسعود كان حاضر القصة، فإنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم ، و أما ابن عباس فإنه لم يحضر ؛ فهو يرويه عن صاحبي آخر أو سمعها من النبي صلى الله عليه وسلم مرة ثانية لكن ابن مسعود كان مع النبي صلى الله عليه وسلم . وبهذا ينتهي الكلام على موضوع أسباب النزول، والله تعالى أعلم،،،
وصلى الله وسلم وبارك على عبده ونبيه محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .
 
نسخة أخرى من الملف المرفق

نسخة أخرى من الملف المرفق

الإخوة الكرام .. وفقهم الله ..
نظراً لأن الآيات كتبت في الملف المرفق بالرسم العثماني ، فقد تتعذر قراءتها على من ليس عنده هذا الخط ، لذا فقد وضعت هنا ملفاً كتبت فيه الآيات بالرسم الإملائي، والله الموفق..
 
بسم الله الرحمن الرحيم

جزى الله خيراً صاحب هذا الموضوع وناقله .

ولي بعض الاستفسارات التي أود من الشيخ وفقه الله أن يعلق عليها - ولو أثقلنا عليه .

أولاً - قوله : ( من الأدلة الظاهرة التي لا يكابر فيها أحد؛ أن القرآن كان ينزل على حرف واحد في مكة، وهو حرف قريش، واستمر على ذلك عشر سنين، ثم نزلت باقي الأحرف الستة في المدينة، وهذه الأحرف الستة، موجودة في ضمن الآيات المكية أيضاً، فمعنى ذلك أن جبريل عليه السلام صار ينزل مرة ثانية بالآية التي تقرأ بأكثر من وجه أو جاءت بحروف متنوعة، وهذا قطعاً لا يستطيع أحد أن يعترض عليه )
هل يمكن أن يذكر من نص على أن القرآن نزل في مكة على حرف واحد فقط ؟ وما الأدلة الظاهرة التي تدل على هذه النتيجة ؟
وما تعليقكم على قول من قال : إن الأدلة تدل على أن أحاديث الأحرف السبعة كانت بعد فتح مكة ؟.[ ينظر كتاب الاختلاف بين القراءات لأحمد البيلي ص39-42 ] .

ثانياً - في مسألة تعدد السبب والنازل واحد ، أليس الأولى أن ينظر أولاً إلى إمكانية الجمع بينها ؛ فيقال إن الآية إذا كانت تحتمل أكثر من سبب فتقبل الأسباب كلها من غير أن يرد بعضها . ولعل من أمثلة ذلك قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ ( النساء:19 )
فقد ذكر المفسرون أسباباً عدة لنزولها ، وقال ابن كثير بعد ذكره لها : ( (قلت: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد ومن وافقه وكل ما كان فيه نوع من ذلك والله أعلم ).
وهل يمكن أن يقال في مثل هذه الحال : القاعدة أن الأسباب إذا تعددت ولا تعارض بينها فتقبل جميعها لاحتمال نزول الآية لأكثر من سبب .



والإجابة على هذه الاستفسارت ، أو التعليق عليها متاح للمشايخ الكرام .
 
كاتب الرسالة الأصلية : أبومجاهدالعبيدي
قوله : ( من الأدلة الظاهرة التي لا يكابر فيها أحد؛ أن القرآن كان ينزل على حرف واحد في مكة، وهو حرف قريش، واستمر على ذلك عشر سنين، ثم نزلت باقي الأحرف الستة في المدينة، وهذه الأحرف الستة، موجودة في ضمن الآيات المكية أيضاً، فمعنى ذلك أن جبريل عليه السلام صار ينزل مرة ثانية بالآية التي تقرأ بأكثر من وجه أو جاءت بحروف متنوعة، وهذا قطعاً لا يستطيع أحد أن يعترض عليه )
هل يمكن أن يذكر من نص على أن القرآن نزل في مكة على حرف واحد فقط ؟ وما الأدلة الظاهرة التي تدل على هذه النتيجة ؟

روى مسلم و النسائي عن أبي بن كعب أن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان عند أضاه بني غفار فأتاه جبريل عليه السلام فقال إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف قال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم أتاه الثانية فقال إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين قال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الثالثة فقال إن الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف فقال أسأل الله معافاته ومغفرته وإن أمتي لا تطيق ذلك ثم جاءه الرابعة فقال ان الله عز وجل يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على سبعة أحرف فأيما حرف قرؤوا عليه فقد أصابوا .

و أضاءة بني غفار يقول عنها ابن حجر في الفتح ج9 ص28: "و هو موضع بالمدينة المنورة ينسب إلى بني غفار - بكسر المعجمة و تخفيف الفاء - لأنهم نزلوا عنده" .

و هذا يدل على أن نزول الأحرف السبعة كان في العهد المدني عند دخول العديد من القبائل - ذوات لهجات مختلفة - في الإسلام . و أنه كان قبل ذلك على حرف واحد و الله أعلم .
 
ارجو من الدكتور الكريم خالد السبت مراجعة ما ذكره الدكتور عبد الوهاب عزام في تفسير اول آيات سورة الروم وقد نقل عنه تفسيره هذا الدكتور محمد رجب البيومي في كتابه التفسير القراني
انا ارى انه من الاهمية بمكان قراءة ذلك الراي الجديد والمهم ايضا
وما ذكر في الاحرف السبعة من النص الموضوع على الموقع متعجل جدا وخصوصا في الحكم على عدم وجود المخالفين
واقبلوا التحيات
 
بسم الله الرحمن الرحيم

جزى الله خيراً صاحب هذا الموضوع وناقله .

ولي بعض الاستفسارات التي أود من الشيخ وفقه الله أن يعلق عليها - ولو أثقلنا عليه .

أولاً - قوله : ( من الأدلة الظاهرة التي لا يكابر فيها أحد؛ أن القرآن كان ينزل على حرف واحد في مكة، وهو حرف قريش، واستمر على ذلك عشر سنين، ثم نزلت باقي الأحرف الستة في المدينة، وهذه الأحرف الستة، موجودة في ضمن الآيات المكية أيضاً، فمعنى ذلك أن جبريل عليه السلام صار ينزل مرة ثانية بالآية التي تقرأ بأكثر من وجه أو جاءت بحروف متنوعة، وهذا قطعاً لا يستطيع أحد أن يعترض عليه )
هل يمكن أن يذكر من نص على أن القرآن نزل في مكة على حرف واحد فقط ؟ وما الأدلة الظاهرة التي تدل على هذه النتيجة ؟
وما تعليقكم على قول من قال : إن الأدلة تدل على أن أحاديث الأحرف السبعة كانت بعد فتح مكة ؟.[ ينظر كتاب الاختلاف بين القراءات لأحمد البيلي ص39-42 ] .

ثانياً - في مسألة تعدد السبب والنازل واحد ، أليس الأولى أن ينظر أولاً إلى إمكانية الجمع بينها ؛ فيقال إن الآية إذا كانت تحتمل أكثر من سبب فتقبل الأسباب كلها من غير أن يرد بعضها . ولعل من أمثلة ذلك قول الله تعالى : ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّسَاءَ كَرْهاً وَلا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ مَا آتَيْتُمُوهُنَّ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَعَاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسَى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَيَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً ﴾ ( النساء:19 )
فقد ذكر المفسرون أسباباً عدة لنزولها ، وقال ابن كثير بعد ذكره لها : ( (قلت: فالآية تعم ما كان يفعله أهل الجاهلية وما ذكره مجاهد ومن وافقه وكل ما كان فيه نوع من ذلك والله أعلم ).
وهل يمكن أن يقال في مثل هذه الحال : القاعدة أن الأسباب إذا تعددت ولا تعارض بينها فتقبل جميعها لاحتمال نزول الآية لأكثر من سبب .



والإجابة على هذه الاستفسارت ، أو التعليق عليها متاح للمشايخ الكرام .


للرفع، ولطلب المناقشة حول بعض مسائل هذا الموضوع.
 
جزاك الله عنا خيراً أخى أبا معاذ عن هذا الموضوع الشيق الهام ... وجزى الله المؤلف خير الجزاء وجعلها فى ميزان حسناتكم يوم القيامة ... وهل للحلقات من تكملة أم أنها انتهت ؟
 
نعم هذه الحلقات لها تكملة، وقد تأخرت بسبب المراجعة، وانشغال الشيخ بكثير من الأعمال ، وقد طلبت من فضيلة الشيخ أن نستكملها ، فأرسل لي ما تمت مراجعته بالأمس القريب ، وسأبدأ في تصويب ماراجعه الشيخ لتنزل في الموقع تباعاً بإذن الله، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل
 
نعم هذه الحلقات لها تكملة، وقد تأخرت بسبب المراجعة، وانشغال الشيخ بكثير من الأعمال ، وقد طلبت من فضيلة الشيخ أن نستكملها ، فأرسل لي ما تمت مراجعته بالأمس القريب ، وسأبدأ في تصويب ماراجعه الشيخ لتنزل في الموقع تباعاً بإذن الله، والله الموفق والهادي إلى سواء السبيل

جزاك الله خيراً أين التكملة ؟
 
عودة
أعلى