الحلقة الثانية من المهمات في علوم القرآن ـ للشيخ خالد السبت ـ وعذراً على التأخر .

إنضم
3 أبريل 2003
المشاركات
34
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .. أما بعد :
فالأمر الأول الذي نتحدث عنه في هذه المهمات هو { موضوع الوحي }
تعريف الوحي:
أولاً : معناه في اللغة:
أصحاب المعاجم اللغوية يذكرون للوحي معاني كثيرة منها :
1/ الكتابة ومنه قول رؤبة بن العجاج :
وحى لها القرار فاستقرت وشدها بالراسيات الثُّبَّتِ
يعني أن الله عز وجل وحى لها ـ أي الأرض ـ ومعنى وحى لها أي: ألهمها أو أمرها أو كتب لها القرار فاستقرت كما قال الله عز وجل: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا* بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (الزلزلة:4، 5)
2/ و من معانيه أيضاً: الإشارة، والرمز، وهو معنىً صحيح من معاني الوحي كما قال الشاعر:
فأوحى إليها الطرف أني أحبها فأثر ذاك الوحي في وجناتها
يعني أنه أشار إليها بعينه إشارة معينة فهمت منها رسالة معينة فظهرت الحمرة على وجناتها من الحياء .
3/ ومن معانيه التي يذكرونها في كتب اللغة أيضاً: الإلهام، وهو أحد التفسيرات لقول رؤبة السابق:
وحى لها القرار فاستقرت ...................
أي: ألهمها ذلك .
4/ ومن معانيه أيضاً: الإعلام في سرعة وخفاء.
ومن معانيه الأخرى: المكتوب، والبعث، و الأمر ، وبه فسر بعضهم قول رؤبة أيضا :
وحى لها القرار فاستقرت ........................
أي: أمرها بالقرار. وكذلك الإيماء والتصويت شيئاً بعد شيء ، وقيل: أصل الوحي التفهيم .وكل ما دللت به من كلام أو كتابة أو رسالة أو إشارة فهو وحي. إلى غير ذلك من المعاني التي لربما بلغت اثني عشر معنىً في كتب اللغة وغيرها كفتح الباري لابن حجر ـ رحمه الله ـ ، لكنها كلها ترجع إلى أصل واحد تدور عليه هذه المعاني الكثيرة وهو ما ذكره ( ابن فارس ) في كتابه المقاييس في اللغة بقوله: " الواو والحاء والحرف المعتل ـ الألف المقصورة ـ ، أصل يدل على إلقاء علم في إخفاء أو غيره، يعني الإلقاء بخفية أو الإلقاء من غير خفية إلى غيرك ... إلى أن قال: وكل ما ألقيته إلى غيرك حتى علمه فهو وحي كيف كان ـ يعني بخفية أو بغير خفية ـ وكل ما في باب الوحي فراجع إلى هذا الأصل الذي ذكرناه."
والخلاصة: أن معنى الوحي في كلام العرب: يدل على إلقاء علم بخفية أو غيرها، وأكثر ما يستعمل في كلام العرب في الإلقاء السريع الخفي.
ثانياً:اطلاقات واستعمالات ( الوحي )في القرآن:
وردت هذه اللفظة ـ الوحي ـ في كتاب الله عز وجل بمختلف الاستعمالات؛ في اثنين وتسعين موضعاً، ولو أردنا أن نصنف هذه المواضع ونجمع المتماثلات مع بعضها، وننظر في المعنى الذي دلت عليه في كل موضع، فإننا نجد أنها تدور على معانٍ متعددة في كتاب الله عز وجل، ومن هذه المعاني ما يلي:
أولاً: أنها ترد في كتاب الله عز وجل ويراد بها: الوحي بالمعنى الخاص ، والمقصود بالمعنى الخاص للوحي : الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وقد ورد ذلك في مواضع كثيرة من كتاب الله تبارك وتعالى؛ كما قال الله عز وجل:(إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُدَ زَبُوراً) (النساء:163) وكما قال سبحانه (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحاً وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ)(الشورى: من الآية13)، وكقوله سبحانه (وَلَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَإِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ) (الزمر:65) ، وكقوله جل شأنه: (نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِمَا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ هَذَا الْقُرْآنَ )(يوسف: من الآية3)وكقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنَا )(الشورى: من الآية52)،وكقوله: (وَكَذَلِكَ أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيّاً لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرَى وَمَنْ حَوْلَهَا)(الشورى: من الآية7). فهذه الآيات وغيرها كثير، منها ما يصرح الله عز وجل فيه بالوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ، ومنها ما يصرح فيها بأنه أوحى إلى النبي صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك من الوحي بالمعنى الخاص .
ثانياً: الاستعمال الثاني الذي ورد في القرآن: وهو الوحي بالمعنى العام فمن ذلك:
أ- الوحي إلى بعض الآدميين ، ويدخل فيه :
1- الوحي إلى بعض الأنبياء عليهم الصلاة والسلام قبل النبوة، وهذا ليس من الوحي بالمعنى الخاص؛ لأنه قبل النبوة فهو كالإيحاء لغيرهم ، وإنما هو وحي ببعض المسائل، وليس من جنس وحي البلاغ.
مثاله: قول الله عز وجل عن يوسف صلى الله عليه وسلم:(فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَأَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيَابَتِ الْجُبِّ وَأَوْحَيْنَا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هَذَا وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ) (يوسف:15) فقد أوحى الله عز وجل إليه ذلك وهو غلام صغير، ولم يكن نبيا في ذلك الوقت، لأن الله عز وجل آتاه النبوة بعد ذلك كما قال الله عز وجل: (وَلَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْنَاهُ حُكْماً وَعِلْماً )(يوسف: 22)فهذا الوحي الذي حصل ليوسف صلى الله عليه وسلم في ذلك الحين، يمكن أن يقال في معناه: بأن الله عز وجل أنزل إليه مَلًكاً يُثَبِّتُه في وقت الشدة ، ويمكن أن يقال: بأن الله عز وجل ألهمه بأن هذه المحنة ستنجلي، وأن الله عز وجل سيرفعه بعد ذلك على إخوته ، كما قال الله عز وجل بعد ذلك ( كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ )(يوسف: 76) فهذا ليس من الوحي بالمعنى الخاص .ويمكن أن يلحق بذلك ما ذكر الله عز وجل عن يحي صلى الله عليه وسلم أنه قال في حقه (يَا يَحْيَى خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ وَآتَيْنَاهُ الْحُكْمَ صَبِيّاً) (مريم:12) ومعلوم أن يحيى  لم يتول ملكاً؛ بل قتل عليه الصلاة والسلام واستضعف، فإذاً يمكن أن يفسر الحكم الذي أعطيه يحيى عليه الصلاة والسلام وهو صبي: بأنه الحكمة . ويمكن أن يلحق بذلك أيضا قول الله عز وجل عن عيسى عليه الصلاة والسلام: (وَيُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَكَهْلاً وَمِنَ الصَّالِحِينَ) (آل عمران:46) يعني في كهولته . وعيسى صلى الله عليه وسلم أخبر الله عنه أنه تكلم فعلاً في المهد (قَالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتَانِيَ الْكِتَابَ وَجَعَلَنِي نَبِيّاً*وَجَعَلَنِي مُبَارَكاً أَيْنَ مَا كُنْتُ وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً) (مريم:31.30) مع أن عيسى عليه الصلاة والسلام لم ينبأ إلا بعد ذلك حينما بلغ الثلاثين، وقوله : ( وَجَعَلَنِي نَبِيّاً)(مريم: 30) هذا من قبيل الإخبار عن الأمر الذي يكون في المستقبل بالماضي لأنه متحقق الوقوع. كما قال الله عز وجل: (أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ)(النحل: من الآية1) مع أن الساعة لم تأت بعد لكن لما كانت متحققة الوقوع عُبر عنها بذلك. ثم قال عيسى عليه السلام ( وَأَوْصَانِي بِالصَّلاةِ وَالزَّكَاةِ مَا دُمْتُ حَيّاً)(مريم: 31) ومعلوم أن عيسى ويوسف عليهم الصلاة والسلام لم ينبؤوا في ذلك الحين وإنما نُبِّؤوا بعد ذلك فهذا وحي إلى بعض الأنبياء في بعض الأمور الخاصة قبل النبوة.
2- الوحي إلى بعض أمهات الأنبياء عليهم الصلاة والسلام، وهذا الوحي ليس بكتاب، ولا رسالة، فليس هو من الوحي بالمعنى الخاص. مثال ذلك : أن الله عز وجل أوحى إلى أم موسى فقال (وَأَوْحَيْنَا إِلَى أُمِّ مُوسَى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذَا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمّ)(القصص: من الآية7)وهي ليست نبية، وكذلك مريم رحمها الله؛ قال الله عز وجل عنها ( فَأَرْسَلْنَا إِلَيْهَا رُوحَنَا فَتَمَثَّلَ لَهَا بَشَراً سَوِيّاً*قَالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمَنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيّاً) *قَالَ إِنَّمَا أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيّاً) (مريم:19.18.17) فأرسل لها جبريل عليه الصلاة والسلام وكلمها وهي ليست نبية.
3- الوحي إلى الحواريين ـ وهم خلاصة أصحاب عيسى عليه السلام، وقد اختلف في عددهم؛ فقال بعضهم: هم اثنا عشر رجلاً، وبعضهم يوصلهم إلى السبعين، ولا يثبت في ذلك شيء، ويمكن أن يجمع بين هذا وهذا، فيقال: لربما بلغوا السبعين وصفوتهم وخلاصتهم ورؤسهم هم هؤلاء الاثنا عشر ـ فقال الله عز وجل: (وَإِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوَارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي وَبِرَسُولِي قَالُوا آمَنَّا وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) (المائدة:111)فهذا الوحي إلى الحواريين؛ يمكن أن يقال: إنه أوحى إليهم عن طريق عيسى ، أي: أمر الله عيسى أن يبلغهم أن الله يأمرهم بذلك، ويمكن أن يقال: أن الله ألهمهم ذلك بأن قذف في قلوبهم صدق عيسى عليه السلام فآمنوا به.
ب - أنه يأتي بمعنى الإشارة والرمز وذلك كما في قوله تبارك وتعالى عن زكريا عليه الصلاة والسلام حينما قال: (قَالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيَالٍ سَوِيّاً) (مريم:10) بمعنى أنك لا تستطيع الكلام ثلاث ليال من غير علة ولا عاهة ولا مرض ؛ فهذه علامة أنه سيرزق بالولد . ثم قال الله عز وجل ـ وهذا موضع الشاهد ـ (فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرَابِ فَأَوْحَى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَعَشِيّاً) (مريم:11) ومعنى أوحى إليهم: أي رمز إليهم ، ويفسر ذلك الآية الأخرى وهي قوله: ( قَالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلَّا رَمْزاً )(آل عمران: من الآية41) فخرج عليهم فرمز إليهم بهذا الرمز، أي: أشار إليهم بهذه الإشارة .
ج - الوحي إلى الملائكة عليهم الصلاة والسلام، وهو نوعان : وحي تبليغي: أي أن الله عز و جل يأمرهم فيه بالبلاغ . والثاني: وحي تكليفي: أي أن الله عز وجل يوحي إليهم ليكلفهم ببعض التكاليف. فمن الأول – وهو الوحي التبليغي ـ قوله تبارك وتعالى(اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَمِنَ النَّاسِ)(الحج: 75)أي يصطفى رسلاً فيرسلهم إلى الرسل والأنبياء من البشر، يبلغون رسالات الله عز وجل . ومن الوحي التبليغي أيضاً قوله تبارك وتعالى: (نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ*عَلَى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ) (الشعراء:194.193) والروح الأمين هو : جبريل عليه الصلاة والسلام. ومنه أيضاً قوله تبارك وتعالى عن جبريل عليه السلام: (فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى)(النجم:10) أي: أوحى جبريل إلى النبي  . وكذلك قوله تبارك وتعالى (يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلَى مَنْ يَشَاءُ مِنْ عِبَادِهِ )(النحل: من الآية2) أي: ينزلهم بالوحي، وسمى الله عز وجل الوحي روحاً؛ لأنه به حياة القلوب. وأما الوحي التكليفي: فكما في قوله تبارك وتعالى: (إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْنَاقِ وَاضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنَانٍ) (لأنفال:12) فهذا وحي تكليفي، كلف الله عز وجل الملائكة بتثبيت قلوب المؤمنين، وبضرب أعناق الكافرين وتقطيع أطرافهم؛ فلا يستطيعون حمل السلاح. وكذلك كما في قوله تبارك وتعالى: (وَإِذْ قُلْنَا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا)(البقرة: من الآية34) فهذا وحي تكليفي ،وكذلك كما في قوله: ( عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدَادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ )(التحريم: من الآية6)أي: ما كلفهم به .
د - وهو الوحي الإلهامي التسخيري لبعض الكائنات: وهو خاص وعام ، فالعام هو: كل ما في الوجود فهو مسخر بأمر الله عز وجل ، والخاص هو: ما ورد فيه أن الله تبارك وتعالى أوحى إلى بعض المخلوقات فيما أخبرنا؛ كما قال الله عز وجل عن النحل: (وَأَوْحَى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبَالِ بُيُوتاً وَمِنَ الشَّجَرِ وَمِمَّا يَعْرِشُونَ) (النحل:68) فمعنى ذلك ـ والله تعالى أعلم ـ :أنه ألهمها وغرس في فطرها هذا الأمر.
هـ - الوحي التسخيري لبعض الجمادات كقوله تبارك وتعالى : ( ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَاءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ*فَقَضَاهُنَّ سَبْعَ سَمَاوَاتٍ فِي يَوْمَيْنِ ) (فصلت: 12.11) فهنا كلمها مباشرة ـ كما هو ظاهر هذه الآية ـ ( فَقَالَ لَهَا وَلِلْأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً)(فصلت: من الآية11) وهذا من أنواع الوحي ، ثم أيضاً قال الله عز وجل في تمام هذه الآية : ( وَأَوْحَى فِي كُلِّ سَمَاءٍ أَمْرَهَا )(فصلت: من الآية12)وهذا يحتمل معنيين : فيحتمل أن يكون أوحى إليها ما يقوم به أمرها ونظامها، ويحتمل أنه أوحى إلى ملائكة كل سماء بأوامره إليهم، فيكون على تقدير والأصل عدمه، ويمكن أن يجمع بين المعنيين فيقال: إن الله عز وجل أوحى إلى كل سماء ما يقوم به نظامها وما يقوم به أمرها، وأوحى أيضاً إلى ملائكة كل سماء بما شاء سبحانه وتعالى، مما كلفهم به من التكاليف . وقال الله عز وجل عن الأرض: (يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا*بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) (الزلزلة:5.4) تحدث أخبارها بسبب أن ربك أوحى لها فتكون الباء هنا سببيه ، أوأنها تنطق بما أوحى الله إليها، أي: بما أوحى الله إليها، فعلى الثاني: تكون محدِّثة بالموحى إليها، وعلى الأول: تتحدث بسبب أن الله أوحى إليها أن تتحدث فتخبر بما عمل عليها. وهذا هو الأقرب والله تعالى أعلم.
و - وحي الشياطين إلى أوليائهم: وجاء ذلك في قوله تبارك وتعالى: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَلَوْ شَاءَ رَبُّكَ مَا فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَمَا يَفْتَرُونَ) (الأنعام:112) فهؤلاء يوحي بعضهم إلى بعض زخرف القول غروراً، فشياطين الجن توسوس لشياطين الإنس، وتوحي لهم وتقذف في قلوبهم الشبهات التي يبرزونها ويظهرونها؛ فيشككون بما جاء به الأنبياء عليهم الصلاة والسلام ويوحون إليهم بالأمور التي يحصل بها الإفساد للخلق .وقد جاء عن ابن عمر رضي الله تعالى عنه وكان زوجاً لأخت المختار الثقفي الذي ادعى النبوة في آخر أمره ثم قتله مصعب بن الزبير ـ رضي الله تعالى عنه ـ فقيل لابن عمر: إن المختار يزعم أنه يوحي إليه. فقال: صدق، ثم قرأ هذه الآية ( وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ )(الأنعام: من الآية121)،فهو يوحى إليه؛ لكن الذي يوحي إليه الشيطان، فالشياطين توحي إلى الآدميين . وآية الأنعام الأخرى تدل على ذلك (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورا)(الأنعام: من الآية112) فمما كانوا يوحونه إليهم أنهم كانوا يقولون لهم: ما ذبحتموه بأيديكم تقولون حلال، وما ذبحه الله بيده الكريمة تقولون حرام ـ يعنون الميتة ـ إذاً أنتم أحسن من الله! ألقوا إليهم هذه الشبهة فقال الله عز وجل: (وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ)(الأنعام: من الآية121)
وهذا النوع من الأنواع التي وردت في كتاب الله عز وجل وهي من الوحي بالمعنى العام .
و الوحي بالمعنى الخاص هو الذي يعيننا هنا وهو المهم ؛ لأن إثبات الرسالات يتوقف عليه ، ولما قال بعض اليهود على سبيل المكابرة رداً لنبوة محمد صلى الله عليه وسلم : ( مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ )(الأنعام: من الآية91)فعمُّوا؛ لأن لفظة( شيء ) نكرة جاءت في سياق النفي فتعم. فاحتج الله عز وجل عليهم بحجة ألقمتهم حجراً فقال: ( قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى )(الأنعام: من الآية91) فمعنى ذلك أنكم تنكرون نبوة موسى عليه السلام لكونه داخلاً في هذا العموم .


تعريف الوحي بالمعنى الخاص:
فالوحي بالمعنى الخاص : هو إعلام الله لأنبيائه ورسله بما يريد إبلاغه لهم من شرع أو كتاب بالكيفية التي يريدها .
وعرفه بعضهم كالحافظ ابن حجر رحمه الله : بأنه الإعلام بالشرع .
شرح التعريف:
فقولنا: (بالكيفية التي يريدها ) هذا يتعلق ببيان أنواع الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام .والمقصود هنا؛ الوحي بمعناه ومفهومه الخاص، وأجمع آية وردت في هذا النوع هي قوله تعالى: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ مَا يَشَاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ) (الشورى:51) فهذه الآية جمعت ثلاثة أنواع: أولها: قوله: (إلا وحياً ) ،ثانيها: قوله: ( مِنْ وَرَاءِ حِجَابٍ )، ثالثها: قوله: ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)فجمعت هذه الآية عامة أنواع الوحي.
فقوله تبارك وتعالى: (إلا وحياً ) يدخل تحته أمور متعددة من أنواع الوحي؛ أولها: الرؤيا الصادقة وهي من أنواع الوحي، كما قالت عائشة رضي الله عنها: (أول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم الرؤيا الصادقة ـ أو الصالحة ـ فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح) أخرجاه في الصحيحين ( خ/ 3، م / 231 ) فأول ما بدئ به رسول الله صلى الله عليه وسلم هي الرؤيا الصالحة . وقد بقي ستة أشهر قبل نزول الملك يرى هذه الرؤى التي تأتي مثل فلق الصبح، وقد صح عن النبي صلى الله عليه و سلم أنه قال:: " الرُّؤْيَا الصَّالِحَةُ جُزْءٌ مِنْ سِتَّةٍ وَأَرْبَعِينَ جُزْءًا مِنْ النُّبُوَّةِ " ( خ/ 6474) ويتبين معنى هذا الحديث من خلال الحديث الذي ذكرته قبل قليل، فمدة بقاء النبي صلى الله عليه وسلم في مكة ثلاث عشرة سنة ، وفي المدينة على الأرجح عشر سنوات، فالمجموع ثلاث وعشرون سنة ، فلو قسمت هذه الثلاث وعشرين على ستة أشهر فيكون ستا وأربعين ، والرؤيا الصالحة استمرت ستة أشهر فهي جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة؛ هذا يمكن أن يفسر به الحديث والعلم عند الله عز وجل، ولا يقطع به، ولكنه احتمال.
ومما ورد في كتاب الله عز وجل من هذا النوع من الوحي ـ وهو الرؤيا الصادقة ـ قول الله عزوجل عن إبراهيم عليه السلام (فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ) (الصافات:102) فهنا قال (إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ) فاحتج بالرؤيا، و بنى عليها العمل ( وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ)(الصافات: من الآية103) وكذلك استجابة إسماعيل صلى الله عليه وسلم له بقوله: ( يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ )(الصافات: من الآية102)، ثم قوله: (افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ ) يدل على أنه أمر من الله عز وجل، و لهذا قال الله عز وجل: (وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ*قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ) (الصافات:105.104) . و كذلك قال في حق النبي صلى الله عليه وسلم: ( وَمَا جَعَلْنَا الرُّؤْيا الَّتِي أَرَيْنَاكَ إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ)(الاسراء: من الآية60) و هذه الرؤيا بعض العلماء يقولون: هي ما رآه النبي صلى الله عليه وسلم ليلة الإسراء و المعراج فهي رؤيا عين؛ وليست رؤيا في المنام، والقول الآخر وهو الأقرب، وهو أنها تفسر بقوله تبارك وتعالى في سورة الفتح: (لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرَامَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُوسَكُمْ وَمُقَصِّرِينَ لا تَخَافُونَ فَعَلِمَ مَا لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذَلِكَ فَتْحاً قَرِيباً) (الفتح:27) وهو فتح خيبر. فهذه الرؤيا التي رآها النبي صلى الله عليه وسلم حيث رأى نفسه يطوف آمنا مع أصحابه بالبيت، وتعلقت قلوب الصحابة رضي الله تعالى عنهم بمقتضى هذه الرؤيا ومضمونها. ولا شك أن رؤيا الأنبياء حق. وحينما نقول بأن الرؤيا الصالحة جزء من ستة وأربعين جزءاً من النبوة . فيتنبه هنا إلى أنه لا يجوز أن يبنى على الرؤى حكم من الأحكام لا في الأمور الشرعية ولا في غيرها من القضايا العلمية أو العملية، بمعنى أنه لا يجوز للإنسان أن يتعبد بعبادة بناء على رؤيا رآها، إذا كانت هذه العبادة لم يشرعها الله عز وجل، ولا يجوز للإنسان أن يبني على ذلك قضية علمية أو عملية؛ بمعنى أنه مثلا رأى في المنام أن تركيب الدواء الفلاني يفيد من المرض الفلاني، فهذا لا يُبنى عليه حكم، ولا يصح أن يعتمد عليه، وهكذا أيضا بما يتعلق بالقضايا العلمية من الحب والبغض و اعتقاد ولاية إنسان أو فساده أو نحو ذلك.

تنبيه: إذا علم أن رؤيا الأنبياء حق و أن الرؤى الصالحة من أنواع الوحي إلى الأنبياء عليهم الصلاة والسلام فلا يعني ذلك أن شيئاً من القرآن قد نزل على النبي صلى الله عليه وسلم وهو في حال النوم . نعم أوحي إلى النبي صلى الله عليه وسلم بأشياء وهو في حال النوم ليس منها القرآن. وقد يشكل على البعض ما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخرجه الإمام مسلم في صحيحه ( 607 ) من حديث أنس ـ رضي الله عنه ـ :" بينما رسول الله صلى الله عليه وسلم بين أظهرنا، إذ أغفى إغفاءة ثم رفع رأسه متبسما، فقلنا ما أضحكك يا رسول الله ؟ فقال أنزل علي آنفا سورة، فقرأ بسم الله الرحمن الرحيم (إِنَّا أَعْطَيْنَاكَ الْكَوْثَرَ) (الكوثر:1)... إلى آخرها"
فالجواب : أن هذه ( إغفاءة ) كما عبر أنس بن مالك ـ رضي الله تعالى عنه ـ ولم تكن نومة ، ومعلوم أن الإغفاءة نومة يسيرة فالنبي صلى الله عليه وسلم جالس بين أصحابه يحدثهم، ولا يتصور أنه عليه الصلاة والسلام ينام بينهم في مجلسه ، و إنما هذه هي الحالة التي كانت تعتريه عند نزول الوحي، والتي يقال لها برحاء الوحي، فقد كانت تعتري النبي صلى الله عليه وسلم حالة يتربد لها وجهه، و يسيل منه العرق، ويلاحظ ذلك أصحابه، فهذه الحالة التي اعترته فعبر عنها أنس بن مالك بذلك.
فإذاً ينبغي أن نفرق بين ثلاثة أشياء:
بين دعوى ما نزل من القرآن مناماً، وبين أن الرؤيا نوع من أنواع الوحي، وبين أن بعض القرآن نزل عليه وهو في فراشه، فيمكن أن نقول: إن بعض القرآن نزل والنبي صلى الله عليه وسلم في فراشه، ولكن وجود الإنسان في فراشه لا يعني أنه نائم، وهذا ما يسميه السيوطي فيما سبق من العناوين التي سردتها قبل بالفراشي والنومي ، فنقول: نزل على النبي صلى الله عليه وسلم بعض الآيات وهو في فراشه، كما في قوله تعالى: ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )(المائدة: من الآية67) لأن النبي صلى الله عليه وسلم بات ليله قلقاً وتمنى أن يُحرس، فسمع قعقعة السلاح فقال من هذا ؟ فقال : سعد بن مالك ـ سعد بن أبي وقاص رضي الله تعالى عنه ـ فهيأ الله له ما تمناه، فأنزل الله عز وجل عليه ( وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ )(المائدة: من الآية67) فقال: انصرفوا" ( خ/ 2672، م/ 4427 )
هذا ما يتعلق بالرؤيا الصالحة، وهي النوع الأول الذي يدخل تحت قوله: ( إِلَّا وَحْياً )(الشورى: من الآية51)
النوع الثاني: الذي يدخل تحت قوله: : ( إِلَّا وَحْياً )وهو: النفث في الرُّوع كما صح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: ( إن روح القدس – يعني جبريل صلى الله عليه وسلم – نفث في رُوعي أنه لن تموت نفس حتى تستوفي رزقها و أجلها فاتقوا الله و أجملوا في الطلب) فالنفث في الرُّوع داخل تحت قوله : ( إِلَّا وَحْياً )
ويشبهه النوع الثالث: الداخل تحت قوله : ( إِلَّا وَحْياً )وهو: الإلهام. وحقيقته: إلقاء المعاني في القلب، ولو من غير نزول الملك.
إذاً هذه ثلاثة أنواع تدخل تحت قوله تبارك وتعالى: : ( إِلَّا وَحْياً ).
ثم قال الله عز وجل ( أَوْ مِنْ وَرَاءِ حِجَاب)(الشورى: من الآية51)كما كلم الله عز وجل موسى صلى الله عليه وسلم، وكما كلم محمداً عليه الصلاة والسلام قال تعالى: ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيماً)(النساء: من الآية164)وقال: (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ )(لأعراف: من الآية143) وقال: ( إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي )(لأعراف: من الآية144)و أما النبي صلى الله عليه وسلم فقد وقع له الكلام الإلهي المباشر في ليلة المعراج، ويفهم ذلك من آية النجم، ومن حديث المعراج، ففي آية النجم؛ قال الله عز وجل: (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى*فَكَانَ قَابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنَى*فَأَوْحَى إِلَى عَبْدِهِ مَا أَوْحَى) (لنجم:10.9.8) فالتفسير المشهور لهذه الآية: أن جبريل ـ عليه السلام ـ دنا فتدلى، فكان قربه من النبي صلى الله عليه وسلم قاب قوسين أو أدنى، فأوحى جبريل إلى عبد الله وهو محمد صلى الله عليه وسلم ما أوحى، يعني ما أمره الله تعالى أن يوحيه إليه ، هذا هو المعنى المشهور، وهو الأرجح في تفسير الآية ولا شاهد فيه، و إنما ذكرت هذه الآية بناء على التفسير الآخر، وهو أن قوله تبارك وتعالى (ثُمَّ دَنَا فَتَدَلَّى) الدنو هو دنو النبي صلى الله عليه وسلم من الجبار تبارك وتعالى، فكان فيه بالقرب القريب، وهذا يوضحه رواية عند البخاري( 6963 ) في النسخة اليونينية ( ثم دنا للجبار، فأوحى الله إلى عبده ما أوحى)، وفي بعض النسخ (ثم دنا الجبار).
لكن الأقرب أن الذي دنا فتدلى هو جبريل عليه الصلاة والسلام،فإن هذه اللفظة ( ثم دنا الجبار ) مما انفرد به شريك في حديث الإسراء المشهور، وقد عدها بعض أهل العلم من جملة أوهامه في هذا الحديث، ثم هو خلاف المشهور عن الصحابة رضوان الله عليهم في تفسير هذه الآية كما سبق، ويرجحه القرينة التي في الآية؛ وهي قوله تبارك وتعالى: (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى) (لنجم:13) أي: رأى جبريل مرة أخرى على هيئته الحقيقية الملائكية.
و أما من السنة: فحديث مالك بن صعصعة رضي الله عنه الذي أخرجه البخاري في صحيحه ( 3598 )، في قصة فرض الصلاة، وفيه: ـ ثم فرضت علي خمسون صلاة، فأقبلت حتى جئت موسى فقال: ما صنعت قلت: فرضت علي خمسون صلاة ، فقال: أنا أعلم بالناس منك، عالجت بني إسرائيل أشد المعالجة ... إلى أن قال: فرجعت ـ يعني إلى الله ـ فسألته فجعلها أربعين ـ ثم تكرر ذلك مع موسى ثم رجع النبي صلى الله عليه وسلم إلى ربه تبارك وتعالى ثم بعد ذلك ـ "نودي أني قد أمضيت فريضتي، وخففت عن عبادي و أجزي الحسنة عشراً) وفي رواية:" فراجعت ربي قال: هي خمس ، وهي خمسون لا يبدل القول لدي" يعني خمس فرائض والحسنة بعشر أمثالها فهي خمسون في الميزان. فظاهره أنه كلام مباشر من الله عز وجل.
فالله كلم موسى صلى الله عليه وسلم وهو في الطور بتكليم مباشر، وكلم النبي صلى الله عليه وسلم وهو في السماء.
ومن النصوص المتعلقة بالكلام الإلهي المباشر؛ وهي داخله تحت الكلام من وراء حجاب؛ ما ورد في كتاب الله عز وجل في ثلاث سور، وهي أربع آيات لا خامس لها؛ ففي سورة البقرة (تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنَا بَعْضَهُمْ عَلَى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ)(البقرة: من الآية253)، وفي النساء (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ) إلى قوله ( وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيم)(النساء: 163، 164)، و في الأعراف آيتان (وَلَمَّا جَاءَ مُوسَى لِمِيقَاتِنَا وَكَلَّمَهُ رَبُّهُ قَالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ )(لأعراف: من الآية143). وقوله: (قَالَ يَا مُوسَى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسَالاتِي وَبِكَلامِي فَخُذْ مَا آتَيْتُكَ وَكُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ) (لأعراف:144) و أما قوله ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(الشورى: من الآية51) فيحتمل معنيين:
المعنى الأول: أنه يرسل رسولاً ملائكياً إلى رسولٍ بشري، و هذا هو الغالب مع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام.
المعنى الثاني: أنه يرسل رسولاً من البشر إلى نظرائه من الآدميين، لأن الله لا يخاطب أولا يوحي إلى كل واحد من بني آدم، و إنما يرسل منهم رسولاً إليهم لينذرهم و يبشرهم. فهذان المعنيان تحتملهما الآية، و لا تعارض بينهما، فكلاهما صحيح.

الأحوال والصور التي يأتي عليها الملك للرسول البشري:
والملك حينما يأتي للرسول البشري، أو لنبينا صلى الله عليه وسلم يأتيه بصور متعددة:
الصورة الأولى منها: أن يأتيه على صورته الحقيقية، وقد حصل ذلك للنبي صلى الله عليه وسلم مرتين:
المرة الأولى: أنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم على كرسي أو على عرش بين السماء والأرض؛ كما في حديث جابر عند البخاري( 4541، م/ 233): ( فبينا أنا أمشي سمعت صوتا من السماء فرفعت رأسي فإذا الملك الذي جاءني بحراء جالس على كرسي بين السماء و الأرض) وفي رواية ( ثم نوديت فرفعت رأسي فإذا هو قاعد على العرش في الهواء ـ يعني جبريل صلى الله عليه وسلم ـ فأخذتني رجفة شديدة".
المرة الثانية: حين رآه النبي صلى الله عليه وسلم عند سدرة المنتهى ؛ كما في قول الله عز وجل (وَلَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرَى*عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهَى) (النجم:14.13)

الصورة الثانية: أن يأتيه ولا يراه النبي صلى الله عليه وسلم، ولكن تُرى بعض الآثار على النبي صلى الله عليه وسلم، وقد تُسمع بعض الأصوات، ولكن جبريل لا يُرى، فالصحابة ـ رضي الله عنهم ـ كانوا يسمعون عند وجه النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه جبريل صوتاً كدوي النحل عند وجهه ـ عليه الصلاة والسلام ـ، ويتفصد العرق من جبينه في اليوم الشاتي، ويدل على ذلك حديث عائشة رضي الله تعالى عنها عند البخاري(2) ومسلم (4304): أن الحارث بن هشام رضي الله عنه سأل رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله كيف يأتيك الوحي؟! فقال النبي صلى الله عليه وسلم:" أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس وهو أشده علي فيفصم عني وقد وعيت عنه ما قال" وذكر النبي صلى الله عليه وسلم للحارث بن هشام الحالة الثانية ؛ وهو ( أن يأتيه على هيئة رجل فيكلمه فيعي ما يقول) فالحالة الأولى المذكورة في حديث الحارث بن هشام: "أن يأتيه على مثل صلصلة الجرس" ؛ يعني: أن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع صوتا كصلصلة الجرس، والصلصلة: هو صوت متدارك وهو معروف والجرس معروف وهو: الجلجل. و بعض أهل العلم يقولون: إن النبي صلى الله عليه وسلم يسمع هذا الصوت، والصحابة يسمعون كدوي النحل عند وجهه عليه الصلاة والسلام، فبالنسبة إليهم يسمعون كدوي النحل وبالنسبة للنبي صلى الله عليه وسلم يسمع صوتا كصلصلة الجرس.
ومما يدل على ذلك أيضاً ما أخرجه الترمذي ( 3097 ) من حديث عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه الوحي يُسمع عند وجهه كدوي النحل فأنزل عليه يوما فمكثنا ساعة ثم سُرِّي عنه فقرأ (قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ) (المؤمنون:1) وكذلك ما أخرجه مسلم ( 4305 ) من حديث عبادة بن الصامت رضي الله عنه قال: ( كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا نزل عليه كَرِب لذلك وتربد له وجهه"،و قالت عائشة رضي الله عنها: "ولقد رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد، فيفصم عنه وإن جبينه ليتفصد عرقا" وهذا هو الغالب من الحالات التي كان يأتي بها جبريل إلى رسول الله عليه الصلاة والسلام.
الحالة الثالثة: أن يأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم على هيئة (صورة) رجل، ويدل على ذلك: حديث الحارث بن هشام الذي روته عائشة ـ رضي الله عنها ـ وفيه: "و أحيانا يتمثل لي الملك رجلاً فيكلمني فأعي ما يقول"
وكذا حديث ابن عمر عند أحمد( 5592) :"كان جبريل يأتي النبي صلى الله عليه وسلم في صورة دحيه الكلبي" وهو رجل من الصحابة.
وكذلك: حديث عمر وهو ما يعرف بحديث جبريل المشهور في مسلم ( 8 ) (لما جاء جبريل في هيئة رجل شديد بياض الثياب شديد سواد الشعر لا يعرفه منهم أحد ولا يرى عليه أثر السفر).
ومن ذلك أيضاً: ما وقع للنبي صلى الله عليه وسلم في طفولته (حيث جاءه رجلان فشقا صدر النبي صلى الله عليه وسلم ...الحديث) في مسلم ( 236) فهذا كله مما يستدل به على هذه الحالة.
تنبيه :
قد يرد هنا سؤال وهو: أن الحارث بن هشام عندما سأل النبي صلى الله عليه وسلم عن كيفية مجيء الوحي إليه؛ أجابه النبي صلى الله عليه وسلم بصورتين فقط ؛ مع أن هناك بعض الصور الأخرى من صفات الوحي وحالاته، كدوي النحل، والنفث في الروع، والإلهام، والرؤيا، والتكليم بلا واسطة، وكذلك مجيء جبريل صلى الله عليه وسلم بصورته الحقيقية، فهذه خمس صور لم ترد في حديث الحارث بن هشام لما سأل النبي صلى الله عليه وسلم .
فيقال:إن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر له حالتين فقط ؛لأنها هي الغالب.
وقيل:إن ما ذكر وقع بعد سؤال الحارث بن هشام؛ وهذا فيه بعد، بل هو غلط وإن قاله بعض أهل العلم؛ لأن جبريل جاء للنبي صلى الله عليه وسلم بصورته الحقيقية في أول النزول في مكة، وكذا الرؤيا الصالحة، وقصه الحارث بن هشام كانت في أواخر العهد المدني، لأن الحارث بن هشام رضي الله عنه أسلم عام الفتح, لما دخل النبي صلى الله عليه وسلم مكة فاتحا. فهذا الجواب لا يصلح.
ويمكن أن يقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر صورة الملك حينما يأتي بصورته الحقيقية لأن ذلك نادر، وأيضاً: لم يذكر الرسول صلى الله عليه وسلم الإلهام والرؤيا، لأن هذه أمور قد تقع لغير الأنبياء ولا غرابة فيها، وإنما سأله كيف يأتي إليه الملك فيوحي إليه بالوحي الذي تظهر آثاره على النبي صلى الله عليه وسلم، أو كيف يأتيه بصورة لا يأتي بها الناس سوى رسول الله صلى الله عليه وسلم. أما الإلهام والرؤيا الصالحة فيقعان للناس ،فهو لم يسأل عن ذلك.
ويمكن أن يقال أيضاً: بأن دوي النحل لا يتعارض مع صلصلة الجرس الذي ذكرها النبي صلى الله عليه وسلم للاعتبار التي ذكرته فيما سبق. والعلم عند الله تبارك وتعالى.
وكذلك النفث في الرُّوع؛ يمكن أن يعاد إلى أحدى الحالتين: فيأتيه الملك فينفث في رُوعه بصورة صلصلة الجرس الذي يسمعه النبي صلى الله عليه وسلم، أو يأتي على هيئة رجل ثم ينفث في رُوع النبي صلى الله عليه وسلم ، ولا مانع من ذلك و الأحاديث تحتمله. والعلم عند الله تبارك وتعالى.
ويمكن أن يقال أيضاً: إن السؤال كان عن صفة الوحي الذي يأتي بحامل لا مجرد الرؤيا ولا مجرد الإلهام، وهكذا التكليم الإلهي المباشر كالتكليم ليلة المعراج فإنه لم يسأل عن ذلك.
فهذه احتمالات يذكرها العلماء رحمهم الله في الجواب عن هذا الإشكال.
وقد يرد هنا سؤال آخر وهو: أن آية الشورى تضمنت الأنواع الخمسة التي ذكرناها، و قلنا هي أجمع آية في أنواع الوحي، لكن من أنواع الوحي أن يكتب الله عز وجل لنبي من الأنبياء كتابا، أو ينزل عليه كتاباً وهذا لم يرد في آية الشورى فيما يتبادر لمن نظر فيها؛ فما الجواب عن ذلك ؟!
فيقال : إن مسألة الكتابة و إنزال الكتب مسألة ثابتة لاشك فيها؛ والله عز وجل أخبر أنه أنزل التوراة على موسى عليه السلام وكتب له في الألواح، كما في سورة الأعراف حين قال: (وَكَتَبْنَا لَهُ فِي الْأَلْوَاحِ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ فَخُذْهَا بِقُوَّةٍ وَأْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِهَا) (لأعراف:145) وكذلك في قوله تبارك وتعالى عن موسى صلى الله عليه وسلم: (وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدىً وَرَحْمَةٌ )(لأعراف: من الآية154)، وفي الصحيحين (خ/ 3157، م / 4793) في قصة محاجة آدم وموسى عليهم الصلاة والسلام :" فَقَالَ لَهُ آدَمُ أَنْتَ مُوسَى اصْطَفَاكَ اللَّهُ بِكَلَامِهِ وَخَطَّ لَكَ بِيَدِهِ " وفي رواية:" كَتَبَ لَكَ التَّوْرَاةَ بِيَدِهِ "
فيمكن أن يجاب عن الإشكال السابق بعدة أجوبة:
الأول : أن يقال بأن الآية تكلمت عن طرق تكليم الله عز وجل لأنبيائه صلى الله عليهم وسلم، وما تكلمت عن الكتابة فالله تعالى يقول: (وَمَا كَانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً)(الشورى: من الآية51).ويمكن أن يناقش أيضاً هذا الجواب.
الثاني:أن يقال: إن الكتابة هي أحد اللسانيين فهي لون من الكلام، فقوله تعالى:( أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً)...إلخ فالكلام يكون عن طريق الوحي، ويمكن أن يكون منه الكتابة.
الثالث:أن يقال إنها يمكن أن تدخل تحت قوله : ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)(الشورى: من الآية51) فيكون الملك قد جاء بهذه الألواح أو بالتوراة . وعلى هذا فالكتابة إما أن تدخل تحت قوله ( إِلَّا وَحْياً)(الشورى: من الآية51) أو تدخل تحت قوله ( أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً)والله تعالى أعلم.
فائدة:
الأقرب في معنى هذه الألواح؛ أنها هي التوراة، بدليل الحديث السابق: " ...وكتب لك التوراة بيده "، وكذلك في قوله تبارك وتعالى ( مَوْعِظَةً وَتَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْءٍ)(لأعراف: من الآية145).وأما قول بعض أهل العلم بأن الألواح هي الوصايا العشر؛ فهذا فيه نظر. والله تعالى أعلم.
 
جزاك الله خيراً ونأمل المواصلة في نقل الموضوعات القيمة .
 
أبشر يا شيخ أحمد ، سأسعى إلى ذلك جاهدا، شاكرا لك دعاءك ودعمك ، والله يحفظك
 
عودة
أعلى