الحكمة في رجم المحصن وجلد الأعزب

محمود روزن

New member
إنضم
30/10/2020
المشاركات
14
مستوى التفاعل
3
النقاط
3
العمر
45
الإقامة
مصر
يقول الإشكال: "شاع بين الناس أن اختلاف درجة العقاب في جريمة الزنا بين المحصن وغير المحصن عائد إلى أنَّ المحصن هو المتزوج، وأنه بذلك ترك الحلال المتاح وذهب للحرام، فغلظت عقوبته بالرجم، وخفِّفت عقوبة الأعزب بالجلد. ولكن الإحصان عند الفقهاء لا يعني بالضرورة أن يكون الشخص متزوجًا وقت الوقوع في الخطيئة؛ بل يكفي أن يكون قد سبق له الزواج، فالفقير الذي ماتت زوجته ولا يقدر على الزواج مجددًا أو شراء الإماء؛ لا يزال محصنًا، ولو زنا لاستحقَّ الرجم، وأمَّا الثري الزاني الذي لم يتزوج قطُّ يستحق الجلد. والإحصان يكون بمجرد الدخول بالزوجة، ويستمرُّ حتى لو طلقها أو ماتت. ولا يتحقق بالتسرِّي، ولا بالزنا. فالذي يملك مئة أَمَةٍ أو من وقع في الزنا مئةَ مرةٍ يظل غير محصن، وبالتالي سيعاقب بالجلد. وأمَّا مَن تزوج ولو ليوم واحد في حياته ثم وقع في الزنا فيما بعد فعقابه مغلظ وهو الرجم. ومن هذا يتضح صعوبة إيجاد تبرير عقلي لهذا التشريع".

فنقول وبالله التوفيق: لعلَّ الحكمة في ذلك -والله أعلم- أنَّ المُحصن بطريق صحيح قد دخل حَرَم الزواج، ويُفترض أنَّه تحقَّق بمقاصده من السَّكن إلى زوجِه، والمودَّة، والرحمة، وقد أُخِذ عليه ميثاقٌ غليظٌ مَن تحقَّق به يصعب عليه أن يتفصَّى من رباط الطاعة إجمالًا، ويُفترض من مثل هذا الزوج أنَّه استشعر نعمة الله عليه في هذا الزواجِ.

فهو قد دخل هذا الحرم، وإن كان قد خرج منهُ بتطليق أو بوفاة زوجٍ ... أو غير ذلك. ومن دخل الحرم ضوعفت عليه عقوبةُ انتهاك حرمته.

وأما المتسري فلم يدخله حقيقةً؛ لأن التسرِّي ليس زواجًا، وهو وإن حقَّق بعض مقاصده؛ لا يُحقِّق جُلَّها. واعتبِر بأنَّ الشرع قد جعل الزواج بالسرية خلاف الأَوْلى، فالأَوْلى الزواجُ بالحرَّة، فمجرَّد التسري لا يُدخله هذا الحَرَم.

وبقياس الأولى؛ فالذي سبق له الوطء في زنًى لا يتحقق بهذا المعنى قطعًا، وإنما هو دائر على الخبائث متسقِّط عليها، متوفِّزٌ لاهتبال فُرصة الوصول إلى هاوية الرذيلة! قَلِقٌ مخافةَ افتضاح أمره، فأين هو من السكن والسكينة التي هي من أهم مقاصد الزواج!!

فالعلَّة منوطة -على حدِّ تعبيرنا- بدخول حرَم الزواج، فمَن دخله ولم يُراعِه حُقَّ أن تُغلَّظ عقوبتُه، كما غلِّظت عقوبة التارك لدينه بعد أن دخله، ولو ظلَّ على كفره الأصلي ولم يدخل الإسلام ما أُبيح دمه، فاعتبر بهذا القياس، وإن كان قياسًا مع الفارق؛ لمجرَّد تقريب الفكرة.

ولعلَّ من أسباب تغليظ عقوبة الزاني المحصن أيضًا: أنَّ الزاني بعد أن تزيَّا بلباس الإحصان يقدِّم صورة سلبية عن الزواج لغير المتزوِّجين، مما قد يُزهِّد الناس في الزواج؛ فيقلُّ عدد المقبلين عليه الراغبين فيه، وبذا تتعطَّل مقاصده. وهذا أمرٌ ملحوظ سمعناه من بعض الشباب العازفين عن الزواج بسبب ما يبلغهم من قصص الزنا بين المتزوِّجين في بعض المجتمعات، فما دام الزواج لا يعصمهم عن مهاوي الرذيلة، ولا يضمن العفاف للمتزوِّجين؛ فما الذي يجعل غير المتزوِّج يُقْدِم عليه، مع ما فيه من أعباء وتكاليف؟!


فإذا غُلِّظت عقوبة الزاني المحصن فكَّر مَن يريد الزنى من المحصنين ألف مرَّة قبل أن يرتكب هذه الفاحشةَ، ولم يبتغِ العفاف في غير الإحصان، فإن تعسَّر عليه تحقيق مقاصد الزواج من السكن والمودة مع زوجٍ فارقه إلى غيره -وقد جعل الله له في الطلاق أو الاختلاع سبيلًا- مع مزيد من التحرِّي والأخذ بأسباب التوفيق حتى يُحقِّق بزواجه الثاني من مقاصد الزواج ما عجز عنه في زواجه الأوَّل. وإن مات زوجُه لم يبغِ بالزواج بدلًا، وهو قد وقف على ما فيه من نعمة وسكن وعفَّةٍ، وإن لم يتيسَّر له تصبَّر رغبةً فيما عند الله من الأجر، ورهبةً من عقوبة الدنيا والآخرة. وهو -مهما كان فقيرًا- لن يعدم في المجتمع السَّوِيِّ مَن يناسب حالَه ويرضى به زوجًا، ولا يَشِذُّ عن ذلك -كما نراه عيانًا بيانًا - إلا نوادر الحالات التي لا تنقض أصل السُّنَّة الربَّانية، ولن تجد لسنَّة الله تبديلًا.
وبهذا المعنى يَحضر الزواجُ في المجتمع الإسلامي بوصفه نعمةً عظيمة، وضامنًا حقيقيًّا لاستقرار الأُسرة المسلمة التي هي نواة استقرار المجتمع المسلم وازدهاره.
وإن الزاني غير المحصن -وإن تكرَّر منه ذلك- لا يزال الناس يقولون فيه: لو تزوَّج لَوُفِّق سُبُلَ العفَافِ، فيبقى الزواجُ في أذهان الجميع أيقونةَ العفاف وكلمة السرِّ الكبرى التي تفتح بابه، وتُغلق باب الرذيلة على مصراعيه. وكثيرًا ما يعوِّل العاصي الزاني غير المتزوِّج على الزواج: أنَّه إذا تزوَّج سيثبت على التوبة عن الزنا بإذن الله، فإذا لم يفعل وقد تزوَّج فأيُّ قرارٍ يبتغيه؟!

فإن زنى الـمُحصن؛ فماذا يقولون؟ يقولون: ها؛ لم يُقدِّم الزواجُ حلًّا، ولم يَشْفِ عِلَّة، ولم يعفَّ نفسًا، فلماذا نتزوَّجُ إذن، ونتجشَّم تكاليفه والتزاماته! فيعزف الناس عن الزواج مع الوقت، وتتعطَّل مقاصده، وتفشو الفاحشة أكثر وأكثر.

وهذا -لمن تأمَّله وتدبَّره بتجرُّدٍ- كافٍ لتغليظ عقوبة المحصن موازنة بعقوبة غير المحصن. والله أعلم.

نسأل الله حسن الفهم عنه، وحسن البلاغ عنه، ونسأله الثبات على الخير، والعزيمة على الرشد. والحمد لله رب العالمين.
 
- أعجبني أسلوبك الهادئ في فحص المسألة، وقياس رجم المحصن على ترك الكافر دافع الجزية على كفره، وقتله إن ارتد بعد إسلام.
لكن الإشكال ليس في "وجود" تباين بين عقاب المحصن وغير المحصن، بل في "تبريره" بحكمة عقلانية عند من يصرون على إيجاد حكمة عقلية.
- ساحة الحرم قوانينها مقيدة بالوجود فيها، ومثلها حالة الإحرام، لا للأبد. فهي مؤقتة، لا تمتد لنهاية العمر. فالتشبيه لا ينطبق على مسألتنا.
- عدم التشجيع على الزواج من الأمة قيل سببه أن الابن يولد في العبودية ويصير ابن الحر رقيقا لصاحب الجارية.
- تقول "مما قد يُزهِّد الناس في الزواج". ألا ترى أن قصر العقوبة المغلظة على من تزوج، وتخفيفها على من لم يتزوج، قد يزهد الناس في الزواج؟
 
بوركتم آخي الكريم، وجعلني الله وإياكم عند حسن الظنِّ.
  • أما وجود حكمة فهي موجودة قطعًا، وكلُّ أفعال الله تعالى حكيمة، وأمَّا الوصول إليها، فنحن متعبدون بالشرع، وإن لم نعقل الحكمة من بعض التشريعات، وهذا في حدِّ ذاته جارٍ على مقتضى الحكمة: أنَّ الإسلام لا يستقرُّ إلا ظهر التسليم والاستلام للأمر وإن لم نعقل حكمته. وأظنُّ أن هذا القدر محلُّ اتفاقٍ بيننا.
  • وأمَّا الاجتهاد في إدراك حكمة تشريعٍ فهو عبوديةٌ أخرى ما دام المرءُ منطلقًا من الامتثال بهذا التشريع أدرك الحكمة منه أم لم يُدركها، وما دام المرء متسلِّحًا بأدوات التفكُّر والتدبُّر الصحيحة، ومنضبطًا بمنهجية علمية. وأظن أن هذا القدر أيضًا محلُّ اتِّفاق بيننا.
  • فإذا أقررتم بكون هذا القدر محلَّ اتِّفاق؛ فقد آن لنا أن نقوم لله مثنى وفُرادى وأن نتفكَّر في حِكمة هذا التشريع تعبُّدًا لله وامتثالًا لأمره بالتفكُّر والتدبُّر؛ لا على نيَّة اطِّراح الحُكم إن لم نقتنع؛ حاش لله!
  • وبعد؛ فالمقالة منعقدة على محاولة إيجاد حكمة التفاوت بين عقوبة المحصن وغير المحصن، والقياسات المستخدمة إنما هي لتقريب الفكرة، وتبقى قياساتٍ مع الفارق.
  • وإنما أردتُّ أنَّ حَرَم الزواجِ مَن دخله من بابه بحقٍّ وقف على مقاصده، وأدركها، وظهر له وجه كونه نعمة عظمى وألوة باهرة من نعم الله وآلائه، وهذا المعنى حاضر بقوة في طوله القرآن وعرضه، فمن دخله بحقٍّ دام في حَرَمه لم يخرج منه، وإن خرج من علاقة الزواج نفسه بوفاةِ زوجٍ أو طلاق أو اختلاعٍ. فتأمَّل.
  • ومن ذاق طيب الزواج كان حقيقًا أن يُبغَّض إليه الفسوق والعصيان. والقرآن الكريم يُعظِّم أمر الغواية بعد البصيرة، والضلالة بعد الهُدى، والصالحون يستعيذون: "ربنا لا تزغ قلوبنا بعد إذ هديتنا"، ويشفقون من أن يُردُّوا على أعقابهم بعد إذ هداهم الله كالذي استهوته الشياطين في الأرض حيران. وهذا القَدْر يشترك فيه المحصن الذي لا يزال على إحصانه، والمحصن الذي فارق شريكه. فتأمل!
  • قصر العقوبة المغلظة على مَن تزوج، وتخفيفها على من لم يتزوج، قد يُزهد الناس في الزواج إن كان الناس يسعَوْن أساسًا إلى طلب العقوبة ويتحرَّونها، أو يسعون أساسًا إلى طلب الفاحشة، وهذا لا يقوله عاقل؛ بل الأصل أنَّ المسلم يسعى إلى الزواج والعفة لا إلى الزنا والخنا، وإن الحدود موضوعة أساسًا لضمان عدم محيده عن صراط الجنة وتقحُّم الستر المرخاة على جنبتيه. فالحدود للرَّدع ولتقويم الاعوجاج بالنَّظر للفرد والجماعة، وقد تبدو المصلحة فيها بالنظر من منظور الفرد في بعض الأحيان أعظم، وأعظم بالنظر من منظور الجماعة في بعض الأحيان، ولكنها مصلحة للفرد والجماعة في كلِّ حالٍ إن أخذنا في الاعتبار أنَّ مصلحة الآخرةِ أهمُّ من مصلحة الدنيا.
  • وأما شواذُّ المسائل المتعلِّقة بهذا الموضوع ونوازلها فلعلَّها تبقى محلَّ نظر في أفرادها، وهذا لا ينافي الإجماع على أصل الأحكام التفصيلية؛ كما أنَّ إسقاط حدِّ السرقة عام الرمادة لا ينافي أصل الإجماع على وجوب قطع السارق. ولا أريد أن أضرب أمثلة على هذه المسائل -وهي لديَّ كثيرة واقعية- حتى نفتح باب جدلٍ فقهيٍّ لن يُغلق. وإنما أردتُّ أنَّه لا يمنع أن يكون هناك تفصيل في أحكام الرجم، وهذا لا ينافي أصل الإجماع على وجوب رجم الزاني المحصن. ولو تصدَّى متخصِّص ضليع في الفقه لهذه المسائل والنوازل لجاء ببحث جيِّد مفيدٍ.
  • والحمد لله رب العالمين
 
عودة
أعلى