فهد الوهبي
Member
الجمال في القرآن [1/5] (*)
د. مصطفى الحيا 14/8/1428
27/08/2007
إن أول ما يستوقف الباحث الذي يريد أن يؤصل الجمال في التصور الإسلامي من القرآن الكريم هو قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" [النحل:6]. لذا لابد من وقفة مع هذه الآية.
فقد وردت الإشارة إلى الجمال صريحة في القرآن ثماني مرات. واحدة منها بصيغة المصدر "جمال" والسبع الباقية بصيغة الصفة "جميل".
فبالنسبة لصيغة المصدر "جمال" التي وردت في الآية المتقدمة من سورة النحل يلاحظ أن ذكر الجمال فيها جاء مقصوداً لذاته مستقلاً بجانب الفوائد المادية الأربع المذكورة في السياق.
قال تعالى: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [النحل:5-7].
فقد ذكرت الآيات أربع فوائد مادية للأنعام هي:
1- الدفء ويقصد به الملابس والأكسية والأغطية وغيرها.
2- المنافع ويقصد بها النسل والألبان والجلود وغيرها.
3- الأكل ويقصد به اللحوم والشحوم.
4- حمل الأثقال إلى البلدان البعيدة.
ويأتي الجمال بين هذه الفوائد مستقلاً قائماً بذاته، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أمرين:
الأول: هو أن الجمال أصل في هذا الكون.
والثاني: هو أن الجمال في التصور الإسلامي مرتبط بالمنفعة ارتباطاً وثيقاً. فالنافع والجميل لا يكاد ينفصل الواحد منها عن الآخر في هذا التصور. ولذلك ورد ذكر الجمال بعد الدفء والمنافع والأكل وقبل حمل الأثقال إلى البلدان البعيدة. فذكر وسط الفوائد المادية كأنه واحد منها وفي هذا إشارة إلى أن الجانب الجمالي لا يقل أهمية عن الجوانب النفعية المادية.
وقد وقف المفسرون والبلاغيون على جمال الأنعام في هذه الآية، فاسترعى انتباههم تقديم الإراحة فيها على السرح مع العلم أن المألوف هو أن تغدو الأنعام إلى السرح أول النهار ثم تروح إلى الحظائر آخره، فعللوا كلهم هذا التقديم بكون جمال الأنعام يكون في أوج كماله وتمامه عند الرواح إلى الحظائر وليس عند الغدو إلى السرح.
رأي القرطبي:
يقول القرطبي: "ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نَعَمُ فلان. قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حُسْنُها وعَظُمَ شأنها وتعلقت القلوب بها، لأنه إذا ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا. قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها" (الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 10-71).
رأي الزمخشري:
ويتساءل الزمخشري بطريقته المألوفة نيابة عن القارئ أو المتلقي فيقول: "فإن قلت قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. ( نكت الأعراب في غريب الإعراب: الزمخشري: 240).
رأي فخر الدين الرازي:
أما الفخر الرازي فعلى غير عادته نجده أنه لم يستوقفه هذا التقديم والتأخير رغم أنه صاحب الفكرة القائلة بأن إعجاز القرآن يتلخص في الترتيبات والروابط. لقد مر على هذه الآية دون إبداء آية ملاحظة تبين أنه انتبه إلى خصوصية الترتيب فيها فقال: "واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح في الأفنية، وتجاوب فيها الثُغاء والرُّغاء وفرحت أربابها وعَظُمَ وَقْعُهُم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها" (مفاتيح الغيب: الفخر الرازي 19-182).
رأي برهان الدين البقاعي:
ويضيف البقاعي عنصراً جديداً يُعَلِّلُ به تمام الجمال في حال الرواح وهو أن القدوم أجل وأبهج من النزوح فيقول: "ولما كان القدوم أجل نعمة وأبهج من النزوح قدمه فقال: "حين تريحون" بالعشي من المراعي وهي عظيمة الضروع طويلة الأسنمة "وحين تسرحون" بالغداة من المُراح إلى المراعي، فيكون لها في هاتين الحالتين من الحركات منها ومن رعاتها ومن الحلب والتردد لأجله وتجاوب الثغاء والرغاء أمر عظيم وأنْسٌ لأهلها كبير" (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: البقاعي 11-108-109).
رأي زين الدين الرازي:
أما فيما يخص زين الدين الرازي فيضيف جزئية جمالية أخرى تتعلق بجمال مشيتها حين تتهادى فيها وهي رائحة إلى الحظيرة: "فإن قيل: لم قدمت إلا راحة وهي مؤخرة في الواقع على السرح وهو مقدم في الواقع في قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" [النحل:6] قلنا: لأن الأنعام في وقت الإراحة وهي ردها عشيا إلى المراح تكون أجمل وأحسن لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، متهادية في مشيتها، يتبع بعضها بعضا، بخلاف وقت السرح وهو إخراجها إلى المراعي فإن هذه الأمور تكون ضد ذلك" (الأنموذج الجليل في أسئلة وأجوبة من غرائب التنزيل: زين الدين الرازي:255).
رأي ابن الصائغ:
ولا يكاد ابن الصائغ يضيف شيئاً إلى ما قله الذين تقدموه إذ يقول بأن الأنعام: "حالة إراحتها آخر النهار يكون الجمال بها أفخر إذ هي بطان وحالة سراحها للمرعى يكون الجمال بها دون الأول إذ هي فيه خِمَاصٌ" (أنظر معترك الأقران في إعجاز القرآن: السيوطي: 1-174).
هذا عن كلمة "جمال" في صيغة المصدر، وقد اختص بجمال الأنعام –وهو جمال حسي- أما بالنسبة لكلمة "جميل" بصيغة الصفة فقد اختصت بالجمال المعنوي حيث وصف بها الصبر، "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" [يوسف:18]. وقال تعالى: "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً" [يوسف:83]. وقال تعالى: "فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً" [المعارج:5]. ووصف بها الصفح في قوله تعالى: "وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" [الحجر:85]. ووصف بها السراح، في قوله تعالى: "فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً" [الأحزاب:28]. وفي قوله تعالى: "فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً" [الأحزاب:49]. بل وصف بها الهجر، في قوله تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً" [المزمل:10].
فكيف يكون الصبر جميلاً؟ وكيف يكون الصفح جميلاً؟ بل كيف يكون السراح جميلاً وهو طلاق، وكيف يكون الهجر جميلاً وهو فراق؟.
لقد بين المفسرون أن الصبر الجميل هو الذي لا مشتكى فيه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، والصفح الجميل هو الذي لا منة فيه على من صَفَحْتَ عنه، والسراح الجميل هو الذي لا إيذاء فيه للتي سَرَّحْتَها، والهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه للشخص الذي هجرته.
وهكذا دخل الجمال في القرآن مجالات لم يدخلها في الثقافات الإنسانية الأخرى ولا عَهْدَ للناس بتتبع الجمال فيها. (انظر الظاهرة الجمالية في الإسلام: صالح أحمد الشامي: 195).
ويعتبر القرآن عن الجمال بألفاظ جمالية أخرى كالحُسْن والزينة والنضرة والبهجة والحلية والزخرف وغيرها.
جمالية الحسن:
فالبنسبة للحسن وصف به العموم والخصوص، فمن العموم قوله تعالى: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" [السجدة:7].
ومن الخصوص حسن الجنة حيث حسنت مستقرا ومقاما "خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً" [الفرقان:76].
وحسنت مستقرا ومقيلا "أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً" [الفرقان:24]، وحسنت مرتفقا "مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً" [الكهف:31]، وحسن صور بني آدم "وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ" [غافر:64]، وحسن النساء، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ" [الأحزاب:52]. وحسن الأسماء "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" [الأعراف:180]. وحسن الثياب والفرش "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" [الرحمن:76].
جاء في لسان العرب: "والرفرف ثياب خضر يتخذ منها للمجالس.. وفي التنزيل العزيز "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" [الرحمن:76]..
وجاء في لسان العرب: "والرفرف ثياب خضر يتخذ منها للمجالس... وفي التنزيل العزيز "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ" [الرحمن:76]، وقرئ (على رفارف) وقال الفراء في قوله "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ" [الرحمن:76]. قال: ذكروا أنها رياض الجنة، وقال بعضهم: الفرش والبسط. والرفرف الشجر الناعم المسترسل" (لسان العرب: ابن منظور (9/126) مادة (رفض).
وحسن الأثاث "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً" [مريم:74]. والأثاث المتاع كمتاع البيت وغيره.
وحُسن القول: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت:33].
وحُسن الحديث: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ" [الزمر:23].
وحُسن التقويم: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" [التين:4].
وحُسن الصبغة "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً" [البقرة:138].
جمالية الزينة:
وبالنسبة للزينة هناك زينة السماء "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا" [قّ:6].
وقد زينت بالكواكب: "إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ" [الصافات:6].
وزينت بالمصابيح: "وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً" [فصلت:12].
وزينت بالبروج: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ" [الحجر:16].
قال الفخر الرازي عن السماء: "إن الله تعالى زينها بسبعة أشياء:
بالمصابيح: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" [الملك:5].
وبالقمر: "وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً" [نوح:16].
وبالشمس: "وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً" [نوح:16].
وبالعرش: "رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" [التوبة:129].
وبالكرسي: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" [البقرة:255].
وباللوح: "فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" [البروج:22].
وبالقلم: "نْ وَالْقَلَمِ" [القلم:1].
فهذه سبعة ثلاثة منها ظاهرة وأربعة خفية ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار" (مفاتيح الغيب: الفخر الرازي 2-98).
وهناك زينة الأرض: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" [الكهف:7].
وقد زينت بالزخرف: "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ" [يونس:24].
وهناك زينة الحياة الدنيا: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا" [القصص:60].
وقد زينت بالمال والبنين: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" [الكهف:46].
وهناك زينة المرأة: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" [النور:31].
وهناك زينة الرجل والمرأة على السواء: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف:31].
وقد كان الحسن البصري إذا أراد الذهاب إلى المسجد تزين وتطيب ورجَّل شعره، فلما سُئل في ذلك قال: أتجمّل لربي وتلا الآية "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف:31]. (أنظر كتاب السنة مصدراً للمعرفة: يوسف القرضاوي 353).
ولهذا نهى النبي أن يذهب الرجل في ثياب مهنته وندب المسلم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" (رواه أبو داود في كتاب الصلاة الباب 213، وابن ماجة في كتاب الإقامة الباب83، أنظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: 6-282).
والزينة فيها ما هو مستحب مندوب إليه ومرضاة للرب وطريق للهداية وهي التي قال عنها الله عز وجل: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" [لأعراف:32].
ومنها زينة الجمال التي في قوله تعالى: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً" [النحل:8]، وغيرها من أنواع الزينة الإيجابية التي تقدمت.
وفيها ما هو مرفوض منفر منه، مسخطة للرب وطريق للغواية وهي التي قال عنها الله عز وجل "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" (الحجر:39-40].
ومنها زينة فرعون وملئه: "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ" [يونس:88].
وزينة قارون: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" [القصص:79-81].
قال ابن كثير متحدثاً عن زينة قارون: "خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمُّل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخرفها وزينتها وتمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي... فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم "ويلكم ثواب الله خير.."... كما في الحديث الصحيح "يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتهم "فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة:17]. (تفسير القرآن العظيم: ابن كثير:5/300).
جمالية الحلية:
الحلي ما تزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة.. والحلية كالحلي والجمع حلى وحلي. الليث: الحلي كله حلية حليت بها امرأة أو سيفا أو نحوه، والجمع حلي (لسان العرب: ابن منظور: 14/194-195. مادة (حلى). والحلى في القرآن مقترنة بالنساء في السياقات الخاصة بالدنيا قال الله تعالى: "أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ" [الزخرف:18].
أما السياقات المتعلقة بالآخرة فلا يميز فيها بين الرجال والنساء، قال سبحانه: "وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً" [الإنسان:21]، "يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً" [الكهف:31]، "يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ" [الحج:23]، "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً" [فاطر:33].
وما قلناه عن الجمال في ارتباطه بالمنفعة في القرآن الكريم يصدق على الحلية أيضاً فهي مقترنة إما بمنافع تتعلق بالأكل كما في قوله تعالى عن البحر: "لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" [النحل:14].
وكما في قوله سبحانه عن البحر والنهر: "وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" [فاطر:12].
قال ابن منظور: وقوله تعالى: "وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" [فاطر:12]. جاز أن يخبر عنهما بذلك لاختلاطهما، وإلا فالحلية إنما تستخرج من الملح دون العذب" (لسان العرب: ابن منظور:14/195. مادة (حلي).
وإما مقترنة بمنافع تتعلق بالمتاع: "وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ" [الرعد:17].
وأخيراً فإن ما قلناه عن الزينة من أنها قد تكون طريقا للغواية يصدق أيضاً على الحلية فمن حلي بني إسرائيل صنع العجل الذهبي الذي عبده اليهود من دون الله: "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ" [لأعراف:148].
يقول سيد قطب: "ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم... وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم، صورة تعجب منها القرآن الكريم وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام: "أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ" [لأعراف:148]، وهل أظلم ممن يعبد خلقا من صنع أيدي البشر والله خلقهم وما يصنعون" (في ظلال القرآن: سيد قطب 3/640).
جمالية الزخرف:
الزخرف: الزينة، والزخرف الذهب في الأصل ثم سميت كل زينة زخرفا، ثم شبه كل مموه مزور به. وزخرف البيت زخرفه: زينة وأكمله والزخرف في اللغة: الزينة وكما حسن الشيء (لسان العرب:ابن منظور:9/132. مادة (زخرف) بتصرف).
واستعمل الزخرف في القرآن –شأنه شأن الزينة والحلية- إيجاباً وسلباً فمن سياقاته الإيجابية قوله تعالى: "وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً" [الزخرف: 34-35].
ومن سياقاته السلبية قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً" [الأنعام:112].
فكما كانت كل من الزينة والحلية طريقا إلى الغواية فإن الزخرف هنا أمسى مطية إلى الغرور.
جمالية البهجة:
البهجة: الحسن، والبهجة: حسن لون الشيء ونضارته... ويهج النبات، فهو بهيج: حسن وتباهج النوار: تضاحك (لسان العرب: ابن منظور: 2/216-217. مادة (بهج).
وكما استعمل الجمال في القرآن مصدرا ووصفا "جمال وجميل" استعملت البهجة فيه أيضاً مصدراً وصفة. "بهجة وبهيج" فآية المصدر قوله تعالى: "فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" [النمل:60].
وآيتا الصفة هي قوله سبحانه: "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" [الحج:5].
وقوله عز وجل: "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" [قّ:7].
إلا أن استعمال البهجة لم يأت إلا في السياقات المادية في حين استعمل الجمال ماديا ومعنوياً. كما أن البهجة لم ترد مقترنة بما هو سلبي كالغواية أو الغرور بل وردت إيجابية في كل حالات استعمالها. يقول سيد قطب رحمه الله معلقا على قوله تعالى: "فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" [النمل:60]. "حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة... ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر. وإن تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث" (في ظلال القرآن: سيد قطب:6/292).
جمالية النضرة:
النضرة: النعمة والعيش والغنى وقيل: الحسن والرونق. وقد نضر الشجر والورق والوجه واللون وكل شيء ينضر نضراً ونضرةً.. فهو ناضر ونضير ونضر أي حسن (لسان العرب: ابن منظور:5/212 مادة (نضر).
وقد وردت النضرة ثلاث مرات في القرآن الكريم كلها في المجال الإنساني حيث لم تخرج منه إلى المجال الطبيعي كما هو الحال بالنسبة للزينة والزخرف مثلاً، قال الله تعالى: "فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" [الإنسان:11].
وقال سبحانه: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" [المطففين:24].
وقال عز وجل: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" [القيامة:23-24].
قال ابن منظور: "قال الفراء في قوله عز وجل "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ" [القيامة:23]. قال: مشرقة بالنعيم: قال وقوله "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" [المطففين:24]. قال: بريقه ونداه. والنضرة نعيم الوجه. وقال الزجاج في قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" [القيامة:22-23]. قال: نضرت بنعيم الجنة والنظر إلى ربها عز وجل (لسان العرب: ابن منظور:5/212 مادة (نضر).
المصدر : الإسلام اليوم
-----------------------------------------------------------
(*) مختار من رسالة دكتوراه بعنوان: "علم الجمال والتصور الإسلامي محاولات في التأصيل ومقاربات للتطبيق" للدكتور: مصطفى الحيا.
د. مصطفى الحيا 14/8/1428
27/08/2007
إن أول ما يستوقف الباحث الذي يريد أن يؤصل الجمال في التصور الإسلامي من القرآن الكريم هو قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" [النحل:6]. لذا لابد من وقفة مع هذه الآية.
فقد وردت الإشارة إلى الجمال صريحة في القرآن ثماني مرات. واحدة منها بصيغة المصدر "جمال" والسبع الباقية بصيغة الصفة "جميل".
فبالنسبة لصيغة المصدر "جمال" التي وردت في الآية المتقدمة من سورة النحل يلاحظ أن ذكر الجمال فيها جاء مقصوداً لذاته مستقلاً بجانب الفوائد المادية الأربع المذكورة في السياق.
قال تعالى: "وَالْأَنْعَامَ خَلَقَهَا لَكُمْ فِيهَا دِفْءٌ وَمَنَافِعُ وَمِنْهَا تَأْكُلُونَ وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ وَتَحْمِلُ أَثْقَالَكُمْ إِلَى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بَالِغِيهِ إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُوفٌ رَحِيمٌ" [النحل:5-7].
فقد ذكرت الآيات أربع فوائد مادية للأنعام هي:
1- الدفء ويقصد به الملابس والأكسية والأغطية وغيرها.
2- المنافع ويقصد بها النسل والألبان والجلود وغيرها.
3- الأكل ويقصد به اللحوم والشحوم.
4- حمل الأثقال إلى البلدان البعيدة.
ويأتي الجمال بين هذه الفوائد مستقلاً قائماً بذاته، وهذا إن دل على شيء فإنما يدل على أمرين:
الأول: هو أن الجمال أصل في هذا الكون.
والثاني: هو أن الجمال في التصور الإسلامي مرتبط بالمنفعة ارتباطاً وثيقاً. فالنافع والجميل لا يكاد ينفصل الواحد منها عن الآخر في هذا التصور. ولذلك ورد ذكر الجمال بعد الدفء والمنافع والأكل وقبل حمل الأثقال إلى البلدان البعيدة. فذكر وسط الفوائد المادية كأنه واحد منها وفي هذا إشارة إلى أن الجانب الجمالي لا يقل أهمية عن الجوانب النفعية المادية.
وقد وقف المفسرون والبلاغيون على جمال الأنعام في هذه الآية، فاسترعى انتباههم تقديم الإراحة فيها على السرح مع العلم أن المألوف هو أن تغدو الأنعام إلى السرح أول النهار ثم تروح إلى الحظائر آخره، فعللوا كلهم هذا التقديم بكون جمال الأنعام يكون في أوج كماله وتمامه عند الرواح إلى الحظائر وليس عند الغدو إلى السرح.
رأي القرطبي:
يقول القرطبي: "ومن جمالها كثرتها وقول الناس إذا رأوها هذه نَعَمُ فلان. قاله السدي. ولأنها إذا راحت توفر حُسْنُها وعَظُمَ شأنها وتعلقت القلوب بها، لأنه إذا ذاك أعظم ما تكون أسنمة وضروعا. قاله قتادة. ولهذا المعنى قدم الرواح على السراح لتكامل درها وسرور النفس بها" (الجامع لأحكام القرآن: القرطبي: 10-71).
رأي الزمخشري:
ويتساءل الزمخشري بطريقته المألوفة نيابة عن القارئ أو المتلقي فيقول: "فإن قلت قدمت الإراحة على التسريح؟ قلت: لأن الجمال في الإراحة أظهر إذا أقبلت ملأى البطون حافلة الضروع ثم أوت إلى الحظائر حاضرة لأهلها. ( نكت الأعراب في غريب الإعراب: الزمخشري: 240).
رأي فخر الدين الرازي:
أما الفخر الرازي فعلى غير عادته نجده أنه لم يستوقفه هذا التقديم والتأخير رغم أنه صاحب الفكرة القائلة بأن إعجاز القرآن يتلخص في الترتيبات والروابط. لقد مر على هذه الآية دون إبداء آية ملاحظة تبين أنه انتبه إلى خصوصية الترتيب فيها فقال: "واعلم أن وجه التجمل بها أن الراعي إذا روحها بالعشي وسرحها بالغداة تزينت عند تلك الإراحة والتسريح في الأفنية، وتجاوب فيها الثُغاء والرُّغاء وفرحت أربابها وعَظُمَ وَقْعُهُم عند الناس بسبب كونهم مالكين لها" (مفاتيح الغيب: الفخر الرازي 19-182).
رأي برهان الدين البقاعي:
ويضيف البقاعي عنصراً جديداً يُعَلِّلُ به تمام الجمال في حال الرواح وهو أن القدوم أجل وأبهج من النزوح فيقول: "ولما كان القدوم أجل نعمة وأبهج من النزوح قدمه فقال: "حين تريحون" بالعشي من المراعي وهي عظيمة الضروع طويلة الأسنمة "وحين تسرحون" بالغداة من المُراح إلى المراعي، فيكون لها في هاتين الحالتين من الحركات منها ومن رعاتها ومن الحلب والتردد لأجله وتجاوب الثغاء والرغاء أمر عظيم وأنْسٌ لأهلها كبير" (نظم الدرر في تناسب الآيات والسور: البقاعي 11-108-109).
رأي زين الدين الرازي:
أما فيما يخص زين الدين الرازي فيضيف جزئية جمالية أخرى تتعلق بجمال مشيتها حين تتهادى فيها وهي رائحة إلى الحظيرة: "فإن قيل: لم قدمت إلا راحة وهي مؤخرة في الواقع على السرح وهو مقدم في الواقع في قوله تعالى: "وَلَكُمْ فِيهَا جَمَالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَحِينَ تَسْرَحُونَ" [النحل:6] قلنا: لأن الأنعام في وقت الإراحة وهي ردها عشيا إلى المراح تكون أجمل وأحسن لأنها تقبل ملأى البطون حافلة الضروع، متهادية في مشيتها، يتبع بعضها بعضا، بخلاف وقت السرح وهو إخراجها إلى المراعي فإن هذه الأمور تكون ضد ذلك" (الأنموذج الجليل في أسئلة وأجوبة من غرائب التنزيل: زين الدين الرازي:255).
رأي ابن الصائغ:
ولا يكاد ابن الصائغ يضيف شيئاً إلى ما قله الذين تقدموه إذ يقول بأن الأنعام: "حالة إراحتها آخر النهار يكون الجمال بها أفخر إذ هي بطان وحالة سراحها للمرعى يكون الجمال بها دون الأول إذ هي فيه خِمَاصٌ" (أنظر معترك الأقران في إعجاز القرآن: السيوطي: 1-174).
هذا عن كلمة "جمال" في صيغة المصدر، وقد اختص بجمال الأنعام –وهو جمال حسي- أما بالنسبة لكلمة "جميل" بصيغة الصفة فقد اختصت بالجمال المعنوي حيث وصف بها الصبر، "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَاللَّهُ الْمُسْتَعَانُ عَلَى مَا تَصِفُونَ" [يوسف:18]. وقال تعالى: "قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً" [يوسف:83]. وقال تعالى: "فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً" [المعارج:5]. ووصف بها الصفح في قوله تعالى: "وَإِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ" [الحجر:85]. ووصف بها السراح، في قوله تعالى: "فَتَعَالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَأُسَرِّحْكُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً" [الأحزاب:28]. وفي قوله تعالى: "فَمَتِّعُوهُنَّ وَسَرِّحُوهُنَّ سَرَاحاً جَمِيلاً" [الأحزاب:49]. بل وصف بها الهجر، في قوله تعالى: "وَاصْبِرْ عَلَى مَا يَقُولُونَ وَاهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً" [المزمل:10].
فكيف يكون الصبر جميلاً؟ وكيف يكون الصفح جميلاً؟ بل كيف يكون السراح جميلاً وهو طلاق، وكيف يكون الهجر جميلاً وهو فراق؟.
لقد بين المفسرون أن الصبر الجميل هو الذي لا مشتكى فيه إلا إلى الله سبحانه وتعالى، والصفح الجميل هو الذي لا منة فيه على من صَفَحْتَ عنه، والسراح الجميل هو الذي لا إيذاء فيه للتي سَرَّحْتَها، والهجر الجميل هو الذي لا عتاب فيه للشخص الذي هجرته.
وهكذا دخل الجمال في القرآن مجالات لم يدخلها في الثقافات الإنسانية الأخرى ولا عَهْدَ للناس بتتبع الجمال فيها. (انظر الظاهرة الجمالية في الإسلام: صالح أحمد الشامي: 195).
ويعتبر القرآن عن الجمال بألفاظ جمالية أخرى كالحُسْن والزينة والنضرة والبهجة والحلية والزخرف وغيرها.
جمالية الحسن:
فالبنسبة للحسن وصف به العموم والخصوص، فمن العموم قوله تعالى: "الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ" [السجدة:7].
ومن الخصوص حسن الجنة حيث حسنت مستقرا ومقاما "خَالِدِينَ فِيهَا حَسُنَتْ مُسْتَقَرّاً وَمُقَاماً" [الفرقان:76].
وحسنت مستقرا ومقيلا "أَصْحَابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرّاً وَأَحْسَنُ مَقِيلاً" [الفرقان:24]، وحسنت مرتفقا "مُتَّكِئِينَ فِيهَا عَلَى الْأَرَائِكِ نِعْمَ الثَّوَابُ وَحَسُنَتْ مُرْتَفَقاً" [الكهف:31]، وحسن صور بني آدم "وَصَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ" [غافر:64]، وحسن النساء، يقول تعالى لنبيه صلى الله عليه وسلم: "لا يَحِلُّ لَكَ النِّسَاءُ مِنْ بَعْدُ وَلا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْوَاجٍ وَلَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ" [الأحزاب:52]. وحسن الأسماء "وَلِلَّهِ الْأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا" [الأعراف:180]. وحسن الثياب والفرش "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" [الرحمن:76].
جاء في لسان العرب: "والرفرف ثياب خضر يتخذ منها للمجالس.. وفي التنزيل العزيز "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَعَبْقَرِيٍّ حِسَانٍ" [الرحمن:76]..
وجاء في لسان العرب: "والرفرف ثياب خضر يتخذ منها للمجالس... وفي التنزيل العزيز "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ" [الرحمن:76]، وقرئ (على رفارف) وقال الفراء في قوله "مُتَّكِئِينَ عَلَى رَفْرَفٍ خُضْرٍ" [الرحمن:76]. قال: ذكروا أنها رياض الجنة، وقال بعضهم: الفرش والبسط. والرفرف الشجر الناعم المسترسل" (لسان العرب: ابن منظور (9/126) مادة (رفض).
وحسن الأثاث "وَكَمْ أَهْلَكْنَا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثَاثاً وَرِئْياً" [مريم:74]. والأثاث المتاع كمتاع البيت وغيره.
وحُسن القول: "وَمَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعَا إِلَى اللَّهِ وَعَمِلَ صَالِحاً وَقَالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ" [فصلت:33].
وحُسن الحديث: "اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَاباً مُتَشَابِهاً مَثَانِيَ" [الزمر:23].
وحُسن التقويم: "لَقَدْ خَلَقْنَا الْأِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ" [التين:4].
وحُسن الصبغة "صِبْغَةَ اللَّهِ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً" [البقرة:138].
جمالية الزينة:
وبالنسبة للزينة هناك زينة السماء "أَفَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّمَاءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْنَاهَا وَزَيَّنَّاهَا" [قّ:6].
وقد زينت بالكواكب: "إِنَّا زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِزِينَةٍ الْكَوَاكِبِ" [الصافات:6].
وزينت بالمصابيح: "وَزَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ وَحِفْظاً" [فصلت:12].
وزينت بالبروج: "وَلَقَدْ جَعَلْنَا فِي السَّمَاءِ بُرُوجاً وَزَيَّنَّاهَا لِلنَّاظِرِينَ" [الحجر:16].
قال الفخر الرازي عن السماء: "إن الله تعالى زينها بسبعة أشياء:
بالمصابيح: "وَلَقَدْ زَيَّنَّا السَّمَاءَ الدُّنْيَا بِمَصَابِيحَ" [الملك:5].
وبالقمر: "وَجَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً" [نوح:16].
وبالشمس: "وَجَعَلَ الشَّمْسَ سِرَاجاً" [نوح:16].
وبالعرش: "رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ" [التوبة:129].
وبالكرسي: "وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ" [البقرة:255].
وباللوح: "فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ" [البروج:22].
وبالقلم: "نْ وَالْقَلَمِ" [القلم:1].
فهذه سبعة ثلاثة منها ظاهرة وأربعة خفية ثبتت بالدلائل السمعية من الآيات والأخبار" (مفاتيح الغيب: الفخر الرازي 2-98).
وهناك زينة الأرض: "إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً" [الكهف:7].
وقد زينت بالزخرف: "حَتَّى إِذَا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَهَا وَازَّيَّنَتْ" [يونس:24].
وهناك زينة الحياة الدنيا: "وَمَا أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَمَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَزِينَتُهَا" [القصص:60].
وقد زينت بالمال والبنين: "الْمَالُ وَالْبَنُونَ زِينَةُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا" [الكهف:46].
وهناك زينة المرأة: "وَلا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا مَا ظَهَرَ مِنْهَا" [النور:31].
وهناك زينة الرجل والمرأة على السواء: "يَا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف:31].
وقد كان الحسن البصري إذا أراد الذهاب إلى المسجد تزين وتطيب ورجَّل شعره، فلما سُئل في ذلك قال: أتجمّل لربي وتلا الآية "خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ" [الأعراف:31]. (أنظر كتاب السنة مصدراً للمعرفة: يوسف القرضاوي 353).
ولهذا نهى النبي أن يذهب الرجل في ثياب مهنته وندب المسلم أن يتخذ ثوبين ليوم الجمعة سوى ثوبي مهنته" (رواه أبو داود في كتاب الصلاة الباب 213، وابن ماجة في كتاب الإقامة الباب83، أنظر المعجم المفهرس لألفاظ الحديث النبوي: 6-282).
والزينة فيها ما هو مستحب مندوب إليه ومرضاة للرب وطريق للهداية وهي التي قال عنها الله عز وجل: "قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالطَّيِّبَاتِ مِنَ الرِّزْقِ" [لأعراف:32].
ومنها زينة الجمال التي في قوله تعالى: "وَالْخَيْلَ وَالْبِغَالَ وَالْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوهَا وَزِينَةً" [النحل:8]، وغيرها من أنواع الزينة الإيجابية التي تقدمت.
وفيها ما هو مرفوض منفر منه، مسخطة للرب وطريق للغواية وهي التي قال عنها الله عز وجل "قَالَ رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَلَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ" (الحجر:39-40].
ومنها زينة فرعون وملئه: "وَقَالَ مُوسَى رَبَّنَا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَمَلَأَهُ زِينَةً وَأَمْوَالاً فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا رَبَّنَا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ" [يونس:88].
وزينة قارون: "فَخَرَجَ عَلَى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قَالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا يَا لَيْتَ لَنَا مِثْلَ مَا أُوتِيَ قَارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ وَقَالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوَابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً وَلا يُلَقَّاهَا إِلَّا الصَّابِرُونَ فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الْأَرْضَ" [القصص:79-81].
قال ابن كثير متحدثاً عن زينة قارون: "خرج ذات يوم على قومه في زينة عظيمة، وتجمُّل باهر من مراكب وملابس عليه وعلى خدمه وحشمه، فلما رآه من يريد الحياة الدنيا ويميل إلى زخرفها وزينتها وتمنوا أن لو كان لهم مثل الذي أعطي... فلما سمع مقالتهم أهل العلم النافع قالوا لهم "ويلكم ثواب الله خير.."... كما في الحديث الصحيح "يقول الله تعالى أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر واقرأوا إن شئتهم "فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ" [السجدة:17]. (تفسير القرآن العظيم: ابن كثير:5/300).
جمالية الحلية:
الحلي ما تزين به من مصوغ المعدنيات أو الحجارة.. والحلية كالحلي والجمع حلى وحلي. الليث: الحلي كله حلية حليت بها امرأة أو سيفا أو نحوه، والجمع حلي (لسان العرب: ابن منظور: 14/194-195. مادة (حلى). والحلى في القرآن مقترنة بالنساء في السياقات الخاصة بالدنيا قال الله تعالى: "أَوَمَنْ يُنَشَّأُ فِي الْحِلْيَةِ وَهُوَ فِي الْخِصَامِ غَيْرُ مُبِينٍ" [الزخرف:18].
أما السياقات المتعلقة بالآخرة فلا يميز فيها بين الرجال والنساء، قال سبحانه: "وَحُلُّوا أَسَاوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَاباً طَهُوراً" [الإنسان:21]، "يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَيَلْبَسُونَ ثِيَاباً خُضْراً" [الكهف:31]، "يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً وَلِبَاسُهُمْ فِيهَا حَرِيرٌ" [الحج:23]، "جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَهَا يُحَلَّوْنَ فِيهَا مِنْ أَسَاوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَلُؤْلُؤاً" [فاطر:33].
وما قلناه عن الجمال في ارتباطه بالمنفعة في القرآن الكريم يصدق على الحلية أيضاً فهي مقترنة إما بمنافع تتعلق بالأكل كما في قوله تعالى عن البحر: "لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" [النحل:14].
وكما في قوله سبحانه عن البحر والنهر: "وَمَا يَسْتَوِي الْبَحْرَانِ هَذَا عَذْبٌ فُرَاتٌ سَائِغٌ شَرَابُهُ وَهَذَا مِلْحٌ أُجَاجٌ وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" [فاطر:12].
قال ابن منظور: وقوله تعالى: "وَمِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيّاً وَتَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَهَا" [فاطر:12]. جاز أن يخبر عنهما بذلك لاختلاطهما، وإلا فالحلية إنما تستخرج من الملح دون العذب" (لسان العرب: ابن منظور:14/195. مادة (حلي).
وإما مقترنة بمنافع تتعلق بالمتاع: "وَمِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغَاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتَاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ" [الرعد:17].
وأخيراً فإن ما قلناه عن الزينة من أنها قد تكون طريقا للغواية يصدق أيضاً على الحلية فمن حلي بني إسرائيل صنع العجل الذهبي الذي عبده اليهود من دون الله: "وَاتَّخَذَ قَوْمُ مُوسَى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوَارٌ أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ" [لأعراف:148].
يقول سيد قطب: "ولم يتدبروا حقيقة هذا العجل الذي صنعه لهم واحد منهم... وإنها لصورة زرية للبشرية تلك التي كان يمثلها القوم، صورة تعجب منها القرآن الكريم وهو يعرضها على المشركين في مكة وهم يعبدون الأصنام: "أَلَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَلا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَكَانُوا ظَالِمِينَ" [لأعراف:148]، وهل أظلم ممن يعبد خلقا من صنع أيدي البشر والله خلقهم وما يصنعون" (في ظلال القرآن: سيد قطب 3/640).
جمالية الزخرف:
الزخرف: الزينة، والزخرف الذهب في الأصل ثم سميت كل زينة زخرفا، ثم شبه كل مموه مزور به. وزخرف البيت زخرفه: زينة وأكمله والزخرف في اللغة: الزينة وكما حسن الشيء (لسان العرب:ابن منظور:9/132. مادة (زخرف) بتصرف).
واستعمل الزخرف في القرآن –شأنه شأن الزينة والحلية- إيجاباً وسلباً فمن سياقاته الإيجابية قوله تعالى: "وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَاباً وَسُرُراً عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ وَزُخْرُفاً" [الزخرف: 34-35].
ومن سياقاته السلبية قوله تعالى: "وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوّاً شَيَاطِينَ الْأِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً" [الأنعام:112].
فكما كانت كل من الزينة والحلية طريقا إلى الغواية فإن الزخرف هنا أمسى مطية إلى الغرور.
جمالية البهجة:
البهجة: الحسن، والبهجة: حسن لون الشيء ونضارته... ويهج النبات، فهو بهيج: حسن وتباهج النوار: تضاحك (لسان العرب: ابن منظور: 2/216-217. مادة (بهج).
وكما استعمل الجمال في القرآن مصدرا ووصفا "جمال وجميل" استعملت البهجة فيه أيضاً مصدراً وصفة. "بهجة وبهيج" فآية المصدر قوله تعالى: "فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" [النمل:60].
وآيتا الصفة هي قوله سبحانه: "وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنْزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" [الحج:5].
وقوله عز وجل: "وَالْأَرْضَ مَدَدْنَاهَا وَأَلْقَيْنَا فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْبَتْنَا فِيهَا مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ" [قّ:7].
إلا أن استعمال البهجة لم يأت إلا في السياقات المادية في حين استعمل الجمال ماديا ومعنوياً. كما أن البهجة لم ترد مقترنة بما هو سلبي كالغواية أو الغرور بل وردت إيجابية في كل حالات استعمالها. يقول سيد قطب رحمه الله معلقا على قوله تعالى: "فَأَنْبَتْنَا بِهِ حَدَائِقَ ذَاتَ بَهْجَةٍ" [النمل:60]. "حدائق بهيجة ناضرة حية جميلة مفرحة... ومنظر الحدائق يبعث في القلب البهجة والنشاط والحيوية. وتأمل هذه البهجة والجمال الناضر الحي الذي يبعثها كفيل بإحياء القلوب. وتدبر آثار الإبداع في الحدائق كفيل بتمجيد الصانع الذي أبدع هذا الجمال العجيب. وإن تلوين زهرة واحدة وتنسيقها ليعجز عنه أعظم رجال الفنون من البشر. وإن تموج الألوان وتداخل الخطوط وتنظيم الوريقات في الزهرة الواحدة ليبدو معجزة تتقاصر دونها عبقرية الفن في القديم والحديث" (في ظلال القرآن: سيد قطب:6/292).
جمالية النضرة:
النضرة: النعمة والعيش والغنى وقيل: الحسن والرونق. وقد نضر الشجر والورق والوجه واللون وكل شيء ينضر نضراً ونضرةً.. فهو ناضر ونضير ونضر أي حسن (لسان العرب: ابن منظور:5/212 مادة (نضر).
وقد وردت النضرة ثلاث مرات في القرآن الكريم كلها في المجال الإنساني حيث لم تخرج منه إلى المجال الطبيعي كما هو الحال بالنسبة للزينة والزخرف مثلاً، قال الله تعالى: "فَوَقَاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذَلِكَ الْيَوْمِ وَلَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَسُرُوراً" [الإنسان:11].
وقال سبحانه: "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" [المطففين:24].
وقال عز وجل: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" [القيامة:23-24].
قال ابن منظور: "قال الفراء في قوله عز وجل "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ" [القيامة:23]. قال: مشرقة بالنعيم: قال وقوله "تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ" [المطففين:24]. قال: بريقه ونداه. والنضرة نعيم الوجه. وقال الزجاج في قوله تعالى: "وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ" [القيامة:22-23]. قال: نضرت بنعيم الجنة والنظر إلى ربها عز وجل (لسان العرب: ابن منظور:5/212 مادة (نضر).
المصدر : الإسلام اليوم
-----------------------------------------------------------
(*) مختار من رسالة دكتوراه بعنوان: "علم الجمال والتصور الإسلامي محاولات في التأصيل ومقاربات للتطبيق" للدكتور: مصطفى الحيا.