البلاغة عند المفسرين
البلاغة عند المفسرين
[align=justify]الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.. أما بعد،
فيجمع العلماء الباحثون في إعجاز القرآن -ما عدا من يقول بالصرفة وحدها وجهاً للإعجاز- أن البلاغة وجه من وجوه الإعجاز، بل هو الوجه الذي يلازم القرآن في كل سوره. لذا عني العلماء الذين درسوا الإعجاز بهذا الجانب أكثر من غيره، حتى أصبح معظم الكتب المؤلفة في الإعجاز القرآني مصادر بلاغية، ثم صار البلاغيون يؤلفون مؤلفاتهم البلاغية لتكون وسيلة لفهم الإعجاز القرآني.
• والمفسرون منذ نشأة التدوين وهم يعنون بهذا الجانب، وأذكر بإيجاز من عنايتهم:
أولاً: في مقدمات تفاسيرهم التي غالباً ما يذكرون فيها شيئاً مما يتعلق بإعجاز القرآن وعلومه وأصول تفسيره ينبهون إلى الوجه البلاغي في الإعجاز القرآني، وانظر مثلاً مقدمات تفاسير "المحرر الوجيز" لابن عطية (ت 546) ، و"الجامع لأحكام القرآن" للقرطبي (ت 671هـ) ، و"التسهيل لعلوم التنزيل" لابن جزي (741هـ) ، و"البحر المحيط" لأبي حيان (ت 745هـ) ، و"التقييد الكبير" للبسيلي (ت 830هـ) ، و"محاسن التأويل" للقاسمي (ت 1332هـ)، و"التحرير والتنوير" للطاهر ابن عاشور (ت1393هـ)، وغيرها.
ثانياً: كذلك في المقدمات يؤكدون على أهمية العلم ببلاغة العرب لتفسير القرآن الكريم، وينظر مثلاً: تفسير "البسيط" للواحدي (ت 468هـ)، ومما قاله: (إن طريق معرفة تفسير كلام الله تعالى تعلم النحو والأدب، فإنهما عمدتاه، وإحكام أصولهما، وتتبع مناهج لغات العرب فيما تحويه من الاستعارات الباهرة، والأمثال النادرة، والتشبيهات البديعة، والملاحن الغريبة، والدلالة باللفظ اليسير على المعنى الكثير، مما لا يوجد مثله في سائر اللغات…)، وتفسير "الكشاف" للزمخشري (ت 538هـ) ، وتفسير أبي حيان (ت 745هـ)، وتفسير البسيلي (ت 830هـ)، وتفسير القاسمي (ت 1332هـ)، وتفسير ابن عاشور (ت1393هـ)، وغيرها.
ثالثاً: في تفسيرهم لآيات القرآن الكريم لا يغفلون البلاغة على اختلاف بينهم في العناية بها، لكننا نجد عناية فائقة لدى عدد منهم كابن جرير الطبري (ت 310هـ) في تفسيره "جامع البيان عن تأويل أي القرآن"، وقد صرح بعنايته في مقدمته حيث قال: (بيِّنٌ –إذ كان موجوداً في كلام العرب الإيجاز والاختصار، والاجتزاء بالإخفاء من الإظهار، وبالقلة من الكثرة في بعض الأحوال، واستعمال الإطالة والإكثار، والترداد والتكرار، وإظهار المعاني بالأسماء دون الكناية عنها، والإسرار في بعض الأوقات، والخبر عن الخاص في المراد بالعام الظاهر، وعن العام في المراد بالخاص الظاهر، وعن الكناية والمراد منه المصرح، وعن الصفة والمراد الموصوف، وعن الموصوف والمراد الصفة، وتقديم ما هو في المعنى مؤخر، وتأخير ما هو في المعنى مقدم، والاكتفاء ببعض من بعض، وبما يظهر عما يحذف، وإظهار ما حظه الحذف- أن يكون ما في كتاب الله المنزل على نبيه محمد صلى الله عليه وسلم من ذلك في كل ذلك له نظيراً، وله مثلاً وشبيهاً) ثم قال: (ونحن مبينو جميع ذلك في أماكنه إن شاء الله ذلك وأمد منه بعون وقوة)، وابن عطية (ت 546هـ)، والزمخشري (ت 5هـ) ، وابن جزي (ت 741هـ)، وقال في مقدمة تفسيره عن أنواع البديع ومباحث البلاغة: (ونبهنا على كل نوع في المواضع التي وقع فيها من القرآن...)، وأبي حيان (ت 745هـ) وقال في مقدمة تفسيره مبيناً منهجه: (ثم أختتم الكلام في جملة من ألايات التي فسرتها إفراداً وتركيباً بما ذكروا فيها من علم البيان والبديع ملخصاً)، والبيضاوي (ت ) في تفسيره ""، والبسيلي (ت 830هـ)، وأبي السعود (ت ) في تفسيره ""، والشوكاني (ت 1250هـ) وقال في تفسيره "فتح القدير" مبيناً منهجه: (وأخذي من بيان المعنى العربي والإعرابي والبياني بأوفر نصيب)، والقاسمي (ت 1332هـ)،وابن عاشور (ت 1393هـ) وهو من أكثر المفسرين عناية بالبلاغة.
وهناك محاولات للاتجاه البياني في التفسير لإخراج تفسير بياني للقرآن الكريم، خرج منها فيما أعلم جزءان للدكتورة عائشة عبد الرحمن، تناولت عدداً من قصار السور، وينظر في هذا الاتجاه "اتجاهات ااتفسير في القرن الرابع عشر" للدكتور فهد الرومي.
وقد كُتبت رسائل في دراسة البحث البلاغي عند عدد من المفسرين، ومما رأيته مطبوعاً: "البلاغة عند المفسرين حتى نهاية القرن الرابع الهجري" للدكتور رابح دوب، و"البلاغة القرآنية في تفسير الزمخشري" للدكتور محمد أبو موسى، و"المقاييس البلاغية في تفسير التحرير والتنوير" للدكتور حواس بري، وغيرها.
• من الأهمية التنبيه إلى أن كثيراً ممن كتب في التفسير وكان له عناية بالبلاغة ينتمون إلى مذاهب عقدية تخالف منهج أهل السنة والجماعة، فعلى القارئ أن يتفطن لدقة بعض هؤلاء في الإفادة من البلاغة لتوجيه الرأي العقدي المخالف.
ولعل أوضح من يمثل ذلك الزمخشري في تفسيره ”الكشاف“، حتى قال عنه البلقيني [عن الإتقان4/213]: (استخرجت من الكشاف اعتزالاً بالمناقيش…)، وقال ابن تيمية [مقدمة التفسير: ضمن مجموع الفتاوى13/358]: (ومن هؤلاء من يكون حسن العبارة فصيحاً، ويدس البدع في كلامه، وأكثر الناس لا يعلمون، كصاحب الكشاف ونحوه، حتى إنه يروج على خلق كثير ممن لا يعتقد الباطل من تفاسيرهم الباطلة ما شاء الله، وقد رأيت من العلماء المفسرين وغيرهم من يذكر في كتابه وكلامه من تفسيرهم ما يوافق أصولهم التي يعلم أو يعتقد فسادها ولا يهتدي لذلك)، وقال ابن خلدون متحدثاً عن البلاغة [مقدمة ابن خلدون2/256، وانظر: 2/123]: (وأكثر تفاسير المتقدمين غفل عنه حتى ظهر جار الله الزمخشري، ووضع كتابه في التفسير، وتتبع آي القرآن بأحكام هذا الفن، بما يبدي البعض من إعجازه، فانفرد بهذا الفضل على جميع التفاسير، لولا أنه يؤيد عقائد أهل البدع عند اقتباسها من القرآن بوجوه البلاغة). وانظر أيضاً إلى تفاسير الماتريدية كـ”تأويلات أهل السنة“ لأبي منصور الماتريدي، و”مدارك التنزيل“ للنسفي، وإلى تفاسير الأشاعرة كـ”مفاتيح الغيب“ للرازي، و”أنوار التنزيل“ للبيضاوي، و”إرشاد العقل السليم“ لأبي السعود، وغيرها من تفاسير المبتدعة، لتدرك كيف يطوع هؤلاء الأساليب البلاغية لخدمة مذاهبهم العقدية.
ويحسن في هذه المسألة الرجوع إلى كتاب "المدخل إلى دراسة بلاغة أهل السنة" للدكتور محمد الصامل، فإنه كتاب قيم لدارسي التفسير والبلاغة واللغة. ويمكن النظر في هذين الرابطين:
http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=2430
http://tafsir.org/vb/showthread.php?t=4466[/align]
هذه لمحات موجزة حول الموضوع، أرجو أن يكون فيها ما يفيد الأخت رحمة وغيرها.
والله أعلم، وصلى الله على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم.