أحمد محمد فريد
New member
حمايةً لنصوصِ القراءاتِ من تحريفِ الغالِين وانتحالِ الـمُبْطِلِين
التمهيدُ في القراءاتِ للمالكيِّ ما زالَ مفقودًا
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
الحمدُ للهِ ربِّ العالمين، والصلاةُ والسلامُ على سيِّدِ المرسلين، وعلى آلِه وأصحابِه أجمعين، وبعدُ:التمهيدُ في القراءاتِ للمالكيِّ ما زالَ مفقودًا
بسمِ اللهِ الرحمنِ الرحيمِ
فغيرُ خافٍ أنَّ توثيقَ عنوانِ الكتابِ ونسبتِه إلى مؤلِّفِه ركنٌ أساسٌ في تحقيقِ النصوصِ، وأنَّ لفظَ التوثيقِ-بما يحملُه من معنى الإحكامِ[SUP][SUP][1][/SUP][/SUP]-يقتضي أن تكونَ أدنى درجاتِ ما يتعلَّقُ به هي الرجحانَ، إن صعُب أن تكون قطعيَّةً.
من أجلِ ذلك يُعَرِّفُ علماءُ تحقيقِ النصوصِ الكتابَ المحقَّقَ بأنه الكتابُ «الذي صحَّ عنوانُه، واسمُ مؤلِّفِه، ونسبةُ الكتابِ إليه، وكانَ مَتْنُه أقربَ ما يكونُ إلى الصورةِ التي ترَكَها مؤلِّفُه»[SUP][SUP][2][/SUP][/SUP].
ومما يتعلَّقُ بهذا المبحَثِ المهمِّ من مباحثِ التحقيقِ ما تردَّدَ في أوساطِ المتخصِّصين في الدراساتِ القرآنيَّةِ مؤخَّرًا من العثورِ على نسخةٍ خطيَّةٍ من كتابِ التمهيدِ لأبي عليٍّ الحسنِ بنِ محمدٍ المالكيِّ (ت 438 هـ)، وهو خبرٌ سارٌّ لا شكَّ؛ إذ أبو عليٍّ المالكيُّ من أئمَّةِ الإقراءِ المعروفِين بالتقدُّمِ في علمِ القراءاتِ، وقد وصفَه شيخُ القراءِ ابنُ الجزريِّ (ت 833 هـ) بـ:الأستاذِ[SUP][SUP][3][/SUP][/SUP]، وهو وصفٌ له دلالةٌ خاصَّةٌ عندَه كما يَعلمَه المتخصِّصون في علمِ القراءاتِ.
وهذه النسخةُ الخطيَّةُ توجَدُ في مكتبةِ المسجدِ الأقصى المبارَكِ ضمنَ مجموعٍ رقمُه 45، وهي الكتابُ الثالثُ-والأخيرُ-في المجموعِ، وتقعُ في (103) ورقةٍ، من الورقةِ (40) إلى الورقةِ (143)، تليها ورقةٌ واحدةٌ بها بعضُ التعليقاتِ الفقهيَّةِ.
وقد فُهرِسَتْ هذه النسخةُ في المكتبةِ باسم ِاختلافِ القُرَّاءِ السبعةِ، وذُكِرَ أنها مجهولةُ المؤلِّفِ، وأنَّ موضوعَها هو القراءاتُ السبعةُ مضافًا إليها قراءةُ يعقوبَ[SUP][SUP][4][/SUP][/SUP].
وقد أخذَ المفهرِسُ العنوانَ الذي عنوَنَ به-اختلافَ القُرَّاءِ السبعةِ-مما جاءَ في أوَّلِ المخطوطِ من قولِ المؤلِّفِ: «سألتَ وفَّقَنا اللهُ وإيَّاك لما يحب ويرضى أن أذكُرَ لك اختلافَ القُرَّاءِ السبعةِ المشهورين بالأمصارِ..»[SUP] [SUP][5][/SUP][/SUP].
وبالاطلاعِ على هذه النسخةِ نجدُ صفحةَ العُنوانِ بها خاليةً من اسمَيِ الكتابِ والمؤلِّفِ، ومكتوبًا عليها بلغةِ ظاهرةِ العُجمةِ: «قراءاة متعلق» كما هو مبيَّنٌ بالصورةِ التاليةِ.
File sharing and storage made simple
كما نجدُ-أيضًا-نصَّ الكتابِ خاليًا من أيِّ إشارةٍ لاسمِ الكتابِ أو اسمِ المؤلِّفِ، فمن أين أتَتْ إذن نسبةُ الكتابِ للمالكيِّ؟
القصةُ هي أنَّ أحدَ الباحثين قد قدَّمَ خُطَّةً لدراسةِ وتحقيقِ هذا المخطوطِ-منسوبًا لأبي عليٍّ المالكيِّ على أنه التمهيدُ في القراءاتِ-إلى أحد الأقسامِ العلميَّةِ بإحدى الجامعاتِ العربيَّةِ، وذلك بعدَ الحصولِ عليه من أحدِ المراكزِ التي ظهرَتْ مؤخَّرًا، والتي توفِّرُ المخطوطاتِ للباحثين ومعها ما يُثبِتُ صحةَ نسبتِها لمؤلِّفيها، وذلك ضِمْنَ اتِّفاقٍ بينَ الباحثِ والمركزِ[SUP][SUP][6][/SUP][/SUP].
وبهذه الأسطُرِ القليلةِ القادمةِ سأعرِضُ ما جاءَ في مبحثِ إثباتِ نسبةِ الكتابِ للمالكيِّ-فحسبُ-من هذه الخطةِ وأُعقِبُه بالتعليقِ عليه، مرتِّبًا ذلك بحسَبِ الأهميَّةِ:
1-جاءَ في الخطةِ (ص 9-10): «أن المؤلف قد أحال في كتابه الروضة إلى كتاب التمهيد في عدة مواضع، وفي حالة الرجوع إلى هذه الإحالات نجدها مطابقة للمذكور في كتاب الروضة، وهذا مما يدل على أن المخطوط الذي بين أيدينا هو كتاب التمهيد لأبي علي الحسن بن محمد بن إبراهيم المالكي البغدادي:
ومن هذه الإحالات ما ذكره المؤلف في كتابه الروضة حيث قال: (وضم الجيم من (جيوبهن)...وكسرها الباقون.. المشهور منهم في التمهيد خمسة: ابن كثير وابن ذكوان وحمزة والكسائي ويحيى في رواية أبي حمدون)[SUP] [SUP][7][/SUP][/SUP].
قال المؤلف في كتابه التمهيد: (قرأ ابن كثير وابن ذكوان وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر بكسر الجيم، الباقون بضمها)»[SUP][8][/SUP] اهـ نص الخطة.
التعليقُ: ما جاءَ في نصِّ المخطوطُ هو ما يلي: «قرأ ابن كثير وابن عامر وحمزة والكسائي ويحيى عن أبي بكر (على جيوبهن) بكسر الجيم، الباقون بضمها، وقد ذكُر»[SUP][SUP][9][/SUP][/SUP]، وظاهرٌ للقارئِ الكريمِ أنه تمَّ تبديلُ «ابن ذكوان» بـ«ابن عامر»!
نعم، ليس في الكتابِ إلا روايةُ ابنِ ذكوانَ عن ابنِ عامرٍ، لكن هل هذا يُسِيغُ تبديلَ النصِّ المنقولِ لتطويعِه للاستدلالِ به؟!
وهذه صورةُ الموضعِ المنقولِ منه النصُّ من المخطوطِ
File sharing and storage made simple
2-جاءَ في الخُطةِ (ص 10): «ومن هذه الإحالات أيضًا ما ذكره المؤلف في كتابه الروضة: (قرأ حمزة والكسائي والعليمي وخلف عن يحيى ...المشهور في التمهيد حمزة والكسائي والعليمي (ثم لم تكن) [سورة الأنعام: 23] بالياء، والباقون التاء، قال المؤلف في التمهيد: (قرأ حمزة والكسائي والعليمي عن أبي بكر (ثم لم تكن) بالياء، الباقون بالتاء» اهـ، وذُكِرَ في الهامشِ أنَّ هذا النصَّ الأخيرَ موجودٌ بالمخطوطِ (الورقةِ 34).
التعليقُ: باعتبارِ ترقيمِ الخُطَّةِ-المشارِ سابًقا إليه-فإنَّ هذا النصَّ يجبُ أن يكونَ في الورقةِ (76) أو (75) بترقيمِ المجموعِ، غيرَ أنَّ هاتَين الورقتَين -بالرجوعِ إلى المخطوطِ-يتبيَّنُ أنهما جزءٌ من فرشِ سورتَيْ آلِ عِمْرانَ والنساءِ، ولم يَرِدْ بهما النصُّ المذكورُ! وهما مُرفَقَتان أيضًا فيما يلي.
File sharing and storage made simple
File sharing and storage made simple
ومظِنَّةُ ورودِ هذا النصِّ هي سورةُ الأنعامِ، وبالرجوعِ إليها في المخطوطِ (الورقةِ 80) نجدُ أنَّ الكلامَ على (تَكُنْ) قد سقطَ من النسخةِ أصلًا، كما هو مبيَّنٌ بالصورةِ المرفَقةِ التاليةِ، وهذا يجعلُنا نتساءَلُ عن أصلِ النصِّ المذكورِ في الخُطَّةِ كدليلٍ على نسبةِ الكتابِ للمالكيِّ!
File sharing and storage made simple
3-جاءَ في الخُطَّةِ (ص 10-11): «ومن هذه الإحالات أيضًا:
ما ذكره المؤلف في كتابه الروضة: (وروى اللهبي عن البزي ورويس عن يعقوب (اللات) [سورة النجم: 19] بتشديد التاء، الباقون بتخفيفها، وكلهم وقف على التاء إلا الكسائي فإنه وقف على الهاء، وقول الجماعة أولى من قوله، وقد ذكرتُ علة ذلك في التمهيد)[SUP] [SUP][10][/SUP][/SUP].
قال المؤلف في التمهيد: (قرأ يعقوب واللهبي عن البزي (اللات) [سورة النجم: 19] بتشديد التاء، الباقون بتخفيفها، والكسائي يقف على (اللات) بالهاء، والباقون يقفون بالتاء، وهو أولى حدثنا شيخنا أبو الحسن الحمامي أن أبا طاهر ذكر عن أبي علي قطرب أنه قال: وقول الجماعة على التاء أولى لئلا يشبه اسم الله تعالى)» اهـ نصُّ الخُطَّةِ، وأحيل فيها إلى (الورقة 96).
التعليق: هذه الإحالةُ تقتضي-كما مرَّ-أن يكونَ هذا النصُّ بالورقةِ (138) أو (137) حسبَ ترقيمِ المجموعِ، غيرَ أنهما يتضمَّنان فرشَ سورةِ المنافقون إلى سورةِ الملكِ، وليس بهما النصُّ المذكورُ أيضًا كما هو مبيَّنٌ بالصورتَين التاليَتَين!
File sharing and storage made simple
File sharing and storage made simple
وبالرجوع إلى مظِنَّةِ ورودِ هذا النصِّ-وهي سورةُ النجمِ-فإننا نجدُ أمرًا عجبًا، وهو أننا نجدُ صدْرَ النصِ الذي لا علاقةَ له بالاستدلالِ، بينما لا نجدُ عجزَه المذكورَ فيه علةُ كونِ قولِ الجماعةِ أولى من قولِ الكِسائيِّ كما هي إحالةُ الروضةُ!
جاءَ في المخطوطِ (الورقة 134): «قرأ يعقوب واللهبي عن البزي (اللات) بتشديد التاء، الباقون بتخفيفها، الكسائي يقف على (اللات) بالهاء، الباقون يقفون بالتاء» ثم ابتُدِئَتْ ترجمةٌ أخرى، هي (ومناءة) لابنِ كثيرٍ، كما في الصورةِ التاليةِ.
File sharing and storage made simple
وحتى تسهُلَ المقارَنةُ فدونَك-أيُّها القارئُ الكريمُ-النصَّ المذكورَ في الخطةِ مرَّةً أخرى: «قال المؤلف في التمهيد: (قرأ يعقوب واللهبي عن البزي (اللات) [سورة النجم: 19] بتشديد التاء، الباقون بتخفيفها، والكسائي يقف على (اللات) بالهاء، والباقون يقفون بالتاء، وهو أولى حدثنا شيخنا أبو الحسن الحمامي أن أبا طاهر ذكر عن أبي علي قطرب أنه قال: وقول الجماعة على التاء أولى لئلا يشبه اسم الله تعالى)» اهـ.
وقد قرأتُ نصَّ المخطوطِ-من أوله لآخره-علِّي أجِدُ هذا النصَّ الذي تحتَه خطٌّ أو الذي قبله المتعلق بـ(يكن) فلم أظفَرْ بذلك! بعدَها تيقَّنْتُ أنَّ الأمرَ إنما هو خيانةٌ علميَّةٌ صارخةٌ، وتزويرٌ فجٌّ، ليس إلَّا! إذ إنَّ هاتَين إحالتان-من ثلاثٍ-اعتُمِدَ عليهما في إثباتِ أنَّ الكتابَ هو التمهيدُ للمالكيِّ، وهما في الحقيقةِ ليستا في المخطوطِ محلِّ البحثِ، لا نصًّا ولا معنًى! وهما في هذه الحالةِ تنقلِبَان-من دليلٍ على صحَّةِ نسبةِ الكتابِ للمالكيِّ-إلى دليلٍ على عدمِ صِحَّةِ نسبتِه إليه، وخاصَّةً المتعلِّقةَ بـ(اللات).
أما تلك الثالثةُ التي تمَّ تحريفُ لفظِها لتُوافِقَ ما في الروضةِ-أعني: ما يتعلَّقُ بـ(جيوبهن)-فهي لا تكفي دليلًا؛ إذِ اتِّفاقُ كتابَين في عددِ قُرَّاءِ كلمةٍ ما لا يمكنُ بحالٍ أن يُعتَمَدَ عليه وحدَه لإثباتِ أنَّهما لمؤلِّفٍ واحدٍ، ولا سيَّما إذا عارضَه ما سيأتي ذكرُه.
4-جاءَ في الخُطَّةِ (ص 9): «جميع الشيوخ الذين ذكرهم المؤلف في مقدمة كتابه التمهيد قد ذكرهم في كتابه الروضة مثل أبي الحسن الحمامي، وأبي الحسين السوسنجردي، وأبي بكر محمد بن المظفر الدينوري» اهـ.
التعليق: أُغفِلَ في الخُطَّةِ ذكرُ شيخٍ رابعٍ أتى في مقدِّمةِ المخطوطِ[SUP][SUP][11][/SUP][/SUP]، وهو أبو القاسمِ عُبَيدُ اللهِ بنُ أحمدَ الصَّيدلانيُّ البغدادي[SUP][SUP][12][/SUP][/SUP] (ت 400 هـ)، فقد أخذَ عنه مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ الدوريِّ عن حمزةَ[SUP][SUP][13][/SUP][/SUP]، والكِسائيِّ من روايتَيْ أبي الحارثِ والدُّوريِّ[SUP][SUP][14][/SUP][/SUP]، كما هو مبيَّنٌ في الصورةِ التاليةِ.
File sharing and storage made simple
وبمطالَعةِ الروضةِ لأبي علي المالكيِّ فإننا لا نجدُ للصَّيدلانيِّ البغداديِّ ذِكْرًا ضِمْنَ شيوخِه، هذا معَ نصِّ المالكيِّ على أنَّه ضمَّنَ الروضةَ جميعَ ما قرأَه «بمدينةِ السلامِ المعروفةِ ببغدادَ والنَّهْرَوانِ وتكرِيتَ وسُرَّ مَن رأَى والكوفةِ»[SUP][SUP][15][/SUP][/SUP]،كما لا نجدُ ذكرًا له أيضًا في ترجمتِه ولا في ترجمةِ المالكيِّ من غايةِ النهايةِ لابنِ الجزريِّ[SUP][SUP][16][/SUP][/SUP].
وهذا يجعلُنا نتساءلُ-وإن كانَ الأمرُ قد اتَّضَحَ-لِمَ لَمْ يُنصَّ في الخطةِ على وجودِ أبي القاسمِ الصَّيدلانيِّ ضَمْنَ شيوخِ مؤلِّفِ المخطوطِ؟! وهل لهذا علاقةٌ بعدَمِ ذكرِه في الروضةِ أو في ترجمتَيِ المالكيِّ أو الصَّيدلانيِّ؟!
هذه النقاطُ الأربعُ السابقةُ-فقط-هي التي تصلُحُ أن تكونَ دليلًا على إثباتِ نسبةِ كتابٍ ما عمومًا، وقد ظهرَ حالُها للقارئِ الكريمِ.
أما النِّقاطُ الأخرى الواردةُ في المبحَثِ نفسِه فهي في الحقيقةِ لا محلَّ لإيرادها؛ إذ لا يصلُحُ الاستدلالُ بها لإثبات نسبةِ مخطوطٍ خالٍ من اسمَيِ الكتابِ والمؤلِّف كما هي حالتُنا هذه:
-من ذلك ما جاءَ في الخُطَّةِ (ص 9): «اتفقت جميع المصادر على نسبة كتاب التمهيد في القراءات لأبي علي المالكي..ومن هذه المصادر: فهرسة ابن خير..إلخ»
والتعليقُ: أنَّه لم يُنازِعْ أحدٌ أنَّ ثَمَّ كتابًا اسمُه التمهيدُ في القراءاتِ يُنسَبُ للمالكيِّ، إنما نصُّ المخطوطُ الـمُدَّعى كونُه التمهيدَ هو محلُّ النزاعِ.
-ومنه أيضًا ما جاءَ في (ص 11) من النقلِ عن ابنِ الجُنديِّ (ت 769 هـ) أنَّه قالَ: «وسكنها [أي الهمزة] من (منسأته) ابن ذكوان في الأشهر، وقيل به لهشام أيضًا، ونقله أبو العز والمالكي عن شيخهما»[SUP][SUP][17][/SUP][/SUP]، وأنه قد جاءَ في المخطوطِ (الورقة 122) أنَّ نافعًا وابنَ عامرٍ قرآ كذلك.
والتعليقُ على هذه النقطةِ ظاهرٌ؛ إذ لم يَرِدْ في نصِّ ابنِ الجُنديِّ إلا الإحالةُ للمالكيِّ[SUP][SUP][18][/SUP][/SUP]، وليس فيه ذكرٌ للتمهيدِ مطلقًا، لا من قريبٍ ولا من بعيدٍ، فكيف يسوغُ إذَنْ أن يُستدَلَّ به على كونِ نصِّ المخطوطِ هو التمهيدَ؟![SUP][SUP][19][/SUP][/SUP]
-وثَمَّ نقطةٌ أخرى قد أُثِيرَتْ في الخُطَّةِ (ص 12) وهي أنَّه: «ذكرت كتب التراجم أن كتاب التمهيد قد احتوى على القراءات الثمان، قال ابن السلار: أما الشيخ الإمام أبو الحسن العباسي رحمه الله فأخبرني شيخنا الإمام المعدل الرضي تقي الدين، أحسن الله إليه، وأجرى مننه عليه، أنه قرأ عليه القرآن العظيم مفردا وجامعا تسع ختمات بالقراءات الثماني المتممة بقراءة يعقوب ختمة، لكل قارئ ختمة جمع له فيها بين طرقه المشهورة، وختم تاسعة جمع فيها بين مذاهب القراء السبعة بمشهور طرقها بما تضمنه كتاب الروضة والتمهيد وكلاهما لأبي علي المالكي البغدادي» اهـ.
وهذا النصُّ المنقولُ عن ابن السَّلَّارِ (ت 782 هـ) بوضعِه الحاليِّ لا يُفِيدُ كونَ التمهيدِ محتويًا على القراءاتِ الثمانِ، فكيف إن كانَ مبتورًا-من منتصفه-في الحقيقةِ؟!.
وهذا هو النصُّ تامًّا: «قال ابن السلار: أما الشيخ الإمام أبو الحسن العباسي رحمه الله فأخبرني شيخنا الإمام المعدل الرضي تقي الدين، أحسن الله إليه، وأجرى مننه عليه، أنه قرأ عليه القرآن العظيم مفردا وجامعا تسع ختمات بالقراءات الثماني المتممة بقراءة يعقوب ختمة، لكل قارئ ختمة جمع له فيها بين طرقه المشهورة، وختم تاسعة جمع فيها بين مذاهب القراء السبعة بمشهور طرقها بما تضمنه كتاب العنوان لأبي الطاهر إسماعيل بن خلف النحوي، وكتاب التيسير للداني، والقصيدة الشاطبية وكتاب المستنير لابن سوّار، وكتاب التجريد لأبي القاسم بن الفحام، وكتاب الروضة والتمهيد وكلاهما لأبي علي المالكي البغدادي»[SUP][SUP][20][/SUP][/SUP].
هذا هو النصُّ بتمامِه، أُسْقِطَ منه ما تحتَه خطٌّ، وهو-كاملًا أو مبتورًا-ليس فيه تخصيصُ كتابٍ بعددِ قُرَّاءٍ معيَّنٍ، بل الكتبُ المذكورةُ فيه منها ما في السبعِ والثماني والعشرِ، وكل هذا عُرِفَ بدليلٍ خارجٍ عن هذا النصِّ.
وغايةُ ما يؤخَذُ من هذا النصِّ بأدنى تأمُّلٍ أنَّ هذه الكُتبَ مشتملةٌ-بمجموعِها-على الثماني، لا أنَّ كلَّ واحدٍ منها أو أحدَها متضمنٌ لها.
وعليه فادِّعاءُ أنَّ هذا النصَّ دليلٌ على كونِ التمهيدِ في الثماني ادعاءٌ غيرُ صحيحٍ مطلَقًا، ويترتَّبُ عليه بطلانُ دعوى أن َّكتبَ التراجمِ ذكرَتْ أنَّ التمهيدَ هو في القراءاتِ الثماني أيضًا![SUP] [SUP][21][/SUP][/SUP]
وقد أسندَ التمهيدَ إلى المالكيِّ عدَّةُ مؤلِّفين، منهم: ابنُ خيرٍ الإشبيليُّ في فهرستِه[SUP][SUP][22][/SUP][/SUP]، والحافظُ ابنُ حجرٍ في الـمُعجَمِ المفهرسِ[SUP][SUP][23][/SUP][/SUP]، وكلاهما لم يقيِّدْه بعددِ قراءٍ معيَّنٍ، ثمانٍ أو غيرِه.
وختامًا فهذه بعضُ القوادِحِ-غيرَ ما تقدَّمَ-في كونِ الكتابِ هو التمهيدَ للمالكيِّ، بَيدَ أنَّه لا بدَّ من التقديمِ بينَ يدَيها بمقدِّمةٍ مهمةٍ، وهي قولُ المالكيِّ-السابقُ ذكرُ جزءٍ منه-في الروضةِ، وهو: «وأنا بعونِ اللهِ وقدْرَتِه أذكُرُ في كتابي هذا إن شاءَ اللهُ جميعَ ما قرأتُه بمدينةِ السلامِ المعروفةِ ببغدادَ والنَّهرَوانِ وتكريتَ وسُرَّ مَن رأى والكوفةِ»[SUP][SUP][24][/SUP][/SUP].
وهذا النصُّ يقتضي أن يكونَ الروضةُ شاملًا لكلِّ ما قرأَ به المالكيُّ من طُرُقٍ بهذه البلادِ المذكورةِ.
غيرَ أنه بالرجوعِ إلى المخطوطِ محلِّ البحثِ فإنَّنا نجدُ ما يلي:
1-يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ شُجاعٍ عن أبي عمرٍو من طريقٍ واحدٍ، هو عن شيخِه أبي الحسنِ الحمَّاميِّ[SUP][SUP][25][/SUP][/SUP]، بينما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ من طريقَين، كِلاهما عن شيخِه الحسنِ بنِ محمدٍ الفحَّامِ فقط[SUP][SUP][26][/SUP][/SUP].
2-يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ الدُّوريِّ عن سُلَيمٍ عن حمزةَ من طريقِ واحد أيضًا، هو طريقُ ابنِ فرَحٍ فقط، وذلك عن شيخِه أبي الحسنِ الحمَّاميِّ[SUP][SUP][27][/SUP][/SUP]، بينما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ من ثلاثةِ طرقٍ، منها طريقُ ابنِ فرَحٍ، وهذه الطُّرُقُ الثلاثةُ كُلُّها عن الحسنِ بنِ محمدٍ الفحَّامِ فقط[SUP][SUP][28][/SUP][/SUP].
3-يُسنِدُ مؤلِّفُ المخطوطِ روايةَ أبي حمدونٍ عن سُلَيمٍ عن حمزةَ عن شيخَين، هما: أبو الحسنِ الحمَّاميُّ وبكرُ بنُ شاذانَ[SUP][SUP][29][/SUP][/SUP]، بينَما يُسنِدُها المالكيُّ في الروضةِ عن شيخٍ واحدٍ، هو أبو الحسنِ الحمَّاميُّ[SUP][SUP][30][/SUP][/SUP].
فوجودُ طُرقٍ مسنَدةٍ في المخطوطِ عن شيوخٍ من أهلِ البلادِ التي ذكرَها المالكيُّ في الروضةِ-كما في العِلَلِ الثلاثِ السابقةِ-معَ عدمِ وجودِها في الروضةِ التي نصَّ المالكيُّ بها أنه ضمَّنَها جميعَ ما قرأَ به بهذه البلادِ يقدَحُ في كونِ الكتابِ للمالكيِّ، فكيف إذا انضمَّ لذلك وجودُ شيخٍ بغداديٍّ في المخطوطِ ليس في الروضةِ أصلًا، أعني: أبا القاسمِ الصَّيدلانيَّ؟!
فالخلاصةُ أنه إذا انضمَّتْ هذه القوادحُ إلى عدمِ وجودِ إحالاتِ المالكيِّ في الروضةِ إلى التمهيدِ في هذا المخطوطِ-نصًّا أو أصلًا-فإنَّ التمهيدَ للمالكيِّ يبقى مفقودًا، ويبقى هذا الكتابُ المخطوطُ مجهولَ المؤلِّفِ، إلى أن يشاءَ اللهُ ويأتيَ من ينسُبُه لصاحبه وفْق َأدلةٍ حقيقيَّةٍ، لا بتحريفِ النصوصِ أو اختلاقِها.
وبعدُ فلا لا يسَعُ ذا غَيرةٍ على تراثِنا العربيِّ والإسلاميِّ أن يسكُتَ عن مَّا فُعِلَ لإثباتِ نسبةِ الكتابِ للمالكيِّ مما لم نسمَعْ به في عصرِنا الحاضرِ، إلَّا ما كانَ يفعلُه بعضُ محترِفِي الوِرَاقةِ قديمًا من وضعِ كُتبٍ ونسبتِها لمؤلِّفين مشهورين -زورًا وكذبًا- ليتكسَّبُوا من ورائها[SUP][SUP][31][/SUP][/SUP].
ولعلَّ الأقسامَ العلميَّةَ بجامعاتِنا العربيَّةِ-بعدَ هذا الحدثِ العجَبِ-تسعَى إلى التأكُّدِ من وجودِ النصوصِ المسُوقةِ لإثباتِ نسبةِ كتابٍ ما لمؤلِّفِه، ولا سيَّما أنَّ بعضَ الباحثين ربما يكونَ قد أخذَ مسلَّمًا كُلَّ ما سِيقَ بهذا المبحَثِ من المركَزِ الذي يتعاملُ معه دونَ أن يطَّلِعَ على المخطوطِ أصلًا قبلَ تقديمِ خطَّتِه للقسمِ! وهذا وإن كانَ لا يُعفي الباحِثَ من التقصيرِ فإنَّه يدعو الأقسامَ العلميَّةَ إلى أخذِ الحذَرِ من تكرُّرِ مثلَ هذا الحدثِ، واللهُ المستعانُ، وعليه التُّكْلانُ.
كتبَه
أحمد محمد فريد
باحث بمرحلة الدكتوراه
بكلية القرآن الكريم بالجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
[1] انظر: مقاييس اللغة لابن فارس (و.ث.ق) (6/85) تحقيق الأستاذ عبد السلام هارون، ط دار الفكر، سنة 1399 هـ = 1979 م.
[2] تحقيق النصوص ونشرها للأستاذ عبد السلام هارون (ص 39) ط مؤسسة الحلبي وشركاه للنشر والتوزيع، الطبعة الثانية 1385 هـ = 1965 م.
[3] غاية النهاية لابن الجزري (1/230) اعتنى به برجستراسر ط سنة 1351 هـ، مصوَّرةُ مكتبةِ ابن تيميَّةَ.
[4] انظر: فهرس مخطوطات مكتبة المسجد الأقصى إعداد خضر إبراهيم سلامة (3/1) ط مؤسسة الفرقان للتراث الإسلامي بلندن، سنة 1416 هـ = 1996 م.
[5] المخطوط (الورقة 41) ضمن ترقيم المجموع.
[6] يجدر التنبيه إلى أنه ذُكِر في الخطة أن مصدر المخطوط مركز جمعة الماجد بدبي، ولا أدري لِمَ لَمْ يُنصَّ على مصدره الأصلي، وهو مكتبة المسجد الأقصى؟!
[7] الروضة (1/560).
[8] جاء العزو إلى المخطوط في الخطة (الورقة 70) وهو على اعتبار عد أوراق الكتاب فحسب ودون عد صفحة العنوان أيضًا، حيث إن الكتاب يبدأ من الورقة (40)، وعليه فيفترض أن يكون الترقيم في الخطة أقل من ترقيم المجموع بـ(41) ورقة.
[9] المخطوط (الورقة 112) ضمن ترقيم المجموع، وهو هنا يفوق ترقيم الخطة بـ(42) ورقة لا (41) كما ذكر، والأمر في هذا الموضع يسير، إلا أنه فيما يأتي ذو أهمية كبيرة.
[10] الروضة (1/933-934).
[11] وهي هنا تشمل المقدمة وقسم الأسانيد من الكتاب كما يظهر من صنيع الخطة، وإلا فالمقدمة الأصلية لم يذكر بها سوى شيخين: الحمامي والدينوري فحسبُ.
[12] ويقال أيضًا: ابن الصيدلاني، ترجمته في غاية النهاية (1/485).
[13] المخطوط (الورقة 45) ضمن ترقيم المجموع.
[14] المخطوط (الورقة 45) ضمن ترقيم المجموع.
[15] الروضة لأبي علي المالكي (1/110) دراسة وتحقيق الدكتور مصطفى عدنان، ط مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، الطبعة الأولى 1424 هـ = 2004 م.
[16] غاية النهاية (1/230) و(1/485).
وذكر في المخطوط شيخ خامس أيضًا، وهو بكر بن شاذان (ت 405) وقد ذكر المالكي في الروضة (1/139) أنه أخذ عنه رواية قنبل من طريق الزينبي وغيرها.
[17] البستان (1/158).
[18] وقد علق الأستاذ الدكتور/ حسين العواجي محقق البستان على هذا الموضع بالإحالة إلى الروضة للمالكي.
[19] ومثله أيضًا في كونه ليس دليلًا ما ذُكر في الخطة (ص 11) من نقل القرطبي صاحب المفتاح عن المالكي-دون ذكر التمهيد-وجعل ذلك دليلًا على كون نص المخطوط هو التمهيد!
[20] إجازة ابن السلار المنشورة بعنوان طبقات القراء السبعة وذكر مناقبهم وقراءاتهم لابن السلار (ص 51) تحقيق أحمد محمد عزوز، ط المكتبة العصرية، الطبعة الأولى 1423 هـ = 2003 م.
[21] ومثله أيضًا في كونه ليس دليلًا ما نقل في الخطة (ص 12-13) عن غاية النهاية لابن الجزري (2/65) في ترجمة التقي الصائغ: «وقرأ على الشيخ كمال الدين أبي الحسن على بن شجاع الضرير العباسي تسع ختمات ثمانيا بأفراد الثمانية السبعة ويعقوب وتاسعة جمع فيها القراءات بمضمن العنوان والتيسير والشاطبية والتجريد والمستنير وتذكرة ابن غلبون والروضة والتمهيد للمالكي والتلخيص لأبي معشر»!.
[22] انظر فهرست ابن خير الإشبيلي (ص 26) تحقيق محمد فؤاد منصور، ط دار الكتب العلمية ببيروت، الطبعة الأولى 1419 هـ = 1998 م.
[23] انظر المعجم المفهرس لابن حجر (ص 389) تحقيق محمد شكور المياديني، ط مؤسسة الرسالة ببيروت، الطبعة الأولى 1418 هـ = 1998 م.
[24] الروضة لأبي علي المالكي (1/110).
[25] المخطوط (الورقة 44).
[26] الروضة (1/156) و(1/158).
[27] المخطوط (الورقة 45).
[28] الروضة (1/164-165).
[29] المخطوط (الورقة 45).
[30] الروضة (1/166-167).
[31] انظر: الكتاب العربي المخطوط وعلم المخطوطات للأستاذ الدكتور أيمن فؤاد سيد (1/161-162) ط الدار المصرية اللبنانية بالقاهرة، الطبعة الأولى 1418 = 1997 م.