سعاد كوريم
New member
- إنضم
- 01/09/2012
- المشاركات
- 11
- مستوى التفاعل
- 0
- النقاط
- 1
التفسير والتأويل: الافتراق والتواصل وأبعادهما
د. سعاد كوريم
[email protected]
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن حدود العلاقة بين مستويات التعامل مع القرآن الكريم وتناولِه بالدراسة والفهم كانت وما تزال موضع اهتمام المنشغلين بالدرس القرآني ومحل عنايتهم. إذ على أساسها تتمايز الأعمال التي تمتُّ إلى القرآن بصلة؛ فتتحدد "هويتها" العلمية، وتتبين قيمتها المعرفية، وتتنوع المواقف منها قبولا أو رفضا ومدحا أو ذما. ومن شأن ضبط حدود العلاقة بين مستويات الدرس القرآني أن يضبط حدود الوصل والفصل بين ما يُبنى عليها من تصورات ومفاهيم، ونظريات ومناهج، ومقاربات وتطبيق.
1. أسباب اختيار البحث:
يعتبر التفسير والتأويل من أبرز المفاهيم المرتبطة بالقرآن الكريم وأكثرها تداولا؛ فقد كثر التأليف فيهما وعنهما حتى شغل حيزا كبيرا من الدراسات القرآنية؛ سواء منها التراثية أم الحديثة والمعاصرة. ولا تكاد تخلو الكتب المتعلقة بعلوم القرآن أو بشرحه من حديث عن هذين المفهومين وتعريف لهما ومحاولة تعيين حدود ما بينهما من مجالات الوصل والفصل. غير أن أيا من تلك المحاولات لم تزودنا بتعريفات نهائية متفق عليها تستأصل الخلاف وتحدد العلاقة بين اللفظين بما لا يدع مجالا لتداخل مجالات التداول. وقد كان الاهتمام المتنامي بهذين المفهومين على مر العصور، وعدم الوصول في تحديد دلالتيهما إلى تعريف موحد متفق عليه، سببا في الاهتمام بالموضوع من جديد ومحاولة معالجته من زاوية مختلفة تبحث في مواطن التشابه والاختلاف وحدود الوصل والفصل وأبعاد الافتراق والتواصل انطلاقا من تعريفاتهما المتداولة. فقد آن لهذين اللفظين أن يقفا على أرضية مفاهيمية صلبة تضمن تمايزهما الدلالي وتمايز ما يُبنى عليهما من نظريات ومناهج وتطبيقات.
2. أهمية الموضوع:
إن الحديث عن الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل حديث سهل ممتنع؛ فالظاهر لأول وهلة أن جمع أطراف هذا الموضوع يكفي فيها جمع تعريفي التفسير والتأويل في صعيد واحد، ثم المقارنة بينهما لتحديد مواضع الوصل والفصل والتعرف على ملامح التشابه والاختلاف. لكن الموضوع أعقد من مجرد مقارنة تعريفين؛ فتعريفات التفسير والتأويل متعددة ومختلفة، وكلها مفاهيم لا ترقى إلى مستوى المصطلح. وقد كان لهذا الوضع تأثيره في المستوى المفهومي والنظري والمنهجي والتطبيقي لكل من التفسير والتأويل، وتأثيره أيضا في الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل على كل مستوى من هذه المستويات. ومن هذا المنظور فإن أول الطريق نحو حل الإشكالات المرتبطة بالجوانب النظرية والمنهجية والتطبيقية لكل من التفسير والتأويل يمر لا محالة عبر بوابة التحرير المفهومي للفظين، وبحث أثر الاختلاف في دلالتيهما على أبعاد الافتراق والتواصل بينهما، تمهيدا للرقي باللفظين إلى مقام النضج الاصطلاحي والاتفاق الدلالي.
3. حدود البحث:
إن الاضطراب الحاصل في دلالتي التفسير والتأويل على المستوى المفهومي ناتج أساسا عن افتقارهما إلى خصيصتي النضج والاتفاق اللتان تضمنان لكل مفهوم - مهما حصل الاختلاف في دلالته - الرقي إلى مستوى المصطلح. ومن شأن الاضطراب الحاصل على المستوى المفهومي أن يؤثر فيما بعده من مستويات نظرية ومنهجية وتطبيقية، فيفضي إلى اتساع هوة التعدد وفجوة الاختلاف في كل واحد من هذه المستويات، ويؤولَ إلى اختلاف التفاسير والتأويلات اختلافا يصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان. ونظرا لأن بحث مدى تأثر كل مستوى من المستويات السابقة بالاضطراب المفهومي للفظي التفسير والتأويل يحتاج إلى دراسات مستفيضة، ونظرا لأن منشأ الإشكال ومنتهاه مفهومي بالأساس، فإن هذا البحث سيكتفي بالاشتغال ضمن حدود مفهومي التفسير والتأويل من خلال تسليط الضوء على الإشكالات التي تثيرها إمكانات الافتراق والتواصل بينهما.
4. أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى الوقوف على أبرز الإشكالات التي يثيرها الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل عموما، وما يتعلق منها بالجانب المفهومي على وجه الخصوص، وذلك من خلال الوقوف على تعريفات مختلفة للفظين أفضت إلى ارتباطهما بعلاقات متعددة تتنوع بين الترادف والتكامل والتداخل والتضاد. كما يهدف البحث أيضا إلى الكشف عن أثر الاضطراب المفهومي في الأبعاد المعرفية للافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل، وكذا إلى إنضاج المفهومين عبر حصر أسباب تعدد المعنى تمهيدا لتوحيد الدلالة.
5. الدراسات السابقة:
لقد ظهرت الدراسات والأبحاث التي تعنى بالقرآن الكريم وعلومه منذ بداية التأليف في العلوم الإسلامية، وظهر معها الاهتمام بالتقعيد لمستويات التعامل مع القرآن الكريم وتناولِه بالدراسة والفهم. وأمام تزايد المفاهيم المتداولة لوصف عملية فهم النص القرآني وفقه مراده، وأمام تنوع المدارس الفكرية التي تهتم بمسالك إدراك قصد الشارع من كلامه، لم يكن هنالك بد من ظهور محاولات تروم التمييز بين أشكال التعامل مع القرآن الكريم وتسعى لتحديد هويتها العلمية.
ولما كان التفسير والتأويل من أكثر المفاهيم تداولا في مجال الدراسات القرآنية وأشدها ارتباطا بالدرس القرآني فقد حظيا بعناية خاصة منذ وقت مبكر. وقد برزت العناية بتعيين حدود الوصل والفصل بين المفهومين في المعاجم والتفاسير وكتب علوم القرآن وأصول التفسير وأصول الفقه وأصول الدين، لكنها لم تصل إلى فوارق نهائية تضمن الفصل التام بين المفهومين؛ مما ترك المجال مفتوحا للدراسات الحديثة والمعاصرة كي تدلي بدلوها في هذا المجال، وتحاول الاستفادة مما سبقها من دراسات في سبيل استخلاص تمايزات أكثر دقة.
ولئن كانت العناية بالتمييز بين المفهومين فيما قبل منحصرة في مباحث من مؤلفات بحسب ما تدعو إليه الحاجة، فإن العناية بهما في العصر الحاضر ارتقت إلى مستوى تخصيصهما بالتأليف؛ حيث ظهرت مؤلفات من قبيل "التفسير والتأويل في القرآن" لصلاح عبد الفتاح الخالدي، و"مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر" لمساعد بن سليمان بن ناصر الطيار. بل إن العناية بهذين اللفظين صارت أكثر إلحاحا في الآونة الأخيرة بعد أن وفدت إلى المجال التداولي العربي الإسلامي استعمالات مترجَمة للتأويل والتفسير دخيلة من مجالات تداولية أخرى، ومرتبطة بحقول معرفية لا تمت للدرس القرآني بصلة.
ونظرا لأن أيا من المحاولات السابقة لم تقدم جوابا نهائيا عن الإشكالات التي تثيرها العلاقة بين التفسير والتأويل عموما، وعن الإشكال المفهومي منها على وجه الخصوص، فإنه لم يكن هنالك بد من إعادة البحث في الموضوع من زاوية مختلفة - بعيدا عن النظرة الانتقائية - تسعى إلى تقديم صورة أكثر شمولا عن أشكال العلاقة بين المفهومين وأسباب تعدد دلالتيهما وأثر ذلك في أبعاد الوصل والفصل بينهما.
6. خطة البحث:
اقتضت طبيعة البحث أن يتم تقسيمه إلى مقدمة وخاتمة تتخللهما مباحث ومطالب على النحو الآتي:
- المبحث الأول: إشكالات الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل.
- المبحث الثاني: الافتراق والتواصل على مستوى المفهوم.
· المطلب الأول: الترادف بين التفسير والتأويل.
· المطلب الثاني: التكامل بين التفسير والتأويل.
· المطلب الثالث: التداخل بين التفسير والتأويل.
· المطلب الرابع: التضاد بين التفسير والتأويل.
- المبحث الثالث: أبعاد الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل.
- المبحث الرابع: أثر الاضطراب المفهومي في الأبعاد المعرفية للافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل.
- المبحث الخامس: نحو إنضاج لمفهومي التفسير والتأويل: حصر أسباب تعدد المعنى في أفق توحيد الدلالة.
· المطلب الأول: الاختلاف على مستوى المعجم.
· المطلب الثاني: الاختلاف على مستوى الحقل المعرفي.
· المطلب الثالث: الاختلاف على مستوى الشبكة المفهومية.
· المطلب الرابع: الاختلاف على مستوى القبليات المعرفية.
· المطلب الخامس: الاختلاف على مستوى المجال التداولي.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
7. منهج البحث:
جمع هذا البحث بين مناهج متعددة لكي تفي بتحقيق أهدافه. وقد تنوعت تلك المناهج بين الاستقراء والوصف والتحليل والاستنباط والمقارنة والنقد؛ حيث تضمن هذا البحث استقراءا لعينة من التعريفات المتداولة للتفسير والتأويل وتتبعا لاستعمالاتها ودلالاتها لكي تتسم الأحكام التي يخلص إلى إصدارها بالواقعية والمصداقية. وتم استخدام الوصف بهدف تقديم تصوير أقرب للواقع عن مفهومي التفسير والتأويل وأشكال العلاقة التي تربط بينهما، ومن شأن ذلك أن يضمن تفسيرا أكثر دقة لمشكلة البحث ونتائج أكثر عمقا لفرضياته. أما التحليل فقد تمثلت وظيفته في تفكيك عناصر إشكال البحث وإرجاعها إلى أصولها لمعرفة أبعاد الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل، إضافة إلى لم شتات عناصر الإشكال وتركيبها على بعضها لمعرفة أسباب تعدد المعنى المؤثرة في هلامية حدود الوصل والفصل بين المفهومين. وقد اقتضى استعمال المنهج التحليلي توظيف كل من المقارنة والاستنباط والنقد؛ حيث عمل البحث على مقارنة تعريفات واستعمالات لفظي التفسير والتأويل لرصد أوجه الشبه والاختلاف بينها من أجل الحصول على معارف أدق وأوثق تساعد ما أمكن على تمايز موضوعَي الدراسة أثناء المقارنة والتصنيف. ومكنت عملية المقارنة من استنباط أشكال من العلاقة الواقعة والمتوقعة بين المجالين الدلالين للمفهومين بناء على التأمل في استعمالاتهما واستنتاج بعض الأحكام مما تيسر تتبعه من تداول. وأخيرا تأتي عملية النقد، وهي مرحلة أساس في سيرورة التحليل، وفي أثناءها يحصل التقييم والتقويم في اتجاه ترشيد "الاستهلاك" اللغوي وتصويب الاستعمال التداولي نحو استخدام أفضل للفظي التفسير والتأويل ينتقل بهما من مستوى ضعف المفهوم إلى مقام قوة المصطلح.
د. سعاد كوريم
[email protected]
المقدمة:
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، ومن سار على نهجه واهتدى بهديه إلى يوم الدين. أما بعد:
فإن حدود العلاقة بين مستويات التعامل مع القرآن الكريم وتناولِه بالدراسة والفهم كانت وما تزال موضع اهتمام المنشغلين بالدرس القرآني ومحل عنايتهم. إذ على أساسها تتمايز الأعمال التي تمتُّ إلى القرآن بصلة؛ فتتحدد "هويتها" العلمية، وتتبين قيمتها المعرفية، وتتنوع المواقف منها قبولا أو رفضا ومدحا أو ذما. ومن شأن ضبط حدود العلاقة بين مستويات الدرس القرآني أن يضبط حدود الوصل والفصل بين ما يُبنى عليها من تصورات ومفاهيم، ونظريات ومناهج، ومقاربات وتطبيق.
1. أسباب اختيار البحث:
يعتبر التفسير والتأويل من أبرز المفاهيم المرتبطة بالقرآن الكريم وأكثرها تداولا؛ فقد كثر التأليف فيهما وعنهما حتى شغل حيزا كبيرا من الدراسات القرآنية؛ سواء منها التراثية أم الحديثة والمعاصرة. ولا تكاد تخلو الكتب المتعلقة بعلوم القرآن أو بشرحه من حديث عن هذين المفهومين وتعريف لهما ومحاولة تعيين حدود ما بينهما من مجالات الوصل والفصل. غير أن أيا من تلك المحاولات لم تزودنا بتعريفات نهائية متفق عليها تستأصل الخلاف وتحدد العلاقة بين اللفظين بما لا يدع مجالا لتداخل مجالات التداول. وقد كان الاهتمام المتنامي بهذين المفهومين على مر العصور، وعدم الوصول في تحديد دلالتيهما إلى تعريف موحد متفق عليه، سببا في الاهتمام بالموضوع من جديد ومحاولة معالجته من زاوية مختلفة تبحث في مواطن التشابه والاختلاف وحدود الوصل والفصل وأبعاد الافتراق والتواصل انطلاقا من تعريفاتهما المتداولة. فقد آن لهذين اللفظين أن يقفا على أرضية مفاهيمية صلبة تضمن تمايزهما الدلالي وتمايز ما يُبنى عليهما من نظريات ومناهج وتطبيقات.
2. أهمية الموضوع:
إن الحديث عن الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل حديث سهل ممتنع؛ فالظاهر لأول وهلة أن جمع أطراف هذا الموضوع يكفي فيها جمع تعريفي التفسير والتأويل في صعيد واحد، ثم المقارنة بينهما لتحديد مواضع الوصل والفصل والتعرف على ملامح التشابه والاختلاف. لكن الموضوع أعقد من مجرد مقارنة تعريفين؛ فتعريفات التفسير والتأويل متعددة ومختلفة، وكلها مفاهيم لا ترقى إلى مستوى المصطلح. وقد كان لهذا الوضع تأثيره في المستوى المفهومي والنظري والمنهجي والتطبيقي لكل من التفسير والتأويل، وتأثيره أيضا في الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل على كل مستوى من هذه المستويات. ومن هذا المنظور فإن أول الطريق نحو حل الإشكالات المرتبطة بالجوانب النظرية والمنهجية والتطبيقية لكل من التفسير والتأويل يمر لا محالة عبر بوابة التحرير المفهومي للفظين، وبحث أثر الاختلاف في دلالتيهما على أبعاد الافتراق والتواصل بينهما، تمهيدا للرقي باللفظين إلى مقام النضج الاصطلاحي والاتفاق الدلالي.
3. حدود البحث:
إن الاضطراب الحاصل في دلالتي التفسير والتأويل على المستوى المفهومي ناتج أساسا عن افتقارهما إلى خصيصتي النضج والاتفاق اللتان تضمنان لكل مفهوم - مهما حصل الاختلاف في دلالته - الرقي إلى مستوى المصطلح. ومن شأن الاضطراب الحاصل على المستوى المفهومي أن يؤثر فيما بعده من مستويات نظرية ومنهجية وتطبيقية، فيفضي إلى اتساع هوة التعدد وفجوة الاختلاف في كل واحد من هذه المستويات، ويؤولَ إلى اختلاف التفاسير والتأويلات اختلافا يصل إلى حد التناقض في بعض الأحيان. ونظرا لأن بحث مدى تأثر كل مستوى من المستويات السابقة بالاضطراب المفهومي للفظي التفسير والتأويل يحتاج إلى دراسات مستفيضة، ونظرا لأن منشأ الإشكال ومنتهاه مفهومي بالأساس، فإن هذا البحث سيكتفي بالاشتغال ضمن حدود مفهومي التفسير والتأويل من خلال تسليط الضوء على الإشكالات التي تثيرها إمكانات الافتراق والتواصل بينهما.
4. أهداف البحث:
يهدف هذا البحث إلى الوقوف على أبرز الإشكالات التي يثيرها الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل عموما، وما يتعلق منها بالجانب المفهومي على وجه الخصوص، وذلك من خلال الوقوف على تعريفات مختلفة للفظين أفضت إلى ارتباطهما بعلاقات متعددة تتنوع بين الترادف والتكامل والتداخل والتضاد. كما يهدف البحث أيضا إلى الكشف عن أثر الاضطراب المفهومي في الأبعاد المعرفية للافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل، وكذا إلى إنضاج المفهومين عبر حصر أسباب تعدد المعنى تمهيدا لتوحيد الدلالة.
5. الدراسات السابقة:
لقد ظهرت الدراسات والأبحاث التي تعنى بالقرآن الكريم وعلومه منذ بداية التأليف في العلوم الإسلامية، وظهر معها الاهتمام بالتقعيد لمستويات التعامل مع القرآن الكريم وتناولِه بالدراسة والفهم. وأمام تزايد المفاهيم المتداولة لوصف عملية فهم النص القرآني وفقه مراده، وأمام تنوع المدارس الفكرية التي تهتم بمسالك إدراك قصد الشارع من كلامه، لم يكن هنالك بد من ظهور محاولات تروم التمييز بين أشكال التعامل مع القرآن الكريم وتسعى لتحديد هويتها العلمية.
ولما كان التفسير والتأويل من أكثر المفاهيم تداولا في مجال الدراسات القرآنية وأشدها ارتباطا بالدرس القرآني فقد حظيا بعناية خاصة منذ وقت مبكر. وقد برزت العناية بتعيين حدود الوصل والفصل بين المفهومين في المعاجم والتفاسير وكتب علوم القرآن وأصول التفسير وأصول الفقه وأصول الدين، لكنها لم تصل إلى فوارق نهائية تضمن الفصل التام بين المفهومين؛ مما ترك المجال مفتوحا للدراسات الحديثة والمعاصرة كي تدلي بدلوها في هذا المجال، وتحاول الاستفادة مما سبقها من دراسات في سبيل استخلاص تمايزات أكثر دقة.
ولئن كانت العناية بالتمييز بين المفهومين فيما قبل منحصرة في مباحث من مؤلفات بحسب ما تدعو إليه الحاجة، فإن العناية بهما في العصر الحاضر ارتقت إلى مستوى تخصيصهما بالتأليف؛ حيث ظهرت مؤلفات من قبيل "التفسير والتأويل في القرآن" لصلاح عبد الفتاح الخالدي، و"مفهوم التفسير والتأويل والاستنباط والتدبر والمفسر" لمساعد بن سليمان بن ناصر الطيار. بل إن العناية بهذين اللفظين صارت أكثر إلحاحا في الآونة الأخيرة بعد أن وفدت إلى المجال التداولي العربي الإسلامي استعمالات مترجَمة للتأويل والتفسير دخيلة من مجالات تداولية أخرى، ومرتبطة بحقول معرفية لا تمت للدرس القرآني بصلة.
ونظرا لأن أيا من المحاولات السابقة لم تقدم جوابا نهائيا عن الإشكالات التي تثيرها العلاقة بين التفسير والتأويل عموما، وعن الإشكال المفهومي منها على وجه الخصوص، فإنه لم يكن هنالك بد من إعادة البحث في الموضوع من زاوية مختلفة - بعيدا عن النظرة الانتقائية - تسعى إلى تقديم صورة أكثر شمولا عن أشكال العلاقة بين المفهومين وأسباب تعدد دلالتيهما وأثر ذلك في أبعاد الوصل والفصل بينهما.
6. خطة البحث:
اقتضت طبيعة البحث أن يتم تقسيمه إلى مقدمة وخاتمة تتخللهما مباحث ومطالب على النحو الآتي:
- المبحث الأول: إشكالات الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل.
- المبحث الثاني: الافتراق والتواصل على مستوى المفهوم.
· المطلب الأول: الترادف بين التفسير والتأويل.
· المطلب الثاني: التكامل بين التفسير والتأويل.
· المطلب الثالث: التداخل بين التفسير والتأويل.
· المطلب الرابع: التضاد بين التفسير والتأويل.
- المبحث الثالث: أبعاد الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل.
- المبحث الرابع: أثر الاضطراب المفهومي في الأبعاد المعرفية للافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل.
- المبحث الخامس: نحو إنضاج لمفهومي التفسير والتأويل: حصر أسباب تعدد المعنى في أفق توحيد الدلالة.
· المطلب الأول: الاختلاف على مستوى المعجم.
· المطلب الثاني: الاختلاف على مستوى الحقل المعرفي.
· المطلب الثالث: الاختلاف على مستوى الشبكة المفهومية.
· المطلب الرابع: الاختلاف على مستوى القبليات المعرفية.
· المطلب الخامس: الاختلاف على مستوى المجال التداولي.
الخاتمة: وفيها أهم النتائج والتوصيات.
7. منهج البحث:
جمع هذا البحث بين مناهج متعددة لكي تفي بتحقيق أهدافه. وقد تنوعت تلك المناهج بين الاستقراء والوصف والتحليل والاستنباط والمقارنة والنقد؛ حيث تضمن هذا البحث استقراءا لعينة من التعريفات المتداولة للتفسير والتأويل وتتبعا لاستعمالاتها ودلالاتها لكي تتسم الأحكام التي يخلص إلى إصدارها بالواقعية والمصداقية. وتم استخدام الوصف بهدف تقديم تصوير أقرب للواقع عن مفهومي التفسير والتأويل وأشكال العلاقة التي تربط بينهما، ومن شأن ذلك أن يضمن تفسيرا أكثر دقة لمشكلة البحث ونتائج أكثر عمقا لفرضياته. أما التحليل فقد تمثلت وظيفته في تفكيك عناصر إشكال البحث وإرجاعها إلى أصولها لمعرفة أبعاد الافتراق والتواصل بين التفسير والتأويل، إضافة إلى لم شتات عناصر الإشكال وتركيبها على بعضها لمعرفة أسباب تعدد المعنى المؤثرة في هلامية حدود الوصل والفصل بين المفهومين. وقد اقتضى استعمال المنهج التحليلي توظيف كل من المقارنة والاستنباط والنقد؛ حيث عمل البحث على مقارنة تعريفات واستعمالات لفظي التفسير والتأويل لرصد أوجه الشبه والاختلاف بينها من أجل الحصول على معارف أدق وأوثق تساعد ما أمكن على تمايز موضوعَي الدراسة أثناء المقارنة والتصنيف. ومكنت عملية المقارنة من استنباط أشكال من العلاقة الواقعة والمتوقعة بين المجالين الدلالين للمفهومين بناء على التأمل في استعمالاتهما واستنتاج بعض الأحكام مما تيسر تتبعه من تداول. وأخيرا تأتي عملية النقد، وهي مرحلة أساس في سيرورة التحليل، وفي أثناءها يحصل التقييم والتقويم في اتجاه ترشيد "الاستهلاك" اللغوي وتصويب الاستعمال التداولي نحو استخدام أفضل للفظي التفسير والتأويل ينتقل بهما من مستوى ضعف المفهوم إلى مقام قوة المصطلح.