التفسير العقدي لجزء عم (للشيخ أحمد القاضي حفظه الله)

إنضم
02/02/2009
المشاركات
196
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
ليبيا
[align=center]

التفسير العقدي لجزء عم

مقدمة

/* بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي */


الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:

فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله, فالهدى: هو العلم النافع. ودين الحق: هو العمل الصالح. وقد ضمّن الله تعالى ما أنزل على نبيّه من البينات، هذين الأمرين, فاحتوى كتاب الله عز وجل على كل ما يحتاجه الناس في أمر معاشهم، ومعادهم؛ من العقائد، والشرائع، والأخلاق، والآداب, فكان فيه غنية وكفاية.

وقد جعل الله تعالى كتابه آية خالدة، ومعجزة باهرة إلى يوم القيامة. وفي الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1), فهذا القرآن العظيم فيه الخير، والبركة، والصلاح، والفلاح، والنجاح، لهذه الأمة، ولجميع العالمين، إلى يوم القيامة.

وقد امتن الله تعالى على عباده المؤمنين بإنزال هذا الكتاب, وامتن على نبيّه بذلك وشرفه به فقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان/1], وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر/23], وأقسم الله تعالى به في غير ما موضع، في كتابه؛ تعظيماً لشأنه، وتفخيماً له, ولم ينزل الله تعالى كتابه لأجل أن يُترنم بذكره، ويُتغنى به، فحسب, وإن كان هذا مراداً مقصوداً, ولكن أنزله عز وجل لما هو أعظم من ذلك؛ لتدبره وتعقله, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/2], وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/2] , وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص/29], وقال عز وجل:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام/92]

ففي القرآن العظيم بركة في تلاوته؛ لما يحدثه في نفس تاليه من السكينة والطمأنينة؛ لأنه أعظم ذكر لله, وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد/28]

وكم من إنسان قلق، متوتر، فتح دفتي المِصْحَف، ورطّب لسانه بتلاوة آي الكتاب, فانقشعت عنه سحائب من الهموم، والغموم, وانجلت عن ناظريه الغشاوة، وعن أذنيه الوقَرْ، وعن قلبه الأكنة. وهو مبارك أيضاً فيما تضمّنه من العلوم النافعة, وأعظم ما فيه من العلوم: العلم بالله عز وجل. فلا سبيل لنا إلى العلم بالله تعالى، إلا فيما أودعه في كتابه, فقد تضمّن من أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلى، الشيء الكثير، مما لا يخفى, فيحصل للقلب من تدبر هذه المعاني الجليلة في أسماء الله وصفاته، وأفعاله, ما يقع به تعظيم الرب وخشيته ومحبته ورجائه وسائر ما يتنعم به القلب من العبادات القلبية الباطنة.

وأودع الله تعالى فيه أيضاً من الشرائع العادلة مما يحتاجه الناس في عباداتهم وفي معاملاتهم وفي معاشرتهم لأهليهم مالا يبقى معه إشكال, فلم يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا وترك لنا منه علماً, وهو مبارك أيضاً في موعظته, فإن في القرآن موعظة لا توجد في غيره, وفيه تأثير على القلوب والله أعلم بمن خلق لا يحصل إلا به, وربما تفنن الوعاظ والمربون بأنواع المواعظ والتأثيرات وربما كان تأثيرها كبيراً, لكنه آنِيّ, أما موعظة القرآن فإنها باقية وثابتة ومؤثرة, فأعظم ما عالج به الإنسان قلبه كتاب الله عز وجل؛ ولهذا عَتِبَ الله تعالى على المؤمنين في أول الإسلام ما أصابهم من فتور, فقال سبحانه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد/16]. فلابد أن يُحدث هذا القرآن خشية وخشوعاً في القلب, وكأن الله سبحانه وتعالى يحضُّهم ويُحرضهم على تحصيل هذا الأثر, ثم قال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد/16], فحذر الله تعالى من مشابهة أهل الكتاب، الذين جعلوا كتاب الله ظِهريّاً، ولم ينتفعوا به, فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم, فكتاب الله بين ظهرانيهم، لكنهم لا يرفعون به رأساً.

ثم أردف الله تعالى هذه الآية بقوله: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد/17], فلفت الله الأنظار إلى أن حاجة القلوب إلى موعظة القرآن، أعظم من حاجة الأرض الميتة إلى ماء السحاب, فلئن كان ماء السماء يُحيي الأرض بعد موتها، فيُنبت الزرع، ويدرُّ الضرع, فإن هذه القلوب أحوج إلى ما أنزل الله من كلامه، من الأرض الميتة إلى المطر, فإذا ما كان في قلبك مَوات، فأسقه بالقرآن العظيم. والقرآن العظيم مبارك في آثاره فإنه يُحدث آثاراً حميدة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الأمة بعمومها.

فالمرء إن اعتصم به، والتزم بهديه أصلح الله له حاله ورُزق الحياة الطيبة واطمأنت نفسه وهدأ باله وحصّل نعيم الدنيا المتمثل بلذة مناجاة الله تعالى.

والمجتمع إن التزم بتعاليمه، وحدوده، وُقي من الشرور، والآفات، وحُفظت الأسرة من الخلاف، والفرقة، والنزاع، ورُوعيت الحقوق، والذمم.

والأمة بمجموعها إن التزمت به حقق الله لها النصر والتمكين, قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج/41]، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/55]

فالقرآن العظيم هو عهد ما بيننا وبين الله عز وجل, إن نحن التزمنا به، وعظّمناه، وقدّمناه، وجعلناه إماماً لنا، اهتدينا، وإن كانت الأخرى، فليس وراء ذلك إلا الضلال، والخسار، في الدنيا والآخرة.

ولا شك أن تلاوة كتاب الله، فهماً، وتدبراً، من أولى ما يكون, فإنه لا يخفى أن العلم الذي كان بين أيدي الصحابة، رضوان الله عليهم، هو هذا العلم المنزل من السماء؛ (القرآن العظيم), ولم يكن بين أيديهم شيئاً من هذه الكتب المطولات، ولا الشروحات، ولا ما تمتلئ به رفوف المكتبات، وإنما كان أحدهم يُقبل على هذا الدين بكُليته, فيقرع سمعه القرآن، فيستحيل خلقاً جديداً, فما أن يسمع كلام الله عز وجل، حتى يستيقظ من غفلته، ويصحوا من غفوته، ويعلم سر خلقه، وإيجاده, فيعود خلقاً جديداً، يُنشئه الله نشأة أخرى. ولهذا صنع الله بأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الكرامة والخير والتمكين مالا يخفى قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران/164]. فكانوا في جاهلية جهلاء, وضلالة عمياء, فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة العربية، التي كان بعضها يأكل بعضاً، وينزو بعضها على بعض, ويقتتلون السنين الطوال، من أجل بيت شِعْر، أو شطره، أو لأجل بعير، أو مرعى، أو ماء، أو نحو ذلك, فجعل الله تعالى منهم أمة قوية متحابة, وفتح بهم القلوب، قبل أن يفتح بهم الحُصون. وفي سُنيات معدودة طبّق دين الله تعالى الأرض المعمورة, وكل هذا ببركة القرآن, تمثّلوه فرفعهم الله تعالى به, ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلها. ولذلك كان ينبغي لكل عاقل، لبيب، حازم، أريب، أن يتوجه إلى النبع الأول, النبع الصافي، ويدع السّواقي, يَبتدئ بما أنزل الله على نبيه من الكتاب والحكمة, فيَعمد إلى الكتاب والسنة، يستقي منهما. وليس هذا تقليلاً من العلوم الفرعية؛ فإن العلوم الفرعية بمنزلة الآلة، أو الضَّوء، الذي يكشف بعض مراد الله عز وجل, لكن على الإنسان أن يَعمد إلى النبع فيستقي منه, فإذا وجدت ماء جارياً وله فروع, فإن الكسول يُمكن أن يذهب إلى إحدى هذه الفروع الضحلة، والسواقي فيملئ منها إناءه، ولكن صاحب الهمة يقول: مالي آخذ من هذه السواقي التي فيها شوب، وكدر، وطين، مع الماء! بل أذهب إلى هذه العين المتفجرة، المتدفقة، الصافية، فأستقي منها.

فلأجل هذا، رأيت عقد دروس في تفسير القرآن العظيم, حتى نعيش في روضات أنيقات، من كلام الله عز وجل، الذي به صلاح القلوب، وصلاح الحياة كلها, ورأيت التركيز على التفسير العقدي, فإنه أساس هذه الأمة، وأساس صلاح القلب, واخترت لهذا جزء عم, آخر أجزاء القرآن العظيم. ويظهر في سور هذا الجزء أثر الاعتقاد فيما أنزله الله تعالى على عباده، في العهد المكي. فكل سور هذا الجزء نزل بمكة باستثناء سورتين، هما سورة البيّنة، وسورة النصر. وما سواهما، فكله مكي. ويظهر فيه ملامح، وخصائص السور المكية من التركيز على مسائل الاعتقاد، والتوحيد، وأصول الإيمان، وما أحوجنا في هذا الزمان وفي كل زمان إلى استحياء هذه المعاني وتقويتها في القلوب والنفوس.

وسأتناول هذه السور، بإذن الله تعالى، على الطريقة التالية:

أولاً: أبين مقاصد السورة, فإن الله سبحانه وتعالى ما جعلها سورة مسوّرة إلا ولها موضوع، أو موضوعات مترابطة.

ثانياً: أقوم بتجزئة هذه السورة، إن كانت طويلة، إلى أجزاء ذات رابط موضوعي, فكل طائفة من الآيات تكون متناسبة فيما بينها عند التأمل.

ثالثاً: أشرع في التفسير التحليلي لهذه المقاطع, ببيان مفرداتها وما قيل فيها, وتراكيبها وما يفتح الله تعالى من علم وخير.

رابعاً: أقوم باستنباط الفوائد العقدية، والإيمانية، والتربوية المميزة، من هذا المقطع. وعلى هذا النهج أسير بعون الله تعالى.


--------------------------------------------------------------------------------

(1) أخرجه البخاري برقم (4981) ؛ ومسلم برقم (152).[/align]
 
[align=center]بسم اله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة المطففين (المقطع الأول)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4) لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ (6)

سورة المطففين من السور المكية. ومن مقاصد هذه السورة :

المقصد الأول: بيان العلاقة الوثيقة بين العقيدة والسلوك, والإيمان والقيم : فهي تعالج ظاهرة سيئة كانت موجودة عند المخاطبين، وهي تطفيف الميزان، وقد يبدو لبعض الناس أن مثل هذا الانحراف، من الأمور الفرعية التي ليس هذا أوان بحثها، وعلاجها, لكن إيراد هذه القضية، ومعالجتها في القرآن المكي، دليل على الصلة الوثيقة بين العقيدة القلبية، والسلوك العملي, وبين الإيمان، والقيم الخلقية، التي يؤمن بها صاحبها.

المقصد الثاني : تصنيف الناس إلى فريقين؛ الأبرار، والفجار, فريق في الجنة, وفريق في السعير, وإلى حزبين؛ حزب الله, وحزب الشيطان, وإلى سعداء، وأشقياء.

المقصد الثالث : ترسيخ الإيمان باليوم الآخر، وما فيه من النعيم، والعذاب.

المقصد الرابع : طمأنة المؤمنين بأن العاقبة للتقوى: وما أحوج المؤمنين في العهد المكي، إلى هذا المعنى، وهم في مرحلة الاستضعاف، والاستذلال، والأذى.

(وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ): هكذا تستهل السورة بهذا الوعيد الشديد. وكلمة (ويل) في اللغة كلمة وعيد، وعذاب, قيل إنها اسم لوادٍ في جهنم, ولكنها بالمعنى الأعم تدل على الوعيد والعذاب .

(الَّذِينَ إِذَا اكْتَالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ): هذا هو تفسير التطفيف, يعني أنهم إذا أرادوا أن يأخذوا الكيل لأنفسهم استوفوا حقهم تاماً,(وَإِذَا كَالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ) يعني أنهم إذا كالوا للناس, أو وزنوا للناس، نقصوهم وبخسوهم حقهم. فالتطفيف إذاً، عبث بالمكاييل والموازين؛ إما بأخذ زيادة على المستحَق، وإما بنقص من الحق. وكلا الأمرين يحصل لكثير من الناس أثناء البيع والشراء.وقد قيل إن هذه السورة، أو صدرها على الأقل نزل في أول العهد المدني، روي ذلك عن ابن عباس، رضي الله عنهما، أن النبي صلى الله عليه وسلم حين قدم المدينة، كان أهل المدينة من أخبث الناس كيلاً، فنزلت هذه الآيات, وقيل غير ذلك. والغالب، والله أعلم، أنها سورة مكية بجميع آياتها, وأن التطفيف، كان موجوداً لدى أهل الجاهلية. ونلحظ، أيضاً، أن القوم من أصحاب الثروات، يضطرون الناس إلى القبول بهذا الميزان المجحف؛ لحاجة الناس إليهم, فإن الناس يأبون أن يبخسوا أشياءهم، ولكنهم مضطرون إلى القبول. وهذا ما ينطبق انطباقاً كبيراً على حال الاقتصاد العالمي اليوم, فإنه يقع فيه التطفيف، وإلجاء الناس، بطرق الاحتكار المختلفة، إلى أن يقبلوا بالضيم، لينالوا حصتهم، وما يحتاجون إليه, فيتلاعب التجار الجشعون بالأسعار، ويرفعونها ليمتصوا دماء الفقراء. ولا حيلة للفقراء، إلا أن يبذلوا أموالهم؛ لأن هذه المواد، قوام حياتهم. فمسألة التطفيف لا تقتصر فقط على هذه الصورة البسيطة؛ أن ينقص من الوزن، أو أن يستوفي لنفسه، بأن يزيد قدر كف من طعام، أو نحوه.

وقد كان هذا الوصف الذميم، أعني بخس الناس أشياءهم موجوداً لدي أمة عذبت، وهي مدين، الذين بعث فيهم شعيب، عليه السلام، فكان يقول لهم (وَلَا تَنْقُصُوا الْمِكْيَالَ وَالْمِيزَانَ إِنِّي أَرَاكُمْ بِخَيْرٍ وَإِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ), فهذا الأمر كان موجوداً في الأولين، ولا يزال موجوداً في الآخرين. وحين وقع العالم بأجمعه، في هذه القرون الأخيرة، في قبضة الاقتصاد اليهودي الربوي، فشت هذه المظاهر، وصار الناس أسرى لهذه المظالم, فلا يخفى أن الاقتصاد العالمي، اليوم، اقتصاد ربوي، وضع نظرياته، وآلياته، اليهود, وساقوا العالم بأجمعه على نظامه, وصار الربا فاشياً، شائعاً في جميع الأمم. وهذه الشريعة الغراء جاءت بتحريم الربا، حتى إنك لا تكاد تجد من الكبائر ما ورد فيه وعيد وتهديد في كتاب الله، كما ورد في الربا. وهذا يدلنا على كمال هذه الشريعة, وأنها منذ بزوغها كانت تهدف إلى إصلاح القلب، وإصلاح الحياة معاً, فلا يقال إن شريعة الإسلام تصلح السرائر وحسب, بل تصلح السريرة، والعلانية, تصلح الفرد، وتصلح المجتمع . فلأجل ذا وقع التنبيه على هذا الانحراف في العهد المكي .

ومن المفسرين من وقف على (كَالُوا), و (وزنوا) فقرأ : "وإذا كالوا، هم يخسرون وإذا وزنوا، هم يخسرون" فعلى القراءة المشهورة، تكون متعدية، ومكتفية بذاتها, وعلى قراءة الوقف على "كالوا" تكون "هم" ضمير، من الكائل، والوازن. والأولى هو حسبانها كلمةً واحدة، ومما يدل على ذلك أن ألف الجماعة لم ترسم في المصحف بعد "كالو" و "وزنو".

(أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ): هذا الاستفهام "ألا" أداة تنبيه, والمقصود بها التوبيخ، والتبكيت, (يظن) بمعنى يستيقن, وإلا فربما يطيف بقلوبهم طائف، أنه ثم بعث، لكن القوم لم يستيقنوا، ولو استيقنوا، لاستقام سلوكهم, لكن لا يقين عندهم ، بل هم إما منكرون للبعث، وإما متشككون فيه, ومعنى (مَبْعُوثُونَ) أي مخرجون من قبورهم أحياء .

(لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ): يا لها من موعظة! ويا له من زجر! هذه الموعظة ينتفع بها المؤمن, وإن كانت في الأصل موجهةً إلى الكافر. فأنت إذا وعظت غيرك، وعظت نفسك. قل لنفسك، كما قال الله : ألا تظن أنك مبعوث ليوم عظيم، يوم يقوم الناس لرب العالمين! ؛ لأن غالب ما يقع منا من التقصير, والمعصية,والغفلة, وظلم النفس, وظلم الآخرين, إنما هو ناتج عن ضعف اليقين بالآخرة، ولو كان اليقين بالآخرة قائماً في القلب دائماً، لانكف الإنسان عن كثير من المعاصي والمظالم, لكن القلب يذهل عن ذلك الموعد الحق, فإذا غاب عن باله البعث، واليوم الآخر, والجنة، والنار، صار يطأ السهل، والوعر، ويجترح السيئات، ويقترف المعاصي؛ لغياب هذا الرادع عن قلبه. فمن أعظم أسباب الموعظة، أن يعظ الإنسان نفسه باليوم الآخر, ودعك من أقوام يقولون: لا فائدة من المواعظ, المهم الإقناع بالعقل ! لابد من الإقناع العقلي, ومن تحريك الوجدان والموعظة. كم من إنسان تحصل له القناعة العقلية بصحة كذا، وخطأ كذا، لكنه لا ينقاد لمقتضى العقل! فلابد من الجمع بين الأمرين. ولهذا قال الله تعالى : (ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ) فالحكمة: الأمر المحكم الذي يقطع العقل بصوابه, والموعظة: ما يلامس القلب، ويستجيش الوجدان. فجاء هذا التهديد لهؤلاء المطففين، باليوم الآخر الذي ترتعد الفرائص عند ذكره , تقول فاطمة بنت عبد الملك، زوج عمر بن عبد العزيز، رحمهما الله: " كان عمر يذكر الموت وهو في فراشه، فينتفض كما ينتفض العصفور " هكذا القلب المؤمن باليوم الآخر، يردعه إيمانه عن كثير من المحرمات, والشبهات, والمكروهات, وخلاف الأولى.

وإنما سميت القيامة قيامة، لأسباب منها هذا (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ) , أي أنهم يبعثون من قبورهم أحياءً، ينتصبون على أقدامهم، حفاة، عراة، غرلاً, (لرب العالمين) : يعني للوقوف بين يديه، والحساب، والجزاء الذي يفضي إلى جنة أو نار. ومن أسباب تسميتها بالقيامة، قيام الأشهاد، قال الله تعالى (إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ), ومن أسباب تسميتها القيامة: إقامة الموازين قال تعالى : (وَنَضَعُ الْمَوَازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيَامَةِ) .

الفوائد المستنبطة :

الفائدة الأولى: ذم التطفيف، وتوعد فاعليه.

الفائدة الثانية: منافاته للعدل والإنصاف.

الفائدة الثالثة: التهديد، والموعظة باليوم الآخر.

الفائدة الرابعة: إثبات البعث والقيامة الكبرى.

الفائدة الخامسة: ربوبية الله العامة (يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعَالَمِينَ). فالربوبية نوعان : الربوبية عامة: وهي التي تشمل جميع الخلق (الْعَالَمِينَ)، لأن (عَالَمِينَ) جمع عالم وهو كل من سوى الله من إنس, أو جن, أو طير, أو وحش, أو ملك. فالربوبية العامة معناها أن الله سبحانه وتعالى خلقهم، ورزقهم، ودبر أمورهم. وأما الربوبية الخاصة: فهي ربوبيته سبحانه وتعالى لأوليائه المؤمنين، وذلك باللطف بهم، وتيسير أمورهم، وحفظهم في دينهم، ودنياهم,ويمكن أن نضيف ربوبية خاصة الخاصة: وهي ربوبيته للأنبياء والمرسلين، وأخصهم نبينا صلى الله عليه وسلم، فإن ربوبيته لهم أخص ما يكون. [/align]
 
سورة المطففين (المقطع الثاني)

سورة المطففين (المقطع الثاني)

[align=center]بسم اله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة المطففين (المقطع الثاني)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ (7) وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ (8) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ): ابتدأ الله تعالى بذكر هؤلاء أولاً، لأن الحديث كان عن أشكالهم، وهم المطففون فناسب قرنهم بهم، قبل ذكر الأبرار. وكلمة (كلا) كلمة ردع وزجر ، والمعنى: ليس الأمر كما تعتقدون وتظنون من إنكار البعث. وقال بعض المفسرين إنها في مثل هذا السياق معناها: "حقاً". وإلى هذا ذهب السيوطي، رحمه الله، فجعلها نوع إثبات.ومعنى (كتاب) أي مكتوب,وأصل الكتْب في اللغة: الجمع، ومنه قولهم: "تكتب بنو فلان" يعني: تجمعوا, وقولهم "كتيبة" لجماعة الخيل. فدل ذلك على أن المراد بكتاب الفجار الديوان الذي يجمع هؤلاء الفجار. وقد تقدم أن "الفجار" هم الذين هتكوا ستر الدين بالكفر, والفسوق, والعصيان؛ لأن الفجْر بمعنى الهتك.

(فِي سِجِّينٍ) قيل في معنى (سجين) أنها الأرض السابعة، أو موضع في أسفل الأرض، يقال له سجين. وأصل اشتقاقه من السجن، وهو الحبس في مكان ضيق حرج، ومما يؤيد أن سجين موضع في أسفل سافلين، في الأرض السابعة، ما جاء في حديث نزع الروح، أنه إذا قبضت روح العبد الكافر (يُنْتَهَى بِهِ إِلَى السَّمَاءِ الدُّنْيَا، فَيُسْتَفْتَحُ لَهُ، فَلَا يُفْتَحُ لَهُ، ثُمَّ قَرَأَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:{ لَا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوَابُ السَّمَاءِ وَلَا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِيَاطِ } فَيَقُولُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: اكْتُبُوا كِتَابَهُ فِي سِجِّينٍ، فِي الْأَرْضِ السُّفْلَى، فَتُطْرَحُ رُوحُهُ طَرْحًا، ثُمَّ قَرَأَ:{ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّمَا خَرَّ مِنْ السَّمَاءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكَانٍ سَحِيقٍ }) رواه أحمد. فهذا يؤيد هذا المعنى المروي المأثور عن بعض السلف .

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا سِجِّينٌ): المراد بهذا السؤال، التعظيم، والتهويل. وكثيراً ما نجد في القرآن العظيم السؤال عن الشيء بقصد التعظيم، كقول الله تعالى: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا يَوْمُ الدِّينِ), وقوله: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ), فمثل هذا الأسلوب يلفت الانتباه، ويعظم المقام .

(كِتَابٌ مَرْقُومٌ): يعني ذلك الكتاب الجامع لأعمالهم، وحالهم، مرقوم, أي مختوم، مفروغ منه, لا يزاد فيه، ولا ينقص. وقد جاء في حديث عند الترمذي، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ عَمْرِو بْنِ الْعَاصِ قَالَ: خَرَجَ عَلَيْنَا رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَفِي يَدِهِ كِتَابَانِ، فَقَالَ: أَتَدْرُونَ مَا هَذَانِ الْكِتَابَانِ؟ فَقُلْنَا: لَا يَا رَسُولَ اللَّهِ! إِلَّا أَنْ تُخْبِرَنَا. فَقَالَ لِلَّذِي فِي يَدِهِ الْيُمْنَى: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ الْجَنَّةِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا. ثُمَّ قَالَ لِلَّذِي فِي شِمَالِهِ: هَذَا كِتَابٌ مِنْ رَبِّ الْعَالَمِينَ، فِيهِ أَسْمَاءُ أَهْلِ النَّارِ، وَأَسْمَاءُ آبَائِهِمْ، وَقَبَائِلِهِمْ، ثُمَّ أُجْمِلَ عَلَى آخِرِهِمْ، فَلَا يُزَادُ فِيهِمْ، وَلَا يُنْقَصُ مِنْهُمْ أَبَدًا)

وسمي مرقوماً، تشبيهاً له بالرقم في الثوب, والرقم في الثوب، يعني الخط، أو العلم الذي يكون في القماش، يكون ثابتاً فيه، لا يذهب منه. فالمرقوم هو يعني المخطوط، أو المكتوب .

(وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ): وكلمة (ويل) تقدم معناها، والمكذبون هنا هم المكذبون بالبعث؛ لأنه قد قال (أَلا يَظُنُّ أُولَئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ) فهذا الظن منهم هو الذي أوردهم المهالك .

(الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ): كما قال: (زعم الذين كفروا أن لن يبعثوا قل بلى وربي لتبعثن) , هذه من المفاصل التي كانت بين النبي صلى الله عليه وسلم، وبين الكفار. ومعنى (الدين) أي الجزاء .

(وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ): هذا مثال للترابط بين العقيدة الباطنة، والسلوك الظاهر؛ فمن غلب عليه العدوان، والإثم، صار قلبه أغلفاً، لا يقر بالحق، بل يستثقله ويأباه. ومعنى (معتد) أي متجاوز الحد من العدوان, و(أثيم): صيغة مبالغة على وزن فعيل, يعني والغ في الإثم، وهو ارتكاب المحظور.

ووجه الترابط بين العدوان والإثم، وبين إنكار البعث، أن الذي يسرف على نفسه بالمعاصي، والذنوب، وظلم الآخرين، يقلقه، ويزعجه، أن يقال له: إن من ورائك يوم آخر، يجازى المحسن على إحسانه، والمسيء على إساءته. فلذلك ينزع إلى نبذ هذه الفكرة، وإقصائها، ودفعها. ولهذا تجدون أن أصحاب الشهوات، المسرفين على أنفسهم، يدخل عليهم شك عظيم في هذا الباب؛ لأن الشهوات تلقح الشبهات.

(إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ): تتلى عليه آيات بينات, تخضع لها الرقاب, وتدرك العرب، وهم أهل الفصاحة، والبلاغة، أن هذا القول قول كريم، لا يستطيعون الإتيان بمثله، ومع ذلك: (وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ) ينهون عنه أتباعهم أن يصغوا إليه, وينأون عنه بأنفسهم لئلا يخضعوا لسلطانه!

وأساطير جمع أسطورة، بضم الهمزة، أو إسطارة، بكسر الهمزة، والمقصود بها الحكايات المسطورة، القديمة. وقد كان بعض المشركين إذا رأى عجب الناس مما جاء به النبي صلى الله عليه وسلم يقول لهم : هلموا إلي أحدثكم بخير من حديث محمد، أحدثكم بحديث كسرى, واسفينديار, وغيرهم من ملوك العجم! يظن أن المسألة ترويج أساطير، وحكايات، ونحو ذلك، وشتان شتان! هذا الكتاب ليس كتاب أقاصيص، أو تسالي، وإنما يتضمن من الحقائق العظيمة، الثقيلة ما تحي به القلوب ، وتصح به العقول.

(كَلاَّ بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ): (كَلاّ) تقدم معناها, (بل ران) : أي غطى، وغشا، وغمر. وهذا شاهد ثالث للعلاقة الوثيقة بين القلب والسلوك. فهذا الكسب الذي كسبوه بالتطفيف، كون على قلوبهم طبقة صلبة، فصارت قلوبهم بسبب كسبهم للمال الحرام، وتكذيبهم بالحق، كالحديد إذا صدأ. فهؤلاء الذين يكسبون الآثام، والعدوان، والمال الحرام، يقع على قلوبهم (الران) أو (الرين). وقد جاء في سنن الترمذي، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، رضي الله عنه، عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ قَالَ: (إِنَّ الْعَبْدَ إِذَا أَخْطَأَ خَطِيئَةً، نُكِتَتْ فِي قَلْبِهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، فَإِذَا هُوَ نَزَعَ، وَاسْتَغْفَرَ، وَتَابَ، سُقِلَ قَلْبُهُ، وَإِنْ عَادَ زِيدَ فِيهَا، حَتَّى تَعْلُوَ قَلْبَهُ. وَهُوَ الرَّانُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ:{كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ}) قَالَ هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ودون الران، الغان، ويدل عليه قول النبي صلى الله عليه وسلم : (إِنَّهُ لَيُغَانُ عَلَى قَلْبِي وَإِنِّي لَأَسْتَغْفِرُ اللَّهَ فِي الْيَوْمِ مِائَةَ مَرَّةٍ) رواه مسلم, وذلك أن المؤمن بحكم بشريته، ربما أدركته غفلة, لكن هذه الغفلة قشر رقيق، ما أن يذكر الله عز وجل، حتى تتقشع, أما الران فهو طبقة سميكة؛ لأنه إذا ظلت هذه النكت السوداء تتراكم عليه، حتى لا ترى حقاً، ولا تسمع حقاً. جاء في حديث حذيفة بن اليمان، رضي الله عنه، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَقُولُ: ( تُعْرَضُ الْفِتَنُ عَلَى الْقُلُوبِ كَالْحَصِيرِ عُودًا عُودًا، فَأَيُّ قَلْبٍ أُشْرِبَهَا، نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ، وَأَيُّ قَلْبٍ أَنْكَرَهَا نُكِتَ فِيهِ نُكْتَةٌ بَيْضَاءُ، حَتَّى تَصِيرَ عَلَى قَلْبَيْنِ؛ عَلَى أَبْيَضَ مِثْلِ الصَّفَا، فَلَا تَضُرُّهُ فِتْنَةٌ مَا دَامَتْ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ، وَالْآخَرُ أَسْوَدُ مُرْبَادًّا كَالْكُوزِ مُجَخِّيًا لَا يَعْرِفُ مَعْرُوفًا، وَلَا يُنْكِرُ مُنْكَرًا، إِلَّا مَا أُشْرِبَ مِنْ هَوَاهُ) رواه مسلم.

(كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ):أولئك المكذبين بالبعث, (يومئذ) أي يوم القيامة, (عن ربهم) هذه ربوبية عامة, (لمحجوبون)أي محجوبون عن كرامته, ونعمته. وأعظم النعم التي يحجبون عنها النظر إلى وجه الله الكريم. وهذه الآية وما يقابلها بعد بضع آيات، وهي قول الله تعالى(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) مما استدل به أهل السنة والجماعة على إثبات رؤية المؤمنين ربهم يوم القيامة. قال الشافعي، رحمه الله: لما حجب أولئك في السخط, نظر هؤلاء في الرضا.

(ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ): يعني داخلوا الجحيم، وحاصل لهم التصلية، بمعنى أنهم يحرقون، ويشوون فيها.

(ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ): اجتمع عليهم العذاب الحسي، والعذاب المعنوي, أما الحسي فظاهر, وأما المعنوي، فهذا التبكيت الشديد :(هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ) .

الفوائد المستنبطة :

الفائدة الأولى: إثبات القدر السابق, وذلك في قوله تعالى:(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْفُجَّارِ) فهو كتاب مفروغ منه؛ لأن الله وصفه بأنه مختوم.

الفائدة الثانية: النكير على المكذبين بالبعث.

الفائدة الثالثة: تلازم صفات السوء,فهؤلاء جمعوا أوصافاً سيئة متلازمة؛ وهي الفجور, والتكذيب, والعدوان, والإثم, فأوصاف السوء يمسك بعضها برقاب بعض.

الفائدة الرابعة :تأثير الكسب الحرام على القلب

الفائدة الخامسة: شدة عقوبة الكافرين الحسية والمعنوية .[/align]
 
سورة المطففين (المقطع الثالث)

سورة المطففين (المقطع الثالث)

[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة المطففين (المقطع الثالث)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ (19) كِتَابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ (22) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ (26) وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27) عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

(كَلَّا إِنَّ كِتَابَ الْأَبْرَارِ لَفِي عِلِّيِّينَ): (الأبرار) قد تقدم معناها.

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا عِلِّيُّونَ ) : الاستفهام للتفخيم، والتكريم. و(عليون) : موضع في السماء السابعة. وقد ورد في بعض الآثار أنها قائمة العرش اليمنى,وقيل: موضع عند سدرة المنتهى, وهذه المعاني جميعاً تدل على العلو والرفعة.

(كِتَابٌ مَرْقُومٌ.يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ): أي مختوم لا يزاد فيه ولا ينقص, وليس تعريفاً لعليين. ومعنى (يشهده) : يحضره, (المقربون) مقربو كل سماء من الملائكة .

(إِنَّ الْأَبْرَارَ لَفِي نَعِيمٍ): كلمة (في) تدل على الانغماس التام في النعيم, والنعيم هو الجنة، وما فيها من المباهج، والسرور، والنعيم الحسي والمعنوي.

(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ): متكئون على الأرائك التي تحملهم وتقلهم. والأرائك: جمع أريكة، وهي السرير. ويقول المفسرون: هي السرر في الحجال. والحجلة: المكان المزين، المزوق، المهيأ. فهي أريكة في إطار جميل، وفي موضع مزخرف، مزين. ولا شك أن هذا يعطي انطباعاً نفسياً طيباً، ومحبباً للنفس. (ينظرون) إلى ما آتاهم الله، عز وجل، من أنواع النعيم؛ من الحور العين، والأشجار، والأنهار، إلا أن أعلى ذلك النعيم هو النظر إلى وجه الله الكريم, كما قال الله تعالى في سورة القيامة (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ . إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) فنظرتها إلى وجه الله الكريم، أكسبها نضرةً، وبهاءً، وجمالاً, يقول ابن القيم:

فيا نظرة أهدت إلى الوجه نضرة .. أمن بعدها يسلو المحب المتيم

(تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ) : إن كان التنعم يعرف في الوجوه في الدنيا، فلأن يعرف في الآخرة من باب أولى, ترى بعض المترفين فتقول: هذا وجهه وجه نعمة, وقد ترى بعض البائسين وجهه كالخشبة! يبين هذا في القسمات، وهم في الدنيا على نعيمها المحدود، فكيف في الآخرة، حينما يجري في عروقهم النعيم الحقيقي، الذي ينعم الله تعالى به أوليائه.ومعنى (نضرة النعيم) أي بهاؤه، ورونقه وإشراقه.

(يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ): لا يتكلفون هم جلبه، وإنما يسقون، فهم مكفيون. والمقصود بالرحيق : أي الخمر الخالص من الدنس, ليس كخمر الدنيا، ينشأ عنها صداع، وتقيأ، ونحو ذلك, بل كما قال الله عز وجل (لَا يُصَدَّعُونَ عَنْهَا وَلَا يُنْزِفُونَ) فهي خمر خالصة (خمر لذة للشاربين). ومعنى (مختوم) أي لم يفك ختمه، وهذا أحب للنفس, فرق بين أن تشرب من إناء قد سبقت إليه، وبين أن تكون أنت أول الشاربين.

(خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ): هذا القرن بين الآيتين يعطينا معنىً عجيباً؛ أنه رحيق مختوم، وختامه مسك، فهذا المسك قد خالطه عند ختمه، ويجده شاربه عند آخر شربة منه ,فالمسك يستنشقه من أول ما يفك ذلك الختم، إلى حين أن يأتي على آخر قطرة فيه ؛ فالختم بالمسك صاحب أولَه وآخرَه. والمسك معروف. وهذه الألفاظ، والأسماء، وضعت للدلالة على النعيم، وإلا فليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء, كما قال ابن عباس، رضي الله عنهما. الأسماء واحدة، لكن الحقائق تختلف؛ في الجنة ماء، وخمر، ولبن، وفيها حور، وقصور، وفيها من جميع أنواع المتع، وهذه الأسماء معهودة لنا في الدنيا، ومحببة إلينا, لكنها في الآخرة على صفة لا تخطر على بال, كما روى البخاري، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: ( قَالَ اللَّهُ: أَعْدَدْتُ لِعِبَادِي الصَّالِحِينَ مَا لَا عَيْنٌ رَأَتْ، وَلَا أُذُنٌ سَمِعَتْ، وَلَا خَطَرَ عَلَى قَلْبِ بَشَرٍ. فَاقْرَءُوا إِنْ شِئْتُمْ{ فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ }) لكن الله عز وجل إذا أراد أن يرغبنا في شيء، لابد أن يذكر لنا شيئاً نعهد جنسه، حتى يقع لنا نوع من الشوق, وإلا فقطعاً أن ما في الدنيا لا ينسب إليه ما في الجنة، وإنما اتفقت الأسماء، والحقائق متفاوتة تفاوتاً عظيماً.

(فِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُون) : المشار إليه النعيم. وقد نبه المفسرون على أن هذه الجملة جاءت معترضة في سياق آيات النعيم، لتدل على فضل التنافس في الخيرات. والتنافس في الطاعات محمدة، لكن مع الإخلاص لله تعالى, فإن التنافس أحياناً يحصل بين الصالحين على وجه غير محمود، يورثهم شيئاً من الإحن، كما يقع عند بعض الحريصين على الطاعة حينما يتسابقون إلى القرب من الإمام، يحمل بعضهم على بعض, هذا يقول دفعتني، وهذا يقول أخذت مكاني, فينشأ عندهم نوع حزازة، تشين أعمالهم، ونياتهم. والذي ينبغي للإنسان أن ينافس في الطاعة، مع اصطحاب الإخلاص لله تعالى، والمحبة للمؤمنين, فما تيسر له أخذه، وما لا، فليتعبد لله عز وجل بإيناس إخوانه، واستبقاء المودة, فإن هذا المعنى عظيم,فليتنبه الإنسان للتنافس الشرعي الصحيح، أما التنافس الذي يورث إحناً، وحنقاً، وغيظاً، وتحريشاً بين المؤمنين، فليس محموداً, والتنافس المحمود هو الذي يورثك محبة لأخيك، ورغبة في الاقتداء به، وحمداً له على فعله، وثناءً عليه، بحيث تبقى المودة، ولا يشوبها كدر.

(وَمِزَاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ . عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ): (مزاجه) يعني ما يخلط به, (من تسنيم) التسنيم: فسرها الله عز وجل بقوله :(عَيْنًا يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ) فهو ماء يتحدر عليهم من عين في أعلى الجنة, يقال لها تسنيم. فالمقربون يشربون منها صفواً لا كدر فيه، ومن بعدهم يشربون إثرهم. ويخلط ذلك الرحيق المختوم، بالتسنيم.

الفوائد المستنبطة :

الفائدة الأولى: الثناء على أهل الإيمان والخير.

الفائدة الثانية: إثبات الملائكة (يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ).

الفائدة الثالثة : إثبات رؤية المؤمنين لربهم في الجنة (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) ووجه الاستنباط ما ذكره الشافعي: لما حجب أولئك في السخط، نظر هؤلاء في الرضا.

الفائدة الرابعة : عظم نعيم المؤمنين حسياً،ومعنوياً.

الفائدة الخامسة : التحريض على التنافس في الطاعات.

الفائدة االسادسة : تفاوت درجات أهل الجنة؛ لأنه قال (المقربون)، فثمَّ مقربون, وثم دون ذلك، كما ذكر ذلك مفصلاً في سورة (الواقعة) .[/align]
 
التفسير العقدي لجزء (عم) سورة المطففين (المقطع الأخير)

التفسير العقدي لجزء (عم) سورة المطففين (المقطع الأخير)

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء (عم)

سورة المطففين (المقطع الأخير)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ (30) وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ (32) وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ (33) فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ (36))

هذا بيان من الله عز وجل، لحال المؤمنين والكفار, أو الأبرار والفجار الذين جرت الإشارة إليهم في صدر هذه السورة؛ بيان حالهم في الدنيا، ومآلهم في الآخرة. وهذا من حسن عرض القرآن العظيم لهذه الحقائق, فالسورة تهدف إلى تصنيف الناس إلى فريقين, وبيان حال هذين الفريقين, وطمأنة المؤمنين على عاقبتهم. (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا) أي في الدنيا (مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ) : يضحكون بهم سخرية، واستهزاءاً. وهذا هو الذي جرى حين صدع النبي صلى الله عليه وسلم بدعوته، فلقي هو، والقلة المؤمنة الذين آمنوا معه، من المشركين جميع صنوف الأذى, ومن هذا الأذى الضغط النفسي، أو ما يسمى بلغة العصر: الإرهاب النفسي، والفكري. فقد كان هؤلاء المجرمون يشنون عليهم حملات إعلامية؛ يضحكون منهم ويسفهونهم. ولا يخفى أن هذا اللون، قد يكون أشد فتكاً من الأذى الحسي.

(وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ): هذا الاستفزاز يؤثر في النفوس أشد من تأثير الجلد بالسياط، أو الجراح، أو غيرها, ذلك أنه ينفذ إلى النفس, فأما المؤمن فلا يزيده ذلك إلا ثباتاً، وتوكلاً على ربه عز وجل, وأما من كان في قلبه مرض، فإنه سرعان ما ينهار، كما قال ربنا عز وجل:(أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ.وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ), فكان الكفار يمارسون هذا اللون من الضغط والأذى, فهم يتضاحكون من المؤمنين، وكأن المسألة محسومة، ومفروغ منها, وأن هؤلاء في ضلال مبين. ثم يتبعون ذلك بالتغامز، إذا مروا بهم، يأخذ بعضهم يحرك حاجبه، وجفنه، ويغمز بعينه, فيؤثر في النفوس لأن شعور الإنسان بأنه مستهدف ممن حوله، يتكلمون به، وينالون منه، يحز في نفسه، كما قال ربنا عز وجل: (وَإِنْ يَكَادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصَارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَيَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ) ! فهذه الألوان من الأذى النفسي، كانت تمارس ضد الأبرار, لكن الله سبحانه وتعالى يثبت الذين آمنوا بالقول الثابت في الحياة الدنيا، وفي الآخرة. واعتبر بما جرى لنبينا صلى الله عليه وسلم والمؤمنين، حين حدثهم النبي صلى الله عليه وسلم بحادث الإسراء والمعراج، كيف أن أبا جهل جمع الناس, لا رغبة في نشر الدين، والدعوة، وتبليغ ما أوحي إلى رسوله من ربه, وإنما ليقول للناس: انظروا كيف آل به الحال، يزعم أنه أتى بيت المقدس في ليلة، ونحن نضرب إليه أكباد الإبل شهراً! لكن السحر انقلب على الساحر, وتبين الفلس من الدينار, وثبت الله الذين آمنوا بالقول الثابت. وأما من كان في دينه دخل، فقد انقلب على عقبيه.

(وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ): هذا أيضاً من ألوان الأذى التي كان يفعلها هؤلاء الكفار, وهم أنهم حينما ينقلبون إلى أهليهم بمعنى: يرجعون إلى بيوتهم، يأخذون بالتندر، والتلذذ بذكر هؤلاء المؤمنين على سبيل السخرية, فمعنى (فكهين) أي ملتذين، أو معجبين بصنيعهم بالمؤمنين. وهذه الصورة، صورة تعبر تعبيراً دقيقاً عن حال هؤلاء المجرمين الذين أشربوا في قلوبهم الكفر, وبغض أولياء الله، وهي صورة تتكرر في كل جيل وقبيل.

(وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ): يقولون عن المؤمنين : إن هؤلاء تائهون عن الحق، بإتباعهم محمداً صلى الله عليه وسلم . وهذا ما يمارسه الإعلام العالمي اليوم، في حق نبينا صلى الله عليه وسلم, وفي شأن دين الإسلام, وفي شأن دعاته وكتابه, فهذا التشويه لم يزل، ولا يزال, فيصفون النبي صلى الله عليه وسلم بأبشع الأوصاف، ويصفون دين الإسلام بأنه دموي، وإرهابي, ويصفون دعاته كذلك, فهذا لم يزل، ولا يزال، ولن يزال. فالصراع بين الحق والباطل قديم.

(وَمَا أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حَافِظِينَ): أي أنكم يا معشر المجرمين، لستم أوصياء عليهم, ولا كاتبين لأعمالهم، حتى تردوهم إلى مصالحهم, ليس لكم وصاية، وقوامة عليهم، حتى تسجلوا عليهم ما يصنعون، وحتى تردوهم إلى ما تعتقدون. فلستم عليهم حفظة، فدعوهم وشأنهم . وهذا من سنن الله، قال الله عز وجل: (لَا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَلَا ذِمَّةً), ومن قرأ التاريخ وجد مصداق ذلك, بل ومن قرأ الواقع, فيما يجري للمسلمين في كل مكان، من شدة أذى أعدائهم لهم, كصنيع اليهود بالمسلمين في فلسطين، يعاملونهم بوحشية، وهمجية لا نظير لها، مما ينبئ عن حقد متقد، مضطرم في قلوبهم, وحين يقع لهم عشر معشار ذلك، يقلبون الدنيا, وما جرى للمسلمين في أواسط أوروبا، التي تدعي أنها أعلنت حقوق الإنسان، ماذا جرى للمسلمين في البوسنة, وكوسوفو, والجبل الأسود, والسنجق, ومقدونيا, على مرمى حجر من الموضع الذي أعلن فيه الإعلان العالمي لحقوق الإنسان، مما يدلك على أن هذه سنن ثابتة وهي شدة بغض الكافرين للمؤمنين.

فهذا الوصف لحال المؤمنين الأوائل مع المجرمين, يتكرر في كل جيل، وقبيل, وفي كل زمان، ومكان, كما أنه يتكرر أيضاً بنسب متفاوتة؛ فأشنع صوره وأشدها، ما يقع بين المؤمنين والكفار, ولكن ربما وقع نوع من ذلك بين أهل التقوى، وأهل الفسق, فالجاري أنه حينما يوجد قوم من الفساق، وإن كانوا مسلمين، ويقابلون أهل الصلاح والاستقامة، فإنهم يأخذون بالسخرية بهم, والتندر بحالهم، وهيئتهم, فيضحكون، مثلاً، من التزامهم بالسنة؛ من إعفاء اللحى, وتقصير الثياب, وسمتهم، وكلماتهم, ويحاكونهم, وإذا انقلبوا إلى أهلهم، أو مجتمعاتهم، أو منتدياتهم ،ا أخذوا يتكلمون في سيرتهم، وينالون منهم. فهؤلاء شابهوا أولئك الفجار بنسبة معينة, وربما، والعياذ بالله، يبلغ هذا الاستهزاء من بعض الفجار إلى درجة يخرجون بها من الملة, فإذا وقعت السخرية بالدين نفسه, أو بصاحب الدين بسبب تدينه، والتزامه بشريعة ربه, فإن هذا مقام خطير، قد يخرج هذا الساخر، وإن كان في الأصل مسلماً، من دائرة الإسلام إلى دائرة الكفر. ولما قال قوم من المنافقين، في قراء الصحابة، وهم النخبة المصطفاة من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، وهم يتفكهون : ما رأينا مثل قرائنا هؤلاء؛ أكبر بطوناً، ولا أكذب ألسنةً، ولا أجبن عند اللقاء, أنزل الله تعالى: (قُلْ أَبِاللَّهِ وَآَيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ . لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ). فيجب الحذر البالغ، من أن ينجر اللسان إلى السخرية بأهل التقوى، والدين, وأعظم ذلك أن تقع السخرية بالعلماء؛ فإن العلماء هم الموقعون عن رب العالمين, فالنيل منهم ليس كالنيل من أحد من عامة المسلمين, وإن كان المسلم محترماً في جميع أحواله، وأصنافه, لكن لأهل العلم والدين مكانة خاصة؛ إذ أنهم يحملون شارة الله، وشعار الدين, فالسخرية بهم تنجر على الدين. ولهذا ينبغي لطلبة العلم أن يحذروا العامة من السخرية من أئمة الدين، ورجال الحسبة، وطلبة العلم, وأن ذلك ليس كالسخرية بغيرهم.

(فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ): الله أكبر! انظر كيف انقلب الحال, في أول الآيات قال: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا يَضْحَكُونَ), ثم قال بعد ذلك: (فاليوم) أي يوم القيامة (فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ) .

(عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ): وذلك أنهم يطلعون عليهم، وهم يعذبون في النار، بين أطباق الجحيم، فيضحكون من حالهم, كما حكي الله عز وجل في سورة (الصافات) عن أحد المؤمنين : (قَالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ . فَاطَّلَعَ فَرَآَهُ فِي سَوَاءِ الْجَحِيمِ) ! فهذه جرت لرجل, وما في سورة المطففين لجماعة المؤمنين، وهم يضحكون من المجرمين.

(هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ مَا كَانُوا يَفْعَلُونَ): استفهام تقريري، ليس للنفي, ومعنى (ثوب) أي جوزي, وليس الثواب الذي بمعنى المكافأة الحسنة. والجواب: أي والله، لأنهم في الجحيم, والمؤمنون (عَلَى الْأَرَائِكِ يَنْظُرُونَ) .

الفوائد المستنبطة :

الفائدة الأولى:أذية المجرمين للمؤمنين بالقول والعمل, الفائدة السابعة عشر:الحرب النفسية للصد عن سبيل الله,فإن الحرب حربان حرب حسية, وحرب معنوية أو نفسية, فعلى المؤمن أن يتهيأ لمثل هذا وأن يتجبر بالله ويعتصم به.

الفائدة الثانية: التشويه الإعلامي للحق، وأهله، ودعاته.

الفائدة الثالثة : اشتغال الكفار بما لا يعنيهم, وإفناء أعمارهم بما يرديهم.

الفائدة الرابعة : العاقبة للتقوى.

الفائدة الخامسة : تسلية المؤمنين وطمأنتهم .

الفائدة السادسة : أن الجزاء من جنس العمل .
 
سورة البروج

سورة البروج

[align=center]التفسير العقدي لجزء عم

سورة البروج

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة البروج

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ (1) وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ (4) النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ (6) وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ (9) إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10)هذه السورة العظيمة، سورة ذات موضوع واحد، ولها مقاصد عظيمة، يمكن أن نجملها بثلاثة مقاصد:

المقصد الأول: بيان منزلة المؤمنين عند ربهم.

المقصد الثاني: الأثر الذي يحدثه الإيمان في العلاقات بين البشر.

المقصد الثالث: تمجيد الرب نفسه, وحكمته في قدره، وشرعه.

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ): السماء هي هذا البناء المحكم العلوي، الذي فوقنا. وهي السقف المرفوع: (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا)، فهذه السماء يقسم بها الرب سبحانه وتعالى. وما نبصر منها إنما هو السماء الدنيا،سميت بذلك لدنوها من الأرض. وصف الله هذه السماء بأنها (ذات البروج) قيل إنها النجوم والكواكب, وقيل إنها القصور السماوية، التي تنزل فيها النجوم، والكواكب كما قال الله عز وجل: ( تبارك الذي جَعَلَ فِي السَّمَاءِ بُرُوجًا وَجَعَلَ فِيهَا سِرَاجًا وَقَمَرًا مُنِيرًا). وأصل هذه الكلمة البروج مأخوذ من البروز، والظهور. ولهذا سميت القلعة، برجاً، لبروزها وظهورها. ومنه قولهم: تبرجت المرأة، إذا برزت للناس. فمن قال إنها القصور، فإنه نظر إلى قول الله تعالى (وَلَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ), بل إن بعضهم قال: إن في السماء قصوراً تأوي إليها الملائكة. ولكن هذا لا دليل عليه، يؤثر فيعتمد عليه. والأقرب، والله أعلم، أن المقصود بالبروج المنازل التي تنزل فيها الكواكب، والأجرام السماوية، وعدتها اثنا عشر برجاً، وهي التي تسميها العرب: الحمل، والثور، والسنبلة، والجدي، والميزان، والعذراء, وهكذا. وقد كانوا يدركون من الأفلاك سبعة، أو ستة، ويجعلون كل نجم، أو كوكب يختص بشيء من هذه الأبراج.

وهذا قسم عظيم، لأن هذا الخلق الهائل، لا يدرك مداه إلا الله، ولهذا قال ربنا في آية أخرى (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) فمواقع النجوم هي هذه البروج التي تنزل فيها النجوم في أوقات مقدرة.

(وَالْيَوْمِ الْمَوْعُودِ):
اليوم الموعود لا أعلم فيه خلافاً أن المراد به يوم القيامة؛ لأنه يوم وعد الله فيه العباد، أو أوعد به العباد لجمعهم فيه .

(وَشَاهِدٍ وَمَشْهُودٍ): (شاهد): قيل إنه يوم الجمعة,(ومشهود): قيل يوم عرفة, فيوم الجمعة شاهد لأنه يشهد لمن حضرها،والمشهود يوم عرفة لأن الناس تشهده. ولكن هذا تفسير للشيء ببعض أنواعه، واللفظ أعم. فإن يوم الجمعة يصلح أن يكون شاهداً ومشهوداً؛ فهو شاهد لمن حضره، ومشهود ممن حضره,كما أن يوم عرفة أيضاً شاهد لمن حضره، ومشهود من قبل من حضره. فالراجح ما ذهب إليه ابن القيم أن الشاهد، والمشهود، أي المُدْرِك والمُدْرَك، والعالم، والمعلوم, والرأي، والمرئي. فكل شيء يدخل في (شاهد ومشهود) كل ما دل عليه اسم الفاعل، وما دل عليه اسم المفعول.

(قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ
): قيل إن هذا هو جواب القسم. يعني قد قتل أصحاب الأخدود. وقيل إن جواب القسم (لتبعثن). والأقرب أن تكون على الظاهر، دون المضمر، فقد قال الله عز وجل: (قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ). ليس هذا القسم لإثبات هذه الحادثة وحسب، فإنها تثبت بمجرد خبر الله عز وجل, وإنما لتفخيمها، وتعظيمه،ا فإن هذه الحادثة، حادثة عظيمة جداً، جرت في زمن متقدم، وذلك أن الله سبحانه وتعالى هدى بعض الناس، في بلاد اليمن، فآمنوا بالله، قيل إنهم كانوا من النصارى الموحدين، ثم إن ملك زمانهم، والملأ من قومهم، نقموا عليهم نقمة شديدة، وأرادوا حملهم على الرجوع إلى دينهم، فأبوا، واعتصموا بالله عز وجل، فما كان منهم إلا أن خدُّوا لهم الأخاديد في الطرقات، والأخدود هو الشق في الأرض، وأضرموا فيه النار, ثم عرضوهم على النار، وهم قعود على كراسيهم، يتفكهون، ويقولون لأحدهم: إما أن ترجع إلى دينك، ودين أبائك، وأجدادك، وإلا قذفناك فيها. وثبت الله المؤمنين بالقول الثابت، فصاروا يلقونهم في النار، ويستمتعون بمرآهم، وهم يحترقون، ويشمون رائحة شوائهم، ولا يبالون. قيل إن الله تعالى، كان يقبض أرواح المؤمنين، قبل أن يهووا في النار، فلا يجدون حرها. وهذه الحادثة موافقة لما قص النبي صلى الله عليه وسلم، من قصة الغلام المؤمن، التي وردت في الصحيح، حتى إن النبي صلى الله عليه وسلم اخبر أن امرأة أتت تحمل وليدها، فلما أقبلت، تلكأت شفقة على ولدها، فأنطقه الله عز وجل، وقال: يا أمه! اصبري فإنك على الحق. فألقت بنفسها وولدها في النار.

فخلد الله ذكر هذه الحادثة في كتابه، قرآناً يتلى إلى يوم القيامة، فيه أسوة، وعبرة لكل مؤمن، على مر الأزمان، إذا لقوا من أهل الكفر والطغيان أذىً، وفتنة، تذكروا ما جرى لإخوانهم الذين حرقوا في الأخاديد، فأثنى الله عليهم، وزكاهم، ووعدهم، وتوعد مخالفيهم، وعاقبهم العقاب الدنيوي، قبل العقاب الأخروي. ولهذا دعا عليهم، فقال (قتل) يعني لعن

(النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ): هذا بدل اشتمال؛ لأن الذي في الأخدود نار تضطرم، فيها الوقود الذي أوقدت به من الحطب وغيره.

(إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ):
يعني أنهم استحقوا اللعنة، والقتل، أشد ما يكون، حال كونهم قعوداً، شاهدين، حاضرين، يتفكهون، ويتلذذون بمرأى المؤمنين وهم يعذبون، ويحترقون. فلهذا أشتد غضب الله عليهم، ونكاله، وبغضه لهم في هذه الدنيا، فوق ما يأتيهم في الآخرة.

(وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ): يعني حالهم أنهم شهود، حضور، شاهدين على أنفسهم, ما أتوا مكرهين، مضطرين، بل جاءوا بمحض إرادتهم، وسبق إصرارهم، ليقفوا هذا الموقف، ويشهدوا على أنفسهم أنهم شركاء في هذا العمل.

(وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ): يعني ما نقم هؤلاء الكفار من المؤمنين، وما أنكروا عليهم شيئاً، من خلق, ولا من سلوك, ولا غيرهما، (إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ! فلما آمن هؤلاء الموفقون، نقم الملأ عليهم، وغاظهم ذلك، مع إنهم ما تعرضوا لهم, ولا أخذوا مالهم, ولا ضربوا أبشارهم. لكنه الحقد الدفين في قلب الكافر على المؤمن. فبين المؤمن والكافر نفرة شديدة؛ فلا يتواءمان، ولا يتساكنان، ولا يجتمعان. فالإيمان والكفر ندان.

(الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ) ختم بهذين الاسمين الكريمين من أسماء الله الحسنى تنبيه بليغ على أن الله سبحانه وتعالى عزيز، أي قوي، غالب، منيع الجناب, فله عزة القوة، وعزة الغلبة، وعزة المنعة. فلا يظنن ظان أن الله خذل أوليائه، بل هو سبحانه عزيز الجناب, لكن له حكمة بالغة، فإن الآثار المترتبة على هذا الحدث العظيم إلى يوم القيامة، إن تعد لا تحصى. ففيها من العبر،والدروس الإيمانية، ما ينهل منها أهل الإيمان إلى قيام الساعة. وهو سبحانه (حميد) : أي أنه محمود, ففعيل بمعنى محمود, في ذاته، وشرعه، قدره، وما يجريه. فلم يكن ذلك منه عن غفلة، حاشاه، بل هو لحكمة بالغة.

(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ): أي أن إيمان هؤلاء القوم بالله عز وجل، كان إيماناً عميقاً، مبنياً على دلائل الربوبية, لم يكن إيمانهم إيماناً تقليدياً, أو لمجاراة, أو لطلب ممدحة من الناس، كلا ! بل هو إيمان عميق، راسخ، يستمد مادته من دلائل الربوبية,(الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ) فمن له ملك السموات والأرض، جدير بأن يعبد وحده، لا يشرك معه أحد سواه. وقد كان ملك زمانهم يأمرهم بعبادة نفسه.

(وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ): يعني أن الله سبحانه وتعالى، شاهد، مطلع على كل شيء، لا تخفى عليه خافية, فما جرى لهم، لا لهوانهم على الله عز وجل، ولكن لما أعد الله لهم من الكرامة، والفضل، والرفعة في الدنيا والآخرة.

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: إقسام الله بآياته الكونية، والشرعية, إذا قلنا(شاهد ومشهود)يوم عرفة, ويوم الجمعة فهذه مما شرعه الله تعالى.

الفائدة الثانية:
تعظيم حادثة الأخدود, وعدم غفلة الرب عما جرى للمؤمنين.

الفائدة الثالثة: شدة عداوة الكافرين للمؤمنين، وغلظتهم عليهم، كما قال ربنا عز وجل: (لا يرقبون في مؤمن إلاّ ولا ذمة) وهذه سمة باقية إلى يوم القيامة.

الفائدة الرابعة: نفرة الكافرين من تميز المؤمنين عليهم، ومفارقتهم إياهم بالإيمان. ويتفرع عن هذه الفائدة: نفرة العصاة من أهل الطاعة، ونفرة المبتدعة من أهل السنة. فكل صاحب حق، فارق صاحب باطل، فإن صاحب الباطل يجد في نفسه من التغيظ عليه، والنفرة منه، ما يحمله على أذيته. تجد الإنسان يكون بين طائفة من الغافلين، ثم يلقي الله تعالى في قلبه الإيمان، ويستقيم على الدين، فيتعرض للأذى الحسي، والأذى المعنوي, فينبزونه بالألقاب، ويؤذونه؛ لأنهم يرون أنه تميز عليهم، وارتقى عتبة، ودرجة في السلم، وهم بعد لا يزالون في الحضيض.كذلك المبتدعة مع أهل السنة، حينما يدع الإنسان البدعة، ويلزم السنة، ويقول: لا أعبد الله إلا بما شرع على لسان نبيه صلى الله عليه وسلم، ينبزونه بالألقاب السيئة، يريدون أن يردوه إلى حاله. فلهؤلاء سهم، وكفل، من هذه الصفة, فبين أصحاب الأخدود، وبين المبتدعة والفساق، قدر مشترك في هذا الأمر، لمن تأمل وقد نبه على هذا المعنى اللطيف، ابن القيم، رحمه الله.

الفائدة الخامسة: عميق إيمان المؤمنين, وارتباطه بدلائل الربوبية. ولهذا احرص يارعاك الله، أن تجعل إيمانك مربوطاً بأشياء ثابتة, لا يكون إيمانك إيماناً سطحياً، عاطفياً، يتعلق بحالة آنية، بحادثة معينة. اجعل إيمانك مرتبطاً بالثوابت الكونية، بأن الله خالق الأرض والسماء، وتأمل ماقال أصحاب الكهف: (إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ), فارفع رأسك إلى السماء! وانظر إلى الأرض. فليكن تشبثك بدلائل الربوبية الثابتة قوياً., ولهذا ينتكس بعض من يوصف بأنه استقام، والتزم، وصلح، لأنه استقام استقامة ظاهرية، وتأثر تأثراً آنياً، إثر موقف عاطفي، أو هيجان طارئ، ثم لما زال المؤثر زال الأثر.[/align]
 
سورة البروج (المقطع الأخير)

سورة البروج (المقطع الأخير)

[align=center]بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء (عم)

سورة البروج

(المقطع الأخير)

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ (13) وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14) ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ (16) هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ (21) فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)) (فتنوا) : أي عذبوا، وتحديداً: حرقوهم في النار. وهذا موافق لأصل كلمة الفتن في اللغة؛ لأن الفتن في اللغة: إدخال الصائغ الذهب في أتون النار، لينفصل المعدن النقي، من الخبث العالق به. والحقيقة أن الفتنة كذلك ! فالله تعالى يبتلى عباده، لكي يميز الخبيث من الطيب. وحتى تتخلص نفس الطيب من الشوائب، والأخلاق الرديئة. فإن للابتلاء فائدةً، وأثراً، وحكمة. قال تعالى: (الم, أَحَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آَمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ,وَلَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَلَيَعْلَمَنَّ الْكَاذِبِينَ).

وفي قوله: (الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) دلالة على أن هذا جرى للرجال، والنساء، رحمهم الله جميعاً. وتأمل الاحتراز في قوله : (ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا) ! يعني أنهم لو تابوا، لقبل الله توبتهم، بعد ما فعلوا ما فعلوا, وهذا يدلك على عظيم حلم الله عز وجل، وواسع فضله، وأن من أذنب ذنباً، أياً بلغ ذلك الذنب، شناعة، وبشاعة، ثم تاب منه، تاب الله عليه، كما قال في الآية الأخرى: (إِلاَّ مَنْ تَابَ وَآَمَنَ وَعَمِلَ عَمَلا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ) ! فهذا عجيب جداً من الرب سبحانه وتعالى ! كيف وسع حلمه أن يتوب على هؤلاء لو تابوا !

( فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ): أما جهنم، فهو اسم من أسماء النار. قال بعض المفسرين: إن عذاب الحريق المذكور هنا، هي النار التي أحرقوا فيه المؤمنين، امتدت إليهم، وأحرقتهم، فهذا هو الحريق الذي نعلمه. وقال بعضهم: توعدهم بالعذاب الأخروي مرة بالاسم، ومرة بالوصف. فجهنم اسم للنار، والحريق وصف له، وبيان لحقيقته. والجزاء من جنس العمل؛ فكما إنهم حرقوا هؤلاء المؤمنين بنار الدنيا، فهم متوعدون بنار تفضل نار الدنيا بسبعين ضعفاً، وهي نار جهنم. والله أعلم، هل خرجت تلك النار من الأخاديد، والتهمت أولئك القعود، المتفرجين، أم لا ؟ أياً كان الأمر،فإنا نعلم، يقيناً، أن الله سبحانه وتعالى، ما كان ليدعهم. قال الله عز وجل :( إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهَادُ) [غافر : 51]. إذاً هناك نصر دنيوي، قبل النصر الأخروي؛ فيقيض الله من أقداره، ما ينتقم به من هؤلاء الطغاة. ومن تتبع التاريخ، وقرأ في سير المؤمنين؛ أفراد، وجماعات، وما نالهم من أذى، وعذاب، يجد أن الله تعالى لم يدع من ظلمهم، بل عجل له بعقوبة دنيوية، قبل العقوبة الأخروية، إحقاقاً للحق، ونصرة للمؤمنين.

(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) : ومن أول الناس دخولاً في هذا الوعد الكريم، هؤلاء المعذبون، الذين حرقوا بالنار، وألقوا في الأخاديد, وإلا فإن الآية تشمل كل مؤمن. ومعنى (جنات) أي بساتين؛ وسمي البستان جنة، لأنه يُجِنُّ صاحبه، أي: يستره، بكثرة أشجاره، والتفاف أغصانه. (تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ) : أنهار اللبن, وأنهار الماء, وأنهار العسل, وأنهار الخمر، وفرةً، وكثرةَ. هذا بعض ما وعد الله أولياءه من الكرامة. (ذَلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ) والفوز: هو الفلاح. وحسبك بما وصفه الله كبيراً فهو كبير حقاً .

(إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ): البطش: هو شدة العقوبة، والأخذ. عَنْ أَبِي مُوسَى رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: (إِنَّ اللَّهَ لَيُمْلِي لِلظَّالِمِ حَتَّى إِذَا أَخَذَهُ لَمْ يُفْلِتْهُ) قَالَ ثُمَّ قَرَأَ:{ وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ }) متفق عليه. فإذا رأى الإنسان من نفسه، أنه مقيم على معاصي الله، وأن الله قد تركه، فليعلم أن ذلك استدراج، فلا يغرنه ذلك. وهؤلاء الظلمة الذين يظلمون الناس، ويبغون عليهم، وإن بدوا مطمئنين, وإن بدوا ممكنين, وإن بدوا متفكهين، فإن لهم يوماً لا يدعهم الله تعالى فيه. وأفعال الله عز وجل في الظالمين معروفة، وأيامه في أعدائه معلومة، سبحانه وبحمده.

(إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ) هذه الجمل المتتابعة، المؤكدة بـ(إن) الثقيلة، تحفر في القلب, وترسخ في العقل معانيها. وهذا يعطي المؤمن الثقة والرسوخ. ومعنى (يبدئ ويعيد) قيل العموم، أي: يبدئ الخلق ويعيده، كما قال سبحانه: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) [الروم : 27], وقيل إن المراد يبدئ العذاب، ويعيده عليهم خاصة. وهذا أليق بالسياق, وإليه ذهب ابن جرير، رحمه الله، ولهذا قال الله عن أهل النار: (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآيَاتِنَا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ نَارًا كُلَّمَا نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْنَاهُمْ جُلُودًا غَيْرَهَا لِيَذُوقُوا الْعَذَابَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَزِيزًا حَكِيمًا) [النساء : 56].

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) وهذا أيضاً مما يؤيد أن قوله: (يبدئ ويعيد) يختص بالعذاب، والعقوبة؛ لأنه ذكر المغفرة، والوداد، بعدها. فتلك في جانب الكفرة من أصحاب الأخدود, وهذا في جانب المؤمنين.

(وَهُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ) : هذان اسمان كريمان، من أسماء الله الحسنى, فالله تعالى: غفور، وغافر, وغفور: يسميها أهل العربية صيغة مبالغة، أي: كثير الغفر, والغفر: هو الستر، والتجاوز. ومنه سمي المغفر الذي يجعل على الرأس، لأنه يتحقق به أمران: الستر، فتستر ما تحتها، والوقاية، فهي تقي الرأس من الصدمات، والكدمات. فمن شأن الله تعالى مع أوليائه المؤمنين، أن يستر ذنوبهم، ويغفرها لهم، كما في حديث ابن عمر، رضي الله عنهما، قال: سَمِعْتُ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم يَقُولُ : (إِنَّ اللَّهَ يُدْنِي الْمُؤْمِنَ فَيَضَعُ عَلَيْهِ كَنَفَهُ وَيَسْتُرُهُ فَيَقُولُ أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا أَتَعْرِفُ ذَنْبَ كَذَا فَيَقُولُ نَعَمْ أَيْ رَبِّ حَتَّى إِذَا قَرَّرَهُ بِذُنُوبِهِ وَرَأَى فِي نَفْسِهِ أَنَّهُ هَلَكَ قَالَ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِي الدُّنْيَا وَأَنَا أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ) رواه البخاري. و(الودود) : من أسماء الله الحسنى، وهو أيضاً على صيغة المبالغة الدالة على كثرة الود، وعظمه, فهو واد، وودود. والمودة: أعلى درجات المحبة. ولهذا فسر بعض السلف الودود: أي الحبيب. والواقع أن هذه اللفظة "الودود"، تدل على معنيين: على أنه وادُّ، وعلى أنه مودود, فهو يود أوليائه المؤمنين, ويوده أولياؤه المؤمنون. ومصداق هذا قوله تعالى :(يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ).

(ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ): (ذو) أي صاحب, والعرش أكبر المخلوقات, وأعظمها وأعلاها, وهو سقف العالم. وفي اللغة: سرير الملك الذي يجلس عليه, وعرش الرحمن، سبحانه وبحمده، سرير، ذو قوائم، تحمله الملائكة، كما قال الله عز وجل: (وَيَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمَانِيَةٌ) [الحاقة : 17]. ولا يصح تفسير العرش بأنه المُلك, أو أنه كناية عن الاستيلاء، فهذا تأويل متعسف، تأباه صراحة نصوص الكتاب، والسنة، ولغة العرب, فلا يمكن أن نفسر العرش بهذا، أي: يحمل ملك ربك ثمانية ! لا يستقيم. بل هو عرش حقيقي, ولهذا قال النبي الله صلى الله عليه وسلم في حديث الشفاعة: (فَأَنْطَلِقُ، فَآتِى تَحْتَ الْعَرْشِ، فَأَقَعُ سَاجِدًا لِرَبِّى)متفق عليه. وقال في حديث آخر: (فَإِذَا مُوسَى بَاطِشٌ بِجَانِبِ الْعَرْشِ) متفق عليه. فهذا يدل على أن العرش خلق عظيم، جداً، يستوي عليه الرب سبحانه وبحمده. فإذا أخبر الرب تعالى عن نفسه، بأنه ذو العرش، فليس معناه بأنه صاحب العرش, فقط ! بل فيه ما يدل على معنىً آخر، وهو الاستواء. وقد نبه إلى هذا المعنى الشيخ عبد الرزاق عفيفي، رحمه الله، وإلا فإن الله له الملك كله، ولا يختص العرش في كون الله مالكه، وخالقه. وإنما يختص بأنه سبحانه يستوي عليه، كما ذكر ذلك في سبعة مواضع في كتابه.

ومعنى (المجيد) : الكريم, وهو وصف لله، ولهذا ضبطت بالضم في المصحف باعتبارها صفة لمرفوع، وهو: (ذو), فمن أسمائه الحسنى المجيد، يعني الممجد سبحانه. وثم قراءة أخرى بالخفض، فحينئذ تصبح صفة للعرش، فيكون العرش أيضاً موصوفاً بالمجد، والكرم الذي يليق بالمخلوق،كما أن المجد، والكرم، الذي وُصف الله به يليق به. ولا مانع أن يطلق الوصف على الخالق وعلى المخلوق، على اعتبار أن ما للخالق يليق به، وما للمخلوق يليق به.

(فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ): هذه جملة وصفية أخرى للرب سبحانه وبحمده, (فعال) يعني كثير الفعل, فإن أفعاله سبحانه وبحمده لم تزل، ولا تزال؛ لأن الفعل علامة الحي، فكل حي فاعل. والله تعالى فعال، لم يزل فعالاً, وقوله: (لما يريد) أي أن فعله سبحانه، مقترن بإرادته، وحكمته. فلا يفعل شيئاً عبثاً, ولا يفعل شيئاً دون إرادة مسبقة. وله سبحانه نوعان من الإرادة: إرادة كونية قدرية, وإرادة دينية شرعية. والأليق في هذا السياق أن تكون الإرادة هنا الكونية القدرية؛ لأنه قرنها بالفعل، ولو كانت الشرعية، لقرنها بالقول. فهو سبحانه وتعالى يريد ويفعل, والناس يريد أحدهم، وقد لا يتمكن من الفعل. أما الرب سبحانه وبحمده، فإنه مريد، وفعال، بخلاف الآدمي، أو المخلوق، فإنه قد يكون مريداً، ولا يتمكن من الفعل, وقد يصدر منه فعل دون إرادة. قال تعالى : (إِنَّمَا قَوْلُنَا لِشَيْءٍ إِذَا أَرَدْنَاهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ) .

(هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ): (هل أتاك) أي يا محمد,(حديث) يعني خبر,(الجنود) يعني جنود الشر، والطغيان، والكفر.

(فِرْعَوْنَ وَثَمُودَ): فرعون أشهر من عرف بالكفر من بني آدم. والمراد هنا فرعون وملؤه؛ لأنهم لا يكونون جنوداً إلا بهذا المعنى, فإن فرعون شخص واحد. وثمود: قبيلة متجبرة، متغطرسة، كانت تسكن في وادي القرى, وكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، ويتخذون من سهولها قصوراً، لفرط تجبرهم، وقوتهم، وترفههم.

(بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ):(بل) : هذه للإضراب، يعني: ليس الأمر أنك تكذب عليهم، بل هم في تكذيب. وهذا التعبير يشعر بأنهم غارقون، منغمسون في الكذب، والتكذيب. وهو أبلغ من قول: إنهم يكذبون, فكأن الكذب، والتكذيب، ظرف لهم، محيط بهم من جميع الجهات.

(وَاللَّهُ مِنْ وَرَائِهِمْ مُحِيطٌ): ما أعظم هذه الجملة وما أشد وقعها على الظالمين، والكافرين، والمنكرين للبعث، والمعادين لرسل الله المحاربين لدينه!

(محيط): المحيط اسم من أسماء الله الحسنى، وهو يعني المطلع، المتمكن منهم، فلا يعجزونه. قد أحاط بهم زماناً، ومكاناً؛ أما زماناً: فقد قال الله: (هو الأول والآخر), وأما مكاناً: فقال (الظاهر والباطن). فالله تعالى هو الظاهر فليس فوقه شيء، وهو الباطن فليس دونه شيء, فأين المفر؟ إن ظنوا أنهم بإحراقهم هؤلاء المؤمنين بالنار، وأنهم لم يجدوا ناصراً لهم من الناس، فأين المفر من الله عز وجل؟

(بَلْ هُوَ قُرْآَنٌ مَجِيدٌ): هذا القرآن الذي أنزل على محمد صلى الله عليه وسلم, كريم، شريف. وهذا أحد أوصاف القرآن العظيم.

(فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ): قال بعض العلماء: أي أن القرآن مذكور في اللوح المحفوظ، وقال آخرون: بل القرآن بأكمله مسطور في اللوح المحفوظ. أما قول الله تعالى: (وَإِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ) فالمراد ذكر القرآن, وحسب. أما كونه في اللوح المحفوظ فهذا يحتمل المعنيين. وقد كان شيخنا، ابن عثيمين، رحمه الله، بادئ الأمر يرى أن المراد: ذكره، وخبره في اللوح المحفوظ. ثم رجع عن ذلك، ومال إلى أن القرآن بكامله في اللوح المحفوظ. ولعل الحامل على القول الأول، المانع من القول الثاني، هو أن الله سبحانه وتعالى يتكلم بالقرآن حال تنزيله, فكيف يكون إذاً في اللوح المحفوظ الذي كتب فيه كل شيء، قبل خلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة؟

ويمكن أن يجاب عن ذلك، بأن كونه في اللوح المحفوظ مكتوباً، لا ينافي أن يتكلم الله تعالى به حسب الأحوال، والوقائع.

(محفوظ): أي مصون من الشياطين أن يصلوا إليه، ومن أن يطلع عليه أحد, ومصون من التحريف, فهذا اللوح المحفوظ هو أم الكتاب. ومحفوظ صفة للوح، وهي مشكولة في المصحف بالجر. على أنه قد ورد قراءة بالضم، فتكون حينئذ صفة للقرآن.

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: انتصار الله للمؤمنين في الدنيا والآخرة.

الفائدة الثانية: أن الله يمهل، ولا يهمل.

الفائدة الثالثة: شدة بطش الله وأخذه.

الفائدة الرابعة: اقتران العمل بالإيمان.

الفائدة الخامسة: سنة الله الكونية في البدء، والإعادة، (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ). وهذا خير من قول بعضهم "التاريخ يعيد نفسه" ! وهذه الجملة جملة وافدة من الثقافات الغربية, وفيها إسناد الأفعال إلى غير الله عز وجل, وخير منها أن تقول (إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَيُعِيدُ).

الفائدة السادسة: إثبات جملة من الأسماء الحسنى: مثل: (العزيز), (الحميد),(الغفور),(الودود),(المجيد),(المحيط)

الفائدة السابعة: إثبات العرش، وأنه خلق حقيقي.

الفائدة الثامنة: أن أفعال الله تعالى لم تزل ولا تزال, وإثبات صفاته الفعلية، والرد على منكري الصفات الفعلية، وإبطال شبهتهم القديمة، وهي أن إثبات الصفات الغعلية، يستلزم أن يكون محلاً للحوادث ! وبيان ذلك، أن يقال : إن جنس الفعل قديم، جنس الفعل صفة ذاتية، لازمة لذاته سبحانه. بدليل قوله (فَعَّالٌ لِمَا يُرِيدُ)، لكن آحاده، وأفراده، تتكرر، وتحدث، كما صرح في قوله : (مَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَهُمْ يَلْعَبُونَ) [الأنبياء : 2]، وقوله : (وَمَا يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمَنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كَانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ) [الشعراء : 5] فهو لم يز ل فعالاً, لكن صورة هذا الفعل تكون تارة بالمجيء, وتارة بالاستواء, وتارة بالضحك, وتارة بالعجب,وتارة بالنزول.

الفائدة التاسعة: إثبات إرادة الله.

الفائدة العاشرة:استغراق الكافرين في الكذب، حتى صار سجية لهم.

الفائدة الحادية عشرة: إحاطة الله بهم.

الفائدة الثانية عشرة: إثبات القرآن، ومجده .

الفائدة الثالثة عشرة: إثبات اللوح وحفظه .[/align]
 
بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير العقدي لجزء عم
سورة الطارق

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم


(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ (4) فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ (7) إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ (8)

هذه السورة، سورة (الطارق) سميت بهذا الاسم، لورود لفظ (الطارق) في مستهلها. وهي ذات مقاصد عقدية متعددة :

المقصد الأول: الإيمان بالبعث.

المقصد الثاني: الإيمان بالملائكة.

(وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ) :استهل الله تعالى هذه السورة بالقسم، كما قال في أختها (وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الْبُرُوجِ). والسماء خلق عظيم، وصفها فيما مضى بأنها(ذات البروج). وهاهنا قرن ذكرهابــ(الطارق). والطرق في اللغة: الإتيان ليلاً. يقال: "طرق الرجل أهله" يعني أتاهم ليلاً. وفي الحديث: نَهَى النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم أَنْ يَطْرُقَ أَهْلَهُ لَيْلاً. رواه البخاري. وفي دعاء الاستعاذة : (ومن شر كل طارق، إلا طارقاً يطرق بخير يا رحمن) رواه أحمد. فقد أقسم الله تعالى بالسماء، وما يطرق فيها, أي ما يأتي ليلاً, والذي يأتي ليلاً أمورٌ كثيرة، منها: ما فسر الله تعالى به هذه اللفظة، فقال : (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ,النَّجْمُ الثَّاقِبُ), لأنه يأتي ليلاً. وهذا قسم عظيم؛ لأن السماء عظيمة، وما خلق الله تعالى فيها عظيم! كما قال:( فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ.وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ) [الواقعة : 75 ، 76]

(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الطَّارِقُ): ما أعلمك. وهذا الاستفهام إما أن يكون للتعظيم, وإما أن يكون للتشويق, أو لهما معاً وهذا أولى, أن يكون للتعظيم كما قال الله تعالى: (الْحَاقَّةُ, مَا الْحَاقَّةُ, وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحَاقَّةُ),(الْقَارِعَةُ,مَا الْقَارِعَةُ، وما أدراك ما القارعة). وقد يكون للتشويق، لكي يتهيأ الذهن لسماع الجواب، لاسيما أن الجواب حاضر

المقصد الثالث: الإيمان بالقرآن.

(النَّجْمُ الثَّاقِبُ): هو كل كوكب مضيء متقد؛ وصفه بقوله: (الثاقب) لأنه يثقب الظلام بضوئه, فإذا نظرت إلى قبة السماء، في الليلة الظلماء، تجد أن هذه النجوم المتلألئة، أشبه بالثقوب، في هذه القبة السوداء. فلأنه ثقب ظلام السماء، سمي ثاقباً. وقيل: أن هذا الوصف يختص بنجم الثريا فقط ؛ وذلك لشدة لمعانها وتوهجها. والثريا: نجم معروف في السماء، بل هو في الحقيقة مجموعة نجوم ، أشبه ما تكون بعنقود العنب, مجتمع بعضها إلى بعض.

(إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْهَا حَافِظٌ): (إن) مخففة من الثقيلة، اسمها محذوف تقديره "إنه"، وهي تفيد النفي. (لمّا عليها حافظ): هذه هي القراءة المشهورة (لمّا) بالتشديد، وهي بمعنى (إلاَّ). فيكون المعنى: ما من نفس إلا عليها حافظ. وجملة: (إن كل نفس لما عليها حافظ) جواب القسم. و(نفس) : نكرة في سياق النفي, والنكرة في سياق النفي تفيد العموم. والمقصود بالنفس: جنس نفوس بني آدم. وقرأت بالتخفيف: (لَمَا) وعلى هذا تكون "ما" مزيدة. والحافظ: هو الملك الذي يحفظ على تلك النفس أعمالها، من خير، أو شر، كما في قوله: (وَإِنَّ عَلَيْكُمْ لَحَافِظِينَ.كِرَامًا كَاتِبِينَ). ويمكن القول إنه الملك الذي يحفظها، كما قال ربنا عز وجل: (لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ). فهؤلاء المعقبات، هم من ملائكة الرحمن، يحفظون الإنسان عما أراد الله تعالى أن يحفظه منه، فإذا جاء قدر الله، خلو بينه وبينه. فالحفظ يتناول حفظ الأعمال؛ بمعنى كتابتها، وضبطها, ويتناول أيضاً حفظ الإنسان من أن يقع عليه الأذى.

(فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ): (فلينظر): يحتمل أن يكون النظر الحسي؛ لأن المطلوب النظر إليه ممكن, وهو هذا المني الذي منه خلق. لكن الأقرب والله أعلم، أنه النظر العلمي، بمعنى: فليتأمل ويعتبر؛ لأن المنظور إليه معهود في الأذهان، لا يحتاج أن يذهب ليبصره، وهو الماء الدافق. (مِمَّ خُلِقَ): يعني من أي شيء خلق. وهذا شروع في إقامة الحجة على منكري البعث. ويمكن أن نفسر "الإنسان" في هذا الموضع بأنه المنكر للبعث، وإن كان يصلح المقام للاعتبار لكل أحد. فإن المؤمن لو تأمل في أصل خلقه لزاد بذلك إيماناً.

إنها مسافة هائلة بين هذه النطفة المذرة، التي لا تكاد ترى إلا بالمجاهر المكبرة، وبين الإنسان الكامل الخلقة! يتحول الحيوان المنوي، بعد أن يلقح البويضة الأنثوية، إلى خلية مخصبة، ثم تشرع هذه الخلية بالانقسام المتتالي، حتى تصبح نطفة، فعلقة، فمضغة، ثم يخلق الله عظاماً، ويكسو العظام لحماً. ويترقى هذا الخلق العجيب، حتى يخرج كائناً يدب على وجه الأرض! لا ريب أن هذا من دواعي زيادة الإيمان. فلهذا يصلح أن يكون الخطاب موجهاً للإنسان الكافر، المنكر للبعث، لإقامة الحجة عليه في إثبات البعث. ويصلح أن يكون دعوة عامة للتفكر في عظيم خلق الله عز وجل.

فَلْيَنْظُرِ الإنسان الكافر المنكر للبعث الذي كان النبي صلى الله عليه وسلم يواجهه في مكة، من كفار قريش، (مِمَّ خُلِقَ) ؟ يأتي الجواب مباشراً، لأن الجواب محل تسليم من الجميع، لا أحد ينكره: (خُلِقَ مِنْ مَاءٍ دَافِقٍ). وهم مقرُّون أن الله تعالى خالقه. والماء الدافق هو المني. وسمي دافقاً لكونه ذا اندفاق، واندفاع. وهذا مما يميز هذا الماء العجيب، أنه يخرج دفقاً بلذة , ليبلغ محله.

(يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ): الصلب: على قول جمهور المفسرين، هو فقار الرجل، يعني عموده الفقري، أي ظهره. والترائب: على قول جمهور المفسرين، هي عظام الصدر من المرأة. و عبر بعضهم بأنها موضع القلادة. فدلت الآية على أنه يخرج من بينهما، ولا يلزم من هذا أن يكون خارجاً من ذات العظم، عظم الظهر، أو أضلاع الصدر. وذهب بعض المفسرين إلى أن الترائب هي أطراف الرجل، يعني يديه ورجليه ولا تتعلق بالمرأة، لأن الماء إنما يخرج دفقاً من الرجل. فكأن هذا الماء الذي يخرج من الرجل يستل من جميع جسمه؛ من فقاره، وأطرافه, ولا شك أن العلم الحديث قد يساعد في إيضاح هذا المعنى، وقد لا يبلغ العلم الحديث التفاصيل الدقيقة في دلالة الآية, لكن المعلوم لدى المشتغلين بعلم وظائف الأعضاء، المسمى بـ(الفسيولوجي) أن هذا الماء يتكون في الخصيتين, ثم تتجمع في موضع معين. وأما الأنثى فإنها يتكون ماؤها في المبيضين، فيتم إنضاج البويضة، فتنزل من مبايض المرأة إلى الرحم، عبر قناة فالوب، مرة في الشهر. ومن حكيم صنع الله عز وجل، أن جدار الرحم يتهيأ بإذن الله تعالى لاستقبال الحمل المتوقع، فتهبط هذه البويضة، وقد امتلأ جدار الرحم بالشعيرات الدموية، وصار ثخيناً, فإن قدر خلال ثمان وأربعين ساعة أن يقع لقاء بين الزوجين، ويلتقي ماء الرجل الذي يحمل الحيوانات المنوية، مع البويضة، في رحم الأنثى، فإنه يسبق واحد من هذه الحيوانات المنوية إلى البويضة، فيقع التلقيح. فتنغرس تلك البويضة الملقحة في جدار الرحم، وتتغذى على ما اختزن في هذا الجدار من الأوعية الدموية، وتتوالى الانقسامات الخلوية، حتى تكبر، وتعلق في جدار الرحم، فتسمى علقة, ثم تمر ببقية المراحل، كما هو معروف في علم الأجنة. كل هذا بتقدير دقيق، وحكمة بالغة. ومن العجيب أن هذه البويضة، تحمل المورثات الجينية، من الأنثى كما إن الحيوان المنوي يحمل المورثات الجينية من الذكر. ومعلوم أن كل خلية بشرية تحتوي ستة وأربعين مورِّثاً "جين"، إلا الخلية المنوية، فإنها تحتوي نصف العدد، فقط. فينحدر من المبايض بويضة تحمل ثلاثة وعشرين مورثاً, ويقذف الذكر حيواناً منوياَ يحمل ثلاثة وعشرين مورِّثاً، فيصبح المجموع ست وأربعون. هذه الخلية الجديدة، هي (الأمشاج) كما قال ربنا عز وجل: (إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشَاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْنَاهُ سَمِيعًا بَصِيرًا) والأمشاج تعني الأخلاط، لكونها خليطاً من ماء المرأة، ماء الرجل، فيقع الشبه كما يريد الله عز وجل.

هذه العملية التي يلفت الله الانتباه إليها لا يبصرها الغافلون. إن الناظر بعين البصيرة، ولو كان عامياً، أمياً، لا يقرأ، ولا يكتب، لو أمعن النظر، لاعتبر في هذا الماء الذي يقذف في الأرحام، كيف يؤول إلى إنسان سوي، حي، سميع، بصير. هذه المسافة بين هذا الماء الذي تشمئز منه النفوس، وهذا الخلق الإنساني السوي، من دواعي النظر، الذي يوجب للإنسان إجلال الخالق، وطأطأة الرأس خضعاناً له سبحانه وبحمده. ثم لا ينقضي العجب كيف ينكر هذا الإنسان البعث! أبعد هذا المشهد العجيب، يا معشر المشركين، تقولون: (مَنْ يُحْيِي الْعِظَامَ وَهِيَ رَمِيمٌ) .

(إِنَّهُ عَلَى رَجْعِهِ لَقَادِرٌ): يعني الذي خلق هذا الإنسان، وكونه على هذه الصفة قادر أن يعيد خلقه مرة أخرى يوم القيامة. فهذا من أعظم دلائل البعث,ومرجع الضمير في قوله (إِنَّهُ) إلى الرب سبحانه وتعالى,ومرجع الضمير في قوله: (عَلَى رَجْعِهِ) إلى الإنسان. هذا هو الأقرب. وقال بعض المفسرين: أن مرجع الضمير في قوله: (عَلَى رَجْعِهِ) أي إلى الماء, فيكون معنى (لَقَادِرٌ) : أنه قادر أن يعيد الماء إلى الموضع الذي خرج منه. يعني قادر أن يعيده إلى الإحليل، أو يعيده إلى الصلب، والترائب. ولا شك أن الله تعالى قادر على ذلك، لكن سياق الآيات يؤيد القول الأول، وهذا ما رجحه ابن جرير رحمه الله، لأن المقام مقام إثبات البعث, ولأن هذا الأمر، مما لم يوقعه الله عز وجل، وهو إعادة هذا الماء في الإحليل، أو إلى الصلب أو الترائب. فلا وجه للإتيان بالجملة المؤكدة هاهنا.

الفوائد المستنبطة :

الفائدة الأولى: إقسام الله تعالى بمخلوقاته. (وَالسَّمَاءِ وَالطَّارِقِ).

الفائدة الثانية:كمال رقابة الله، وحفظه لبني آدم

الفائدة الثالثة: إثبات الملائكة الكرام، وبيان بعض أعمالهم, كالحفظ.

الفائدة الرابعة: بيان دليل من دلائل البعث، وهو أن القادر على الخلق قادر على الإعادة. كما قال الله تعالى: (وَهُوَ الَّذِي يَبْدَأُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَهُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ) فهو دليل عقلي، حسي، على إمكانية البعث.

 
بسم الله الرحمن الرحيم
التفسير العقدي لجزء عم
سورة الطارق (2)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ (9) فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ (10) وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ (11) وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا (15) وَأَكِيدُ كَيْدًا (16) فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا (17))


(يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ):( يَوْمَ) ظرف، متعلقه بالرجع، يعني إن الله سبحانه وتعالى قادر على إعادة بعثه (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ) يوم القيامة؛ لأنه هو الذي تبلى فيه السرائر. ومعنى (تُبْلَى) أي تختبر، وتكشف. (السَّرَائِرُ): الضمائر، جمع سريرة، وهي كل ما أسره الإنسان، وأخفاه. وهذا فيه وصف بديع، وصف باطني ليوم القيامة! فمعظم أوصاف يوم القيامة تتعلق بالصورة الظاهرة، مثل: (إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ)، و(إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ)، ونحوها مما يتعلق برسم الصورة الكونية الظاهرة, أما هذه الآية فإنها ترسم الصورة الباطنة، وهو ما يكون عليه حال القلوب، فتنكشف، فلا مجال للتزويق، ولا للنفاق، هم ضاحون لله عز وجل، ظاهراً، وباطناً؛ ضاحون لله ظاهراً، لا ثياب تسترهم, وهم ضاحون لله باطناً، فكل شيء بيِّن مكشوف.

(فَمَا لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَلَا نَاصِرٍ):( فَمَا لَهُ) أي الإنسان,( مِنْ قُوَّةٍ) يعني من قوة ذاتية يمتنع بها,(وَلَا نَاصِرٍ) يعني من غيره، فليس له معين، ولا مدافع. فالفرق بين دلالتي هاتين اللفظتين: (قُوَّةٍ) وَ (نَاصِرٍ) أن القوة ذاتية, والنصر خارجي.

(وَالسَّمَاءِ ذَاتِ الرَّجْعِ): أعاد الله تعالى القسم بالسماء، ولكنه هذه المرة بوصف جديد. (ذَاتِ الرَّجْعِ) والمراد بالرجع: المطر. وسمي المطر رجعاً، لأنه يرجع، ويعود مرة إثر مرة, وإنما أضاف الله تعالى الرجع إلى السماء لكونه يأتي من جهتها. وكل ما علاك فهو سماء. وقيل إن المقصود بالرجع: الشمس، والقمر، والنجوم, لأنها تشرق، وتغرب، ثم تعود. فوصفت بالرجع. والأول أقرب، وهو ما عليه جمهور المفسرين.

(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ): هذا من التقابل, فبينا الإنسان يرفع طرفه إلى السماء، إذ به يحطه إلى الأرض. فكل ما حولك دلائل ربوبية؛ ترفع رأسك، تلتفت يميناً، وشمالاً، كل ما في الكون هو من دلائل البعث، ودلائل الربوبية.

(وَالْأَرْضِ ذَاتِ الصَّدْعِ) الصدع: يعني الشق. لأن الأرض تتشقق بالنبات، كما قال في سورة "عبس": (فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسَانُ إِلَى طَعَامِهِ.أَنَّا صَبَبْنَا الْمَاءَ صَبًّا.ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا.فَأَنْبَتْنَا فِيهَا حَبًّا) إلى آخر الآيات. وهذا القسم مناسب لموضوع السورة, فالسورة تريد تقرير أمر البعث، وإقامة الأدلة عليه، فأقسم بالسماء بوصفها (ذَاتِ الرَّجْعِ)، والأرض بوصفها (ذَاتِ الصَّدْعِ)، وهذا إلماحة إلى دليل آخر من دلائل البعث، وهو أن الله سبحانه وتعالى، يحيي الأرض الميتة، فيسوق إليها الماء، فتنبت العشب والكلأ الكثير:(وَآَيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْنَاهَا). فالذي يحيي الأرض الميتة، قادر على إحياء بني آدم، وإخراجهم من قبورهم أحياء. ولما ذكر الله عز وجل في سورة "ق" قوله: (وَنَزَّلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً مُبَارَكًا فَأَنْبَتْنَا بِهِ جَنَّاتٍ وَحَبَّ الْحَصِيدِ. وَالنَّخْلَ بَاسِقَاتٍ لَهَا طَلْعٌ نَضِيدٌ.رِزْقًا لِلْعِبَادِ وَأَحْيَيْنَا بِهِ بَلْدَةً مَيْتًا) قال إثرها : (كَذَلِكَ الْخُرُوجُ)! فالذي يحيي الأرض الميتة بهذا الماء المساق من البحار، فتنبت، وتصبح ذات مروج، ونخيل باسقات، قادر على إخراج الإنسان حياً بعد موته.

(إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ): مرجع الضمير إلى القرآن, وهو إن لم يرد له ذكر، لكنه لما قال: (قَوْلٌ) علم أنه القرآن. ومعنى (فَصْلٌ) أي فيصل، وفرقان بين الحق والباطل, وهدى,وضياء, ونور,وشفاء, كل هذه الأوصاف تنطبق انطباقاً تاماً على كلام الله عز وجل. ولهذا قال الله: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ), وقال: (كتاب أحكمت آياته ثم فصلت).

(وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ): إذاً هو جد كله, ليس لعباً, ولا باطلاً, وليس المقصود به المسامرة, والتلذذ به كما يتلذذ بالشعر, وإنما هو جد,وحق, وموعظة,وهدى,وبيان,وشفاء، فخذوا الأمر بجد, فهذا الذي يتلى عليكم ليس أساطير الأولين, ليس شعراً, ليس سجعاً, ليس كلام كهان, بل هو حق يوجب عليكم أن ترعوه أسماعكم, وأن تعتقدوه بقلوبكم, وأن تقيموا حياتكم وفق هديه. إن الذي يمتلأ قلبه بهذا المعنى، يرزق بركة القرآن, فكل أمر اشتبه عليك من أمورك الخاصة, أو أمور الناس العامة، إذا أقبلت على القرآن بقلب صادق, ونفس مستشرفة، تعتقد أن الهدى, والشفا, والبيان هو في هذا الكتاب فوا الله، لتجدن فيه بغيتك، وطلبتك. لكن إذا حرم الإنسان هذا الاعتقاد، وهذا اليقين، حرم الثمرة. فليعود الإنسان نفسه على أن يعظم القرآن, ويعتقد أنه كلام رب العالمين، ليس كأي كلام, وأن كل ما يحتاج الناس إليه في معاشهم، ومعادهم، فهو في كتاب الله عز وجل, في كتاب الله جوابه، وشفاؤه, لا يلزم من ذلك أن يكون فيه ذكر التفاصيل لكن فيه ذكر الأسس,والمبادئ,والمفاتيح التي تقود الإنسان إلى معرفة الحق، وتحصيل الطمأنينة.


(إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا): أي هؤلاء المنكرون للبعث يتحايلون، ويدبرون بطريق خفي إيصال الأذى إلى النبي صلى الله عليه وسلم والمؤمنين. وحقيقة الكيد، والمكر، والمحل: إيصال الأذى بطريق خفي. وأكدها بالمفعول المطلق (كيداً) لأن الكافرين يستفرغون جهدهم، ووسعهم، في الصد عن سبيل الله, ورسم الخطط لذلك. ولم يزل هذا دأبهم قديماً وحديثاً. وهذه سمة وصفة في كل منكر للبعث، أنه لابد أن يفني عمره، وجهده في إحقاق الباطل، وإبطال الحق, فالمنكر للبعث يريد أن يقنع نفسه، ويقنع الآخرين بصحة ما هو عليه، فلذلك يؤلب، ويجتهد، ويضلل، لكي يحاول إقناع نفسه، ومعاكسة فطرته، ومحاولة إضلال الآخرين, ويا له من عبث ضائع، وجهد غبين، إذ أنه مبني على باطل، ولا يفضي إلا إلى باطل.

(وَأَكِيدُ كَيْدًا): وشتان بين كيد الرب وكيد العبد؛ الكيد في حقيقته المشتركة، ومعناه الكلي، واحد، وهو إيصال الأذى بطريق خفي, لكنه من الله محمود, ومن هؤلاء الكافرين مذموم؛ لأنهم أرادوا بكيدهم إبطال الحق، وإحقاق الباطل.ولهذا يخادعون الناس بأنواع الخداع، يأتي أحدهم إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ومعه عظم بال، فيفته، ويقول "أتزعم يا محمد أن ربك يحيي هذا بعد أن صار رميما ؟ ً" وهذا المشهد يمكن أن يجتاح أصحاب العقول السطحية، فتنطلي عليهم مثل هذه المكائد.

وهذا الكيد، منه سبحانه، في مقابلة كيد الكائدين، نظير قوله: (وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللَّهُ). ولما كان الكيد، والمكر، وأمثالهما، تنقسم مدلولاتهما إلى محمود، ومذموم، لم يجز إطلاق هذا الوصف عليه إلا مقيداً، على سبيل المقابلة. ولم يجز اشتقاق اسم له منها، فلا يقال من أسمائه الكائد, ولا من أسمائه الماكر، ولا يخبر به عن الله على سبيل الإطلاق، إلا أن يقيد، فيقال الكائد بالكافرين, الماكر بالماكرين، ونحو ذلك.

(فَمَهِّلِ الْكَافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا):"مهل": أي أنظر، واترك. وهذا من التنويع في التعبير, (رُوَيْدًا) كلمة مصغرة من (رودى) ومعناها: أي قليلاً, فالأمر قريب, عما قليل يتبين الحق من الباطل، وتعرف العاقبة لمن. ولهذا لم يمض عليهم سنيات حتى أذلهم الله يوم بدر، وألقوا في القليب، وصاح بهم النبي صلى الله عليه وسلم: وقد أرموا: يا فلان ابن فلان، يناديهم بأسمائهم: (هل وجدتم ما وعد ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً). (أَمْهِلْهُمْ رُوَيْدًا) أمهلهم حتى تحقق الموعود.


الفوائد المستنبطة :

الفائدة الأولى: صفة يوم القيامة الباطنة (يَوْمَ تُبْلَى السَّرَائِرُ).

الفائدة الثانية: كمال إحاطة الله بالعباد, وكمال ضعفهم، فلا قوة لهم من ذواتهم، ولا ناصر لهم من سواهم.

الفائدة الثالثة: عظم شأن القرآن,وبيان صفته الفاصلة، الجادة.

الفائدة الرابعة: فصل القرآن العظيم في جميع الأمور المشتبهات, فما من أمر مشتبه يطرأ على الناس، إلا وفي القرآن منه خبر، وشفاء، عرفه من عرفه، وجهله من جهله

الفائدة الخامسة
: سعي الكافرين المنكرين للبعث بالباطل.

الفائدة السادسة: إثبات صفة الكيد لله عز وجل، وهو من صفاته الفعلية.

الفائدة السابعة: أن الله يمهل، ولا يهمل. فلا يغرنك ما ترى من انتفاش الباطل، وصولته، وجولته، فإن هذا لا يعني دوامه.
 
تفسيرسورة الأعلى (1)

بســـــم الله الرحمن الرحيم

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى

سميت هذه السورة بسورة "الأعلى" لورود هذه اللفظة الشريفة فيها، وهي اسم من أسماء الله الحسنى (الْأَعْلَى). وقد كان النبي يحب هذه السورة، ويقرأ بها، وبسورة "الغاشية"، في الجمعة, والعيدين، حتى إنه ربما اجتمع يوم عيد، ويوم جمعة، فقرأ بهما في الصلاتين. وحق لرسول الله أن يحب هذه السورة؛ لما تضمنته من المعاني العظيمة, ولما تضمنته من المنة التامة عليه بتيسيره لليسرى.



ولهذه السورة مقاصد متعددة، منها:
المقصد الأول: تنزيه الرب سبحانه وتعالى.

المقصد الثاني: بيان سماحة الشريعة.

المقصد الثالث: بيان وظيفة الرسول .


* قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى :-

سَبِّحِ: هذا فعل أمر؛ أمر للنبي بالتسبيح، أي: التنزيه. فقول: "سبحان الله" اسم مصدر، أي تنزيهاً لله. وينزه الله تعالى عن ثلاثة أمور:

- أحدها: النقص: فله الكمال المطلق, فليس في صفاته نقص بوجه من الوجوه.فكل ما أثبته الله -تعالى- لنفسه فهو صفة كمال، لا نقص فيه بوجه من الوجوه. وهذا من معاني (المثل الأعلى). فله من العلم أتمه وأعلاه, ومن السمع أوسعه, ومن البصر أكمله، لا نقص في صفة من صفاته، (أحاط بكل شيء علماً), و(وسع كل شيء رحمة), و(لا يعجزه شيء في الأرض ولا في السماء).

- الثاني: العيب: وهي الآفات, فهو منزه عن العمى, وعن الخرس, وعن الصمم، وعن المرض. فكل آفة، فالله بريء منها سبحانه.

- الثالث: مماثلة المخلوقين: فأي وصف يختص به المخلوق لا يمكن أن يثبت للخالق, وأي وصف يختص به الخالق فلا يمكن أن يتصف به المخلوق. فالاشتراك في الأسماء والصفات، إنما يكون في المعنى العام، الكلي، المطلق، الذي يكون في الأذهان، ويمتنع وجوده في الأعيان. فإذا أضيف الوصف إلى الموصوف تخصص.

والله – تعالى - أثبت لنفسه سمعاً، وبصراً، وأثبت للمخلوق سمعاً، وبصراً، وهذا الاشتراك إنما هو اشتراك في اللفظ، وفي المعنى العام، الكلي، المطلق. فالمعنى العام المطلق للسمع، هو إدراك الأصوات, والمعنى العام المطلق للبصر، هو إدراك المرئيات. وهذا محله الأذهان، والعقول, فإذا أضفناه تخصص. فإذا قلنا: سمع الله، صار وصفاً مختصاً به، لا يماثله فيه مخلوق. وإذا قلنا: سمع المخلوق، صار وصفاً خاصاً يختص به المخلوق. وقد جمعت ذلك عائشة - رضي الله عنها - في قولها "الحمد لله الذي وسع سمعه الأصوات! لقد جاءت المجادلة تجادل رسول الله وإني لفي جانب الدار، يخفى علي بعض كلامها، وقد سمعها الله من فوق سبعة أرقعة" [مسند أحمد]. فأثبتت سمعاً لله، وسمعاً لها, لكن سمع الله -عز وجل-، وسع الأصوات، ولا يمكن أن يشاركه أحد في هذه الخصيصة, وأما سمعها فإنه قاصر، وناقص، بدليل أنها في جانب الدار، ويخفى عليها بعض كلام المجادلة.

والله - سبحانه وتعالى - يأمر بتسبيح نفسه، وبحمد نفسه, فالحمد، والتسبيح، يكمل أحدهما الآخر. فإن الحمد يعني وصف الله بصفات الكمال. فهو إثبات. والتسبيح يعني تنزيهه عن صفات النقص، والعيب، ومماثلة المخلوقين، فهو نفي. وإنما يحصل العلم بالله بالنفي والإثبات معاً. ولهذا جاء في الحديث : (الْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلأُ الْمِيزَانَ.وَسُبْحَانَ اللَّهِ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ تَمْلآنِ - أَوْ تَمْلأُ - مَا بَيْنَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ) [رواه مسلم].

قوله: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى : أمر الله تعالى بتسبيح اسمه، فهل المراد تسبيح الاسم، أم تسبيح الرب نفسه ؟ قولان للمفسرين؛

- فمنهم من قال: الآية على ظاهرها، فمعنى تسبيح الاسم، أي تنزيهه أن يشاركه أحد في اسمه, فلا يجوز أن تطلق أسماؤه الحسنى على الأصنام، كما فعل المشركون، حينما أطلقوا اسم اللات، والعزى، ومناة، على معبوداتهم, فأخذوا اسم اللات من الإله, والعزى من العزيز, ومناة من المنان. فتسبيح اسم الله ألا يشتق منه اسم للأصنام.

- والقول الثاني: أن المراد سبح ربك، ولكنه عبر بالاسم، أو أدخل ذكر الاسم، لتحصل بذلك فائدة الجمع بين تسبيح القلب، وتسبيح اللسان. فيكون معنى سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ ما نقله ابن القيم، رحمه الله، عن شيخ الإسلام: "سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ أي: سبح ربك بقلبك، ولسانك, واذكر ربك بقلبك، ولسانك. فأقحم الاسم تنبيهاً على هذا المعنى، حتى لا يخلو الذكر والتسبيح من اللفظ باللسان، إلى أن قال: (وعبر لي شيخنا، أبو العباس ابن تيمية - قدس الله روحه- بعبارة لطيفة، وجيزة، فقال: المعنى: سبح ناطقاً باسم ربك، متكلماً به، وكذا سبح ربك ذاكراً اسمه - ثم قال- وهذه الفائدة تساوي رحلة لكن لمن يعرف قدره) يقول: لو لم يتمكن الإنسان من الحصول على هذه الفائدة، إلا أن يشد الرحل على بعيره، وينطلق في طلبها من بلد إلى بلد، لما كان ذلك كثيراً, لكن من الذي يثمن هذا، ويقدره قدره؟ إنهم أهل العلم؛ لأن هذه المعاني معاني فخمة، جليلة, وتلاحظون في هذه السورة أنه قال في أولها: سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى، وقال في آخرها: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى، فأمر في أولها بتسبيح اسم ربه، وذكر في آخرها عمن أفلح وتزكى، أنه ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. فذكر الاسم في الموضعين؛ في الموضع الأول بالتسبيح, وفي الموضع الثاني بالذكر، وذلك ليجمع الإنسان بين الوصفين: تنزيه ربه بقلبه، وذكره بلسانه. وهذا أعلى أنواع الذكر، وهو ما تواطأ فيه القلب واللسان, ثم في الدرجة الثانية: ما اختص به القلب دون اللسان, ثم في الدرجة الثالثة: ما كان باللسان دون القلب. فللذكر مراتب، ودرجات.

الْأَعْلَى اسم من أسماء الله الحسنى، وهو على صيغة أفعل التفضيل، يعني من له العلو المطلق. وله أسماء مقاربة مثل:(العلي), و(المتعال). فالأعلى يدل على كمال علو الله عز وجل. وأهل السنة والجماعة يثبتون ثلاثة أنواع من العلو:

النوع الأول: علو الذات: وهو الاعتقاد بأن الله -سبحانه وتعالى- بذاته فوق سمواته, مستوٍ على عرشه, بائن من خلقه, ليس فيه شيء من خلقه ولا في خلقه شيء منه. وهذا النوع من العلو، يدل عليه الكتاب, والسنة, والإجماع, والعقل, والفطرة. ونازع فيه المعطلة، وأنكروا علو الله بذاته. وممن أنكر علو الله فوق سمواته: الجهمية، والمعتزلة, والأشاعرة، ومن على شاكلتهم، أنكروا أن يكون الله - عز وجل- فوق مخلوقاته! وهذا من أعجب العجب. فقد قامت دلائل الكتاب على إثباته، حتى قال بعض علماء الشافعية: "إن في القرآن العظيم أكثر من ألف دليل على إثبات علو الله". ودلت عليه دلائل السنة, وقطع العقل السليم باستحقاق الله لهذا العلو؛ لأنه صفة كمال, وفطر الله الفطر على ذلك؛ فما من إنسان إلا ويجد في قلبه نزوعاً إلى العلو حين يدعو الله تعالى، فيجد في قلبه ضرورة بالتوجه إلى العلو. وانعقد إجماع الأمة على هذا, وإنما نازع فيه هؤلاء المحجوبون، الذين جعلوا بينهم وبين بركة القرآن حجاباً مستوراً، من بدعة الكلام المذموم، والمقدمات الفاسدة.

النوع الثاني: علو القدر: وهو الاعتقاد بأن الله -سبحانه وتعالى- له صفات الكمال، التي بلغت الغاية في الحسن والقدر. وهذا لا ينازع فيه أحد من أهل القبلة. وهو معنى قوله تعالى: وَلِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلَى. وإنما وقع النزاع في تطبيقاته.

النوع الثالث: علو القهر: وهو الاعتقاد بأن الله -تعالى- علا على كل شيءٍ وقهره، كما قال تعالى: وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ. وهو محل اتفاق بين أهل القبلة.


* قوله الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى :-

يعني أوجد من العدم. ومعنى(سَوَّى): أي جعله متناسب الأجزاء، والأعضاء، قائماً بما يناسبه. ويشبه ذلك قوله تعالى:الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ.


* قوله
:وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى
: -

أي أنه سبحانه، سبق تقديره للمخلوقات، وهداها. والمقصود بالهداية هنا الهداية العامة, وذلك أن الهداية أنواع. فقد ذكر ابن القيم-رحمه الله-في كتابه"شفاء العليل" أن مراتب الهداية أربع:

1. الهداية العامة : وهي هداية كل مخلوق إلى ما يناسبه، ويصلح حاله. وهي المقصودة في هذه الآية، وتشمل الأنس, والجن, والطير, والوحش، وجميع ما خلق الله عز وجل، فهداه الله تعالى لما يقيم أوده، ويصلح معاشه.

2. هداية الدلالة، والبيان، والإرشاد: وهي أخص من الأولى، لأنها تتعلق بالمكلفين. والمراد بها: ما أظهر الله تعالى من شرعه، ودينه، لعباده. وهذا النوع من الهداية يقوم به الأنبياء, والعلماء, والدعاة، والمصلحون، لأنها هداية دلالة، و بيان، وإرشاد، ويدل عليها قول الله تعالى: وَإِنَّكَ لَتَهْدِي إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيم و أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى.

3. هداية التوفيق والإلهام: وهذه أخص من التي قبلها، لأنها تختص بمن سبقت لهم من الله الحسنى. فليس كل من هدي هداية دلالة، وبيان، وإرشاد، يهدى قلبه. فالنبي خاطب الناس جميعاً، وبين لهم، ودلهم، وأرشدهم، فلم يهتدوا جميعاً، لأن هداية التوفيق، والإلهام، بيد الله -عز وجل-. وهذا هو معنى قوله تعالى: إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ.

4. الهداية إلى طريق الجنة، أو طريق النار: وهذا النوع ليس في الدنيا، ولكنه في الآخرة. قال الله -عز وجل- في حق المؤمنين: سَيَهْدِيهِمْ وَيُصْلِحُ بَالَهُمْ. قال بعض المفسرين: يعني يهديهم إلى طريق الجنة. وقال في حق الكافرين: احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلَى صِرَاطِ الْجَحِيمِ.

والمراد بالآية النوع الأول، وهي الهداية العامة التي بها مصالح الحياة والمعاش. وهذا باب واسع لمن أرسل فيه طرفه، وأعمل فيه عقله، فإنه يجد من حكم الله، عز وجل، وتصريفه لمخلوقاته، الشيء العظيم. وقد أفاض فيه ابن القيم -رحمه الله- في (شفاء العليل)، وفي (مفتاح دار السعادة) وعقد فصولاً بديعة، مدهشة، في التفكر في بعض مخلوقات الله، وكيفية هدايتها؛ فعقد فصلاً يتعلق بالنمل، وكيف تحفظ أقواتها، والنحل وكيف تبني بيوتها، والحمام وكيف معاشها، والهدهد وكيف يعرف مواضع الماء، وسائر أصناف المخلوقات، بكلام ينعش القلب. هذا، وابن القيم -رحمه الله- لم يتح له أن يطلع على ما اطلع عليه المتأخرون من أنواع المعارف؛ فإن العلوم الحديثة، قد كشفت من معاني الربوبية، ما يحار الطرف في النظر إليه، ويحار العقل في التفكر فيه, حتى إنه لما ألف بعض الملحدين، منكري وجود الله، كتاباً سماه "الإنسان يقوم وحده" يعني أنه مستغن عن وجود خالق, ألف عالم غربي كتاباً في الرد عليه سماه "الإنسان لا يقوم وحده". وقد ترجم هذا الكتاب إلى العربية بعنوان "العلم يدعو إلى الإيمان"، أوصي بقراءته، وإن كان مؤلفه غير مسلم، لكنه ذكر حقائق من حقائق الربوبية، التي يشترك فيها كل من يؤمن بوجود الله -عز وجل- ويمكن أن يوظفها المؤمن الحق في التدليل على توحيد العبادة. ومثله ما يذكره بعض المشتغلين بمسائل الإعجاز العلمي في القرآن. على أن مسائل الإعجاز العلمي، ينبغي التعامل معها بحذر، لأن بعض المشتغلين بها يغالون أحياناً، ويحملون النصوص ما لا تحتمل, ربما كان بعض ما قالوه صواباً، لكن لا علاقة له بالآية، ولا يجوز أن نحمِّل كلام الله عز وجل معنىً ليس مراداً له، حتى وإن كان ذلك المعنى صحيحاً في نفسه، لكن لا يجوز أن نقول: إن مراد الله بالآية، كذا، وكذا، إلا ببينة ودليل. وإذا كان هذا من قبيل النظريات، والفرضيات، فإنه لا يجوز أن تحمل عليه النصوص، لأن النظريات والفرضيات، قد يثبت بطلانها. وأما إن كان هذا الذي توصلوا إليه من قبيل القطعيات، والحسيات، والمشاهدات، فإننا ننظر؛ إن كان لفظ الآية يحتمله فلا بأس، أن نسوقه في هذا المقام, وإن كان لفظ الآية لا يحتمله، بل هو أجنبي عنه، فإنه لا يجوز أن نفسر كلام الله بغير مراده. فلينتبه لهذا من يقرأ في مسائل الإعجاز العلمي.


*قوله:وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى:-

الْمَرْعَى: موضع النبات، والخضرة. فالذي يخرج المرعى هو الله عز وجل. تمر بالأرض اليباب، القفر، يوماً، فلا ترى إلا الهواء يعصف بها, والغبار يثور منها, ثم يرسل الله -تعالى- عليها سحائب المطر، فتسقيها، فتمر بها وهي تهتز خضراء، ذات بهجة. من الذي أخرج المرعى؟ من الذي حفظ هذه البذور لسنة كاملة، وسقاها حتى عادت هذه الأرض الصفراء المغبرة، تهتز خضرة وجمالاً، وألواناً، وعبقاً، وأريجا؟ً إنه الله (الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى).


*قوله:فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى: -

هذه دورة أخرى.فَجَعَلَهُ أي الله -عز وجل- غُثَاءً أي جافاً، هشيما,ً وأَحْوَى أي يابساً، مائلاً إلى السواد. وذلك بعد أن يمر به ما شاء الله تعالى من الوقت، وتشتد عليه حرارة الشمس.


*قوله:سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى :-

يقول الله -عز وجل - مخاطباً نبيه: سَنُقْرِئُكَ أي القرآن، فَلَا تَنْسَى :"لا" نافية ، فمعنى الآية، أن الله تعالى يعد نبيه أن يقرأه القرآن، وأن يحفظه في قلبه، لا ينساه. وذلك أن نبينا كان إذا نزل عليه الوحي يحرك به لسانه، يتحفظه، يخشى أن يتفلت عليه، كما قال في سورة القيامة: لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ. فطمأن الله نبيه قائلاً: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى أي لن تنسى ما أوحي إليك.

*قوله:إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى:-

إِلَّا تفيد الاستثناء، وذلك للدلالة على طلاقة المشيئة. فكل شيء متعلق بمشيئته، وحكمته. والمعنى: إلا ما شاء الله أن تنساه، مثل المنسوخ. فما نسخت تلاوته، وحكمه، يدخل في هذا الاستثناء. وذلك أن الله -سبحانه وتعالى- قد ينسخ بعض ما أنزل على نبيه لحكمة بالغة، كما قال تعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا.

إِنَّهُ أي الله -عز وجل-. يَعْلَمُ الْجَهْرَ الجهر: ما يظهر الإنسان من قول، أو من عمل . وَمَا يَخْفَى : أي منهما. فعلمه محيط بكل شيء.



*قوله:وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى :-

وهذا من أسباب محبة النبي لهذه السورة. وَنُيَسِّرُكَ : يعني نسهل لك، ونهيأ لك. لِلْيُسْرَى: قيل: شريعة الإسلام، وقيل، وليس بعيداً عن القول الأول، أي عمل الصالحات الموصل إلى الجنة. وهذا مطابق لقول الله تعالى: فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى. فالله تعالى يبشر نبيه بتيسيره لليسرى، أي بتوفيقه لشريعة سمحة، سهلة، ميسرة، هي شريعة الإسلام. وهذا التيسير هو الموصل إلى الجنة، التي من أسمائها (اليسرى).
وهذا الوصف (اليسر) بيان لطبيعة هذا الدين, وهذه الشريعة, وهذا النبي. فهذا الدين في عقيدته مبني على اليسر، والوضوح، والبينة، ليس فيه أغلوطات، ولا تعقيد، ولا غموض, بل هو واضح، بيِّن، موافق للعقول السليمة، والفطر المستقيمة. ليس ككلام المتكلمين، والفلاسفة، والمناطقة. وهو يسر في شريعته، فإن هذه الشريعة حنيفية سمحة. ولهذا لما زَنَى رَجُلٌ مِنَ الْيَهُودِ، وَامْرَأَةٌ، َقَالَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ: اذْهَبُوا بِنَا إِلَى هَذَا النَّبِىِّ، فَإِنَّهُ نَبِىٌّ بُعِثَ بِالتَّخْفِيفِ. رواه أبو داود. فكانت شريعة نبينا محمد متسمة باليسر، ورفع الحرج, وكان من قواعد الشريعة أن الضرورات تبيح المحظورات, وأن الأمر إذا ضاق اتسع, وأن المشقة تجلب التيسير. ويعقد العلماء أبواباً لأهل الأعذار، كما في الحديث: (صَلِّ قَائِمًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَقَاعِدًا، فَإِنْ لَمْ تَسْتَطِعْ فَعَلَى جَنْبٍ) [رواه البخاري]، وقال : (إِنَّ اللَّهَ تَجَاوَزَ عَنْ أُمَّتِي مَا حَدَّثَتْ بِهِ أَنْفُسَهَا مَا لَمْ تَعْمَلْ، أَوْ تَتَكَلَّمْ) [رواه البخاري]. كما أن هذا النبي الكريم، كان من صفاته اليسر، فهو سهل, موطأ الأكناف, مزاجه مزاج طبيعي، ليس فيه عنت، ولا مشقة، يأخذ الأمور بالعفو، والظاهر، واليسر، لا يتكلف، بل يبغض التكلف: قُلْ مَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَمَا أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِين. وكان سمحاً مع أهل بيته، يصبر منهم على ما يقع من الغيرة، ويسايرهم، ويجاريهم، حتى ذكر جابر بن عبد الله -رضي الله عنه- في قصة حجة الوداع أن عائشة -رضي الله عنها- ألحت على النبي أن تأتي بعمرة، فقال: (طَوَافُكِ بِالْبَيْتِ وَبَيْنَ الصَّفَا وَالْمَرْوَةِ يَكْفِيكِ لِحَجَّتِكِ وَعُمْرَتِكِ) [رواه أبو داود] فلما رأى شدة رغبتها، وإلحاحها وافقها, قال جابر بن عبد الله: وَكَانَ رَسُولُ اللَّهِ رَجُلاً سَهْلاً، إِذَا هَوِيَتِ الشَّىْءَ تَابَعَهَا عَلَيْهِ. فَأَرْسَلَهَا مَعَ عَبْدِ الرَّحْمَنِ بْنِ أَبِى بَكْرٍ فَأَهَلَّتْ بِعُمْرَةٍ مِنَ التَّنْعِيمِ. رواه مسلم. وكان سمحاً مع الناس، إذا صافح أحداً، لم ينزع يده، حتى يكون الذي صافحه هو الذي يصنع ذلك. وتأتي الجارية السوداء، فتمسك بيده، فتذهب به في أسواق المدينة حيث شاءت. من رآه هابه، ومن جالسه أحبه. ما خير بين أمرين إلا اختار أيسرهما، ما لم يكن إثماً. فنفسية المؤمن، ومزاجه، وسلوكه، وسمته، لابد أن يصطبغ بهذه الصبغة المحمدية، التي منّ الله تعالى بها على نبيه لأن هذا من أسباب سعادتك، وسعادة من يعاشرك.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: وجوب تنزيه الرب عن النقص، والعيب، ومماثلة المخلوق.

الفائدة الثانية: إثبات الاسم لله تعالى، لقوله: سَبِّحِ اسْمَ خلافاً للمعتزلة، والجهمية، الذين زعموا أن الأسماء مخلوقة, وأن الناس اخترعوها لله، تعالى الله عما يقولون.

الفائدة الثالثة: إثبات اسم الأعلى لله تعالى.

الفائدة الرابعة: إثبات صفة العلو بأنواعه لله: علو الذات,وعلو القدر, وعلو القهر.

الفائدة الخامسة: كمال ربوبية الله تعالى؛ خلقاً, وإحكاماً, وتدبيراً, وهداية.

الفائدة السادسة: إثبات الهداية العامة, وهي هداية كل مخلوق إلى ما يصلحه في معاشه.

الفائدة السابعة: التنبيه على البعث، من قوله: وَالَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعَى فَجَعَلَهُ غُثَاءً أَحْوَى هذه الدورة تدل على إمكانية البعث؛ لأن هذا المرعى يصبح هشيماً، يابساً، مائلاً لونه إلى السواد, ثم يعود مرعى من جديد.

الفائدة الثامنة: حفظ الله تعالى لوحيه، ودينه، لقوله: سَنُقْرِئُكَ فَلَا تَنْسَى

الفائدة التاسعة: طلاقة مشيئة الله تعالى، إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ، واقترانها بحكمته.

الفائدة العاشرة: إمكان النسخ, لقوله :إِلَّا مَا شَاءَ اللَّهُ فقد ينسي الله نبيه شيئاً فيكون من باب نسخ التلاوة والحكم.

الفائدة الحادية عشرة: كمال علم الله، لأن الذي يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَمَا يَخْفَى ما بقي شيء خارج عن معلومه.

الفائدة الثانية عشرة: كمال لطف الله بنبيه- صلى الله عليه وسلم:وَنُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرَى.

الفائدة الثالثة عشرة:أن اليسر من خصائص النبي ومن خصائص عقيدته وشريعته.
 
بسم الله الرحمن الرحيم

تفسيرسورة الأعلى (الجزء الثاني)



فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى



* قوله تعالى: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى :-

هذا أمر من الله لنبيه بالتذكير, والذكرى ضد الغفلة فهي بيان مصحوب بالموعظة,

فَذَكِّرْ ذكر كل أحد، في كل حال، وفي كل وقت؛

إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى : ليس هذا قيداً، فليس المراد: ذكر إن كان للذكرى فائدة، فإن لم يكن للذكرى فائدة فلا تذكر! وإنما المراد: فذكر، فإن الذكرى لا تزال نافعة. سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَىوَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى فلن يخلو الحال من منتفع. ولو أردنا أن نجعلها قيداً، فإن هذا لا يصدق إلا على حالين:

1. حينما تبلغ الروح الحلقوم: فلا فائدة من التذكير، لأنها لا تقبل توبته، وقد بلغ هذا المبلغ.

2. حال طلوع الشمس من مغربها: فإنه : لَا يَنْفَعُ نَفْسًا إِيمَانُهَا لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمَانِهَا خَيْرًا [الأنعام : 158]، فلا فائدة من التذكير.



* قوله تعالىسَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى:-

سَيَذَّكَّرُ: يعني سيتذكر، فأدغم التاء في الذال، وشددها,

مَنْ يَخْشَىُ: يعني من يخشى الله، واليوم الآخر. وهذا موافق لقول الله عز وجل: وَذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ؛ لأن المؤمنين هم أهل خشية الله عز وجل.



* قوله تعالىوَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى :-

وَيَتَجَنَّبُهَا أي: يعرض عن هذه الذكرى، فلا يرخي لها سمعاً، ولا يرفع بها رأساً.

وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى يعني الذي بلغ في الشقاء غايته. والمراد به الكافر؛ لأنه أتى بصيغة أفعل التفضيل. ولهذا كان الكفار ينفرون من الموعظة، كما وصف الله عز وجل: وَهُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَيَنْأَوْنَ عَنْهُ وَإِنْ يُهْلِكُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ, وكذلك قال الله تعالى عن قوم نوح: وَإِنِّي كُلَّمَا دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آَذَانِهِمْ وَاسْتَغْشَوْا ثِيَابَهُمْ وَأَصَرُّوا وَاسْتَكْبَرُوا اسْتِكْبَارًا. وكل من كان عنده نسبة شقوة، نفر من الموعظة بقدر ما عنده من الشقاء,فالعاصي، إذا وعظ أحياناً، أو ذكر، نفر، وقال: لا تكثروا علي الكلام.



* قوله تعالىالَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى :-

أي: أنه يدخل هذه النار، فتحرقه بشوبها، ولهبها. ووصف النار بأنها الكبرى لشدة عذابها ونكالها.



* قوله تعالىثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَا :-

يعني: لا يموت فيستريح من هذا العذاب، ولا يحيى حياة هنيئة. فبئست المعيشة .



* قوله تعالىقَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى :-

قَدْ: للتحقيق.

أَفْلَحَ: فاز.ومعنى الفلاح: الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.

مَنْ: بمعنى الذي.

تَزَكَّى: أي تطهر بالإيمان، والعمل الصالح,كما قال في الآية الأخرى: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا . فمعنى الزكاة التطهر.

وقال بعض المفسرين: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى يعني: أدى زكاة ماله, وقال بعضهم أي أدى زكاة الفطر خاصة. والصحيح أن التفسيرين الأخيرين داخلان في التفسير العام, والأولى أن نحملها على العموم، فمن فسرها بأنها زكاة المال، أو زكاة الفطر، فإنما أراد تفسير الشيء ببعض أنواعه.



* قوله تعالىوَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى :-

هذا كما تقدم في مطلع هذه السورة، ينبغي أن يجمع بين ذكر القلب، وذكر اللسان. لم يقل "وذكر ربه فصلى" بل قال: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ، ففيه تنبيه على الجمع بين ذكر القلب، وذكر اللسان.

فَصَلَّى أي: الصلاة المشروعة، وأعظمها الصلوات الخمس .



* قوله تعالىبَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا :-

بَلْ: للإضراب، أي الحال أنكم بتُؤْثِرُونَ: أي تفضلون، وتقدمونالْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وهو خطاب موجه للكافرين، منكري البعث.



* قوله تعالىوَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى :-

كما قال في آية أخرى: فَمَا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فِي الْآَخِرَةِ إِلَّا قَلِيلٌ . فما أعظم خسارة من باع آخرته بدنياه

وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى: فهي خير من حيث المتاع؛

- ففيها صنوف النعيم، واللذائذ الحسية، والمعنوية، ما لا تقارن به لذات الدنيا.كما قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (مَوْضِعُ سَوْطِ أَحَدِكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ خَيْرٌ مِنَ الدُّنْيَا وَمَا عَلَيْهَا) [رواه البخاري].

- والميزة الثانية: البقاء، لأن متاع الدنيا منقطع، مهما طال, مهما عمر هذا المتنعم، فمآله إلى الموت, لو سكن القصور, وحصل له جميع ما يتمناه من شتى الأمور، فمآله بعد ذلك إلى أن تنهد قواه, وأن يشيب صدغاه, وأن يؤول إلى الهرم, ويفقد اللذة ويموت. لكن الآخرة لا يبلى شبابها, ولا يفنى أهلوها. فلهذا كانت أبقى نعيم : وَأَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خَالِدِينَ فِيهَا مَا دَامَتِ السَّمَاوَاتُ وَالْأَرْضُ إِلَّا مَا شَاءَ رَبُّكَ عَطَاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ [هود : 108]



* قوله تعالىإِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى :-

إِنَّ:للتوكيد, جزء (عم) مليء بالعبارات التحقيقية، التأكيدية التي تعمر القلب باليقين الراسخ.

هَذَاالمشار إليه ما تقدم من الموعظة.

لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَىيعني: أنه مزبور، مذكور في الصحف الأولى. ووصفت بالأولية لكونها منزلة قبل القرآن.



* قوله تعالىصُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى :-

إِبْرَاهِيمَ : -عليه السلام- هو أبو الأنبياء، وإمام الموحدين في الأولين، وهو خليل الرحمن، له صحف، كما أخبر الله عز وجل. قيل أنها عشر صحائف.

وَمُوسَى: كليم الرحمن، وأعظم أنبياء بني إسرائيل. قيل أن الصحائف هي نفسها التوراة, وقيل إنها غير ذلك، وأنه ما ذكر فيها الوصايا العشر, خاصة. والأقرب أن تكون التوراة لأن هي من أعظم ما أنزل الله تعالى على موسى، فهي أولى بالذكر.

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى : وجوب التذكير: في كل حال، لكل أحد، في كل حين.



الفائدة الثانية : تفاوت الخلق في الانتفاع من الذكرى، مع كون المنطوق واحدًا. يقف خطيب الجمعة، ويعظ الناس جميعاً، فتجد من الناس من يخفق قلبه، ويبكي، ويتأثر بالموعظة, وتجد آخر، عقله يسرح في أودية الدنيا. يخرج الناس من صلاة الجمعة، فمنهم من اتعظ، وازدجر، وصمم على إصلاح حاله, ومنهم من يخرج وكأن الأمر لا يعنيه، ولسان حاله يقول : (ماذا قال آنفٍا) !



الفائدة الثالثة : بيان الهدايتين؛ هداية الدلالة والبيان,وهداية التوفيق والإلهام, فالذكرى هداية دلالة وبيان، وكون بعضهم يتذكر، وبعضهم يعرض، يدل على هداية التوفيق والإلهام.



الفائدة الرابعة : أن الخشية أساس القبول، لقوله: سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى.



الفائدة الخامسة : العجب من صدود الكافر عن أسباب نجاته: وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى . كما تعجب مؤمن آل فرعون:(وَيَا قَوْمِ مَا لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجَاةِ وَتَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ).



الفائدة السادسة : إثبات النار وشدة عذابها.



الفائدة السابعة : وجوب التزكي والمجاهدة: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى , فإذا كان الفلاح لا يحصل إلا بالتزكي, فالتزكي إذاً واجب. (وَالَّذِينَ جَاهَدُوا فِينَا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنَا).



الفائدة الثامنة : فائدة تربوية مهمة، وهي أن التزكية تحصل شيئاً، فشيئاً, ليس في يوم وليلة ينقلب حال الإنسان من الأسوأ إلى الأحسن. لأن كلمة "تزكى" تدل على أن الأمر يحصل شيئاً فشيئاً. وهكذا الإيمان أول ما يقوم الإيمان في القلب، يكون كالنبتة الصغيرة، ثم لا تزال تمده مادة العلم، والإيمان حتى يصبح شجرة باسقة (أصلها ثابت وفرعها في السماء).



الفائدةالتاسعة: اقتران الاعتقاد بالقول والعمل. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى فبعد أن ذكر التزكية، قال: وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِباللسان، وفَصَلَّى بالجوارح. فالإيمان قول، وعمل؛ قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح.



الفائدة العاشرة : أن سر هلاك الكافر حب الدنيا: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى .



الفائدة الحادية عشرة : أن دين الله واحد: إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى .



. فهذا الذي في القرآن الذي جاء به محمد-صلى الله عليه وسلم- هو الذي في الصحف الأولى: (صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى) لا يختلف، وإنما تتنوع الشرائع .
 
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ *وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ * وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ * وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ * يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ * فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا * وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ * فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا * وَيَصْلَى سَعِيرًا * إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُورًا * إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ * بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ الإنشقاق (1-15)


هذه السورة -سورة (الانشقاق)- هي ثالث السور الأخوات، التي جاءت في حديث (من سره أن ينظر إلى يوم القيامة كأنه رأي عين فليقرأ: ﴿إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ ﴾، ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ ﴾، ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ ﴾) (رواه الترمذي وأحمد وصححه الألباني و حسنه الأرنؤوط).

ذلك أن كل واحدة من هذه السور، ترسم صورة القيامة. فتضمنت هذه السورة مقاصد عظيمة منها:

1- الإيمان بالبعث والقيامة.

2- الإيمان بالحساب والجزاء.

3- الإيمان بالقرآن.

4- ذم منكري البعث والقرآن.


﴿إِذَا السَّمَاءُ انْشَقَّتْ﴾ (إذا): أداة شرط ﴿.. انْشَقَّتْ﴾ أي انفطرت، كما نقول في قوله تعالى: ﴿إِذَا السَّمَاءُ انْفَطَرَتْ﴾ الإنفطار(1) أي انشقت فهما بمعنى واحد. وخير ما يفسر به القرآن هو القرآن. والمقصود بـ ﴿ انْشَقَّتْ ﴾ أي تصدعت، وتمزقت. فهذه السماء المحكمة التي تحدى الله تعالى بها الخلق أن يجدوا فيها أدنى فطور، تتمزق يوم القيامة.


قال الله تعالى: ﴿وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾ أي سمعت. والإذن هو السماع، ومنه قول النبي ﷺ : (مَا أَذِنَ اللَّهُ لِشَيْءٍ مَا أَذِنَ لِنَبِيٍّ حَسَنِ الصَّوْتِ بِالْقُرْآنِ يَجْهَرُ بِهِ.)متفق عليه. فمعنى أذن: أي استمع, و أذنت لربها: أي سمعت وأطاعت, لأن السماع نوعان: سماع إدراك، وسماع إجابة، وطاعة. فالمقصود هنا سماع الإجابة، والطاعة.


﴿حُقَّتْ﴾ يعني: وحق لها أن تطيع, ذلك أن السموات، والأرضين، والجبال، طاعتها لله عز وجل طاعة كونية، بينما الإنسان طاعته لله عز وجل طاعة كونية وشرعية. وهذا معنى قول الله Ü: ﴿إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ ﴾ الأحزاب (72). وليس معنى ذلك أن السموات، والأرضين، والجبال، أبت أن تطيع الله Ü، فالمقام مقام عرض, لكنها لا تطيق حمل الأمانة. وهي منساقة لأمر الله الكوني، دون الشرعي, ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ﴾ لأن الله تعالى أعطاه الاختيار، ولأجل ذلك صار مبتلى بامتثال الشرع، ﴿وَحَمَلَهَا الْإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا﴾ الأحزاب (72)


وليس معنى أن طاعة السماوات، والأرضين، والجبال، لأمر الله Ü هي طاعة كونية، أن هذه المخلوقات لا حقيقة لها، تخاطَب بها, بل يتوجه إليها الخطاب، وترد الجواب، على ما يليق بها. قال الله Ü مخاطبا إياها: ﴿فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ اِئْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ﴾ فصلت (11). فهذا يدلنا على أن لهذه المخلوقات ذات تعبر عنها، لا ندرك كيفيتها، ولا حقيقتها، وتسمع، وتطيع، وتستجيب لأمر ربها، وتسبح بحمده ﴿...وَإِنْ مِنْ شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ...﴾الإسراء (44) فهذا أمر ينبغي أن يؤمن بجملته، وإن لم تدرك تفاصيله.


قال الله تعالى: ﴿ وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ﴾ انتقل المشهد من أعلى إلى أسفل! هذه الأرض التي يدب عليها الإنسان، ويحرثها، ويزرعها، ويعيش في أكنافها، تتغير يوم القيامة: ﴿وَإِذَا الأَرْضُ مُدَّتْ﴾: أي زيد في سعتها، وبسطت، ومدت مد الأديم. فالله Ï يغير السموات والأرض يوم القيامة، كما في قوله Ü: ﴿يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَالسَّمَوَاتُ وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ إبراهيم (48). الأرض التي كانت كروية، تبسط يوم القيامة، وتمد، ويزاد في سعتها، لتستوعب جميع الآدميين، والوحوش، وكل شيء كان على ظهرها، على مر القرون. ومن معنى المد أنه ليس فيها معلم لأحد, بل هي كالخبزة، كما روي عن سهل بن سعد الساعدي، رضي الله عنه، في قوله تعالى: ﴿فَإِذَا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ﴾ (تفسير ابن كثير 8-314), أرض جديدة، لم يسفك عليها دم. قد أعاد الله Ü تكوينها؛ فليس فيها جبل مشرف, ولا واد سحيق، ولا مغارات، ولا كهوف، ولا كثبان, بل هي أرض ممدودة، ليحصل البروز التام لله Ü ﴿...وَبَرَزُوا لِلَّهِ الْوَاحِدِ الْقَهَّارِ﴾ إبراهيم (48).


قال الله تعالى: ﴿وَأَلْقَتْ مَا فِيهَا وَتَخَلَّتْ﴾: يعني قذفت ما في بطنها من الأموات، وغيرهم. و(ما) من ألفاظ العموم، لأنها بمعنى اسم موصول.

﴿وَتَخَلَّتْ﴾: أي تخلت عنهم, كما يقال تخلى الرجل: أي قضى حاجته، وأخرج ما في جوفه. فكأن هذه الأرض تخرج ما في جوفها من الأموات، وغيرهم مما لا يعلمهم إلا الله Ü، فقد ورد في بعض الآثار أنها تلقي ما فيها، حتى أسورة الذهب. لكن المراد أصلاً، إخراج الأموات، وإثبات البعث.


﴿ وَأَذِنَتْ لِرَبِّهَا وَحُقَّتْ﴾: كما أختها السماء, فأذنت: بمعنى سمعت سمع طاعة, وحق لها ذلك.


﴿يَا أَيُّهَا الْإِنْسَانُ إِنَّكَ كَادِحٌ إِلَى رَبِّكَ كَدْحًا فَمُلَاقِيهِ﴾: الكدح: هو العمل الذي فيه مشقة واتصال, فأنت أيها الإنسان في هذه الحياة تكدح كدحًا شاقًا متواصلاً يوشك أن تلاقيه, و للمفسرين قولان في مرجع الضمير في قوله ﴿فَمُلَاقِيهِ﴾: منهم من قال أن مرجع الضمير إلى العمل أي: فملاقى ذلك العمل، الذي كدحت فيه, ويشهد له قول الله تعالى: ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ..﴾آل عمران (30). ومنهم من قال: إن مرجع الضمير إلى الله Ï. وهذا الثاني أرجح. وبين المعنيين تلازم؛ فإن هذا العمل يُكدح به إلى الله Ü، فيخلو الله تعالى بعبده، ويوقفه على عمله، فيحصل اللقاء. وقد ذكر الشيخ الإسلام ابن تيمية، رحمه الله، أن الملاقاة فيها معنى السير إلى الملك، فلا تكون ملاقاة إلا بسير وقصد.

فليعلم الإنسان أن الكدح لابد منه, وان الدنيا ليست بدار نعيم، فإن كنت لابد كادحًا، فاجعل كدحك فيما تحمد عاقبته في الآخرة. وهاهم الكفار على اختلاف مللهم, يلحقهم من الشقاء، والنكد، والكبد، مثل ما يلحقنا أيضا, وأشد، لكن فرقُ ما بين المؤمن والكافر، أن المؤمن يرجو ما عند الله ويحتسب، ويعمل عملا صالحا.


ثم إنه Ï بين أحوال الناس فقال: ﴿فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِيَمِينِهِ * فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا * وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ ابتدأ بالصنف الأسعد، والأحظ، وهو من يؤتى كتابه بيمينه، من أهل اليمين, وذلك أن الكتب يوم القيامة تبرز, فآخذ كتابَه بيمينه، وآخذ كتابَه بشماله، من وراء ظهره. وقد ذكر الله تعالى هذا أيضًا في سورة (الحاقة) في قوله: ﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ بِشِمَالِهِ فَيَقُولُ يَا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتَابِيَهْ﴾ الحاقة (25).


﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ هذا الحساب اليسير، المراد به العرض, وهو الذي دل عليه حديث ابن عمر÷ مرفوعًا، كما في صحيح مسلم « يُدْنَى الْمُؤْمِنُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ مِنْ رَبِّهِ عَزَّ وَجَلَّ، حَتَّى يَضَعَ عَلَيْهِ كَنَفَهُ، فَيُقَرِّرُهُ بِذُنُوبِهِ، فَيَقُولُ: هَل تَعْرِفُ؟ فَيَقُولُ: أَىْ رَبِّ أَعْرِفُ, قَالَ: فَإِنِّى قَدْ سَتَرْتُهَا عَلَيْكَ فِى الدُّنْيَا، وَإِنِّى أَغْفِرُهَا لَكَ الْيَوْمَ. فَيُعْطَى صَحِيفَةَ حَسَنَاتِهِ. وَأَمَّا الْكُفَّارُ، وَالْمُنَافِقُونَ، فَيُنَادَى بِهِمْ عَلَى رُءُوسِ الْخَلاَئِقِ: هَؤُلاَءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ » (متفق عليه). وأما المناقشة فأشد منه, ويبين الفرق بين الأمرين أن عائشة، رضي الله عنها، سمعت النبي ﷺ يقول « مَنْ حُوسِبَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ ». فَقُلْتُ: أَلَيْسَ قَدْ قَالَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: ﴿فَسَوْفَ يُحَاسَبُ حِسَابًا يَسِيرًا﴾ ؟ فَقَالَ: « لَيْسَ ذَاكِ الْحِسَابُ، إِنَّمَا ذَاكِ الْعَرْضُ. مَنْ نُوقِشَ الْحِسَابَ يَوْمَ الْقِيَامَةِ عُذِّبَ » (متفق عليه).

وذلك أن الموحدين على صنفين؛ منهم من سبقت لهم من الله الحسنى، وشاء الله تعالى، أن يغفر ذنوبه, فهذا يعامل بالعرض. ومنهم من عصاة الموحدين، من يدقق معه، ويحقق، وسبق في مشيئة الله Ü أن يُعذَّب بقدر ذنبه، ومآله إلى الجنة, فهذا الذي يعامل بالمناقشة. فمن نوقش عُذِّب، لأنه ما دقق معه في الحساب، إلا لتقوم عليه الحجة التامة, لكن مآله إلى الجنة.


﴿وَيَنْقَلِبُ إِلَى أَهْلِهِ مَسْرُورًا﴾ ينقلب بمعنى يرجع, وأما أهله، فقد ذكر الطبري في تفسيره، أنه ينقلبُ إلى أهله من الحور العينِ، وأقربائه من المؤمنين، بحالة من السرور والحبور. وحق له أن يُسَر، وقد نجا، وزحزح عن النار، وأدخل الجنة. هذه هي السعادة الحقيقة التي ما بعدها سعادة. ثم قال في القسم الثاني من التفريع:


﴿وَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتَابَهُ وَرَاءَ ظَهْرِهِ﴾ عياذا بالله, وقال Ü في سورة (الحاقة) ﴿..بِشِمَالِهِ.. ﴾ (الآية 25) ولا تعارض بين الصورتين, ذلك أن الكافر والعياذ بالله تُغل يمناه إلى عنقه، وتلوى يده اليسرى من وراء ظهره، ويؤتى كتابه بشماله. وفي هذا من البشاعة، والشناعة، ما لا يخفى. وفيه ازدراء له واحتقار.


﴿فَسَوْفَ يَدْعُو ثُبُورًا﴾: أي ينادي بالهلاك، والثبور يقول: (وا ثبوراه، وا ثبوراه) وصدق! أي ثبور أشنع، وأشد، من هذا الثبور؟


﴿ويَصْلَى سعيرا﴾ وورد في قراءة نافع، وابن كثير، وابن عامر، والكسائي ﴿وَيُصَلَّى سَعِيرَا﴾ بضم الياء، وفتح الصاد، وتضعيف اللام. وذلك أنه يدخل في النار حتى تحرقه، وتشويه, والسعير: اسم من أسماء النار، وذلك لتسعرها بالحجارة والناس, ﴿...وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ... ﴾البقرة (24). ثم وصف الله Ï حاله في الدنيا: ﴿إِنَّهُ كَانَ فِي أَهْلِهِ مسرورًا﴾: أي أنه كان في الدنيا مسرورًا, كان فرِحًا، أشِرًا، بطِرًا، لا يبالي، ولا يصدِّق ببعث، ولا جنة، ولا نار، ولا يؤمن بشيء.


﴿إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ﴾, ظن: أي أيقن. أن لن يحور: أي أن لن يرجع إلى ربه, إذ كان منكِرًا للمعاد.


رد الله تعالى: ﴿بَلَى إِنَّ رَبَّهُ كَانَ بِهِ بَصِيرًا﴾ فالله Ï أخبرُ به، وأبصرُ.


ثم إن الله تعالى قال: ﴿فَلَا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾ وكلام المفسرين في معناها: أن يكون معنى النفي: أن الأمر لا يحتاج إلى قسم، فهو من البيان بمكان, أو أن يكون على سبيل الوقف، بتقديرٍ محذوف: يعني ﴿فلا﴾ أي فليس الأمر كما تدعون, ثم ﴿أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ﴾. وإما أن يقال أنها زيادة من باب التأكيد، فهي زائدة لفظًا، لا معنى. والشفق هو الحمرة التي تعقب غروب الشمس. وقال مجاهد في تفسيره، إن الشفق النهار كله (تفسير مجاهد 1-493), والأول أولى. وإنما قال المراد به النهار كله، ليكون بمقابل ﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾. وقد جاء في حديث أبي مسعود الأنصاري، عندما علَّم جبريل النبيَّ e وقت صلاة المغرب، قال: (..ثُمَّ أَتَاهُ حِينَ غَابَ الشَّفَقُ الأَحْمَرُ..) (المعجم الكبير للطبراني 12-223). فهو علامة كونية شرعية.


﴿وَاللَّيْلِ وَمَا وَسَقَ﴾ الليل: من مغيب الشمس، إلى طلوع الفجر. ﴿..وَمَا وَسَقَ﴾: أي ما جمع، وحوى، ولف، ونحو هذه الكلمات, لأن هذه المادة –وسق- تدل على الجمع. ولهذا أطلق على الوعاء الكبير، الوسق، فهو يدل على الجمع. يقسم الله، سبحانه، بالشفق، ويقسم بالليل، وما جمع الليل، مما يسكن فيه من أنواع الكائنات ﴿وَلَهُ مَا سَكَنَ فِي اللَّيْلِ... ﴾الأنعام (13). ولو سرح الإنسان بفكره في هذا، لذهب به الخيال إلى معانٍ لا حصر لها، فيما يجمعه هذا الليل، من أحداث، وموجودات، وتصرفات وغيرها.


﴿وَالْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ﴾ إذا اتسق: يعني إذا اكتمل، أو إذا استدار, وذلك يكون في الليالي البيض, وهن: ليلة ثلاث عشرة، وأربع عشرة، وخمس عشرة, فهو قَسم بالقمر، في أكمل أحواله، حينما يكون بدرا. ولله تعالى أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.


﴿ لَتَرْكَبُنَّ طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ هذا جواب القسم, فاللام وقعت في جواب القسم (لتركبُن), هذه هي القراءة المشهورة؛ بضم الباء, وأصلها (لَتَركَبُونَنَّ) فجرى فيها حذف النون، لتوالي الأمثال، فأصبحت (لَتَركَبُونَّ), وحذفت الواو لاجتماع الساكنين، فصارت (لَتَركَبُنَّ). والمخاطب عموم الناس. ووردت بفتح الباء، على قراءة ابن كثير، والكسائي، وخلف، وحمزة، فيكون المخاطب بها، النبي ﷺ.


﴿..طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ هذا من بلاغة القرآن العجيبة، وجمعه لأنواع المعاني, ﴿..طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾ أي حالاً بعد حال, وذلك أن الناس -على القراءة المعروفة (لتركبُن)- تتنوع أحوالهم من الناحية الخِلقية، ومن الناحية القدرية، تنوعا عجيبًا, فإن أحدهم كان ترابًا، ثم صار نطفة، ثم علقة، ثم مضغة، ثم عظامًا، ثم صار جنينًا، ثم أُخرج إلى الأرض رضيعًا، ثم فتى يافعًا، ثم كهلاً، ثم شيخًا، ثم يموت، ثم يبعث. هذه أطباق متوالية. وقيل ﴿..طَبَقًا عَنْ طَبَقٍ﴾: أي سماءً بعد سماء, وهذا يتفق مع القراءة الثانية في توجيه الخطاب إلى النبي ﷺ, وكأن في هذا إشارة إلى ما أكرمه الله تعالى به من العروج إلى السماوات العُلى, ففسرت بأطباق السماء ﴿الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طِبَاقًا ﴾الملك (3) فسماء فوق سماء.


﴿فَمَا لَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ﴾ هذا استفهام إنكاري يتضمن التعجيب من حالهم، وكفرهم بالبعث, فكيف لا يؤمنون به، وهم يرون أن الله Ü، قد نقلهم من طبق إلى طبق، ومن حال إلى حال, فالذي خلقهم من العدم، وأخرجهم من بطون أمهاتهم، وتقلبوا في أحوال الدنيا طبقًا عن طبق, قادر على أن يبعثهم. فلهذا جاء التعجيب في مكانه.


﴿ وَإِذَا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآَنُ لَا يَسْجُدُونَ﴾ القرآن كلام الله، الذي تكلم به حقيقة، بكلام حقيقي، لا يشبه كلام المخلوقين, ليس هو المعنى دون الصوت، ولا الصوت دون المعنى، بل هو كلام حقيقي من حرف وصوت, لا يكون كلامًا إلا بذلك. لكنه كلام عظيم، شريف، حتى إذا تكلم سبحانه أخذت السماواتِ من كلامه Ü رجفةٌ، وصعق الملائكة ﴿حَتَّى إِذَا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قَالُوا مَاذَا قَالَ رَبُّكُمْ قَالُوا الْحَقَّ وَهُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ﴾سبأ(23) فينزل به جبريل عليه السلام، إلى قلب محمد ﷺ, ويعتري رسولَ الله ﷺ من الجهد، الشيءُ العظيم, حتى إنه ليتفصد عرقًا في اليوم شديد البرد, وحتى إنه يثقل بدنه، حتى بركت به ناقته ذات مرة, وكانت فخذه مرة، على فخذ زيد بن ثابت فكادت أن ترض. كل ذلك من شدة الوحي وثِقَله, كما قال تعالى: ﴿إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا﴾المزمل (5) وهم يبصرون ذلك، ويشتد أثره على النبي ﷺ, حتى إنه كان يسمع له صلصلة كصلصلة الجرس، حينما ينزل عليه الوحي, ولولا أن الله Ï قواه، ما استطاع أن يتلقى هذا الكلام الثقيل العظيم. وهذه أحد مواضع سجود التلاوة المتفق عليها.


﴿بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ﴾ الذي يمنعهم من تعظيم القرآن، والسجود للمتكلم به، سبحانه، هو التكذيب, فكونهم يكذبون بالبعث، ويكذبون بالقرآن، ولا يرونه من عند الله Ü, لا يحصل لهم هذا التعظيم، والإجلال، والخشوع، الذي يحصل لعباد الله المؤمنين، من جنس قول الله :Ü ﴿إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾الإسراء (107-109) هذان مثالان على اختلاف الاستقبال بين الناس؛ قوم لا يرفعون به رأسًا، ولا يسجدون له إذا أُمروا, وقوم إذا سمعوه خروا سجداً, وعلموا أن هذا القول قول كريم، ليس كسائر كلام الناس, وتجيش قلوبهم وتستجيب جوارحهم ﴿..يَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ سُجَّدًا * وَيَقُولُونَ سُبْحَانَ رَبِّنَا..﴾ -تنزيها له- ﴿..إِنْ كَانَ وَعْدُ رَبِّنَا لَمَفْعُولًا * وَيَخِرُّونَ لِلْأَذْقَانِ يَبْكُونَ وَيَزِيدُهُمْ خُشُوعًا﴾ فهذا الخشوع نابع من العلم بالله Ü.


﴿وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ﴾ بما يوعون: أي بما يشتركون، ويجمعون من الأعمال، لأن الوعي بمعنى الجمع.


﴿ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ الأصل في البِشارة أن تكون للأمور السارة، والنِذارة للأمور الضارة, لكن البِشارة يعبر بها أحيانًا عن الأمور المخوفة, وذلك لأن الأثر يظهر على البَشرة, فسميت البشارة لذلك؛ فإذا سر الإنسان تهلل وجهه، وإذا خاف اصفر وجهه, فالبَشرة مرآة القلب, ويكون التعبير هنا من باب النِكاية بهم ﴿فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ﴾ فجعل البِشارة في موضع النِذارة، تبكيتًا لهم، وليكون أبلغ في وقعه عليهم.


﴿إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ﴾ استثنى الله تعالى استثناءً منقطعًا، لأنهم أصلاً غير داخلين في ذلك الوعيد, فـ (إلا) هنا بمعنى بل.

﴿لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ﴾ أي غير مقطوع، ولا ممتن به عليهم, لهذا قال الله :Ü ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آَمَنُوا لَا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى ﴾البقرة(264) فمن كرامة الله Ü لعباده المؤمنين، أنه يجعل رزقهم غير ممنون.



الفوائد المستنبطة من السورة:


أولا: فيها شدة أهوال يوم القيامة.

ثانيا: بيان ربوبية الله Ü . فالله تعالى رب السماوات، والأرَضين، وما، ومن فيهما؛ من مؤمن، وكافر، وبر، وفاجر، وكل ساكن، ومتحرك، ورطب، ويابس, هو خالقُه، ومليكُه، ومدبره، فهذه الربوبية العامة. وأما ربوبية الله لعباده المؤمنين، فإنها ربوبية خاصة، فيها معنى اللطف، والتيسير، والحفظ، ونحو ذلك.

ثالثا: إثبات البعث.

رابعًا: بيان حال الإنسان في الدنيا، وهو الكدح، والكبَد. فلا ينتظر الإنسان في هذه الدنيا نعيمًا.

خامساً: إثبات الحساب وتنوعه.

سادساً: كمال عدل الله ورحمته, فالله Ü حكم عدل، مقسط، لا يظلم مثقال ذرة.

سابعًا: شؤم عاقبة المنكرين للبعث.

ثامناً: إقسام الله Ü بما شاء من مخلوقاته, وليس للمخلوق إلا أن يقسم بالله Ü.

تاسعاً : تنوع أحوال الناس في الدنيا، والآخرة.

عاشرًا: التعجيب من حال المنكِرين للبعث.

أحد عشر: عظمة القرآن، ووجوب الإيمان به, وأنه كلام الله حقا.

ثاني عشر: سبق علم الله Ü وقدره.

ثالث عشر: حسن عاقبة المؤمنين.

رابع عشر: أن العمل من لازم الإيمان ومقتضاه فالله Ü لا يكاد يذكر الإيمان إلا ويقرنه بالعمل. فمن ادعى إيمانًا بقلبه، ولم يصدقه بعمله، فدعواه كاذبة. إن كان الإيمان حقًا في القلب، فلابد أن يظهر على الجوارح. ولهذا نجد أن بعض الفساق المسرفين على أنفسهم, إذا نُصحوا، ووُعظوا، قال قائلهم: التقوى هاهنا. التقوى هاهنا, يتمثل قول النبي ﷺ (رواه مسلم 4650). فيقال له: لو كانت التقوى في القلب، لظهرت على الجوارح, من اتقى الله تعالى حقًا وصدقًا، عصم لسانه، وجوارحه، عن الوقوع فيما حرم الله Ü, والله أعلم.
 
التفسير العقدي لجزء عم

التفسير العقدي لجزء عم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة الغاشية

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم



بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ *وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ * عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ * تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً * تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ * لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ * لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ * وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ * لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ * فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ * لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً * فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ * فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ * وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ * وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ * وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ * أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ * فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ * لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ * إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ * إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ ﴾



سبب التسمية:

سميت سورة "الغاشية" بهذا الاسم، لورود هذا اللفظ فيها: ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾, ولأن النبي r سماها كذلك. فهذه من السور التي سماها النبي r بنفسه. وسور القرآن منها ما وردت تسميته على لسان النبي r ، فتكون توقيفية, ومنها ما سمته الصحابة y، واشتهر بينهم.

ولهذا قد نجد للسورة الواحدة أكثر من اسم؛ كما يقال مثلاً: سورة الإسراء، أو يقال سورة بني إسرائيل, وسورة محمد، أو سورة القتال, وسورة براءة، أو سورة التوبة وهكذا. وهذه السورة، كما السورة السابقة "سبح"، كان النبي r يقرأ بهما في الجمعة، والعيدين، حتى إنه ربما اجتمع يوم عيد، ويوم جمعة، فقرأ بهما في الصلاتين(مسلم 3-15), وما ذاك إلا لما تضمنته هاتان السورتان من المعاني الجليلة، والمواعظ البليغة.

من أهم مقاصد هذه السورة:

- المقصد الأول: تقرير الإيمان بالبعث، والجنة والنار. وهي القضية التي كان ينازع فيها مشركو العرب, القضية التي تؤثر تأثيراً بالغاً في مجرى الحياة، وسلوك الإنسان, فإن إيمان المرء بالبعث، والجزاء، والجنة، والنار, هو الذي يحدد مساره، ويجعله مؤمناً أو كافراً. فمن أقر بالبعث، وبوعد الله، ووعيده، بحث عما يرضي ربه، كي يسلم من وعيده، وينال موعوده. ولهذا كانت هذه القضية فيصلاً بين المؤمنين والكفار, ومَفرِق طريق بين الأبرار والفجار. كما أن أهل الإيمان، أنفُسَهم، يتفاوتون بقدر إيمانهم بها؛ فمن كان قلبه معموراً بالإيمان بالبعث، والجنة، والنار، انضبط، واتقى الله Ü, ومن كان ضعيف الإيمان بهذه القضية، كثير الذهول عنها, فإنه يقع في المعاصي ويجترح السيئات. وهذا أمر مشاهد تجده في نفسك, فكلما قوي في قلبك الإيمان باليوم الآخر، ازدجرت عن المعاصي، وخفَّت نفسك إلى الطاعات, لأنك ترى أنك تدَّخر ليوم آت, وإذا خف ذلك في نفسك، وغاب، فإنك تقتحم المعاصي، وتفرط في الواجبات. ولهذا كان النبي r يقول: (أكثروا من ذكر هادم اللذات الموت)(ابن حبان وحسنه الأرنؤوط).

ويقال إن رجلاً سب عمر بن عبد العزيز-رحمه الله-فلما هم أن يرد عليه قال: "لولا اليوم الآخر لأجبتك". فإذا شعر الإنسان باليوم الآخر, أحجم عن كثير من الكلام, وكف عن كثير من الفعال, لأنه يعلم أن ذلك في صحيفته وأنه سيلقاه. ﴿يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ مَا عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَرًا وَمَا عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَهَا وَبَيْنَهُ أَمَدًا بَعِيدًا..﴾(آل عمران-30).

- المقصد الثاني: إثبات الألوهية بدلائل الربوبية, وهذا منهج قرآني رصين، وكثير، في كتاب الله Ü.

- المقصد الثالث: بيان وظيفة الرسل، وهي الذِّكْرَى كما تقدم في سورة الأعلى.



﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾: ﴿هَلْ﴾ قال بعض المفسرين أنها استفهامية, وليس المراد بالاستفهام من الله Ü ما كان ناشئاً عن جهل حاشا وكلا, وإنما أريد به التقرير ولهذا قال البعض الآخر معنى ﴿هَلْ﴾: أي قد أتاك حديث الغاشية فيكون مآل الاستفهام إلى التقرير وقد ورد فيما روي عن النبي r (أنه سمع قارئاً يقرأ ﴿هَلْ أَتَاكَ حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾ قال نعم قد أتاني).

﴿حَدِيثُ الْغَاشِيَةِ﴾: الحديث هنا بمعنى الخبر, والغاشية هي القيامة, سميت بذلك، لأنها تغشى الخلائق بأهوالها، أي تغطيهم, فمعنى الغشي: التغطية, يقال: غُشي عليه، أو مَغشي عليه، إذا غُطِّي على عقله, وتغشاه بالثوب يعني غطاه, وقيل بالإضافة، بمعنى أن (الغاشية) غاشية القيامة، أوغاشية النار. فإذا قلنا غاشية القيامة، فإنها تشمل كل شيء, وإذا قلنا غاشية النار، فهي مضافة إلى النار. وهذا مأثور عن بعض السلف. فمعنى ذلك أنها تختص بالكافرين دون غيرهم. والأولى الحمل على العموم، لما أن الله تعالى عمَّم. وهو اختيار ابن جرير الطبري ‘ . وبهذا يتبين أن من أسماء القيامة الغاشية.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خَاشِعَةٌ﴾: هذا بيان أثر الغشي, وعُبر بالوجوه عن الذوات، لأن الوجه هو أهم ما في الإنسان، وهو الذي تظهر عليه الانفعالات؛ من الفرح, والحزن, والدهشة, والأسى, وغير ذلك، فإنه يتضح على قسمات الوجه. ومعنى ﴿خَاشِعَةٌ﴾ أي ذليلة، كما قال الله تعالى: ﴿وَمِنْ آَيَاتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خَاشِعَةً﴾(فصلت 39): أي هابطة. فالخشوع فيه معنى الذل، والخضوع، والهبوط. فوجوه الكافرين، والعياذ بالله، تكون ذليلة، منكسرة، مطأطأة. وليس المراد بالخشوع هنا الخشوع المحمود، من جنس قول الله تعالى: ﴿الَّذِينَ هُمْ فِي صَلَاتِهِمْ خَاشِعُونَ﴾(المؤمنون-2), فإن الكافرين لما لم يقع منهم خشوع في الدنيا، وقع عليهم الخشوع في الآخرة. وأهل الإيمان لما خشعوا لله تعالى في الدنيا، نضر الله وجوههم في الآخرة, فلا يجمع الله على عبد بين مخافتين,ولا يجمع له بين أمنين؛ فمن أمنه في الدنيا، أخافه في الآخرة، ومن خافه في الدنيا، أمنه في الآخرة.

﴿عَامِلَةٌ نَاصِبَةٌ﴾: معنى﴿عَامِلَةٌ﴾ أي أصحاب هذه الوجوه، وهم الكفار، يكلفون الأعمال الشاقة في النار؛ من جر السلاسل، والأغلال التي تكون في أعناقهم, وهذا أشد ما يكون من الحبس، حتى في الدنيا، إذا أرادوا أن يغلظوا في عقوبة الحبس، يقولون: مع الأشغال الشاقة، قال تعالى :﴿إِذِ الْأَغْلَالُ فِي أَعْنَاقِهِمْ وَالسَّلَاسِلُ يُسْحَبُونَ * فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ﴾(غافر-71), ومعنى ﴿نَاصِبَةٌ﴾: أي ذات نصب، وتعب.

﴿تَصْلَى نَارًا حَامِيَةً﴾: "تَصلى" بفتح التاء، أو بضمها "تُصلى" قراءتان, ومعنى ﴿حَامِيَةً﴾ أي شديدة الحرارة. فهي تحرق في النار، والعياذ بالله، فتحترق بها، وتمتحش من وهجها ولفحها.

﴿تُسْقَى مِنْ عَيْنٍ آَنِيَةٍ﴾: الساقي ملائكة العذاب, والعين الآنية: هي المتناهية في الحرارة، التي بلغت في الغليان غايته. وقيل في معنى ﴿آَنِيَةٍ﴾: أي حاضرة، يعني كأن هذا الماء بمجرد ما يطلبونه، يكون مهيئاً، كما وصف الله Ï في سورة الكهف: ﴿إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ..﴾(الكهف-29) فكلما بلغ منهم العطش مبلغه, و استسقوا أتوا بالماء في حينه, فما إن يقربوه إلى أفواههم، حتى تسقط جلدة وجوههم فيه, وذلك لشدة حرارتها، أجارنا الله وإياكم.

﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾: لما ذكر الشراب، ذكر الطعام، وهو الضريع. الضريع: نبات من الشوك، تعرفه العرب، ليس فيه ورق، وتعافه الدواب. فسماه الله Ü بهذا الاسم، لدلالته على معنى سوء, وتسميه العرب الشبرق, واليابس منه هو الضريع, وقيل:إنه شجر من نار. فالله أعلم بكيفيته، لكنه الطعام المتاح لهم؛ شوك يزدردونه، فيقع لهم من الأذى، من جراء تجرعه، الشيء العظيم.

﴿لَا يُسْمِنُ وَلَا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ﴾: فهو لا يسمن منه آكله, ولا يقضي منه نهمته, أو يحس بالامتلاء, ولا يسكن ما يجد من الشعور بالجوع. والشعور بالجوع مؤلم، يعرف ذلك من جربه, فيجتمع عليهم هذا الشراب متناهي الحرارة, وهذا الطعام الشوكي، الحارق لأجوافهم.

﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾: ما أعظم النقلة بعد هذا المشهد الرهيب، وبعد هذا العذاب الوبيل، الذي دل على النكد الحسي، والمعنوي, إلى صورة مقابلة على النقيض تماماً فقال: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاعِمَةٌ﴾ تلك وجوه المؤمنين ومعنى ﴿نَاعِمَةٌ﴾: أي حسنة نضرة كما قال الله تعالى: ﴿وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ * ضَاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ * وَوُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْهَا غَبَرَةٌ * تَرْهَقُهَا قَتَرَةٌ﴾(عبس-38), فعبر Ü بالوجه عن الذات، لكون الوجه هو مظهر الفرح، أو الحزن, والبؤس، أو النعيم.

﴿ لِسَعْيِهَا رَاضِيَةٌ﴾: أي لسالف عملها في الدنيا, ﴿رَاضِيَةٌ﴾: أي حامدة لثوابه في الآخرة, فهي قد سعت في الدنيا، وحمدت سعيها في الآخرة .

﴿فِي جَنَّةٍ عَالِيَةٍ﴾: العلو هنا حسي، ومعنوي, فالجنة من أعلى المخلوقات، وفوقها عرش الرحمن, وعرش الرحمن: سقف الجنة, وبحسب حال المؤمن ومرتبته في الإيمان، تكون منزلته في الجنة. فلهذا كان الفردوس أعلى الجنة ووسط الجنة, ومنه تفجر أنهار الجنة, فهي عالية في نعيمها وفيها من النعيم أعلاه. وقد ثبت في سنن الترمذي من حديث أبي هريرة t مرفوعا: (أعددت لعبادي الصالحين مالا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر وتصديق ذلك في كتاب الله عز و جل ﴿فَلَا تَعْلَمُ نَفْسٌ مَا أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزَاءً بِمَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾(السجدة-17)) (الترمذي 5-346) قال الألباني:صحيح.

﴿لَا تَسْمَعُ فِيهَا لَاغِيَةً﴾:أي لا يسمع في هذه الجنة أي كلمة من لغو، أو باطل. وياله من جو نقي، لا تسمع فيه كلمة زور، ولا هجر من القول! وهذا لا يحصل في الدنيا بحال، فهي مليئة باللغو, والفحش, والزور, والكذب, والبهتان, أما تلكم الجنة العالية، فبريئة نقية من كل ذلك.

﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾: النفس تحب الماء ومنظره، وجريانه، وتستروح له, فإذا سمع الناس بماء سارح، أو مجتمع، في جهة من الجهات، شدو إليه الرحال وذهبوا ينظرون إليه, وإذا كان في بلادهم أنهار قصدوها. ولهذا قال فرعون عن دنياه ﴿..وهذه الأنهار تجري من تحتي..﴾(الزخرف-51) . فلما علم الله Ü أن هذا من ملاذّ عباده, قال في وصف الجنة: ﴿فِيهَا عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾ فمعنى ﴿عَيْنٌ جَارِيَةٌ﴾: العين: نبع الماء. وجارية : سارحة. وليس المقصود بها عين واحدة، وإنما جنس العيون, فهي عيون سارحة تجري على أرض الجنة. كما أنها ليست كأنهار الدنيا، لا تجري إلا بأخاديد انحفرت على مر الزمن.

﴿فِيهَا سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾: ﴿سُرُرٌ﴾: المقصود بها ما يجلس عليه الإنسان، ويتكأ عليه. ومعنى ﴿مَرْفُوعَةٌ﴾: أي ذاتاً، وقدراً، ومحلاً, فهي رفيعة في ذاتها التي خلقها الله تعالى عليها, وفي صفتها، وفي محلها. فهي في الجنة، التي هي (عِلِّيُّون), والنفس تميل إلى الرفعة، والإطلال على ما دونها, فالأنهار من تحتهم، وهم من فوقها مشرفون عليها, وهذا غاية ما يكون في التنعم، والمنظر الحسن.

﴿وَأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾: ما أحسن التقابل, السرر مرفوعة، والأكواب موضوعة! والمراد بقوله : ﴿َأَكْوَابٌ﴾: الأقداح التي لا عُرَى لها, هذه هي الأكواب في لغة العرب، وتكون للشرب, ﴿مَوْضُوعَةٌ﴾: أي مقربة، مهيأة، معدة لهم, فكلما أرادوا الشراب، كانت في متناولهم .

﴿وَنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾: ﴿نَمَارِقُ﴾: جمع نمرقة, والمراد بها الوسائد, ومعنى ﴿مَصْفُوفَةٌ﴾: أي مرصوص بعضها إلى جنب بعض, وهذا ما يطلبه أهل الترف، والثراء, فترى أحدهم في مجلسه وقد جلس بين كمية من الوسائد، يرتفق بها يميناً، وشمالاً, ويتكأ عليها، ويستند, فكذلك أهل الجنة، عندهم وسائد متراصة، يستندون عليها، ويتكئون، ويرتفقون، أي يضعون عليها مرافقهم. فهذه الوسائد تحفهم من كل جانب. ومهما بلغ بنا الخيال لا يمكن أن نتصور هذا النعيم الحسي، وهذا اللذة، والسرور، والحبور الذي يعيشون فيه, لكنه اللفظ يقرب المعنى للذهن.

﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾: ﴿وَزَرَابِيُّ﴾: المراد بها البُسط, وما تسميه العرب بالطنافس, التي يكون لها خمائل خاصة. ومعنى ﴿مَبْثُوثَةٌ﴾: أي أنها كثيرة، منتشرة. فحيثما توجهوا، تستقبلهم هذه الزرابي مفروشة، معدة لهم.

هذا حال أهل الجنة، بإزاء حال أهل النار! وشتان ما بين الصورتين. منظران متقابلان، بينهما بعد المشرقين! وحالان متباينان؛ حال أهل النار, ما يعانونه من أنواع العذاب الحسي، والمعنوي, وحال أهل الجنة، وما يتقلبون به من أنواع اللذائذ، والنعيم الحسي، والمعنوي.

﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ﴾: هذا الاستفهام للإنكار، والتعجيب من حالهم, ومعنى ﴿ينظرون﴾: ليس المقصود يبصرون البصر المعتاد, وإنما نظر التفكر والاعتبار, وإلا فهم ينظرون إلى الإبل صباح مساء، لأنها كانت أنفَس أموالهم. ومن تأمل في خلقة الجمل، وجد أن خلقته مميزة من بين سائر الحيوانات, هذا الظهر المسنم, وهذه الرقبة الطويلة, تفارق كثيراً من أنواع الحيوانات. وفي هيئته تلك ما تجعله مهيئاً للركوب, ولحمل الأشياء الثقيلة, وتحمل العطش والمشاق. وهذا الوبر جعله الله تعالى على جسمه، وقاءً له في الشتاء, وسبباً لعدم فقده للماء وتبخره، في الصيف.

﴿وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ﴾: نقلة أخرى، ومشهد جديد, هذه السماء المبنية، خَلق عظيم, سقف مرفوع، لا نرى له عمداً ﴿..بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا..﴾(الرعد-2), ولهذا قيل إن معنى قوله ﴿.. بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا..﴾ أنه لا يوجد عمد أصلاً،كما يروى عن ابن عباس، ومجاهد, وقيل بل ثَمَّ عمد، لكنها غير مرئية، كما روي عن إياس، وقتادة, ويكون رفعها بهذه القوانين الكونية الطبيعية، التي خلق الله تعالى عليها هذا الكون، فهذا البناء الشاهق, هذه السبع الشداد، لا تقع على الأرض. ﴿..وَيُمْسِكُ السَّمَاءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلَّا بِإِذْنِهِ..﴾(الحج-65) ه﴿إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ أَنْ تَزُولَا..﴾(فاطر-41), فالله تعالى هو الممسك لها, فلو شاء الله لوقعت، وسحقت الخلق كلهم.

﴿وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ﴾: الجبال خلق عظيم, وكثيراً ما يقرن الله تعالى بين السماء، والأرض، والجبال, ﴿..كَيْفَ نُصِبَتْ﴾ النصب يكون للخيمة, وذلك أن هيئة الجبل، كهيئة الخيمة, مسنم، وله في الأرض جذور راسخة. ولهذا قال في سورة (عم) ﴿وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا﴾(النبأ-7). وحينما يقف المرء أمام الجبل، يشعر بالتصاغر أمام هذا الخلق العظيم, وقد يكون جبلاً من أصغر الجبال, فكيف إذا كان من الجبال الشاهقة، التي يقاس ارتفاعها بالكيلومترات, الله أكبر! هذه الجبال تسبح الله ﴿يَا جِبَالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَالطَّيْرَ﴾(سبأ-10) فهذه الجبال تسبح الله Ü وتخشاه، وتعظمه، وتشفق من حمل الأمانة.

﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾: نقلة من أعلى إلى أسفل، هذه الأرض التي ندُب عليها, وتعيش عليها مختلف الخلائق، كيف سطحها الله تعالى، وجعلها مهيأة للعيش فيها، والسير في أرجائها؟! وقد استدل بعض العلماء، ومنهم السيوطي ‘، على أن الأرض مسطحة، وليست كروية، وأنقل لكم كلامه, قال:

"ظاهر قوله: ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ ظاهر في أن الأرض سطح, وعليه علماء الشرع، لا كرة، كما قاله أهل الهيئة – يقصد أهل الجغرافيا, واسمها الصحيح الهيئة - وإن لم ينقض ركناً من أركان الشرع"ا.هـ احترز ‘ أن الإنسان لو اعتقد أنها كرة, فإن ذلك لا ينقض ركناً من أركان الشرع, واستدل بالآية على أن الأرض مسطحة, ولكن لا ريب أنها كروية, وقوله ‘ "عليه علماء الشرع"، ليس مسلماً، بل عليه بعضهم, فإن شيخ الإسلام بن تيمية -رحمه الله- وهو سابق له، كان يصرح بكروية الأرض. ومما يستدل بها على كرويتها قول الله تعالى: ﴿..يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهَارِ وَيُكَوِّرُ النَّهَارَ عَلَى اللَّيْلِ..﴾(الزمر-5), والليل والنهار إنما يقعان على الأرض، ففي حركتهما، وتبناوبهما، ينشأ هذا الشكل الكروي, ثم إن الحس والواقع يقطعان قطعاً جازماً أنها كروية. والجمع بين هذا، وبين قول الله تعالى: ﴿وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ﴾ إن هذا بحسب نظر الناظر، يرى الأرض مسطحة، حتى ينقطع بصره بخط الأفق, ومما يدلك على أنها كروية أنك إذا أقبلت على جهة من الجهات، فإنك أول ما ترى منها عاليها, ترى، مثلاً، رؤوس المآذن, أو رؤوس الجبال, فكلما اقتربت نزل البصر إلى ما دون ذلك.

﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾: التذكير: الدلالة على الحق، المصحوب بالموعظة التي تحرك القلوب، ﴿إنما﴾ أداة حصر يعني: أن مهمتك، ووظيفتك هي البلاغ، والذكرى.

﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ ﴾: يعني على المخاطبين من المشركين ﴿..بِمُصَيْطِرٍ﴾ يعني بمتسلط، وجبار. والقراءة المشهورة بالصاد، كما عند عاصم، ونافع، وابن كثير، وأبي عمرو, ولكن ثم قراءة بالسينن عند ابن عامر، والكسائي، في رواية. وهما لفظان متطابقان في الدلالة على معنى التسلط، والتجبر, وذلك أن النبي r لا يملك أن يدخل الإيمان، والذكرى في قلوبهم قسراً. وقد قال بعض المفسرين إن هذه الآية منسوخة بآية السيف (الطبري, القرطبي, البغوي), والصحيح في آيات الجهاد أنها ليست من قبيل المنسوخ, وإنما تنزل كل آية على الحال الذي يناسبها, فلا يقال إن آية السيف نسخت جميع الآيات,نعم نسختها في الوقت الذي نزلت فيه، لكن إذا تجدد حال من الضعف لأهل الإسلام، ولم يتمكنوا من رفع علم الجهاد، فإنهم يطبقون ما يناسب الحال. مثال ذلك: قال الله تعالى: ﴿قَاتِلُوا الَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَلَا بِالْيَوْمِ الْآَخِرِ وَلَا يُحَرِّمُونَ مَا حَرَّمَ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَلَا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَهُمْ صَاغِرُونَ﴾(التوبة-29) فهذا غير متأتٍ الآن، وغير ممكن, وذلك بسبب ما آل إليه حال الأمة من الضعف, فلهذا ربما يتنزل على الحال الأمر بالكف, فإن الله تعالى قد قال للمؤمنين في حال الضعف: ﴿أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَأَقِيمُوا الصَّلَاةَ وَآَتُوا الزَّكَاةَ﴾(النساء-77) فينبغي أن تطبق الآيات المتعلقة بالجهاد بحسب الحال لا يتعسف في تطبيقها على غير ما يناسبها. فقوله Ü: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ هذا آية محكمة، وذلك أن النبي r لا يملك إدخال الإيمان، والذكرى، في قلوبهم قسرًا وإكراهًا. قال تعالى: ﴿إِنَّكَ لَا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ﴾ [القصص : 56]

﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ﴾: أي لكن من تولى وكفر, ومعنى﴿..وَكَفَرَ﴾ أي أعرض، وصد.

﴿فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾: هذا وعيد من الله عز وجل للكافر المتولي، بأشد العذاب, لقوله: ﴿..الْأَكْبَرَ﴾ وهو عذاب النار.

﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ﴾: أي مرجعهم جميعاً.

﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾: أي جزاءهم.

فيا لها من سورة عظيمة، وموعظة بليغة لمن تدبرها!.

الفوائد المستنبطة

1-: شدة أهوال يوم القيامة، وذلك أنه سماها (الْغَاشِيَةِ).

2-: سوء عاقبة الكافرين، وشدة عذابهم في النار، حساً، ومعنىً.

3-: حسن عاقبة المؤمنين، وكمال نعيمهم في الجنة حساً، ومعنى.

4-: أن اتفاق الأسماء لا يلزم منه اتفاق المسميات, إذ أن الله تعالى قال: ﴿عَيْنٍ آَنِيَةٍ﴾, ﴿ضَرِيعٍ﴾, ﴿سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ﴾, ﴿َأَكْوَابٌ مَوْضُوعَةٌ﴾, ﴿َنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾, ﴿وَزَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾, وهذه الأسماء معلومة في الدنيا, لكن الأمر كما قال ابن عباس ^ ليس في الجنة مما في الدنيا إلا الأسماء, ونقول أيضاً ليس في النار مما في الدنيا إلا الأسماء, فالأسماء واحدة والحقائق أو المسميات متفاوتة.

5-: إثبات المعنى العام، المشترك في الأذهان، ليُفهم الخطاب؛ فلفظ ﴿عَيْنٍ آَنِيَةٍ﴾ التي في النار، فيه معنى الحرارة المتناهية، وهذا أمر مدرك في الذهن, وإن لم تكن تلك العين الآنية في النارن كعين حارة في الدنيا, ﴿لَيْسَ لَهُمْ طَعَامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ﴾ ذلك الضريع الذي في النار، قطعاً ليس كالضريع الذي تعافه البهائم، والحيوانات في الدنيا, لكن فيه معنىً مشترك، وهو كونه شوكا، ولذلك تعافه البهائم، ففيه معنى الأذى، والمعاناة في تناوله. كذلك عند الحديث عن الجنة، تذكر﴿السرر المرفوعة﴾, ﴿الأكواب الموضوعة﴾, ﴿النمارق﴾, ﴿الزرابي﴾ فإن كل لفظ من هذه الألفاظ له معنىً في الذهن, فلا يمكن أن يكون المعنى الذي يعطيه ﴿َنَمَارِقُ مَصْفُوفَةٌ﴾ كالمعنى التي تعطيه ﴿زَرَابِيُّ مَبْثُوثَةٌ﴾, وذلك لأن هذا يتعلق بمعنىً يقوم في الذهن، وإن لم يلزم من ذلك أن يكون هذا مثل هذا. وقد جعل شيخ الإسلام بن تيمية ‘، أحد المثلين في الرسالة التدمرية، على وجوب إثبات صفات الله Ü وأن إثباتها لا يلزم منه تمثيل, ما يكون في الجنة من أنواع النعيم، والحور، والقصور، والدور، والمراكب، وغير ذلك، فإن الأسماء واحدة، والحقائق مختلفة. فإن كان هذا التفاوت بين مخلوق ومخلوق, فكيف بين خالق ومخلوق؟! هذا هو المعنى المشترك. وفائدته: أن يفهم الخطاب، لأن الله تعالى لو لم يخاطبنا بما نعهد له مثيلاً في الدنيا، ما عقلنا مراده Ü.

6-: لفت الأنظار إلى التدبر في خلق الله Ü: وذلك في قوله تعالى: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ..﴾. ولهذا ينبغي للدعاة لله Ü أن يستعملوا هذه الطريقة، وأن يحركوا العقول النائمة، والأذهان البليدة، لأن الذهن البليد، والعقل الغافل، مغلق لا يقبل موعظة، وذكرى. فإذا نفض عنه هذا الغبار أصبح صالحًا للاستقبال.

7-: قرب دلائل الربوبية ومباشرتها للمكلفين: فالسماء، والأرض، والجبال، والإبل, لا تحتاج إلى كد، وعناء. فدلائل الربوبية هذه قريبة جدًا, بل هناك أقرب مما ذُكر, كما قال في آية أخرى: ﴿وَفِي أَنْفُسِكُمْ أَفَلَا تُبْصِرُونَ﴾(الذاريات-21),

8-: الأمر بالتذكير، واستعمال البراهين الحسية، والعقلية: لقوله تعالى: ﴿فَذَكِّرْ إِنَّمَا أَنْتَ مُذَكِّرٌ﴾ بعد أن قال: ﴿أَفَلَا يَنْظُرُونَ﴾ وهذا يستدعي إعمال الأدوات الحسية؛ من البصر، والسمع وغيرها, واستعمال العقل في الاستنباط.

9-: أن الداعية لا يملك إلا البيان, وإنما الهدى بيد الله: وأثر هذا على نفس الداعية ألا يشعر بالإحباط والخذلان, قال الله Ü: ﴿فَلَا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ﴾(فاطر-8), فينبغي للداعية أن يجتهد في دعوته، وإبلاغها, وألا يشغل باله في النتائج، فذلك إلى الله عز وجل، ولو شاء الله عز وجل لآمن من في الأرض كلهم جميعاً.

10-: لا إكراه في الدين: قال Ü: ﴿لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُسَيْطِرٍ﴾ فأمر الدين والعقيدة لا يمكن أن يقع فيه إكراه, ولا يمكن أن تُدخل العقيدة في نفس الإنسان كرهًا. أما إقامة الدين، بمعنى الشرع، والنظام، فهذا من الأحكام السلطانية، التي إذا كتب الله تعالى لأهل دينه التمكين, فإنهم يلزمون الناس بها، فمن قبل دين الله فله ما لنا، وعليه ما علينا، وهو كأحدنا, ومن أبى، فإن عليه أن يدفع الجزية عن يد وهو صاغر، لكي يكون الدين لله, و معنى ذلك أنه خضع لدين الله، ولشرعه، ولأئمة المسلمين, فإن أبى فالسيف. هكذا رتب الله تعالى ورسوله r الأمور.

11-: الوعيد الشديد على الكافر المعرض: قال تعالى: ﴿إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَكَفَرَ * فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذَابَ الْأَكْبَرَ﴾.

12-: أن مجرد الإعراض، والتولي نوع من أنواع الكفر، فإذا صرف الإنسان فكره، وأعرض بعقله عن النظر في دين الله Ü كفر بذلك، حتى لو لم يقل كلام كفر, وحتى لو لم يقع منه شرك، وعبادة أصنام. وقد مثل لذلك بما جرى من أبناء عبد ياليل، حين دعاهم النبي r، فقد سألته عائشة، رضي الله عنها، فقالت: هَلْ أَتَى عَلَيْكَ يَوْمٌ كَانَ أَشَدَّ مِنْ يَوْمِ أُحُدٍ قَالَ لَقَدْ لَقِيتُ مِنْ قَوْمِكِ مَا لَقِيتُ ، وَكَانَ أَشَدُّ مَا لَقِيتُ مِنْهُمْ يَوْمَ الْعَقَبَةِ إِذْ عَرَضْتُ نَفْسِي عَلَى ابْنِ عَبْدِ يَالِيلَ بْنِ عَبْدِ كُلاَلٍ فَلَمْ يُجِبْنِي إِلَى مَا أَرَدْتُ فَانْطَلَقْتُ وَأَنَا مَهْمُومٌ عَلَى وَجْهِي فَلَمْ أَسْتَفِقْ إِلاَّ وَأَنَا بِقَرْنِ الثَّعَالِبِ فَرَفَعْتُ رَأْسِي فَإِذَا أَنَا بِسَحَابَةٍ قَدْ أَظَلَّتْنِي فَنَظَرْتُ فَإِذَا فِيهَا جِبْرِيلُ فَنَادَانِي فَقَالَ إِنَّ اللَّهَ قَدْ سَمِعَ قَوْلَ قَوْمِكَ لَكَ وَمَا رَدُّوا عَلَيْكَ وَقَدْ بَعَثَ إِلَيْكَ مَلَكَ الْجِبَالِ لِتَأْمُرَهُ بِمَا شِئْتَ فِيهِمْ فَنَادَانِي مَلَكُ الْجِبَالِ فَسَلَّمَ عَلَيَّ ثُمَّ قَالَ يَا مُحَمَّدُ فَقَالَ ذَلِكَ فِيمَا شِئْتَ إِنْ شِئْتَ أَنْ أُطْبِقَ عَلَيْهِمِ الأخشبين فَقَالَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بَلْ أَرْجُو أَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ مِنْ أَصْلاَبِهِمْ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ وَحْدَهُ لاَ يُشْرِكُ بِهِ شَيْئًا) (متفق عليه).

13-: إثبات البعث والجزاء: ﴿إِنَّ إِلَيْنَا إِيَابَهُمْ * ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا حِسَابَهُمْ﴾ كل هذه الخلائق تؤوب إلى الله عز وجل، وحسابها عليه، لا يخرجون من سلطان الله، ولا ينفذون من ملكه.
 
سورة الفجر

سورة الفجر

[align=justify]التفسير العقدي لجزء عم

سورة الفجر

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْفَجْرِ (1) وَلَيَالٍ عَشْرٍ (2) وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ (4) هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ (6) إِرَمَ ذَاتِ الْعِمَادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا فِي الْبِلَادِ (8) وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ (9) وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ (14)

هذه السورة تسمى سورة (الفجر)، نسبة إلى إقسام الله تعالى بالفجر في مستهلها. وتظهر عليها سمات السور المكية في مقاصدها، وفي أسلوبها، وفي تنوع مقاطعها، وما تتضمنه من أنواع البلاغة، والتأثير، التي تأخذ بمجامع القلوب.

ولهذه السورة كما للسور المكية مقاصد منها:

1- إثبات المعاد، والجزاء. وهذا في أولها، وأخرها.
2- اطراد سنن الله في أعدائه.
3- الكشف عن طبيعة النفس الإنسانية في السراء والضراء.
4- بيان التلازم بين الإيمان من جهة، والأخلاق والسلوك من جهة أخرى.
(وَالْفَجْرِ) هذا قسم من الله عز وجل بالفجر. وقد اختلف المفسرون في المراد بالفجر؛ فقيل: إن المراد به فجر الصبح الذي يعرفه كل أحد. وقيل: إن المراد به صلاة الفجر، فعبر عن الوقت فعبر عن الصلاة بوقتها، لأنها اشرف ما فيه (وَقُرْآَنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآَنَ الْفَجْرِ كَانَ مَشْهُودًا). القول الثالث: أن المراد النهار كله. وكأن من ذهب إلى هذا القول جعل هذا قسيمًا لقوله: (وَلَيَالٍ عَشْرٍ)، فجعل الآية الأولى للدلالة على النهار، لكون الآية الثانية تشير إلى الليل. وأقرب هذه الأقوال القول الأول. والله سبحانه وتعالى يقسم بما شاء من الأمكنة، والأزمنة، والمخلوقات. فمما أقسم الله تعالى به من الأزمنة (الفجر)، و(العصر)، و(الضحى)، و(الليل)، و(النهار)، ومن الأمكنة مثل (لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ)، وقوله (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ)، ومن المخلوقات، مثل : (وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا.وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا)، و(التين والزيتون). وهكذا، فلله سبحانه وتعالى، أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، فهاهنا قد أقسم بهذا الوقت، وفيه لفت انتباه إلى تغير الأحوال، وقدرة الله عز وجل على صبغ كل حال بصبغة خاصة، فحال الفجر ليس كحال الظهر، ولا العصر، ولا المغرب، مع أن الفجر يمثل نقلة من الليل إلى النهار، والمغرب نقلة من النهار إلى الليل، إلا أن بينهما فرقا.

(وَلَيَالٍ عَشْرٍ) هذه العشر هي ليالي عشر ذي الحجة. وكأن هذا التفسير محل إجماع بين المفسرين، كما أشار إلى ذلك أمامهم ابن جرير الطبري. وهي ليال، وأيام شريفة. والعرب تعبر بالليلة عن اليوم والليلة معًا، فقد قال النبي صلى الله عليه وسلم: (مَا الْعَمَلُ فِي أَيَّامِ الْعَشْرِ أَفْضَلَ مِنَ الْعَمَلِ فِي هَذِهِ قَالُوا: وَلاَ الْجِهَادُ؟ قَالَ: وَلاَ الْجِهَادُ. إِلاَّ رَجُلٌ خَرَجَ يُخَاطِرُ بِنَفْسِهِ، وَمَالِهِ فَلَمْ يَرْجِعْ بِشَيْءٍ) رواه البخاري.

(وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ) تضمنت هذه الآيات من المحسنات البلاغية (السجع)، وهو سجع غير متكلف، و(الطباق) بتقابل هذه المفردات. قيل إن المراد ب(الشَّفْعِ) الزوج، يعني العدد الزوجي و(وَالْوَتْرِ) الفرد، يعني العدد الفردي. وقيل: (الشَّفْعِ) يوم النحر، لكونه العاشر، و(الْوَتْرِ) يوم عرفة، لكونه التاسع. وقيل: (الشَّفْعِ) المخلوق و(الْوَتْرِ) هو الخالق. وكأن قائل ذلك لاحظ معنى قول النبي صلى الله عليه وسلم: (َإِنَّ اللَّهَ وِتْرٌ يُحِبُّ الْوِتْرَ) متفق عليه. وقيل إن المراد بهما: الصلاة المفروضة؛ فمنها ما هو شفع، ومنها ما هو وتر. فصلاة المغرب وتر، وبقية الصلوات شفع. والصحيح في هذه الأقوال ما دل على العموم، وهو اختيار إمام المفسرين، ابن جرير الطبري. فكل شيئ إما أن يكون شفعًا، وإما أن يكون وترًا. فالقول بالعموم أولى، لكي يتناول جميع مفرداته، فيدخل في ذلك يوم عرفة، ويوم النحر، ويدخل فيه الخلق، فما من شيء إلا وهو مندرج تحت هذين الوصفين.

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) الليل معروف، ومعنى (يَسْرِ) يعني مقبلاً، ومدبرًا. فذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بسريانه، حال إقباله، وحال إدباره. وقيل إن المراد به تحديدًا إذا ذهب، فكأنهم أرادوا بذلك الإدبار دون الإقبال، وجعلوا هذا بإزاء قوله (وَالْفَجْرِ)، لأن الفجر هو إقبال النهار (وَاللَّيْلِ إِذَا يَسْرِ) إدبار الليل. وخصه بعضهم بليلة مزدلفة، ولا وجه لهذا التخصيص. ولكن لعله لما رأى أن قول الله تعالى (وَلَيَالٍ عَشْرٍ) ليالي عشر ذي الحجة، وقول من قال بأن (الشَّفْعِ) يوم النحر، وأن (الْوَتْرِ) يوم عرفة، جعل هذا ليلة مزدلفة. ولكن الآية أعم من ذلك. وجواب القسم محذوف، وكأنه لبداهته، وعظمه، وشهرته، لم يحتج إلى ذكر. وتقديره: لتبعثن، ولتجازن على أعمالكم، ولتحاسبن. وهو الأمر الذي كان ينكره كفار مكة، ومشركو العرب.

(هَلْ فِي ذَلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ) : يعني هل في هذه المذكورات مقنع لصاحب عقل؟ فالقسم هنا المقصود به ما يحصل به الإقناع. والمراد بالحجر: العقل. وإنما سمي العقل حجرًا، لأنه يحجر صاحبه عن فعل القبيح. وكذلك سمي عقلاً، لأنه يعقله عن ذلك. فلا شك أن من كان ذا عقل، ففي هذه الأقسام المتتابعة مقنع وكفاية له على ثبوت المعاد، والجزاء، والحساب.

(أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعَادٍ) بعد أن ذكر الله تعالى هذه الأقسام الفخمة، ونوعها مما يدل على عظم المقسم عليه، أتى بلون جديد من ألوان الإقناع، وهو الاستشهاد بالسنن الكونية، فقال: (أَلَمْ تَرَ) والخطاب موجه إلى النبي صلى الله عليه وسلم. والرؤية هنا رؤية علمية، لأن النبي صلى الله عليه وسلم، لم يبصر بعيني رأسه، ما فعل الله بعاد. وهذا الاستفهام، استفهام تقريري. وعاد قبيلة معروفة، كانت تسكن منطقة الأحقاف، (وَاذْكُرْ أَخَا عَادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ بِالْأَحْقَافِ) وتقع في طرف الربع الخالي، حالياً، وفي أجزاء من اليمن

(إِرَمَ) هكذا بلا تنوين، ولا إضافة، بإجماع القراء. وقد اختلف المفسرون اختلافاً واسعاً في تفسير(إِرَمَ) فمنهم من قال: هي عاد الأولى. وقال بعضهم، وهو اختيار ابن جرير الطبري، قبيلة من عاد، فكأن عاد هي الأم و (إِرَمَ) فخذ من تلك القبيلة. فإذا قلنا إن (إِرَمَ) هي ذاتها عاد، فيكون ذلك عطف بيان، أو بدل، وقد منع من الصرف لسببين: للعلمية، والتأنيث، ويمكن أن يقال: والعجمة أيضاً. وقيل في تفسير (إِرَمَ): إنها اسم لمدينة عاد، أو قوم عاد، أو أحدى مدنهم. حتى إن من المفسرين من سماها وقال: هي الإسكندرية! وقال بعضهم: هي دمشق! ولكن هذه الأقوال مستبعدة، لأن الإسكندرية لم تكن مسكنا لعاد، ولا دمشق مسكنا لهم. إلا أن يكون ذلك من اتفاق الأسماء. وقال بعضهم إن معنى (إِرَمَ) أي القديمة، أو الهالكة. وأقرب الأقوال في هذا، ما اختاره إمام المفسرين بن جرير الطبري، رحمه الله، أن المراد بها قبيلة من عاد.

(ذَاتِ الْعِمَادِ) هذا وصف لها بأنها ذات عماد. فإذا قلنا إن (إِرَمَ) اسم للقبيلة، فمعناها: طوال الأجسام، يعني أنهم أوتوا بسطة في الجسم، كما قال الله تعالى على لسان نبيهم (هود): (وَزَادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَسْطَةً). ولا شك أن قبيلة عاد قد أتاهم الله تعالى بسطة في الجسم، وقوةً، وطولاً، فهم عظام الأجسام، حتى إن من المفسرين من أغرب في الخيال، وقال إن الطويل منهم طوله أربعمائة ذراع ! أي مائتي متر! ولكن هذا، والله أعلم، من الإسرائيليات. لأن أبانا ادم عليه السلام، كان طوله ستون ذراعاً في السماء، كما في الحديث المتفق عليه. وفي رواية لمسلم: (فَلَمْ يَزَلِ الْخَلْقُ يَنْقُصُ بَعْدَهُ حَتَّى الآنَ). فينبغي إذاً، أن يكون قوم عاد، دون أبيهم. فهذا من الخيالات التي يغرب فيها بعض المفسرين، ويهولون بها على العامة. وينبغي لنا أن نقتصد، فلا نقول إلا ما دل عليه القرءان، والسنة، ويكفينا أنهم عظام الأجساد، طوال القامة هذا إذا قلنا أن (إِرَمَ) هي القبيلة. وأما إذا قلنا إنها المدينة، فحينئذ يكون معنى ذات العماد: أي ذات أعمدة الخيام المرتفعة. وقد استدل غير واحد من المفسرين، على أن القوم كانوا رُحَّلاً، وأنهم لا يستقرون في موضع، بل ينصبون خيامهم الهائلة الكبيرة، ثم يرتحلون، كما هو حال الأعراب. وذهب بعض المفسرين إلى أن المقصود ب(الْعِمَادِ) أي الأعمدة المبنية من الحجر، أو من الرخام. وعلى كل تقدير، فإن هذا أيضًا يدل على أن القوم عظيمو الخلقة، لأنه لا يمكن أن تكون أعمدة خيامهم طويلة مرتفعة، إلا وهم كذلك. فإن الإنسان يرفع سقف بيته بما يتناسب مع خلقته. فلا شك أن هذا تفخيم لحالهم، وعظم خلقهم. وفي هذا إشارة إلى تهوين قريش أمام هؤلاء، فقد كانوا أشد منهم قوة، أثاراً في الأرض. ومع ذلك فعل الله بهم ما فعل.

(لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُهَا) أي مثل تلك القبيلة في بطشها، وقوتها. وقد أهلكهم الله بالريح، مع أن الهواء ألطف المخلوقات، فصاروا (كَأَنَّهُمْ أَعْجَازُ نَخْلٍ خَاوِيَةٍ) سلط الله تعالى عليهم ريحاً صرصراً (سَبْعَ لَيَالٍ وَثَمَانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُومًا) فكانت الريح تحمل أحدهم في الأعالي، ثم تدقه في الأرض. وكان بعضهم يدفن نصف جسمه، في الأرض ليتقي الريح أن تحمله، فتجتثه، فيبقي كأنه أصل نخلة مقطوعة: (أعجاز نخل منقعر) . فالله عز وجل يسلط جنداً من جنده، من ألطف الأشياء، وهو الهواء، فيحيله إلى قوة جبارة، (تدمر كل شيء بأمر ربها فأصبحوا لا يرى إلا مساكنهم). وربما دلت هذه الآية على أنه كان لهم، فعلاً، بيوتاً مبنية، لأنه لو قدر أنها كانت خياماً، فالغالب أن الريح ستقتلع الخيام، وتطير بها كل مطار، ولم يبق مساكن ترى.

(وَثَمُودَ الَّذِينَ جَابُوا الصَّخْرَ بِالْوَادِ) هذا عطف على عاد. أي : وكيف فعل بثمود؟ وثمود قبيلة كانت تسكن الحجر، وادي القرى، الواقع بين مكة والشام. ومعنى (جَابُوا الصَّخْرَ) أي: شقوه، وقطعوه. وذلك أن موطنهم، وادي القرى، كان جزء منه جبال، وجزء منه سهول، فكانوا ينحتون من الجبال بيوتاً، ويتخذون من سهولها قصوراً. وذلك غاية ما يكون في العمران. ولا تزال أثارهم باقية، وهي المسماة الآن بمدائن صالح. يأتون إلى الجبل الأشم، فيُعملون فيه المطارق، وينقشونه، ويتخذون فيه الغرف، والمساكن. والصخر من أقوى المخلوقات. ثم كان أن الله سبحانه وتعالى أهلكهم بالسوط. والسوط هو تلكم الصيحة الهائلة، والرعب الهائل، الذي قطع نياط قلوبهم في صدورهم. ما أهون الخلق على الله. وهذا الكلام يساق لقريش، وهم كما قال الله (وَإِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ.وَبِاللَّيْلِ أَفَلَا تَعْقِلُونَ) في طريقهم في تجارة الشام، يمرون بوادي القرى. وبهذه المناسبة فإنه ينبغي أن يعلم أن من الآداب الشرعية، ألا يتفكه الإنسان بزيارة تلك الآثار، وأنه لا يحل أن يدخلها على سبيل النزهة، فقد نهى النبي صلى الله عليه وسلم، عن ذلك.

فعَنِ ابْنِ عُمَرَ ، رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمَا، قَالَ: لَمَّا مَرَّ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم بِالْحِجْرِ قَالَ: (لاََ تَدْخُلُوا مَسَاكِنَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ أَنْ يُصِيبَكُمْ مَا أَصَابَهُمْ إِلاَّ أَنْ تَكُونُوا بَاكِينَ) ثُمَّ قَنَّعَ رَأْسَهُ، وَأَسْرَعَ السَّيْرَ، حَتَّى أَجَازَ الْوَادِيَ.وذلك لتعظيمه جناب الله وأيام الله، خلاف ما يفعله بعض السفهاء، الآن، يأتون إلى هذه الأماكن، والبقاع التي حل فيها وعيد الله، عز وجل، فيتفكهون، ويتندرون، ويتنزهون، باسم السياحة، وباسم تعظيم الآثار، ولا يعتبرون. نعم! لو دخل الإنسان على سبيل العبرة، فلا حرج، يدخل، وينظر هذه المساكن الهائلة، ويستعبر، ويتعظ، فلا بأس. لكن الأعم، الأغلب، أن الناس الذين يغشون هذه الأماكن، يأتونها على سبيل النزهة، والمرح، والفرح. فإما أن يدخل على الصفة التي ذكر النبي (صلى الله عليه وسلم) أو يدع.

(وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) هذا هو المثال الثالث لفعل الله عز وجل، وسنته الكونية في الأولين. فرعون معروف، وشهرته في الكفر ظاهرة. فإنه لا يعلم أحد من بني ادم توسع في الكلام، وفي إطلاق القول بإنكار الرب، سبحانه وبحمده، مثل فرعون؛ فإنه ادعى الربوبية، وادعى الألوهية، فقال لقومه: ( أنا ربكم الأعلى) وقال: ( ما علمت لكم من اله غيري) ! ولذلك أذله الله أيما إذلال. قال الله تعالى: (وَفِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتَادِ) وكأنه أراد فرعون ومن وافقه. اختلف المفسرون في المراد بـ(الْأَوْتَادِ) فقيل: المراد بها أوتاد التعذيب، وذلك أنه كان يتد الوتد في الأرض، من الخشب، أو من الحديد، ويربط به الناس، ويعذبهم. يضرب أربعة أوتاد، كما أعضاء الإنسان الأربعة؛ يداه، ورجلاه، فيربط كل يد بوتد، وكل رجل بوتد. وقيل إن المراد بالأوتاد: الجنود، لأن جنود الملك بمنزلة الأوتاد التي تثبت ملكه. وقيل: المراد بالأوتاد الحبال. وكأن هذا، والله اعلم، من تفسير الشيء بلازمه، لأنه لا قيمة للوتد المضروب في الأرض، إلا بحبل يشد إليه، فقيل الحبال. فيكون المقصود الحبال التي تتصل بهذه الأوتاد. وقيل: إن الأوتاد عبارة عن مظلات، تحتها ملاعب يلعب بها. وهذا يدل على أن هذه المسقفات الرياضية،كانت موجودة منذ القدم، وهي ما يسمى الآن (الإستادات)، وأن فرعون كان يتخذ المظلات الهائلة، التي يجرى تحتها أنواع اللعب، والفنون.

(الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلَادِ) عبر بالجمع، وقد كان الحديث عن فرد، وهو فرعون. وهذا يعزز أن الأوتاد معناها الجنود. وربما يراد بفرعون آل فرعون، وملؤه، وجنده عموماً، يعني فرعون ومن وافقه، فعبر عنهم بزعيمهم، ورئيسهم. ومعنى طغوا: أي تجاوزوا الحد، وتجبروا. وقد كان فرعون طاغية؛ كان يذبح أبناء بني إسرائيل، ويستحيي نساءهم. هذا في تعامله مع الخلق، وأما مع الخالق، فقد طغى، وتكبر، وزعم أنه الرب، وأنكر وجود الرب، وقال: (وما رب العالمين) فينطبق عليه انطباقا تاماً وصف الطغيان.

(فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسَادَ) لم يفسدوا فقط، بل أكثروا من القتل، والمعاصي، والكفر. كل هذا فساد. وإذا حل الفساد فما أوشك وقوع العذاب. (ظهر الفساد في البر والبحر بما كسبت أيدي الناس) .

(فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذَابٍ) هذه الآية ترتجف منها قلوب المؤمنين العارفين بالله عز وجل. عبر بالصب والصب يعني الإنزال، لكنه إنزال متتابع. (سَوْطَ) : يعني نوع عذاب لاذع، متتابع. لأن السوط فيه معنى اللذع. فالسياط تلذع الجلود.

(إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) إنِّ تفيد التأكيد، والتحقيق. يعني أنه سبحانه وتعالى يرصد أعمالهم، ولا يفلت منهم أحد. لأنه يأتيه على حين غرة. وهكذا الله سبحانه وتعالى يمهل للظالم، حتى إذا أخذه لم يفلته.

فهذا المقطع، فيه نوع جديد من التأثير على منكري البعث، ومكذبي نبينا صلى الله عليه وسلم، وتذكير لهم بحال الأمم السابقة، وما جرى منها من تكذيب، وكيف أخذها الله (أخذ عزيز مقتدر).

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: تعظيم القسم بتنوع المقسم به .

الفائدة الثانية: بيان قدر العقل ومنزلته.

هذا يدل على الثناء على العقل حقيقة. ولا شك أن العقل نعمة. العقل من أشرف الأدوات التي منحها الله تعالى للإنسان؛ ذلك أن العقل هو الأداة التي يستخدمها القلب للوصول إلى الهدى، لكن أين يصنع القرار في القلب أم العقل؟ في القلب لأن الله سبحانه وتعالى قال (لهم قلوب لا يفقهون بها) وفي آية أخرى

(أَفَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِهَا أَوْ آَذَانٌ يَسْمَعُونَ بِهَا فَإِنَّهَا لَا تَعْمَى الْأَبْصَارُ وَلَكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ ) إذاً القلب الذي في الصدر هو صاحب القرار النهائي. أما الدماغ الذي هو المخ، فهو بمنزلة المولد (الدينمو) فإذا كان عندنا مصباح كهربائي فإنه لا يضيء حتى يسري فيه هذا التيار. مثال آخر: العقل بالنسبة للقلب، مثل السكرتير بالنسبة لمدير العمل. السكرتير يقدم لمدير العمل أوراقاً، وتقارير، ونتائج، وإحصاءات، ثم ينظر فيها صاحب العمل، ويتخذ القرار. فالعقل أداة، لكن صاحب القرار هو القلب. لذلك أن الله سبحانه وتعالى علق الثناء، أو الذم عليه قال الله تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ)..طيب

الفائدة الثالثة: عظيم قدرة الله حيث أهلك هذه الأمم الجبارة .

الفائدة الرابعة: قوة الأمم السابقة في أبدانهم، وآثارهم.

الفائدة الخامسة: إمهال الله للظالم، وأخذه أخذاً شديداً. فلا يغرنك ما ترى من تجبر المتجبرين، وطغيان الطاغين، فإن لهم يوماً، وهذا سنة الله تعالى في خلقه.

الفائدة السادسة: كمال رقابة الله، واطلاعه، وإحاطته: (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ) فإذا أغلقت الأبواب، وأرخيت الستور فاذكر قول الله تعالى (إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصَادِ). قال بعض الصالحين: (لا يكن الله أهون الناظرين إليك).[/align]
 
بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء (عم)

سورة الفجر (2)

(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ (16) كَلَّا بَل لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ (18) وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا (19) وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا (20) )

(فَأَمَّا الْإِنْسَانُ إِذَا مَا ابْتَلَاهُ رَبُّهُ):

الإنسان هنا، يحتمل أن يراد به جنس الإنسان، ويحتمل أن يراد به الكافر خاصة. وقد ذكر بعض المفسرين أن الغالب في (الإنسان) في السور المكية، أنه الكافر.

(ابْتَلَاهُ) أي اختبره (رَبُّهُ) هذه ربوبية عامة. (فَأَكْرَمَهُ وَنَعَّمَهُ) أكرمه بالمال، والصحة، والجاه، وأي نوع من أنواع الإكرام، والإنعام.


(فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ)

يصف الله تعالى حال الإنسان من حيث هو إنسان، أو الإنسان صاحب النفس المنحرفة، بأنه إذا رأى في قدر الله تعالى له توسعة في الرزق، وصحة في البدن، ونيلا لما يهوى، ويشتهي، ظن ذلك دليل كرامة، (فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ) أي: أنا كريم على الله! وبالمقابل:

(وَأَمَّا إِذَا مَا ابْتَلَاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ)

أي: ضيق، كما قال: (ومن قدر عليه رزقه فلينفق مما أتاه الله) يعني ضيق عليه رزقه. ومنه قول النبي (صلى الله عليه وسلم) (فإن غمَّ عليكم فاقدروا له) متفق عليه. والرزق يشمل رزق المال، ورزق الصحة، ورزق الجاه، وجميع أنواع الرزق.

(فَيَقُولُ رَبِّي أَهَانَنِ)

أي يظن أن تضيق الله تعالى عليه في الرزق، وحبس بعض ما يشتهي، دليل على هوانه على الله! هكذا يقع في نفس الكافر، وفي النفوس المنحرفة، أو ضعيفة الإيمان. فلأجل ذا عقب الله تعالى على هذين الموقفين بقوله (كَلَّا) فهي إذاً متعلقة بما قبلها.


و(كَلَّا)

كلمة ردع، وزجر، يراد بها إبطال، وإسقاط ما تقدمها. ومعناها: ليس الأمر كما تظنون، فليس عطاؤنا دليل كرامة، وليس منعنا دليل هوان. علامة الكرامة: إذا أعطي شكر، وإذا منع صبر. وعلامة المهانة: إذا أعطي بطر، وإذا منع ضجر. وعليه قول النبي صلى الله عليه وسلم: (عَجَبًا لأَمْرِ الْمُؤْمِنِ! إِنَّ أَمْرَهُ كُلَّهُ خَيْرٌ. وَلَيْسَ ذَاكَ لأَحَدٍ إِلاَّ لِلْمُؤْمِنِ؛ إِنْ أَصَابَتْهُ سَرَّاءُ شَكَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ، وَإِنْ أَصَابَتْهُ ضَرَّاءُ صَبَرَ، فَكَانَ خَيْرًا لَهُ) رواه مسلم.

وقد أدرك هذا المعنى أهل الإيمان فقال سليمان (عليه السلام) لما رأى عرش ملكة سبأ مستقرًا عنده: (هذا من فضل ربي ليبلوني أأشكر أم أكفر) فأدرك أن تمكين الله تعالى إياه بإحضار عرش ملكة سبأ، قبل أن يرتد إليه طرفه، مسيرة آلاف الأميال، أنه ابتلاء، وأن حق ذلك هو الشكر. بخلاف قارون، فإن قارون لما أتاه الله من الكنوز ما إن مفاتحه لتنوء بالعصبة أولى القوة، وقال له القوم لا تفرح! يعني لا تفرح فرح أشر، وبطر ، رد عليهم بزهو، وتبختر: (إنما أوتيته على علم عندي) ولم يثنِ بالنعمة على مسديها.

(بَل لَا) :

أي لكن حالكم أنكم

(لَا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ)

اليتيم: من مات أبوه ولم يبلغ سن الاحتلام. وهو أحد الضعيفين، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم : (اللهم إني أحرج حق الضعيفين اليتيم والمرأة) رواه ابن ماجة، وحسنه الألباني. فكان من حال العرب في الجاهلية، أن اليتيم لا يفرضون له من الميراث، ولا يأبهون به، ويأكلون ماله، ولا يحسنون إليه، لأنه ليس له أب يرجع إليه، ويعتضد به. وهذه أخلاق جاهلية، ناتجة عن فقد الإيمان أما المؤمن فلا يمكن أن يصدر منه ذلك، لأن إيمانه يزرع الرحمة في قلبه.

(وَلَا تَحَاضُّونَ عَلَى طَعَامِ الْمِسْكِينِ)

يعني لا يحض بعضكم بعضًا،ولا تحضون أنفسكم. والحض: الحث. والمقصود بطعام المسكين: إطعام المسكين. والمسكين هو من أسكنته الفاقة، والعوز، تجده يميل للسكون، والخمول، لا يكاد يرفع طرفه، بسبب فقره، وعوزه. وهذا أمر مشاهد! لأن ما في النفس يظهر على الجوارح. فإذا كان الإنسان في حال اضطرار، وافتقار، وقلة ذات يد، تجده إذا خاطب الناس تمسكن، وكلمهم بصوت خفيض، وتوسل إليهم. وإذا ما صار له حظ من الغنى، انتشى، وافتخر، إلا من عصم الله عز وجل: (كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى. أَنْ رَآَهُ اسْتَغْنَى)


(وَتَأْكُلُونَ التُّرَاثَ أَكْلًا لَمًّا)

هكذا بالتاء، وقرئت بالياء. وهكذا جميع الأفعال الأربعة: تكرمون، وتحاضون، وتأكلون، وتحبون، بالتاء والياء. والتراث: هو الميراث. (لَمًّا) أي شديداً. وفسرها بعضهم بقوله: سفًا، الذي يسف الطعام سفاً، كناية عن كثرته، حتى أنه ربما لا يمضغه لعجلته، ونهمه. وعبر بعضهم بلف كل شيء، وكلها ألفاظ متقاربة. وسبب ذلك أنهم كانوا لا يورثون النساء، واليتامى، بل ولا يأتون النساء مهورهن، قال الله تعالى في مطلع سورة (النساء): (وَآَتُوا الْيَتَامَى أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَلَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَهُمْ إلى أموالكم إنه كان حوباً كبيراً) .

(وَتُحِبُّونَ الْمَالَ حُبًّا جَمًّا)

أي كثيرًا، أو شديدًا. وهذا من طبيعة النفس في الأصل، (وإنه لحب الخير لشديد) ولا يضبط هذه النزعات إلا الإيمان. فهذه أربعة أوصاف من صفاتهم الجاهلية، التي ذمهم الله تعالى عليها. وبه يتبين أن الأخلاق ثمرة للإيمان.

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى : تنوع الابتلاء؛ بالسراء، والضراء.

الفائدة الثانية : أن السراء ليست دليلاً على الكرامة، بل شكرها دليل عليها.

الفائدة الثالثة : أن الضراء ليست دليلا على الهوان، بل الضجر منها دليل عليه.

الفائدة الرابعة : تعظيم حق اليتيم، والمسكين.

الفائدة الخامسة : أن الفساد الخلقي، تابع للفساد العقدي.
 
التفسير العقدي لجزء عم

سورة الفجر [3]

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَجَاءَ رَبُّكَ وَالْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ وَأَنَّى لَهُ الذِّكْرَى (23) يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي (24) فَيَوْمَئِذٍ لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ (25) وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ (26) يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ رَاضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبَادِي (29) وَادْخُلِي جَنَّتِي (30))

(كَلَّا إِذَا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا): هذا انتقال في الأسلوب، ينقل القلب والعقل إلى ميدان آخر، وإلى موضوع جديد. ومعنى (دكت) أي: زلزلت، وحطمت، ودقت. فالدك: يحمل هذه المعاني، الحركة المضطربة المزلزلة، ثم التحطيم، فلا يبقى شيء على شيء، ثم الدق، والتفتيت.

(دَكًّا دَكًّا): هذا للتأكيد، فإنه بليغ في إثبات المراد. وذلك يوم القيامة.

(وَجَاءَ رَبُّكَ) إلجائي هو الله.

(وَالْمَلَكُ) أي: وجاء الملك. الملك: جمع ملاك، مأخوذ من الألوكة، أي: الرسالة، وذلك لأن الله - تعالى – يرسلهم.

(صَفًّا صَفًّا) أي: مصطفين صفوفاً، إثر صفوف. وهذا من أعظم مشاهد القيامة؛

حينما تنشق السماء الأولى، فيهبط ملائكتها، ويحيطون بأهل الأرض إحاطة السوار بالمعصم، ثم السماء الثانية، فيحيطون بمن قبلهم، فالثالثة، فالرابعة، حتى السابعة. ثم بعد ذلك ينزل الرب - سبحانه وبحمده - لفصل القضاء بين العباد. وهذا هو المجيء المذكور في هذه الآية. وهو مجيء حقيقي يليق بجلاله وعظمته – سبحانه – نثبته، ولا ننكره، ولا نعطله، ولا نؤوله بأنواع التحريفات، بل نثبته إثباتاً حقيقياً على ما يليق بجلال ربنا. ولا يجوز تفسير المجيء بأنه مجيء أمره. فكيف يقال أن قوله (وَجَاءَ رَبُّكَ) ليس على ظاهره، بل هو مجيء أمره، ومجيء الملائكة على ظاهره، وهما في آية واحدة؟!! هذا من العدوان على النصوص، ومن التحكم بلا دليل. بل هو مجيء حقيقي للرب، ومجيء حقيقي للملك. فمجيء الملائكة يليق بهم كمخلوقين، ومجيء الرب يليق به لكونه الخالق.

وهذه الآية، وسائر آيات الصفات، يجب أن نصدق بخبر الله، ونجريه على ظاهره اللائق به – سبحانه - ونعتقد أن ذلك لا يستلزم تشبيهًا، ولا شيئاً من اللوازم الفاسدة، التي ظنها بالله أهل التمثيل، وأهل التعطيل. وهو سبحانه أصدق قيلاً، وأحسن حديثًا من خلقه، وأعلم بنفسه، وبخلقه. والتحريف في هذه المقامات الخطيرة، افتيات على الله، عز وجل، وطعن في بيان القرآن. ولو شاء الله - تعالى - لعبر بما ادعوه، ولم يدع الأمر ملتبساً كما ظنوه، لكنه أراد حقاً، وصدقًا مدلول كلامه.

فنعتقد أنه يجيء - سبحانه وبحمده - يوم القيامة لفصل القضاء بين عباده، وأن المجيء، كما النزول، كما الاستواء، من صفاته الفعلية، المتعلقة بمشيئته وحكمته، يفعلها متى شاء، كيف شاء، إذا شاء، وأن فعله لها لا يتضمن نقصاً بحال.

وأما دعوى النفاة بأن هذا يلزم منه حلول الحوادث بالرب، فدعوى مردودة؛ لأن جنس الفعل صفة ذاتية لله، لأنه (فعال لما يريد)، لم يزل، ولا يزال فعالاً، وأما صوره، وأفراده، وآحاده، فتتنوع كما يقدر – سبحانه - ويفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

(وَجِيءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ) هكذا بصيغة الفعل الذي لم يسمى فاعله، وذلك أن جهنم خلق لا يأتي بنفسه، بل يجيء بها ملائكة الرحمن. قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (يؤتى بالنار يوم القيامة، لها سبعون ألف زمام، على كل زمام سبعون ألف ملك) [رواه مسلم]. وهذا مشهد رهيب، مشهد جر النار جرًا، مع هول حجمها، وبعد قعرها، قد أضرمت آلاف السنين، فهي سوداء مظلمة.

(يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الإِنْسَانُ) : الإنسان الكافر الذي كان مكذبًا بالمعاد، راداً خبر الله، وخبر رسوله.

(أنى): كلمة استبعاد، وتيئيس. لأنه لا ينتفع من ذكراه ولهذا قال تعالى: (فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرَى) ففي ذلك الوقت لا تنفع الذكرى. والاستفهام هنا للنفي.

(يَقُولُ يَا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَيَاتِي): ليت : أداة تمني. والمعنى ليتني قدمت في حياتي الأولى لحياتي الآخرة، من الإيمان والعمل الصالح. كما أنه عند الموت يقول: (رَبِّ ارْجِعُونِ.لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ) فهو يندم ساعة الاحتضار، ويندم حينما يجاء بجهنم على هذه الصفة.

ثم قال الله - عز وجل : (فَيَوْمَئِذٍ) أي: ذلك اليوم (لَا يُعَذِّبُ عَذَابَهُ أَحَدٌ.وَلَا يُوثِقُ وَثَاقَهُ أَحَدٌ) هكذا بكسر الذال، وبكسر الثاء، وعلى هذا فالضمير في (عذابه)، و(وثاقه) يرجع إلى الله سبحانه. وقرأت بالفتح فيهما، فيكون مرجع الضمير للكافر.

(يَا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ): انتقل إلى أسلوب الخطاب. وهو خطاب للنفس المطمئنة بالإيمان. ومعناها: الآمنة، وقيل الموقنة، وقيل المخبتة، وقيل المصدقة. وهي معانٍ متقاربة . والنفوس ثلاثة أنواع :

1- نفس مطمئنة.

2- ونفس أمارة.

3- ونفس لوامة.

فأما النفس المطمئنة: فهي التي سكنت على محبة الله، ورجائه، وخوفه، والتوكل عليه. فمن سمة النفس المؤمنة الطمأنينة؛ فتجد المؤمن مطمئنًا في اعتقاده، راضيا بالله رباً، وبالإسلام دينًا، وبمحمد نبيًا. وغير المؤمن نفسه تتلجلج، وتعصف بها الشبهات، والظنون الفاسدة، والاعتقادات الباطلة. فالمؤمن قد أوى إلى ركن متين، فهو يقابل نعم الله بشكرها، ويقابل المصائب بالصبر عليها، وإحسان الظن بالله. نسأل الله - تعالى - أن يرزقنا أنفساً مطمئنة، وقلوباً سليمة، وألسنة صادقة.

وأما النفس الأمارة، فنفس متمردة شموس، لا تتعلق بخالقها، وبارئها، فهي على النقيض من الأولى. وأما النفس اللوامة، فنفس تجري في مضمار بين النفسين السابقتين، فتتلوم على صاحبها؛ تتلوم أي: تتلون، تارة تلومه على الخير، وتارة تلومه على الشر. فهي بعد لم تطمئن، وربما آلت إلى أحد الحالين؛ فتمحض للخير، فتصير مطمئنة، وربما تتمحض للشر فتصير أمارة، وربما بقيت مترددة بين الحالين.

(ارْجِعِي إِلَى رَبِّكِ) يعني عودي. أي: إلى خالقك؛ وذلك للوقوف بين يديه، والتنعم بدار كرامته ومجاورته. وقيل: أن المقصود صاحبك الذي كنت فيه في الدنيا، أي للجسد الذي كنت تعمرينه في الدنيا.

ولكن القول الأول أولى؛ لأن الآيات دلت على الرد إلى الله؛ قال الله - عز وجل - في سورة (غافر) (وأنا مردنا إلى الله)، وقال - سبحاته (ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلَاهُمُ الْحَقِّ). ومن قال بالقول الثاني استدل بما جاء في حديث البراء بن عازب: (فيقول الله عز وجل: اكتبوا كتاب عبدي في عليين، وأعيدوه إلى الأرض، فإني منها خلقتهم،وفيها أعيدهم،ومنها أخرجهم تارة أخرى.قال فتعاد روحه في جسده) رواه أحمد.

(راضية) بثواب الله، وموعوده، وما أعده لعباده الصالحين.

(مرضية) اسم مفعول، يعني من قبل الله - عز وجل - فهي راضية عن الله، والله - تعالى - قد رضي عنها، وهذا يوافق قوله: (رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ).

(فَادْخُلِي فِي عِبَادِي) يعني: ادخلي في جملة عبادي الصالحين، وهذا يشعرها بالأنس؛ لأن الإنسان إذا ضم لشكله، وجنسه استأنس بهم.

(وَادْخُلِي جَنَّتِي) جنتي أي: دار كرامتي، ومحل ثوابي.





الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: هول يوم القيامة .

الفائدة الثانية: إثبات صفة المجيء لله - تعالى - على ما يليق بجلاله.

الفائدة الثالثة: إثبات الملائكة، وخضوعهم لربهم.

الفائدة الرابعة: إثبات النار، وشديد عذابها.

الفائدة الخامسة: شدة ندم الكافر يوم القيامة.

الفائدة السادسة: إثبات الوعيد وتحققه.

الفائدة السابعة: إثبات الوعد وتحققه.

الفائدة الثامنة: بيان سمة النفس المؤمنة، وهي الطمأنينة.
 
جزاكم الله خيرا وأحسن الله إليكم..

ومن التفاسير العقدية الجيّدة المفيدة؛ تفسير الشيخ العلامة الدكتور/ محمد تقي الدين الهلالي المغربي-رحمه الله تعالى- بعنوان: (سبيل الرشاد في هدي خير العباد)، فهو كتاب ماتع، رائع، ومن مميزاته:

  • تقرير أنواع التوحيد الثلاثة؛ مع التوسع في توحيد الألوهية (العبادة)، وتوحيد الأسماء والصفات..كما أن الشيخ يذكر قسما رابعا للتوحيد وهو توحيد الإتباع للنبي صلى الله عليه وسلم..
  • ومنها: نقله عمن قبله من التفسيركتفسير الحافظ ابن كثير رحمه الله ، والتعقيب على بعضها بالنقد تارة وبالإضافة من كتب العقيدة تارة أخرى للبيان والشرح..
  • ومنها: ربط تفسير الآيات العقدية بالواقع الدعوي ، بذكر ما حصل له من مناقشات وردود مع المخالفين أثناء أمره بالمعروف ونهيه عن المنكر..
  • تنبيه القاريء إلى الأخطاء العقدية كتعقيبه على ابن الأثير-رحمه الله-في مسألة من مسائل الأسماء والصفات، وكذا التنبيه على بدع الصوفية وشركياتهم..

وهذ رابط فيه شيء من فوائد التفسير المنوّه عنه:
http://vb.tafsir.net/showthread.php?t=21428
 
وإياكم أخي الكريم
بارك الله فيك ونفع الله بك على إفادتك الطيبة لنا
 
بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة البلد (1)

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَا أُقْسِمُ بِهَذَا الْبَلَدِ (1) وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ (2) وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ (4) أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا (6) أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ (10))

سورة (البلد) سميت بهذا الاسم لورود هذا اللفظ فيها. وهذه السورة والتي تليها تتشابهان في بعض المقاصد، بل في كثير من المقاصد، كما سيتبين - إن شاء الله –

فمن مقاصد هذه السورة سورة (البلد):

- بيان طبيعة الحياة، والإنسان : بيان طبيعة الإنسان(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ)، وطبيعة الإنسان بما فيه من صفات وانحرافات في نفسيته، إذا كان كافرا.

- بيان بعض مظاهر الربوبية في النفس.

- إعلاء القيم الإيمانية، والخلقية.

- إثبات المعاد.

(لَا أُقْسِمُ): للمفسرين ثلاثة مذاهب في معناه:

1 - أنه نفي للقسم، يعني: أن هذا الأمر من الظهور، والبيان، بحيث لا يحتاج إلى قسم بهذا البلد.

2 - أن المنفي محذوف: (لا) نافية، وتقدير الكلام: ليس الأمر كما زعمتم، فأُقسم بهذا البلد، فـ(لا) ليست متسلطة على القسم، بل متسلطة على محذوف، أي: ليس الأمر كما زعمتم، وادعيتم، أقسم بهذا البلد، فالقسم إذًا، مثبت، خلافا للقول الأول.

3 - أن (لا) لتأكيد القسم، فالزيادة في المبنى، زيادة في المعنى. فهذا من جنس قوله تعالى: (فلا أقسم بمواقع النجوم *وإنه لقسم لو تعلمون عظيم)، فلم يكن قوله: (فلا أقسم بمواقع النجوم) نفيًا للقسم، بل تأكيدًا له، بدليل قوله: (وإنه لقسم).

وهذا القول الثالث أرجح الأقوال. وبينه وبين القول الأول صلة، فكأنه يدل على أن هذا الأمر بيِّن، واضح، جلي، ظاهر. ويكون هذا الحرف (لا) للتأكيد. ولا يليق التعبير بأن (لا) زائدة، وإن كان من قال إنها زائدة لا يقصد بالزيادة، الحشو - حاشا وكلا - فليس في كتاب الله تعالى حرف زائد عن الحاجة. وإنما قصد أنه لا يراد بها معناها المتبادر، وهو النفي.

والمراد (بالبلد): مكة شرفها الله، فتكون (ال) للعهد.

(وَأَنْتَ حِلٌّ بِهَذَا الْبَلَدِ) فكأن الواو هنا حالية، يعني: أقسم بهذا البلد، حالة كونك حل به، فيتضاعف شرف البلد، بشرف وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - وحصوله به. فمكة، شرفها الله، أشرف حال وجود النبي - صلى الله عليه وسلم - لأنها شرفت بشرف من حل بها.

وقد اختلف المفسرون في قوله (حل)، بعد اتفاقهم على أن المراد بالبلد مكة:

- فذهب بعضهم إلى أن المراد: وأنت يا محمد، قد أحلت لك ساعة من نهار، وذلك عام الفتح، أنه قد أحل لك القتال فيها مع حرمتها، وأنها لم تحل لأحد من قبله، ولن تحل لأحد من بعده. قالوا: وفي هذا دليل على صدق القرآن، وعلى صدق نبوته - صلى الله عليه وسلم -، فإنه على مقتضى هذا القول، قيل له ذلك، وهو بعد في مكة مستضعف، فأخبر الله تعالى بما يكون بعد سنين، أن مكة ستدخل في طاعته، وهو إذاك - صلى الله عليه وسلم - يََّطرد في شعابها، خائفا على نفسه، وعلى أصحابه، ومع ذلك يبشر بهذا. هذا هو القول الأول، وعليه جمع من المفسرين، وله حظ من النظر، والأثر.
- القول الثاني أن معنى (حل) أي: حلال، مقيم. يعني: الحل المقابل للارتحال، فالله تعالى يقسم بهذا البلد حال كون نبيه - صلى الله عليه وسلم - مقيمًا بها في العهد المكي؛ لأن الآية نزلت في مكة.
- القول الثالث: وفيه بعد، أن المراد بـ(حل)، أي: وأنت حلال الدم، قد أهدرت قريش دمك.
(وَوَالِدٍ وَمَا وَلَدَ): الوالد، والولد، متقابلان:

* فقيل إن المراد كل والد وولده، يعني: العموم. وإلى هذا ذهب ابن جرير الطبري - رحمه الله - فيشمل من يلد من الأنس، والجن، والطير، والوحش، وكل شيء. وخصه بعض المفسرين ببعض أنواعه:

- فقال بعضهم أي:آدم وذريته،

- وقال بعضهم إبراهيم وولده؛ لمناسبة ذكر مكة (البلد)

وهذا في الواقع يرجع إلى القول الأول؛ لأنه من تفسير الشيء ببعض أنواعه، والأولى العموم؛ لأن اللفظ العام يشمل جميع أفراده. على أنه قد قيل أيضًا: والد، وغير والد، على اعتبار أن (ما) نافية، كأنه قال: ووالد، وعاقر. وأما على ما تقدم من ذكر العموم، فإنها موصولة.

(لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي كَبَدٍ): اللام جاءت في جواب القسم و(قد) تفيد التأكيد والتحقيق. والمراد جنس الإنسان، أو الكافر، خاصة.

(كَبَدٍ): قيل في تفسيرها: الشدة، والنصب، والعناء. وعلى هذا فإن قلنا أن المراد بالإنسان: جنس الإنسان، فالمعنى: أن كل إنسان يكابد في هذه الحياة، ويعاني ويشقى. كما قال تعالى لآدم، حينما وصف له الجنة: (إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيهَا وَلَا تَعْرَى(118) وَأَنَّكَ لَا تَظْمَأُ فِيهَا وَلَا تَضْحَى)، وقال قبل ذلك: (فَلَا يُخْرِجَنَّكُمَا مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقَى) فمن خرج من الجنة إلى الدنيا فهو في شقاء، وهو المعاناة، والمكابدة، وما يلحق الإنسان في جميع أطواره، من عنت، ومشقة. وهذا أمر يستوي فيه جميع بني ادم،

فالإنسان، لو تأملت في سيرته من حين حمله، إلى وضعه، إلى رضاعه، فترعرعه، وتعرضه في حياته للمرض، والهم، والغم، والشقاء، وأنواع البلايا، إلى حين وفاته، وتجرعه سكرات الموت، في كبد متصل.

تأمل حمل الإنسان، من حين أن يلقى نطفة في رحم أمه، وهو يتقلب من حال إلى حال، ثم إذا اكتمل خلقه، وتهيأ للخروج، خرج من تلك المسالك الضيقة الحرجة، بحال تكون الأم فيها بين الحياة والموت، فيخرج إلى هذه الدنيا، وأول ما يصدر منه أن يصرخ، كما أخبر النبي - صلى الله عليه وسلم - (مَا مِنْ مَوْلُودٍ يُولَدُ إِلاَّ وَالشَّيْطَانُ يَمَسُّهُ حِينَ يُولَدُ فَيَسْتَهِلُّ صَارِخًا مِنْ مَسِّ الشَّيْطَانِ إِيَّاهُ إِلاَّ مَرْيَمَ وَابْنَهَا) متفق عليه، وفي رواية مسلم : (من نخسة الشيطان)، ثم يكابد بعد ذلك الإطعام، والرضاعة، ويطرأ عليه من أنواع التوعكات، والأمراض ما الله به عليم، إلى أن يشتد عوده، ثم بعد أن يشب يلحقه ما يلحق هذا المخلوق الضعيف من الألم، والمرض، والضعف، والهم النفسين وجميع أنواع المزعجات في هذه الدنيا، ثم بعد ذلك يلحقه الكبر، والهرم، والضعف، وما أدراك ما يلحق الكبير في آخر عمره من المشقة؛ في مشيته، وفي هضمه، وفي مزاجه. هكذا الدنيا كبد في كبد. ثم إذا وضع على فراش الموت، اعتصرته السكرات، والشدائد، والكرب، حتى يسلم الروح إلى بارئها. كل ذلك كبد يستوي فيه بنو آدم؛ المؤمن، والكافر، البر، والفاجر, فإنا ما وعدنا بنعيم في هذه الدنيا، وهذا من حكمة الله البالغة. ولأجل ذلك كان في نفس كل مؤمن شوق دفين إلى الجنة، إلى المنازل الأولى، لأنها هي الدار التي ينعم ساكنها، فلا يبأس ولا يحزن، ولا يقلق، ولا يجوع، ولا يضحى، ولا يعطش، ولا يلحقه كبد. هذا الشوق الدفين حكمة بالغة، لما أن أخرجنا الشيطان من الجنة، بوسوسته، وكيده، بقي هذا التوق إلى الرجوع إليها عميقًا في النفس، وفي الفطرة. وقد انشد بن القيم - رحمه الله - في هذا أبياتاً جميلة، تصور هذا المعنى، فقال:

*فحي على جنات عدن فإنها منازلك الأولى وفيها المخيم

ولكننا سبي العدو فهل ترى نرد إلى أوطاننا ونسـلم

فقد سبانا عدونا الشيطان، وأخرجنا من الجنة بوسوسته وإغرائه لأبوينا.فنحن كالأسير، في سجن، في بقعة من بقاع الأرض، يعتلج في قلبه من الشوق إلى موطنه، ومنازله الأولى، شيء مالا يوصف. فنحن كذلك! نحن أسرى، مرتهنون في هذه الدنيا، نشعر بالشوق إلى دارنا الأولى.

وقد زعموا أن الغريب إذا نأى وشطت به أوطانه فهو مغرم
وأي اغتراب فوق غربتنا التي لها أضحت الأعداء فينا تحكم*

كأننا في غربة، فهذه الدنيا، جعلها الله، عز وجل، بحكمته البالغة، على هذا النسق وعلى هذه الوضعية؛ الواحد لا يكاد يفرح، حتى يبتئس، ولا يكاد يصح، حتى يمرض، ولا يكاد يهنأ، حتى يشقى، يتقلب في الأحوال، كما في قول الله تعالى (لتركبن طبقا عن طبق) جعلها الله تعالى ذلك، حتى لا نستنيم، ونسترسل، وننسى عبادة ربنا، عز وجل، بل نحس بالحاجة الماسة إلى العود إلى الحياة الهانئة، إلى الحياة المستقرة، إلى الحياة المطمئنة، إلى الحياة الحقيقية: (وَإِنَّ الدَّارَ الآَخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ)

- التوجيه الثاني: أن يقال إن الإنسان هنا المراد به: الكافر المنكر للبعث، ويؤيد هذا المعنى أنه هو الذي يعيش الكبد الحقيقي، فإن الله تعالى قال: (وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى)، فالكافر يجد من العناء، والعنت، والمشقة، أضعاف ما يجده المؤمن في هذه الدنيا، وإن بدا خلاف ذلك، وإن بدا يرفل بالأثواب الفاخرة، ويركب المراكب الفارهة، ويسكن القصور العامرة، لكن في قلبه فاقة، ونكد، وشقاء، وضنك، كما قال الله، عز وجل: (فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكًا).

وقبل أن نغادر هذه اللفظ (كبد)، نشير إلى أقوال أخرى ذكرت في ذلك :

- قيل إن من معاني (كبد) أي: منتصبًا، معتدل القامة. وهذا يتناسب مع ما سيذكر بعد ذلك (أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ . وَلِسَانًا وَشَفَتَيْنِ) لكن المعنى الأول مقدم.
- وقيل معنى ثالث، لكنه مغرب، وهو: أن المراد بـ(الكبد) السماء، كما يقال: في كبد السماء، وأن آدم خلق في السماء، فيكون المراد بالإنسان آدم.
(أَيَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ) استفهام إنكاري، يعني: أيظن ذلك الإنسان أن لن يقهره، ويغلبه أحد، وهذا يؤيد أن المراد بالإنسان: الكافر. ويقال إن هذه الآية نزلت في رجل من قريش، شديد، منيع، عزيز، قوي البنية، قوي الخلقة، شديد البطش، يقال له *أبو الأشد ابن كلدة* كان يفتخر بقوته، ويضع تحت رجليه الأديم، ثم يتحدى القوم، يتحدى العشرة أن يزحزحوه من تحت رجليه، فيجذبونه، فيتقطع بين أيدهم، ولما يتحرك من موضعه لشدته.

ولا شك أن الأخذ بالعموم مقدم، ولا يمنع أن يكون هذا من صورها، وأن ذلك الكافر الذي زعم أن لن يقدر عليه أحد، يدخل في معناها.

(يقول) أي: ذلك الإنسان الكافر.

(أَهْلَكْتُ مَالًا لُبَدًا) أي: أفنيت وأنفقت، وهو كناية عن كثرة الإنفاق، وعدم المبالاة. لأن هذه اللفظة (أَهْلَكْتُ) تدل على المجازفة، وعدم المبالاة، وكثرة المنفق. وهذا من بلاغة القرآن؛ كل كلمة في موضعها، لا تقوم أخرى مقامها تمامًا، بل يحتاج لتوضيح الكلمة الواحدة إلى عدة مفردات.

(لُبَدًا) يعني: مالا كثيرا، قد تراكم بعضه فوق بعض لكثرته، فهذا الكافر يتفاخر بأنه ينفق الأموال يمنة ويسرة، ولا يبالي بالنفقة، ويفخر بهذا الصنيع.

(أَيَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ) أي أيظن ذلك الكافر أن الله لم يطلع عليه، وهو يفرق هذه الأموال، وينفقها للصد عن سبيل الله؟ ولا شك أن في مثل هذا التعبير تهديد بليغ.

يحسب الكافر أنه بمنأى عن الله كما ذكر الله، عز وجل: (أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لَا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ) (لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ). إن غياب هذا المعنى عن الكفار هو الذي أوردهم المهالك. قال تعالى: (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ). هذه الغفلة المطبقة عن الله، عز وجل، وعن الشعور برقابته، هي التي أوردتهم المهالك. وهكذا، حينما يطيف بقلب المسلمن نوع غفلة، فيسرف في المعاصي والذنوب، وإن كانت غفلة نسبية، لكن بقدر ما يقع في القلب من الغفلة، تزل بك القدم، وتقع فريسة الذنوب، وفريسة هواجس الشيطانز وحينما يستنير قلبك بمصباح الذكرى، والعلم بالله، فإن هذا النور الإلهي يحرق جميع الشهوات، وجميع الشبهات. ويستنير القلب، ويبصر الأشياء كما هي، ويميز بين الحق والباطل، يكون عنده فرقان، ويركل هذه الشهوات، فتبدو أمامه، وكأنها لا شيء، لا يباليها، ولا يتأثر بها، بفضل هذه الذكرى التي قامت في قلبه؛ من العلم بالله، ومعرفته. وهذا يدلنا على أهمية تعاهد القلب بالذكرى، فإن حياة القلب بالذكرى (فَإِنَّ الذِّكْرَى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ) فليحذر الإنسان من الغفلة. قال الله تعالى: (أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ) فإذا آنست من قلبك قسوة، فاستلنه بالذكرى، وابحث عن مثيرات الإيمان، ومثبتات اليقين، حتى يرجع القلب إلى صحته، وطبيعته. وإياك أن تتمادى في الغفلة، فإنه كلما تماديت صعب العود.

ثم تغير أسلوب السورة، وأتى لون جديد من وقع الآيات، والجمل، فقال تعالى:

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَلِسَانًا) وَشَفَتَيْنِ (9) وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) في القرآن من الوقع الجميل، والتأثير البليغ، والأسجاع الحسنة، ما يأخذ بمجامع القلوب.

(أَلَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ) هذا استفهام تقريري، بمعنى جعلنا له عينين، ولسانا وشفتين، وهديناه النجدين. وهذا من مظاهر ربوبية الله في النفس؛ لأن مظاهر الربوبية تكون في النفس، وتكون في الأفاق، ففي هذه السورة ذكر الله تعالى مظاهر الربوبية في النفس، وفي السورة التالية، سيذكر مظاهر الربوبية في الآفاق. وقد قال ربنا، عز وجل: (سَنُرِيهِمْ آَيَاتِنَا فِي الْآَفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ)

جعل الله تعالى لكل إنسان عينين يبصر بهما، وهذا من عجائب الخلق! فما الذي أودع هذه الخلايا القدرة على البصر؟ لمَ لا يبصر الإنسان بإبهامه؟ كيف جعل الله، عز وجل، هذه الحدقة، وفيها العين التي كاللؤلؤة تتألق، وتبصر الأشياء، وتتعرف عليها؟

وفي هذه اللفتات، هز لهذه النفوس الغافلة، التي وجدت نفسها على هيئة معينة، ثم لم تتفكر في أنفسها. وقد قال ربنا (وفي أنفسكم أفلا تبصرون).

(وَلِسَانًا) هذا اللسان يتكون من عشرات، وربما المئات، من العضلات، التي تعمل في كافة الاتجاهات؛ صعودًا، وهبوطًا، يمنًة، ويسرًة، تقوسًا وامتدادًا، لتساعد في تكوين الكلمات، والبيان. لو قطع اللسان، لو شل، لصار الإنسان كالبهيمة العجماء، لا يستطيع أن يعرب عن نفسه.

(وَشَفَتَيْنِ) هاتان الشفتان اللتان كالبوابة لجوف الإنسان، يفتحهما، ويغلقهما بمقدار، فيهما جمال، وفيهما فائدة. لو تأمل الإنسان في فائدتها، لوجد عجبا؛ هذه الأنسجة التي تغطي الشفتين، ذات طبيعة خاصة لحفظ للجوف. ويتبين لك ذلك حينما يصاب الإنسان بآفة في شفتيه؛ فيتعطل كلامه، أو يلتاث، ويسيل لعابه من فيه، كما المعتوه، أو البهيمة. يدرك الإنسان أن هذا الخلق خلق عجيب، وضع في موضعه. وهذا جزء من كل، وقليل من كثير، من عجيب خلق الله للإنسان. وإلا فإن في خلق الإنسان، ما إن يعد، لا يحصى، من عجيب خلق الله سبحانه وتعالى.

ثم تأمل (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ) هديناه أي: دللناه، وبينا له، وعرفناه. وهذه الهداية هداية دلالة، وبيان؛ لأن المراد بالنجدين: طريق الخير، أو الشر. يعني: أن الله سبحانه وتعالى، عرف هذا الإنسان الخير والشر، وأمره بالخير، ونهاه عن الشر.

والأصل أن النجد: ما ارتفع عن الأرض، فكأنه طريق بيِّن، واضح، لبروزه وظهوره. وقال بعض المفسرين إن المراد (بالنجدين) الثديين. ومناسبة اللفظ للثديين واضح لأن الثدي بارز. وهذا القول ليس بعيدًا، وإن كان القول الأول قول أرجح. لكن مع ذلك فإن هذا القول وقد روي عن بعض الصحابة، ليس بعيدًا، لأنه مناسب لما تقدم من ذكر اللسان، والشفتين، والعينين.

فلا عجب أن يراد بالنجدين الثديين (وَهَدَيْنَاهُ النَّجْدَيْنِ)، وذلك أن الله سبحانه وتعالى ألهم المولود أن يلتقم ثدي أمه، دون أن يتلقى دروسًا في طريقة الرضاعة! طفل لا يملك شيئا من المعرفة، ومع ذلك ما أن تضمه الأم إلى صدرها، وتلقمه حلمة ثديها، حتى يشرع في تناول رزقه، من بين له ذلك؟ من عرفه ذلك؟ وشيئًا، فشيئًا، يصبح الأمر بالنسبة له وجبة معتادة.

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: تعظيم مكة شرفها الله لأن الله تعالى أقسم بها.

الفائدة الثانية: زيادة شرفها بحصوله - صلى الله عليه وسلم – فيها.

الفائدة الثالثة: بيان اسم من أسماء مكة (البلد).

الفائدة الرابعة: أن الدنيا دار مكابدة وعناء، وهي على الكافر أشد.

الفائدة الخامسة: تسلية النبي (صلى اله عليه وسلم)، وتسلية كل مؤمن.

الفائدة السادسة: سوء تقدير الكافر، وغروره. فحسابات الكافر دائمًا، خاطئة ونتائجها خاطئة. لأنها انطلقت من مقدمات خاطئة.

الفائدة السابعة: ذم الصلف، والمباهاة.

الفائدة الثامنة: غفلة الكافر عن اطلاع الله عليه.

الفائدة التاسعة: كمال ربوبية الله سبحانه.

الفائدة العاشرة: هداية الدلالة، والبيان، على أن المراد: (بالنجدين) طريق الخير أو الشر. وعلى القول أن المراد:(الثديين)، فهي الهداية العامة، وهي هداية العبد لمصالحه المعاشية.
 
سورة البلد (2)

سورة البلد (2)

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء عم

سورة البلد (2)

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14) يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ (19) عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ (20))

يقول الله - عز وجل - بعد أن بيَّن نعمه، وآلاءه، على ابن آدم، المتكبر، المتجبر، الذي يحسب أن لن يقدر عليه أحد، ويحسب أن لم يره أحد :

(فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ) (فلا) أي: فهلا (اقتحم) الاقتحام: هو مجاوزة الشيء بشدة، وسرعة.

(العقبة): العقبة في اللغة: الطريق الصعب، الوعر في الجبل. وعبور هذه العقبة يحتاج إلى شدة، وسرعة، ومضي، وتحامل على النفس. لأنه ليس طريقًا مفروشًا بالورود، والرياحين، بل فيه معاناة.

وقد فسرتها الآيات بعدها: (فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ). فالمراد باقتحام العقبة: القيام بالأعمال الصالحة، الشاقة على النفس. لأن القيام بهذه الأعمال يحتاج إلى مجاهدة، ويحتاج إلى مفارقة للشهوات، وتحامل على النفس، واطراح لشهواتها، فلذلك شبهه باقتحام العقبة.

وقد عظم الله - عز وجل - من شأنها فقال: (وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ) هذا الاستفهام للتعظيم، والتفخيم. ثم قال مبينًا لها (فَكُّ رَقَبَةٍ) أي: أن اقتحام العقبة يحصل بفعل هذه الأشياء:

(فَكُّ رَقَبَةٍ) فكها من الرق، وذلك بالعتق.

(أَوْ إِطْعَامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ): (أو) للتنويع، (يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ) يعني: في يوم شديد المجاعة، لأن الإطعام في يوم المجاعة ليس كالإطعام في غيره. حين تعم المجاعة يصبح لدى النفس شحًا مضاعفاً في المحافظة على ما تملك، خشية أن يلحقها ما لحق غيرها. فالذي يطعم في المسغبة، ليس كالذي يطعم في الوفرة. فالعمل، وإن كانت صورته واحدة، يتفاوت بتفاوت الأحوال. قال تعالى: (لَا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ أُولَئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَقَاتَلُوا). ثم بيَّن نوع المطعم، فقال:

(يَتِيمًا ذَا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِينًا ذَا مَتْرَبَةٍ) وهذا يبين، أيضاً، أن الإطعام كما أنه يتفاوت من جهة الحال، يتفاوت من حيث المطعم، فيعظم الأجر بكون ذلك الإطعام ليتيم تربطك فيه صلة قرابة، أو مسكين أسكنته الفاقة.

واليتيم: من مات أبوه، ولم يبلغ الحلم. فإذا كان ذا مقربة زاد الثواب؛ لأن الصدقة على القريب، صدقة، وصلة. والأقربون أولى بالمعروف، وابدأ بنفسك ومن تعول. فهذا يدل على فضل النفقة على القريب المحتاج، وأنه يقدم على غيره، ولهذا سوغ العلماء إخراج الزكاة عن البلد لقريب في بلد أخر.

والمسكين: هو من أسكنته الحاجة، يعني: خفضته، فتجد الفقير، صاحب الحاجة، يشعر بالضعة، والانحطاط، بخلاف الغني، المكتفي، الذي يشعر بالزهو، والترفع.

واختلفت عبارات المفسرين في معنى متربة: فقيل أي: لصوق بالتراب، لشدة فقره، كما يقول الناس عن الفقير المدقع: ما عنده إلا التراب! لأنه لا يملك إلا أن يبحث في التراب. قال ابن عباس - رضي الله عنهما - هو المطروح على ظهر الطريق. وقيل في تفسير(المتربة) أي: شديد الحاجة. وقيل هو صاحب العيال، ولا مال. وهي معاني متقاربة.

(ثُمَّ كَانَ مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ): (ثم) هنا، لم يرد بها الترتيب الزمني؛ بل الترتيب الذكري. يعني: ليس معنى ذلك أنه صار من الذين آمنوا بعد أن اقتحم العقبة، بل المعنى: وكان مع ذلك (مِنَ الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ).

(تواصوا): أي أوصى بعضهم بعضًا. والصبر في اللغة: معناه الحبس،وهو ثلاثة أنواع:

1- صبر على طاعة الله، بالقيام بأوامره.

2- وصبر عن معصية الله، بالكف عن محارمه.

3- وصبر على أقدار الله المؤلمة، في نفسه، أو أهله، أو ماله، فيعلم أنها من عند الله، فيرضي، ويسلم،

ومنزلة الصبر من الدين، كمنزلة الرأس من الجسد. وقد أثنى الله تعالى على الصابرين، في نحو أربعين موضعًا.

(وَتَوَاصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ) (المرحمة) أي: رحمة الخلق. وهذا مناسب لما تقدم من عتق الرقاب، وإطعام اليتيم، والمسكين. وفي هذا دلالة على القيم الخلقية في هذا الدين العظيم، وأنه هو دين الرحمة، والإحسان، خلافًا لما يصمه به أعداؤه، وهم أولى بذلك، من وصمه بالإرهاب، وغير ذلك من ألقاب السوء.

(أُولَئِكَ أَصْحَابُ الْمَيْمَنَةِ) المشار إليهم الذين اقتحموا العقبة، بفعل هذه الأعمال الجليلة. والناس: إما أصحاب ميمنة، وإما أصحاب مشأمة. فأصحاب اليمين، نخبتهم هم السابقون، يقابلهم أصحاب المشأمة، أصحاب الشمال. وهذا التقسيم موجود في كتاب الله - عز وجل - في غير ما موضع.

(وَالَّذِينَ كَفَرُوا بِآَيَاتِنَا هُمْ أَصْحَابُ الْمَشْأَمَةِ) فالمشأمة أي: الشمال، وفيها أيضًا، معنى الشؤم. (عَلَيْهِمْ نَارٌ مُؤْصَدَةٌ) لاحظ التعبير بـ (عليهم)، لم يقل هم في نار مؤصدة، وذلك لإطباقها عليهم. فمعنى (مؤصدة): مطبقة مغلقة - أجارنا الله وإياكم – لا منفذ لهم، قد أوصدت أبوابها، وأغلقت عليهم، لا يخرجون منها (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا).

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: مشقة الأعمال الصالحة على النفس.

الفائدة الثانية: الحاجة إلى المجاهدة.

الفائدة الثالثة : فضل عتق الرقاب، وإطعام الطعام لذوي القرابة والحاجة.

الفائدة الرابعة : أن من أبرز صفات المؤمنين الصبر، والمرحمة.

الفائدة الخامسة : حسن عاقبة المؤمنين.

الفائدة السادسة : شؤم عاقبة الكافرين.

الفائدة السابعة : إثبات البعث، والجنة، والنار.
 
سورة الشمس (كاملة)

سورة الشمس (كاملة)

بسم الله الرحمن الرحيم

التفسير العقدي لجزء (عم)

سورة الشمس (كاملة)

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم

[وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا (7) فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا (10)

* هذه السورة، سورة (الشمس)، سميت بهذا الاسم:

لأن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بالشمس في مستهلها،

* ومن مقاصد هذه السورة:

- بيان طبيعة النفس البشرية، وطريقة إصلاحها.

- تذكير الكفار بأيام الله، في الغابرين.



استهل الله - عز وجل - هذه السورة بعدة أقسام، فقال:

(وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا (1) وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا (2) وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا (3) وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا (4) وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا (5) وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا (6) وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا) على حقيقة عظيمة: (قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا (9) وَقَدْ خَابَ مَنْ دَسَّاهَا) ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.

فأولها: الشمس، وهو الكائن العظيم، والمخلوق الكبير، والجرم الملتهب، الذي يمد حياتنا بالدفء والضياء، فلا حياة للحيوانات، ولا للنباتات، بدونه.

فقد جعل الله - تعالى - هذه الشمس (سراجاً وهاجا)؛ ففيها الإضاءة، وفيها الدفء، وفيها أثر لم يكن معروفاً للناس قديماً؛ وهو أن هذا الضوء المنبعث من الشمس ضروري لعمليات التمثيل الضوئي في النباتات، التي يحصل بها النمو، كما هو معروف لدى علماء الطبيعة.

ثم أقسم ثانياً، بالضحى، فقال: (وَضُحَاهَا)

وقد اختلف في المراد (بضحاها) هل هو النهار كله؟ أم أنه أول النهار؟ ولا شك أن معنى الضحى هو الضوء الذي يكون في أول النهار. وأجلى ما يكون الضوء، في أول النهار، لأنه يأتي عقيب ظلمة، فيتبين فضل هذا الضوء، فلذلك أقسم الله - تعالى – به، وعطفه على الشمس التي هي مصدره.

(وَالْقَمَرِ إِذَا تَلَاهَا) القمر: كوكب، وليس نجمًا، كما الشمس، فالشمس جرم ملتهب، ولذلك يبعث الحرارة، أما القمر فإنه كوكب بارد، ليس فيه حرارة، وإنما هو مرآة يعكس نور الشمس على الأرض، ولذلك تكون إضاءته بحسب حاله من الشهر، فأول الشهر يكون هلالاً، لكون الأرض تحجب معظمه، منه فلا يقع عليه ضوء الشمس، ثم لا يزال يتسع، ويتسع حتى يصل إلى درجة الإبدار في منتصف الشهر، حينما يكون مستقلاً، منفصلاً، وجاه الشمس، ثم يأخذ في آخر الشهر بالانحسار، حتى يتدأدأ، ثم ينمحق، ويستسر، ثم يبدأ دورة من جديد. فحينما يقسم الله - تعالى - بهذه المخلوقات ينبه على منافعها، وعلى جريانها، الذي يدركه كل أحد.

(إذا تَلَاهَا) أي تبعها طالعاً بعد غروبها؛ وذلك أنه لا سلطان للقمر، مع سطان الشمس، فإن ضوء الشمس يغلب ضوء القمر، حتى لو رؤى القمر أحياناً، أثناء النهار، فإنما يرى كما يرى الغيم، أبيض، خافتاً، غير مشع، فسلطان الشمس، وضوؤها، أعلى، وأقوى من ضوء القمر؛ لأنه فرع عنه، فلذا قدمه بالذكر.

(وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا) يعني: إذا ارتفعت فيه الشمس، وبان ضوؤها. وكأنما هذا النهار صفحة لظهور الشمس؛ فالنور المنبعث من جهة ما، لا يعلم أنه نور حتى يصطدم بحائل، فلذلك تحصل تجليتها بارتفاعها وبيان ضوئها على الأرض وقت النهار



(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَاهَا) أي: غطى بظلمته عند المغيب. ومرجع الضمير للشمس؛ كما الضمائر السابقة، فكأنما الليل يغشى الشمس الذي انسحب ضوؤها، وحل محله الظلام.

(وَالسَّمَاءِ وَمَا بَنَاهَا): السماء معروفة، وهي السقف المرفوع فوقنا. وإنما سميت سماء من السمو، وهو الارتفاع. وهذا التعبير (بناها) يدلنا على أن السماء جسم، وليست عماء. قال الله - عز وجل - (وَجَعَلْنَا السَّمَاءَ سَقْفًا مَحْفُوظًا). كما أنها طبقات، بعضها فوق بعض، قال تعالى: (الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَمَوَاتٍ طباقاً).

(وما بناها) ما: تحتمل معنيين: إما أن تكون موصولة بمعنى من، أو تكون مصدرية. فإن قلنا هي موصولة، فقد أقسم الله - تعالى – ببانيها، وهو الله - تعالى - نفسه.

وإن كانت المصدرية، فيكون تقدير الكلام: والسماء وبناءها. بمعنى خلقها. ولا شك أن هذا البناء من الله - تعالى - لكن البناء نفسه، مخلوق، فيكون الله - تعالى - قد أقسم أيضا بخلقٍ من خلقه، كما أقسم بالسماء.

(وَالْأَرْضِ وَمَا طَحَاهَا) المراد هذه الأرض المبصرة ، وهي: التي يدب عليها الآدميون، والحيوان، والهوام، والزواحف، وغيرها.

(طحاها) أي: بسطها، بمعنى أنه جعلها منبسطة للسائرين، ممهدة لهم. ويقال في (مَا) ما قيل في (ما بناها) فإما أن تكون (ما) بمعنى من أو تكون(ما) بمعنى المصدرية.

وهذه مشاهد كونية متقابلة. وهي مشاهد تتكرر على كل آدمي، ولكنه لا يلقى لها بالاً، ولا يرفع بها رأساً، ولا يتأمل بديع صنع الله، وحكمته البالغة في تسير هذا الكون، وما ينبغي أن يتوصل إليه من العبودية لهذا الخالق العظيم، الذي أوجد هذا النظام البديع، وهذا النسق المميز. ففيها تحريك لهذه القلوب الغافلة، والنفوس البليدة، لتبصر، وتتفكر فيما حولها، ولا تكتفي بالنظرة السطحية التي لا تثمر لها شيئا



(وَنَفْسٍ وَمَا سَوَّاهَا): (وَنَفْسٍ) اسم جنس لكل نفس. ومعنى (سواها) أي: خلقها سوية معتدلة. و(ما): يتكرر فيها ما تقدم من أن تكون بمعنى الذي، أو بمعنى المصدر.



(فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) هذا التفصيل جاء بين القسم والمقسم عليه. ومعنى (أَلْهَمَهَا) كما قال الراغب الأصفهاني - رحمه الله - في (مفردات القرآن) : (الإلهام: إيقاع الشيء في الروع، ويختص ذلك بما كان من جهة الله - تعالى - وجهة الملأ الأعلى) كقول النبي: - صلى الله عليه وسلم - (إن روح القدس نفث في روعي، أنه لن تموت نفس حتى تستكمل رزقها وأجلها)

وقد اختلف في المراد بالإلهام في هذا السياق :

- فقيل: بيَّن لها الخير والشر، أي: علمها.

- وقيل: جعل فيها القبول للخير والشر، أي: خلق فيها.

فمعنى قوله (فَأَلْهَمَهَا فُجُورَهَا وَتَقْوَاهَا) أي: جعل فيها الاستعداد لقبول الخير، والاستعداد لقبول الشر. ففيها تهيؤ لكلا الأمرين. وبذلك تميزت عن النفس الملَكية، وعن النفس الشيطانية. فإن النفس الملَكية، متمحضة للخير،فقط. فملائكة الرحمن يسبحون الليل والنهار (لا يفترون)، (لا يسئمون)، (لا يستحسرون)، لا تحدثهم نفوسهم إلا بطاعة الله، وتقواه. والنفوس الشيطانية، نفوس متمحضة للشر، فقط. ليس فيها نازع خير. أما النفس الإنسانية فجاءت بين بين. ركب الله - تعالى - فيها نوازع للخير ونوازع للشر. ولأجل ذلك كانت محل الابتلاء، والاختبار. فبعد أن بيَّن الله حقيقة النفس، قال إثر ذلك، وهو جواب الأقسام المتعددة السابقة:

(قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاهَا) الفلاح: هو الفوز بالمطلوب، والنجاة من المرهوب.

(وَقَدْ خَابَ) أي: خسر. ومعنى (دساها) أي: أخفاها، من التدسية، وهي: الإخمال، والإخفاء، بالكفر، والذنوب، والأخلاق الدنيئة. ولفظ الكفر، نفسه، يدل على التغطية. ولهذا سمي الزراع كفارا؛ لأنهم يغطون البذور بالتراب. فأصل الكفر التغطية، لأن الكافر غطى فطرته، وأخفاها. فالواجب أن يسعى المرء إلى الفلاح بتزكيتها، وأن يتجنب الخيبة، والخسار بتدسيتها. فوظيفة ابن ادم في هذه الحياة، أن يزكي نفسه، بتنمية بواعث الخير، وإخفاء، وإقصاء نوازع الشر. هذا مشروع العمر، وهذه خطة الحياة، لمن أراد النجاة من المرهوب، والفوز بالمطلوب.

وهذا في الحقيقة مبحث مهم، يتعلق بفقه النفس. ويوجد له علم مستقل، يسمى (علم النفس) وهو من العلوم الإنسانية، اشتغل به جميع من في الأرض، يسمونه (سيكولوجي) أي: علم النفس. ولكن علم النفس الحديث، تكوَّن بعيدًا عن نور الكتاب والسنة، واعتمد على الملاحظة والاستنتاج، المجردين. ولا شك أن علم النفس قد توصل إلى نتائج مفيدة، وكون تراكمات علمية صحيحة، إلا إنه لا يزال قاصرًا قصورًا عظيمًا، لأنه لم يستنر بنور الوحي. فعلماء النفس المعاصرون، ومن سبقهم، يرون أن مقتضى البحث العلمي، تنحية جميع الأمور الغيبية، والدينية عن مجال بحثهم! وهذا في الحقيقة حرمان، وخسران، فإن الله - تعالى - هو خالق النفس، وقد قال: (أَلا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ). فخالق النفس أعلم بمن خلق، وما خلق. فإذا حدثنا الله - تعالى - عن النفس الإنسانية، فكلامه كلام العليم الخبير، فمن زهد به، واستغنى عنه، فإنه يقع في قصور عظيم، وضلال بعيد. ولأجل هذا نجد علماء الملة، الذين توجهوا إلى العناية بتهذيب النفوس، وإصلاح القلوب، هدوا هداية عظيمة، بفضل استنارتهم بنور الكتاب والسنة، وتوصلوا إلى لب الموضوع، وأصابوا كبد الحقيقة، بأقصر طريق، كما تجد هذا النفس الإيماني المشرق، الذي ينفذ إلى الحقيقة مباشرة، في كلام الأئمة الأعلام، كشيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم،، رحمهما الله.

بينما يتخبط علماء النفس القدامى، والمحدثون، في نظريات مختلفة، تُطوِّح بهم يمينًا، وشمالاً، بسبب هذه النزعة العَلمانية، التي تنحي الدين جانبًا، وتتعامل مع الماديات فقط، فلا يهتدون إلى الحقيقة الكاملة، وإن أدركوا بعضها.



وبهذا يتبين اختلاف الخطة في فهم النفس الإنسانية، ومعالجتها، بين أهل الإيمان، وبين أرباب المدارس النفسية المختلفة. فمدرسة (سجموند فرويد) تنظر إلى النفس الإنسانية نظرة جنسية بحتة، وأن دوافع الإنسان المختلفة نابعة من الغريزة الجنسية، فيفسر تصرفاته، ويلبي حاجاته بناءً على هذا الأساس.

وهناك من ينظر إلى الإنسان بوصفه المادي، الحسي، البهيمي. فنظرته للإنسان نظرة الباحث عن الطعام، فيهتم بتلبية هذه الجوانب المادية، ولا يلقي بالا للجوانب الوجدانية.

وهناك، على النقيض، من ينظر إلى الجوانب الإشراقية، والروحانية، فيُغرِق فيها، كما في الفلسفات الشرقية المختلفة، التي تدعو إلى تعذيب الجسد، في سبيل انعتاق الروح، لبلوغ درجة (النرفانا)، كما يوجد في البوذية والهندوسية.

وكل هذه المذاهب، تتخبط في دياجير الظلمات. أما ما جاء من عند الله، فهو القسطاس المستقيم، والميزان الدقيق، الذي يوائم بين أشواق الروح، وحاجات الجسد. فالكائن الإنساني خلقه الله - تعالى - من قبضة من تراب، ومن نفخة من روح، ففي بنيته جوانب معنوية، روحانية، وفيه جوانب بدنية، حسية. والعقيدة، والشريعة، أتتا لتلبية الأمرين معًا، لم تحتفيا بجانب، وتهملا جانبًا، بل تعاملتا مع النفس الإنسانية، كما خلقها بارئها.

ولهذا نجد في كتاب الله - عز وجل - وفي سنة نبيه - صلى الله عليه وسلم - ما يلبي أفراح الروح، وما يلبي نزعات الجسد. فلا رهبانية في الإسلام، وقد نهى رسول الله صلى الله عليه وسلم، عن التبتل. وفي نفس الوقت لا اتباع للشهوات، وعبادة الجسد. نجد منظومة متناسبة بين هذين الأمرين، لا يجتمعان إلا فيما جاء به القرآن والسنة.

هذا هو (علم النفس الإسلامي) الذي ينبغي أن يخدم، وأن يعتني به، وأن تجمع مفرداته، وأن يؤسس تأسيساً مستقلاً، غير متأثر بالنظريات الأرضية. ولا يكفي، لمن أراد أن يؤسس علم نفس إسلامي، أن يأتي إلى التراث الغربي، أو الشرقي، وينتخب منه، ثم يضع بعد كل جملة، لاحقة: ( في حدود الشريعة الإسلامية) أو (في إطار الشريعة الإسلامية) هذا ليس أسلمة لعلم النفس، هذا نوع من التلفيق.

إذا أردنا أن يكون لدينا علم نفس إسلامي، فيجب أن نغوص في نصوص الكتاب والسنة، المتعلقة بالنفس الإنسانية، وأن نستنبط منها القواعد، والأسس، التي ترسم معالم هذه النفس، ثم نبوِّب الأبواب، ونرسم المنطلقات، فيكون لنا استقلالنا في نظرتنا إلى النفس الإنسانية، بدلا من أن نجتر كثيرًا من تجارب، وأخطاء الآخرين؛ من الشرق أو الغرب، كما هو الواقع، وللأسف، في الجامعات التي تدرس في أقسامها علم النفس.

ومن الدلالات التربوية لهذه الآية، أن يعلم الإنسان بأن في نفسه مخزوناً للخير، وأن عليه أن يستنبط هذا المخزون، ولا يدعه مطموراً، مغموراً، في مطاوي النفس.

كثير من الناس يحيا، ويموت، ولم يستخرج هذا الخير الذي ألهم إياه! ولأجل ذا، يجب على العاقل، أن يفكر جيدًا، كيف يستحث، ويستثير هذا الخير الذي في النفس. فقد امتن الله - تعالى - على إبراهيم، عليه السلام، فقال: (وَلَقَدْ آَتَيْنَا إِبْرَاهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَكُنَّا بِهِ عَالِمِينَ)

إذا! الرشد يمكن أن يؤتاه الإنسان، ويمكن ألا يؤتاه. كما لو قدرنا دولة من الدول في أراضيها مخزون من النفط، أو من المعادن الثمينة، فإن استطاعت إيجاد الآليات، لاستخراج هذا المخزون، والانتفاع به، عادت دولة قوية، ذات رفاهية. وإن هي أهملته، بقي مطمورًا، عبر القرون، وبقيت دولة فقيرة، متخلفة. فكذلك أرض القلب، فيها مخزون، مذخور، فاستنبطه، واستخرجه، وانتفع به.

ومما يدل على هذا المعنى حديث الحصين بن معبد الخزاعي، فإنه قد لقي النبي - صلى الله عليه وسلم - فدعاه إلى الإسلام، وقال له: يا حصين! كم تعبد؟ قال: سبعة؛ ستةً في الأرضن وواحداً في السماء. قال: فمن الذي تعده لرغبك، ورهبك؟ قال: الذي في السماء. قال: فاعبده، ودع ما سواه. فإنك إن أسلمت، علمتك كلمتين. فمضى الحصين، ثم من الله تعالى عليه فأسلم، وأتى النبي - صلى الله عليه وسلم - يسأله الموعدة، فقال له النبي - صلى الله عليه وسلم - وهو الصادق، البر، الأمين : (قل: اللهم ألهمني رشدي، وأعذني من شر نفسي)

إذًا لك رشد، ربما تلهم إياه، ربما لا تلهم إياه! فسل الله أن يلهمك رشدك، وأن يعيذك من شر نفسك. لان في نفسك شر، قد ينبعث عليك، وينفجر في وقت، فيهلكك. فهذه الوصية النبوية، موافقة لمدلول الآية.



الفوائد المستنبطة من الآيات السابقة

الفائدة الأولى: أن تنوع الأقسام وتعددها، دليل على أهمية المقسم به.

الفائدة الثانية: لفت النظر إلى بديع صنع الله، وتنبيه الغافلين.

الفائدة الثالثة: الطبيعة المزدوجة للنفس الإنسانية.

الفائدة الرابعة: الابتلاء والاختبار الذي يترتب عليه الثواب والعقاب.


قال الله تعالى:
[كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا (12) فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ نَاقَةَ اللَّهِ وَسُقْيَاهَا (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاهَا (14) وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا (15)]

(كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْوَاهَا) ثمود: قبيلة قوية، من العرب البائدة، كانت تسكن وادي القرى، أو منطقة الحِجر، الواقعة بين مكة، والشام، والمعروفة، حاليًا، بمدائن صالح.

(بطغواها) أي: بتجاوزها الحد. فالباء سببية، يعني: هذا هو سبب تكذيبيها. والطغيان هو تجاوز الحد، كما قال الله تعالى: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ)

وقد أتاهم قوة، ومكنهم أن ينحتوا من الجبال بيوتاً، وأن يتخذوا من سهولها قصورًا، فبلغ بهم الطغيان أن كذبوا نبيهم صالح، وزادوا على ذلك بما وصف الله:

(إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) (انبعث) يعني خرج بسرعة، أو انتدب. وأشقى ثمود، هو (قِدار بن سالف) بضم القاف. وكان من قصة ثمود، أنهم طالبوا نبيهم صالح (عليه السلام) بآية. وقد جرت سنة الله أن الآيات المقترحة تكون شؤمًا على أصحابها. فقالوا: أخرج لنا من هذه الصخرة الصماء، ناقة عشراء ،فنؤمن! فأقام عليهم الحجة، وأخرج لهم من صخرة صماء، ناقة عشراء. يعني: قد بلغت شهرها الأخير، فهي على وشك الولادة. فابتلاهم الله بأن جعل (لَهَا شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ) يعني: يوماً ترد، فتشرب كل الماء الذي تشربه القبيلة، ويشربون في اليوم الثاني. فضاقوا بذلك ذرعاً.

(فَقَالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ) أي: صالح

(نَاقةَ اللَّهِ) يعني: احذروا المساس بها، وذروها تأكل في أرض الله.

(وسقياها) أي: لا تتعرضوا لشربها في اليوم الذي لها، ولا تنازعوها فيه.

وناقة الله: من باب إضافة المخلوق إلى خالقه. وهي إضافة تشريف، لأن هذه الناقة آية، وليست كسائر النوق.

(فَكَذَّبُوهُ) ردوا كلام نبيهم، ولا خافوا مما حذرهم منه.

(فَعَقَرُوهَا) قيل إن العقر: هو ضرب قوائم الدابة، وتحديداً، الوتَر الذي يكون خلف العقب، أو الخف، فإنه إذا قطع لم تتمكن الدابة من السير، فتقع، ولا تستطيع المشي، فتهلك. وقيل: ضرب قوائمها، ثم قتلها بعد ذلك. المهم أن ذلك آل إلى هلاكها.

وقد عبر بالجمع (فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوهَا) مع أن المنبعث، الذي باشر ذلك واحد، لأنهم راضون، والراضي كالفاعل. ولذلك أخذوا جميعاً بهذه الجريمة. ولهذا قال عمر بن الخطاب، رضي الله عنه، في رجل قتل في صنعاء: لو أن أهل صنعاء جميعًا تمالئوا على قتله، لقتلتهم به. فالراضي كالفاعل، والمشارك يدخل في القوَد.

(فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ) أي: أطبق عليهم بعذابه.

(بِذَنْبِهِمْ) الباء في قوله بذنبهم للسببية، يعني: بسبب ذنبهم.

والعذاب الذي أطبق عليهم، صيحة، ورجفة، عياذاً بالله ! صيحة قطعت نياط قلوبهم في صدورهم، ورجفة زلزلت أرضهم، فهلكوا جميعًا. قال تعالى: (وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ).

(فَسَوَّاهَا) يعني: أنهم استووا في العقوبة، فلم يفلت أحد، لأن القوم كانوا راضين بفعل أشقاهم، موافقين، فلذلك اشتركوا جميعا في العقوبة.

(وَلَا يَخَافُ عُقْبَاهَا) أي أن الله تعالى، لا يخاف تبعتها. وذلك أن غير الله - تعالى -إذا عاقب أحدًا، يتوجس خيفة أن هذا الذي وقع عليه عقوبة، هو، أو جماعته، ربما ينتقمون منه، فيخاف العاقبة. أما الرب سبحانه وبحمده - تعالى - و- عز وجل - فلا يخاف عقباها ، لأنه القوي، العزيز، القادر.

الفوائد المستنبطة من الآيات السابقة

الفائدة الأولى: شؤم عاقبة الطغيان .

الفائدة الثانية : تفاوت الكفار في كفرهم وشقاوتهم ، لقوله: (إِذِ انْبَعَثَ أَشْقَاهَا) فكما أن المؤمنين يتفاوتون في ، فالكفار أيضا يتفاوتون في شقاوتهم.

الفائدة الثالثة : أن التذكير موعظة، وإقامة حجة، وإبراء ذمة.

الفائدة الرابعة : أن الراضي كالفاعل.

الفائدة الخامسة : شدة أخذ الله للظالمين .

الفائدة السادسة : كمال قدرة الله سبحانه وسلطانه .
 
التفسير العقدي لسورة الليل

التفسير العقدي لسورة الليل

التفسير العقدي لسورة الليل

بقلم د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى (1) وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى (2) وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4) فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى وَاتَّقَى (5) وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى (7) وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى (8) وَكَذَّبَ بِالْحُسْنَى (9) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى (10) وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى (12) وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ نَارًا تَلَظَّى (14) لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى (16) وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى (19) إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى (20) وَلَسَوْفَ يَرْضَى (21))


هذه السورة سورة (الليل)، سميت بذلك، لاستهلالها بالقسم بالليل في قوله: (وَاللَّيْلِ إِذَا يَغْشَى). ولهذه السورة مقاصد متعددة منها:

- الإيمان بالقدر وهو أحد أركان الإيمان.

- مسؤولية العبد عن أفعاله وترتب الثواب والعقاب عليها.

- إعلاء القيم المثلى، والأعمال الصالحة.

- إثبات البعث، والحساب، والجزاء.



(وَاللَّيْلِ): خلق عظيم من مخلوقات الله، يتعاقب مع النهار، على الكون.

(إِذَا يَغْشَى): يغطي بظلمته ما بين السماء والأرض. فهذا الليل أشبه بثوب أسود، يلقى على الأرض، فيغطيها. (وَآَيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ فَإِذَا هُمْ مُظْلِمُونَ) . ثم قال على سبيل المقابلة:

(وَالنَّهَارِ إِذَا تَجَلَّى): أي: تكشف، وظهر، وأضاء الأرض بنوره.

(وَمَا خَلَقَ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى): (ما) هنا، تحتمل أن تكون موصولة، بمعنى (من)، وتحتمل أن تكون مصدرية. فالله - تعالى - أقسم بما خلق الذكر والأنثى.

فإن كانت موصولة، فالله - تعالى - قد أقسم بنفسه، يعني: ومن خلق الذكر والأنثى. وإن كانت مصدرية فمعنى الكلام: وخلْق الذكر والأنثى، فيكون إقساما بالخلق نفسه. ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.

ويؤيد هذا المعنى الثاني وهو أن تكون (ما) بمعنى المصدر، قراءة منسوخة؛ فإنه قد وقع في قراءة أبي الدرداء، وابن مسعود، (والذكر والأنثى). وقد نسخت بالعرضة الأخيرة على النبي صلى الله عليه وسلم. ومعلوم أنها لا ينطبق عليها حد القراءة السبعية المعتمدة، لأن حدها كما قال الناظم:

وكل ما وافق وجه نحـوِ وكان للرسم احتمال يحوي

وصح إسناداً هو القرءان فهذه الثلاثة الأركــان

وحيثما اختل شرط اثبتِ شذوذه لو انه في السبـعة

هذه هو شرط القراءة الصحيحة. والشرط الثاني هو الذي ينفي قراءة (والذكر والأنثى) لأنه لا يوافق رسم المصحف.


(إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى): هذا جواب القسم. ومعنى (سعيكم) أي: عملكم. (لشتى): اللام واقعة في جواب القسم. (شتى) أي: مختلف، فمساعيكم مختلفة؛ فعامل بالطاعة، وعامل بالمعصية، كما هو مشاهد. فأنت ترى الناس في هذه الدنيا منهم من يشتغل بطاعة الله، وعمل الصالحات، ومنهم من يشتغل بمعصية الله، والموبقات.

(فَأَمَّا مَنْ أَعْطَى) الفاء للتفريع. يعني أعطى حق الله، أو أنفق في سبيل الله. فيشمل العطاء الواجب، والعطاء المستحب.

(وَاتَّقَى): التقوى: أن يجعل العبد بينه وبين عذاب الله، وقاية؛ بامتثال أوامره، واجتناب نواهيه.

(وَصَدَّقَ بِالْحُسْنَى): اختلف المفسرون في المراد (بالحسنى):

- فمنهم من قال إن المقصود (بالحسنى): كلمة التوحيد (لا إله إلا الله).

- ومنهم من قال الحسنى: الجنة، لأن الله - تعالى - قال (لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنَى وَزِيَادَةٌ)، فالحسنى هي الجنة، والزيادة هي النظر إلى وجه الله الكريم.

- ومنهم من قال، وهو اختيار ابن جرير الطبري، رحمه الله، ورجحه: إن المراد الخلف من الله على المعطي، بمعنى: أن الله - سبحانه وتعالى – وعد المنفق بالخلف، فالذي يثق بموعود الله - عز وجل - فهو مصدق بالحسنى. ويشهد لهذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (ما من يوم يمر إلا وينزل ملكان فيناديان اللهم أعطي منفقا خلفا وأعطي ممسكا تلفا)

وبين هذه المعاني الثلاث تلازم، فإن من صدق بموعود الله، مصدق بـ(لا إله إلا الله)، وهو من وراث جنة النعيم. لكن السياق يرجح ما اختاره ابن جرير الطبري، بأن (الحسنى): الخلف. وإذا نظرنا للعموم، فإن المراد يتعلق بـ(لا إله إلا الله) التي هي كلمة التوحيد.


(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرَى) هذا جواب الشرط. (نيسره): يعني نهيئه بيسر، وسهولة. و(اليسرى) هي الجنة، أو عمل الصالحات.

وبإزاء ذلك قال الله - تعالى - (وَأَمَّا مَنْ بَخِلَ وَاسْتَغْنَى) بخل بحق الله، بخل بالزكاة، كما قال ابن عباس - رضي الله عنهما - فهو البخل بحق الله الواجب عليه.

(واستغنى) يعني استغنى بماله، وجاهه، عن ثواب الله، كأنما قال: لا حاجة لي، وأنا عندي ما يكفيني، كما قال قارون: (إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي) .

(فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرَى) هي النار، أو عمل الشر.

ونجد أن الله تعالى اسند هذه الأفعال إلى العباد، فهم الفاعلون لها حقيقة. خلافاً للجبرية الذين يزعمون أن العبد كالآلة، لا يفعل حقيقة، وإنما هو مظهر لفعل الله. ومن طوائف الجبرية، الأشاعرة القائلون بنظرية (الكسب). وهي دعوى باطلة، غير معقولة. قال الناظم:

مما يقال ولا حقيقة عنده معقـولة تدنوا إلى الأفهام

الكسب عند الأشعري والحال عند البهشمي وطفرة النظام

فيزعمون أن هذا كسب، وليس فعلاً للعبد حقيقة، بل هو فعل الله عز وجل وحسب! وإنما وقع اقتران بين فعل العبد، وقدرته غير المؤثرة، ويسمونه كسبًا، وخلق الرب وفعله، لهذا الفعل. ولهذا سلبوا الأشياء خصائصها، حتى قالوا: إنه ليس في النار خاصية الإحراق، وليس في الماء خاصية الري، ولا في السكين خاصية القطع، وإنما تقع هذه الأشياء عندها لا بها! وأنكروا الحكمة والتعليل، وصاروا مضحكةً للعقلاء.

وبالمقابل، فإن (القدرية) أنكروا القدر السابق، وزعموا أن العبد يخلق فعل نفسه، وجحدوا حقيقة (التيسير) المذكور في الآيات، وأتوا بنظرية (اللطف)؛ فيقولون: إن هذا التيسير هو أن الله تعالى، خلق للإنسان الأدوات، و الآلات، فقط. وأما المشيئة، فهي مشيئة العبد، دون مشيئة الرب، وأما الخلق فهو خلق العبد، دون خلق الرب. وهذا مذهب المعتزلة، ومن جرى مجراهم، من الشيعة، والخوارج.

(وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) يعني: ما يغني عنه ماله الذي افتخر به، واستطال، إذا هوى، وسقط في النار، وقيل بمعنى مات، من قولهم: ردى الرجل. ولكن استبعد بن جرير، رحمه الله، هذا المعنى؛ قال: لأن العرب لا تستخدم تردى إلا في التعبير عن السقوط من شاهق.

(إِنَّ عَلَيْنَا لَلْهُدَى) يعني: بيان طريق الهدى. فهذا مما أوجبه الله - تعالى - على نفسه؛ أن يبين للناس طريق الحق، وطريق الباطل، طريق الهدى، وطريق الضلال. وهذه هداية دلالة، وبيان، وإرشاد.، وهي إقامة الحجة الرسالية.

(وَإِنَّ لَنَا لَلْآَخِرَةَ وَالْأُولَى) أي: لنا ملك الآخرة، والأولى، نهبها من نشاء، ونمنعها من نشاء، حسبما تقتضيه الحكمة الإلهية.

(فَأَنْذَرْتُكُمْ) أي: خوفتكم، وحذرتكم؛ لأن النذارة هي الإعلام بما يسوء.

(تَلَظَّى) أي: تتلهب، وتتوهج، وتتوقد. وقد أوقد عليها لآلاف السنين، حتى صارت سوداء مظلمة. وهي موجودة الآن، تنتظر أهلها.

(لَا يَصْلَاهَا إِلَّا الْأَشْقَى) أي: لا يدخلها، ويقاسي حرها، فتشويه، إلا الأشقى. (الأشقى) أي: البالغ في الشقاوة أقصاها. وهو الكافر. ولهذا وصفه الله، تعالى، بقوله :

(الَّذِي كَذَّبَ وَتَوَلَّى) كذب بنبيه صلى الله عليه وسلم، وتولى عن طاعته. وهذا ينطبق على كثير ممن كان النبي صلى الله عليه وسلم، بين ظهرانيهم من المشركين.

(وَسَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى) أي: يبعد عن تلكم النار التي تلظى. و(الأتقى) بمقابل (الأشقى)، لأن (الأتقى) هو من بلغ الغاية في التقوى. وقيل إن هذه الآية نزلت في أبي بكر الصديق، رضي الله عنه؛ لأنه وصفه بقوله: (الَّذِي يُؤْتِي مَالَهُ يَتَزَكَّى) أي: يتطهر. فقد كان أبو بكر الصديق، رضي الله عنه، يبذل ماله في سبيل الله، يريد تطهير نفسه. ولا شك أن أبي بكر الصديق - رضي الله عنه - يدخل دخولاً أوليًا في هذه الآية، لكنها تنطبق على كل من بذل ماله، يريد تزكيه نفسه، وتخليصها من آفة الشح، ومن الذنوب، ويريدها كفارة لما بدر منه، فإنه يدخل في عموم هذه الآية. والقاعدة عند المفسرين: [العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب] فحتى لو نزلت الآية في فلان أو فلانة، فإنها لا تختص به، بل تنسحب على جميع من شابههم في الحال.

(وَمَا لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزَى) أي: أن أبا بكر، وغيره من المحسنين الصادقين، لا يفعلون هذا الإحسان ليكافئوا نعمة سابقة، ويقابلوها بمثلها.

(إِلَّا ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى) (إلا) هنا بمعنى لكن. فالاستثناء منقطع؛ أي: لكنه فعل ذلك طلبًا للمذكور، وهو (ابْتِغَاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلَى). فدل على أن ذلك (الأتقى) بذل ماله، وأنفقه، رغبة في لقاء الله، تعالى، والتنعم بالنظر إلى وجهه الكريم، ورجاء ما يحصل له من ثواب الله.

(وَلَسَوْفَ يَرْضَى) هذا وعد من الله، عز وجل، أن يرضيه، والله لا يخلف الميعاد.

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: الإقسام بدلائل الربوبية.

الفائدة الثانية: تفاوت الخلق في مسعاهم .

الفائدة الثالثة إثبات القدر السابق.

الفائدة الرابعة: إثبات أفعال العباد، والرد على الجبرية.

الفائدة الخامسة: الرد على القدرية، وذلك بإثبات التيسير.

الفائدة السادسة: إثبات الحكمة والتعليل، للربط بين المقدمة والنتيجة.

الفائدة السابعة: إثبات الأسباب الشرعية فمن أنكرها، فهو مناقض للعقل، والفطرة، والدين.

الفائدة الثامنة: انتفاء الشفاعة عن الكافر. قال الله تعالى: (وَمَا يُغْنِي عَنْهُ مَالُهُ إِذَا تَرَدَّى) فإذا كان ماله الذي يختص به، لا يغني عنه، فلأن تكون شفاعة الشافعين، لا تغني عنه، من باب أولى.

الفائدة التاسعة: إثبات هداية الدلالة، والبيان.

الفائدة العاشرة: إثبات ملك الله الشامل لكل شيء.

الفائدة الحادية عشرة: التحذير من النار .

الفائدة الثانية عشرة: الموعظة بالنار. ويلاحظ أن بعض المتكلمين لا يجري على ألسنتهم التخويف بالنار. وهذا قصور! فما خوف الله به، ينبغي أن نخوف به. ولا يصح أن يقال: لا ينفع مع الناس إلا الإقناع العقلي! الله اعلم بخلقه، وما يصلحهم. فإذا رأيت الله تعالى يخوف بشيء، أو يرغب بشيء، فاسلك هذا المسلك .

الفائدة الثالثة عشرة: نجاة المؤمن من النار.

الفائدة الرابعة عشرة: أن الأعمال الصالحة سبب للتطهر، وزيادة الإيمان.

الفائدة الخامسة عشرة: أن العمل من الإيمان.

الفائدةالسادسة عشرة: فضيلة الإخلاص .

الفائدة السابعة عشرة: حسن موعود الله للمؤمن.​
 
التفسير العقدي لسورة الضحى

التفسير العقدي لسورة الضحى

التفسير العقدي لسورة الضحى

بقلم د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالضُّحَى (1) وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى (2) مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى (3) وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى (5) أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى (6) وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى (7) وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11))

سورة (الضحى)، سميت بذلك للإقسام به في مستهلها. ولها مقصدان:

- أولهما بيان منزلة النبي - صلى الله عليه وسلم - عند ربه، ومنة الله عليه.

- ثانيهما: إعلاء القيم الخلقية.

(وَالضُّحَى) قد تقدم ذكر الخلاف في المراد بالضحى، عند قول الله تعالى: (والشمس وضحاها)، هل هو أول النهار، أم أنه يشمل النهار كله.

(وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى) إذا للظرفية. ومعنى (سجى): استوى، وسكن. وقيل معناها: غطى بظلامه. وقيل معناها: أقبل. وهذه المعاني الثلاث متقاربة، ولا تعارض بينها؛ فإنه إذا اقبل، غطى بظلامه، وإذا غطى بظلامه استوى، وسكن. فهي معان متقاربة، يقسم فيها الرب - سبحانه وتعالى -بإقبال الليل، وما يصحبه من تغشية هذا الكون كله بسواده، وما ينتج عن ذلك من سكون وطمأنينة. وهذا يتضح في الأزمنة السابقة؛ فإذا غربت الشمس، أوى كل أحد إلى منزله، وسكنت الأصوات، وهدأ الكون. فالله – تعالى - يقسم بهذه الحالة. وهذا يقوي أن يكون المراد بالضحى أول النهار؛ لكي يكون مقابلا لليل إذا سجى، أي: أول الليل.

وقد قيل قول رابع في معنى (سجى)، لكن فيه غرابة، أي: ذهب! فإن كان صحيحًا في اللغة، فمعنى ذلك أن كلمة (سجى) من الأضداد.

(مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى) (ما): نافية . والودع هو الترك.

(وَمَا قَلَى) يعني: وما قلاك. ومعنى (قلى): أبغض، وجفا. فالمعنى: ما تركك، ربك يا محمد، ولا أبغضك، ولاجفاك، كما زعم المشركون.

وذلك أن النبي - صلى الله عليه وسلم – كان ينزل عليه الوحي متتابعًا. فأول ما أنزل الله – تعالى - عليه سورة (اقرأ)، ثم بعد ذلك نزلت سورة (المدثر)، وتتابع الوحي. ثم انقطع عنه الوحي، كما جاء في السير، خمس عشرة يومًا، حتى إن النبي - صلى الله عليه وسلم - اشتاق له شوقًا عظيمًا، ولحقه من اللهف شيء عظيم، ووقع في نفسه شيء أن يكون الله - عز وجل – قلاه. والصحيح ما رواه البخاري، عن جُنْدُبَ بْنَ سُفْيَانَ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُ قَالَ: اشْتَكَى رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَلَمْ يَقُمْ لَيْلَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثًا. فَجَاءَتْ امْرَأَةٌ فَقَالَتْ: يَا مُحَمَّدُ! إِنِّي لَأَرْجُو أَنْ يَكُونَ شَيْطَانُكَ قَدْ تَرَكَكَ. لَمْ أَرَهُ قَرِبَكَ مُنْذُ لَيْلَتَيْنِ، أَوْ ثَلَاثَةٍ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ: "وَالضُّحَى وَاللَّيْلِ إِذَا سَجَى مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى". وفي الترمذي، عنه: كُنْتُ مَعَ النَّبِيِّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي غَارٍ، فَدَمِيَتْ أُصْبُعُهُ، فَقَالَ النَّبِيُّ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ:

هَلْ أَنْتِ إِلَّا إِصْبَعٌ دَمِيتِ وَفِي سَبِيلِ اللَّهِ مَا لَقِيتِ

قَالَ: وَأَبْطَأَ عَلَيْهِ جِبْرِيلُ عَلَيْهِ السَّلَام، فَقَالَ الْمُشْرِكُونَ: قَدْ وُدِّعَ مُحَمَّدٌ. فَأَنْزَلَ اللَّهُ تَعَالَى: " مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى". قَالَ أَبُو عِيسَى: هَذَا حَدِيثٌ حَسَنٌ صَحِيحٌ.

ففي هذه الآيات يطمئن الله نبيه، ويسليه عما قاله المشركون، ويبطل دعواهم.

ولم يزل أنبياء الله تعالى يعانون من هؤلاء الطاعنين، كما قال الله عز وجل: (وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَكَفَى بِرَبِّكَ هَادِيًا وَنَصِيرًا). ولم يزل أعداء الرسل ينالون منهم، ويؤذونهم بالمسبة. وحتى يومنا هذا يلقى أنبياء الله، عامة، ونبينا - صلى الله عليه وسلم – خاصة، الأذى، والطعن. كان المستشرقون ينالون من شخص نبينا - صلى الله عليه وسلم - ويوجهون له المطاعن ليستزلوا المسلمين عن إسلامهم. وجاء هؤلاء الغربيون، اليوم، ليؤذوا النبي - صلى الله عليه وسلم - بالرسوم المسيئة، وبالأفلام، وبالمقالات السيئة، ولكن أنى لهم! فمقام نبينا - صلى الله عليه وسلم - في القمة السامقة، لا يتمكن هؤلاء الأدعياء المزيفون من أن يطالوه بقلامة ظفر. ولكن هذا لايغني عن الرد، وذلك حفظا لدين الله، وغيرةً على نبيه- صلى الله عليه وسلم - وانتصاراً له، وإلا فإن الله ناصر دينه، ومعز نبيه، صلى الله عليه وسلم .

(وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) اللام في قوله (وَلَلْآَخِرَةُ) لام القسم. والمعني: ما أعد الله لك في الدار الآخرة، من الكرامة والنعيم (خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى) أي: الدنيا.

(وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى) (سوف) للمستقبل، و(اللام) للقسم، أيضاً. فالله تعالى يعد نبيه بجزيل العطاء، حتى يبلغ درجة الرضا.

وهذه الجمل، جواب القسم، في مطلع السورة. وجواب القسم: أمران منفيان، وأمران مثبتان:

- فالمنفيان (مَا وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَمَا قَلَى)
- والمثبتان (وَلَلْآَخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولَى (4) وَلَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضَى)
قال بعض المفسرين، وروي في ذلك حديثًا: أن النبي - صلى الله عليه وسلم – قال: (إذاً لا أرضى واحد من أمتي في النار، أو لا أرضي أن يدخل أحد من أمتي في النار)، ولكن هذا حديث ضعيف، ويتعلل به أصحاب الأماني الباطلة، من أهل الفسق، فيسوغون لأنفسهم ارتكاب المعاصي والفجور، بناء على أن النبي - صلى الله عليه وسلم - لن يرضي أن يدخل أحد من أمته النار! وهذا لا يصح تسويل، وتزيين، وإملاء، من الشيطان لهؤلاء ليتمادوا في معاصيهم.

وقد أطال ابن القيم، رحمه الله، في رد هذا القول، وأن النبي - صلى الله عليه وسلم - إنما يرضيه ما يرضي ربه. فإذا كان الله لا يرضى عن الفاسقين، ولا يرضى عن الظالمين، ولا يرضى عن المجرمين، فكيف يرضى نبيه - صلى الله عليه وسلم - بما لم يرض به الله؟!

ثم إن السياق بعد ذلك توجه بالخطاب إلى النبي - صلى الله عليه وسلم – فقال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى) : هذا استفهام تقريري؛ لأن معنى (أَلَمْ يَجِدْكَ): أي وجدك. والجواب على السؤال المبدوء بهمزة:

- في حال الإثبات ((بلى))
- وفي حال النفي ((كلا))
فجوابه: بلى! وجده يتيمًا فأواه .

ذلك أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - توفي أبوه عبد الله، وهو حمل، فعطف عليه جده عبد المطلب، ثم لم يلبث أن بلغ ست سنين، فتوفيت أمه، فهذا اليتم كأشد ما يكون؛ بذهاب الأبوين. ثم مات عمه عبد المطلب، فأواه عمه أبو طالب. فمعنى آوى: أي: ضمك عمك أبو طالب إليه، أو: ضمك الله عز وجل إلى عمك أبي طالب.

(وَوَجَدَكَ ضَالًّا فَهَدَى) (ضالا) المقصود هنا أي: جاهلا بدينه. وليس المقصود بالضلال هنا أنه قارف شيئا مما يقارف الضالون، ولكن المقصود تائهًا عن طريق الحق، الذي هو دين الله – تعالى -، فقد كان النبي - صلى الله عليه وسلم - يتلمس الحق، ويبحث عنه، حتى إنه آل به الأمر إلى أن يتحنث الليالي ذوات العدد في (غار حراء)، يتأمل، ويتعبد للخالق، لكن دون أن يكون عنده شريعة يعمل بها، حتى هداه الله لدينه. ويالها من هداية، هي أعظم هداية، فقد أنزل الله – تعالى - عليه الوحي، وعلمه ما لم يكن يعلم، وكان فضل الله عليه كبيرًا.

(وَوَجَدَكَ عَائِلًا فَأَغْنَى): يعني فقيرًا، عالة على غيرك، فأغناه الله تعالى أيما غنى، فصار له الفيء، والخمس من الغنيمة، ينفق منها نفقة من لا يخشى الفقر، مع أنه - صلى الله عليه وسلم - كان يتقلل في ذات نفسه، وذلك أن الغنى هو غنى النفس، كما قال بأبي هو وأمي: (لَيْسَ الْغِنَى عَنْ كَثْرَةِ الْعَرَضِ، وَلَكِنَّ الْغِنَى غِنَى النَّفْسِ) متفق عليه.

ومن تأمل في حال الناس، أدرك أن الغنى ليس عن كثرة العرض؛ من عقار، وأسهم، ومراكب، ودور، وقصور، وثياب. فكم من إنسان ملك هذه جميعًا، لكن في قلبه فقر، وشح، فلا يستمتع بشيء مما أوتي، فهو مسكين، وإن ملك الملايين. وكم من إنسان رزق القناعة، وغنى النفس، واكتفي بما تيسر، فطابت نفسه، وقرت عينه، ورأى أنه من أغنى العالمين.

وينبغي للإنسان أن يربي نفسه على القناعة، فإنك لن تأكل أكثر من ملء بطنك، ولن تلبس أكثر من طول بدنك، ولن تسكن في أكثر مما يكنك. فإذا رزقت هذه القناعة فكأنما حيزت لك الدنيا بحذافيرها. ترى الرجل، تغرِّب أمواله، وتشرِّق، يموت، فلا يذهب إلى قبره إلا بثوبين، لا يتجاوزان بضعة أمتار، ويأوي إلى بيت موحش، طوله قدر طوله فقط. ويترك الأراضي، والدور، والقصور، لوارثه.

فلا بد من اعتبار هذه المعاني، وعيشها حقًا، وصدقًا. وإذا أجرى الله – تعالى - في يده خيرًا، فليرتفق به، ولكن يعلم أنه عارية، تنتقل منه إلى غيره، كما انتقل من غيره إليه. فيرتفق بما أباح الله – تعالى – له، فلا يتكلف مفقودًا، ولا يرد موجودًا. بهذا يسير الإنسان على هيِّنته مطمئنًا، دون أن يشعر بالنقص.

بعض الناس إذا التفت يمنة ويسرة، ورأى بعض أقرانه، ومن قد كان دونه، قد سبقوه في مضامير الدنيا، صار في قلبه حرقة، وقد قال نبينا صلى الله عليه وسلم: (انْظُرُوا إِلَى مَنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ. وَلَا تَنْظُرُوا إِلَى مَنْ هُوَ فَوْقَكُمْ، فَهُوَ أَجْدَرُ أَنْ لَا تَزْدَرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ) رواه مسلم. فهذا درس بليغ.

بعد هذه المنن الحسية، والمعنوية، التي غمر الله تعالى بها نبيه - صلى الله عليه وسلم - أمره بما يناسب المقام، فقال له:

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ (9) وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ (10) وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ)

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ) الفاء هذه يسمونها الفاء الفصيحة؛ لأنها تفرع على ما سبق.

(فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلَا تَقْهَرْ) ذكر اليتيم، لأنه قبل قليل قال: (أَلَمْ يَجِدْكَ يَتِيمًا فَآَوَى). فينبغي أن يكون شكر النعمة، من جنس النعمة، فإن كنت يتيمًا يومًا من الدهر، فجدير بك أن ترفق باليتامى، وإن كنت فقيرًا يومًا من الدهر، فحري بك أن تعطف على الفقراء.

(فلا تقهر) أي: لا تغلبه بأخذ ماله، أو غير ذلك. وقد كان اليتامى في الجاهلية يغلبون على أمرهم، وتؤخذ أموالهم، ولا يررثون، فحفظ الإسلام حقهم، وأوصى بهم.

(وَأَمَّا السَّائِلَ فَلَا تَنْهَرْ) (السائل) هو المستجدي الفقير، فلا تزجره لفقره. والسائل، مظنة الزجر؛ لأنه يتضع، ويذل نفسه لكي يحصل على مطلبه، فيجرأ غيره عليه، وربما نهره وزجره.

والحقيقة أن كلمة السائل أوسع من أن تختص بالسائل بسبب الفقر، بل تتناول السائل عن أي مصلحة من المصالح؛ دينية كانت، أو دنيوية، فإنه لا ينهر، فإذا سألك سائل عن أمر من أمور دينه، فلا تنهره، بل سهل، ورحب، وأجب طلبته، إذا كان عندك علم تجيبه به. وكذلك لو سألك عن أمر من الأمور التي تحسن، فأعنه، ولو سألك عن الطريق فدله.

(وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) يعني: فأخبر الناس بما أنعم الله تعالى عليك، ولا تكتم ذلك، وتجحده. فإن الحديث بذلك من شكر النعمة. وقد قال القائل:

أفادتكم النعماء مني ثلاثة يدي ولساني والضمير المحجبا

فشكر نعمة المنعم يكون بالجوارح، وباللسان، وبالقلب.

فيشكر العبد ربه بقلبه: بمعنى أن يغتبط قلبه بنعمة الله عليه، ويعلم أنها من عنده.

وبلسانه: فلا يزال يحدث بنعمة الله عليه، وأنه في خير وعافية من الله، ونحو ذلك.

وبجوارحه: فيسخِّر جوارحه في طاعة الله، من السعي على الأرملة، والمسكين، ومساعدة الملهوف، وإغاثة المضطر، وامتثال أوامر الله، واجتناب نواهيه، لجوارحه، فبذلك يحصل الشكر.

وقيل: إن معنى (حدث): يعني جدد، شكرًا إثر شكر. والناس يتفاوتون في استقبال نعمة المنعم؛ فمنهم من يغتبط بنعمة الله، ويثني بها عليه، ويحدث بهذا الفضل، ومن الناس من يجحد النعمة، وينسبها إلى نفسه، كما فعل قارون، قال (قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِنْدِي). وهذا، بأقبح المراتب. وثمَّ فئة ثالثة، وهم الذين ينعم الله تعالى عليهم، ثم يكتمون نعمة الله عليهم، خوفًا من العين! فيتظاهرون بالبؤس، وسوء الحال. وهذا في الحقيقة نوع شرك، لأنه خوف زائد، وفيه كفران للنعمة، وفيه ضعف شخصية. والذي ينبغي للعبد إذا انعم الله تعالى عليه أن يحدث بنعمة الله عليه. وليس المقصود أن يفتخر في المجالس، ويفيض في التفاصيل، كلا! وإنما يتكلم بكلام عام، مجمل، يتضمن ذكر نعم الله، والثناء بها عليه. وأما من أشرت إليهم، فتجد أحدهم إذا سئل، أجاب بما يشعر بأن الأمور بين بين. وهذا، في الحقيقة، كفران للنعمة، وخوف مبالغ فيه. وعلى العبد أن يقوي توكله على الله، ويعلم أنه لا يأتي بالحسنات إلا الله، ولا يدفع السيئات إلا الله، وأن الله تعالى هو الذي يعصمه، وأن عليه أن يخشى أن يسلبه الله النعمة، بسبب هذا التكتم والجحود.

وهذه السورة قد ورد أن النبي - صلى الله عليه وسلم - كبر في آخرها. وقد اختلف في ثبوت هذا، وهل هو من سنن القراءة، أن يكبر في أخرها وما بعدها، من السور، فاعتمد ذلك بعض القراء، وبعضهم رده. وللشيخ بكر بن عبد الله أبو زيد - رحمه الله - بحث رائق في هذا في كتابه (بدع القراء).

الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: مشروعية رد شبه الطاعنين.

الفائدة الثانية: كرامة النبي- صلى الله عليه وسلم - على ربه في الدنيا والآخرة.

الفائدة الثالثة: منة الله تعالى على نبيه ورعايته له

الفائدة الرابعة: أن شكر النعم يكون من جنسها. فمثلا إذا أنعم الله عليك بالمال فإن من شكر نعمة الله بالتوسعة في المال، أن تتوسع في الصدقة، والنفقة، وألا تمسك. وإذا انعم الله عليك بالعلم، فإن من شكر الله نعمة الله بالعلم، أن تبذله لطالبيه؛ وتعلم الجاهل، وتذكر الناسي، وتنبه الغافل. وهكذا في كل باب من الأبواب اجعل شكر النعمة بالدرجة الأولى من جنسها.

الفائدة الخامسة: إظهار فضل الله تعالى على العبد، والثناء به عليه. فينبغي أن يظهر العبد فضل الله عليه ويثني به على مسديه .

الفائدة السادسة: فساد مسلك أهل الجحود للنعم، على اختلاف أنواعهم
 
التفسير العقدي لسورة الشرح

التفسير العقدي لسورة الشرح

التفسير العقدي لسورة الشرح

بقلم د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ (4) فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا (6) فَإِذَا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَإِلَى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8))

* من مقاصد هذه السورة المباركة:

- بيان منة الله على نبيه - صلى الله عليه وسلم -.

- وجوب شكر المنعم.

(ألم): هذا الاستفهام: استفهام تقريري، تقديره: "شرحنا لك صدرك"

(نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ): الشرح : هو التوسعة، كما قال الله - عز وجل -: (أَفَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ فَهُوَ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقَاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ)، وفي الآية الأخرى: (فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلَامِ وَمَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقًا حَرَجًا كَأَنَّمَا يَصَّعَّدُ فِي السَّمَاءِ).


والمقصود بالشرح هنا، الشرح المعنوي، كما في الآيتين السابقتين.

ويحتمل أن يشمل الشرح الحسي، أي فلق ألأضلاع، كما في حادثة شق الصدر ،

فقد روى ابن إسحاق، بسنده عن خالد بن معدان، عن أصحاب رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أنهم قالوا له : أخبرنا عن نفسك، قال: (نعم! أنا دعوة أبي إبراهيم، و بشرى عيسى عليهما السلام، و رأت أمي، حين حملت بي، أنه خرج منها نور أضاءت له قصور الشام، واسترضعت في بني سعد بن بكر، فبينا أنا في ُبهمٍ لنا، أتاني رجلان، عليهما ثياب بيض، معهما طست من ذهب مملوء ثلجاً، فأضجعاني، فشقا بطني، ثم استخرجا قلبي، فشقاه، فأخرجا منه علقة سوداء، فألقياها، ثم غسلا قلبي، وبطني، بذلك الثلج، حتى إذا أنقياه، رداه كما كان، ثم قال أحدهما لصاحبه: زنه بعشرة من أمته، فوزنني بعشرة، فوزنتهم، ثم قال: زنه بمائة من أمته، فوزنني بمائة فوزنتهم، ثم قال: زنه بألف من أمته، فوزنني بألف، فوزنتهم، فقال: دعه عنك فلو وزنته بأمته لوزنهم). قال الحافظ ابن كثير في " البداية والنهاية " ( 2 / 275 ):"وهذا إسناد جيد قوي".

وروى مسلم، وأحمد، عن أنس أيضاً، أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أتاه جبريل و هو يلعب مع الغلمان، فأخذه فصرعه، فشق عن قلبه، واستخرج القلب، و استخرج منه علقة، فقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسله في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأمه، ثم أعاده في مكانه. و جاء الغلمان يسعون إلى أمه - يعني ظئره - فقالوا: إن محمداً قد قتل، فاستقبلوه وهو منتقع اللون. قال أنس: و قد كنت أرى أثر ذلك المخيط في صدره).

لكن المقصود الأعظم: الشرح المعنوي؛ وذلك أن الله – تعالى – امتن على نبيه - صلى الله عليه وسلم - أن جعل صدره متسعاً، أريحيا، مستوعباً لكل ما يرد عليه من أمور العلم، والإيمان، والأخلاق. وشرح الصدر أمر يتفاوت فيه الناس، فيقال: فلان ما أوسع صدره!، يعني يحتمل، ولا ينفعل. وفلان ضيق الصدر، لكونه سريع الانفعال، لا يصبر. فلنبينا - صلى الله عليه وسلم - من شرح الصدر، القدر الأعظم، الذي حصل به قبول خصال الإيمان، وإدراك العلم، والتحلي بالأخلاق الكريمة، التي وسع بها الناس، على اختلاف فئاتهم، وطبقاتهم.


(وَوَضَعْنَا عَنْكَ وِزْرَكَ): هذه المنة الثانية؛ أي: حططنا عنك وزرك. والوزر هو: الذنب، والإثم، وكل ما يهمه، ويغمه، ويثقله. والنبي صلى الله عليه وسلم بشر، يلحقه الذنب. فقد قال الله - تعالى - في سورة (الفتح): (إِنَّا فَتَحْنَا لَكَ فَتْحًا مُبِينًا . لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَمَا تَأَخَّرَ)، وقال في سورة (محمد): (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ). فالصحيح: أن النبي - صلى الله عليه وسلم - ربما وقع منه الخطأ، والذنب؛ وذلك لبشريته. وهكذا القول في جميع أنبياء الله.


لكن فرق ما بين الأنبياء، وغيرهم، من جهتين:

أولا: أن الله – تعالى - يغفر لهم الذنوب.

ثانيا: أن الله – تعالى - لا يقرهم على الخطأ.

بينما غير الأنبياء: قد يغفر لهم، وقد لا يغفر. وإذا أخطئوا، لا ينزل وحي ينبههم على أخطائهم. وهذا هو المعنى الصحيح لعصمة الأنبياء. فأنبياء الله - تعالى - وعلى رأسهم نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - معصومون في باب التحمل، والبلاغ؛ فهم إذا تحملوا عن الله، وأدوا إلى عباد الله، معصومون، لا يمكن أن يُدرج، أو يدخل فيما يبلغونه عن الله - عز وجل – شيء سواه؛ لا من قبل أنفسهم، ولا من قبل غيرهم. قال الله تعالى: (يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ)، وقال الله تعالى (وَالنَّجْمِ إِذَا هَوَى. مَا ضَلَّ صَاحِبُكُمْ وَمَا غَوَى. وَمَا يَنْطِقُ عَنِ الْهَوَى) أي لا يحمله غضب، ولا انفعال، ولا حمية، ولا رغبة، ولا رهبة، أن يقول في دين الله ما ليس منه. فلا يخرج من فكيه إلا الحق.

كما أنه لا يدرج فيه، ولا يدخل، شيء من قِبَل غيرهم، قال الله تعالى: (وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَلَا نَبِيٍّ إِلَّا إِذَا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطَانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ مَا يُلْقِي الشَّيْطَانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آَيَاتِهِ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ) يعني ما أرسل الله – تعالى - قبل نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم - من رسول، ولا نبي، إلا إذا تلا ما أوحي إليه، حاول الشيطان أن يدخل في قراءته ما ليس منها، لكن الله يمحو، ويزيل إلقاء الشيطان، وينفيه، ويحكم آياته، فلا يختلط بها شيء ليس منها، والله عليم حكيم.

حتى حين سحر النبي - صلى الله عليه وسلم - كما ثبت في صحيح البخاري، لم يكن ذلك السحر مؤثراً في تبليغه، وإنما كان مؤثراً في مجريات حياته، فيظن أنه قد فعل الشيء، ولم يفعله، ونحو ذلك. أما جانب التشريع، والوحي فمحفوظ. قال الله تعالى (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ)،


وأما الكبائر: فإن أنبياء الله معصومون منها، وأما الصغائر، والخطأ: فجمهور العلماء على أنها تجوز في حقهم. ولهذا أمثلة كثيرة:

- منها: نسيان آدم - عليه السلام - (فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا).
- ومنها: سؤال نوح ربه بقوله: (ابْنِي مِنْ أَهْلِي).
- ومنها: أن موسى - عليه السلام - وكز القبطي، قال تعالى: (فَوَكَزَهُ مُوسَى فَقَضَى عَلَيْهِ قَالَ هَذَا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ) ولكنه لم يرد قتله؛ لأن القتل كبيرة، وإنما وكز هذا القبطي؛ حمية، ونصرة، للإسرائيلي الضعيف.
- ومنها: أن ذا النون خرج مغاضبا.
- ومنها: أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - في مسألة الأسرى، مال إلى الفداء، حتى أنزل الله تعالى عليه: (لَوْلَا كِتَابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيمَا أَخَذْتُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ)
- وفي قصة الأعمى: (عبس وتولى أن جاءه الأعمى).
- وفي قصة التحريم، حينما حرم على نفسه شيئا من المباح : (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ)
- وقد استدرك الله تعالى على نبيه - صلى الله عليه وسلم - في غزوة (تبوك) بقوله: (عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ).
- ونهاه الله أن يصلى على المنافقين: (وَلَا تُصَلِّ عَلَى أَحَدٍ مِنْهُمْ مَاتَ أَبَدًا وَلَا تَقُمْ عَلَى قَبْرِهِ)
والمقصود أنه ربما وقع من النبي - صلى الله عليه وسلم -، ومن غيره من الأنبياء، ما يستدرك، من ذنب، أو الخطأ،

لكن العصمة تكون من جهتين؛ أولا: أن ذنبهم مغفور. وثانيا: أن خطئهم لا يقرون عليه، بل ينبهون عليه. وهذا هو القول الفاصل في مسألة العصمة .


واعلموا أن بعض المتكلفين، ظنوا أنه لا يجوز أن ينسب إلى نبي أي خطأ بشري، فقالوا في قوله تعالى (ولقد هَمَّتْ بِهِ وَهَمَّ بِهَا): همت به تريده على الفجور، وهم بها يضربها! وهذا من التكلف. والحقيقة، أنه قام عنده ما يقوم عند بني آدم، من الشهوة الغريزية، لكن إيمانه رده إلى الجادة، كما قال تعالى: (لَوْلَا أَنْ رَأَى بُرْهَانَ رَبِّهِ)، فهذه منقبة له. لكن بوصفه بشر يمكن أن يقع في قلبه، ما يقع في قلوب بني آدم.

وكذلك تكلفوا في قوله تعالى: (لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ):
- فقال بعضهم: ذنب أبيك آدم.

- وقال بعضهم: ذنب أمتك.

فمن قال ذنب أبيك آدم، فقد ضاهى قول النصارى في الخطيئة، أن البشر مدينون بخطيئة آدم! وقد قال الله تعالى: (وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى).

وأما من قال: ذنوب أمتك، فقد غفل عن قوله تعالى: (فَاعْلَمْ أَنَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ) فَفَرَّقَ بين ذنبه، وذنوب المؤمنين، والمؤمنات. لكن نقول - كما قال الله - إنه ذنب، لكنه ذنب مغفور، وخطأ لا يقر عليه.


(الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ): يعني أثقل، وأكهل. ذلك أن نبينا - صلى الله عليه وسلم - لشفافيته الإيمانية، تكون هذه الذنوب، وإن صغرت، ثقيلة جداً على نفسه، لكماله الإنساني، والإيماني.


(وَرَفَعْنَا لَكَ ذِكْرَكَ): بقرن اسمك مع اسم الله، في الأذان، والخطبة، والتشهد. فلا يكاد يذكر اسم الله - عز وجل - إلا ويقرن به ذكر نبيه - صلى الله عليه وسلم – كما يقول المؤذن: (أشهد أن لا إله إلا الله، وأشهد أن محمد رسول الله) وكذلك الخطيب، وغيرهما. فلا تكاد تجد قرية، ولا بلدة، فضلا عن المدن، والحواضر، في أرجاء الأرض، وقاراتها المختلفة، إلا وذكر النبي - صلى الله عليه وسلم - يجلجل على المنابر، وفي المنائر، وفي المناسبات.

(فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) (العسر) هو: الشدة، و(اليسر) هو: الفرج والسهولة.


(إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) فائدة هذا التكرار، المعنى المذكور حديث (لن يغلب عسر يسرين) إلا إنه أعلَّ بالإرسال. وصح عن عمر، وعلي، رضي الله عنهما.

فهذه الآية وقعها في النفوس وقع حميد، فهي كالبلسم للجروح، فكلما وقع الإنسان في ضائقة، وذكر قول الله تعالى (فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا . إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْرًا) سري عنه. فما من شدة إلا سيأتي لها من بعد شدتها رخاء، وما من عسر في هذه الدنيا وإلا يكتنفه يسر. فلا تيأس، ولا تحبط، ولا يضق صدرك، فإن الله - سبحانه وتعالى - له نفحات تخفف هذه السحابة، فعما قليل تقشع. فاصبر.


(فَإِذَا فَرَغْتَ) اختلفت عبارات المفسرين في ذلك:

- فقيل: فإذا فرغت من صلاتك.
- وقيل: فإذا فرغت من جهاد عدوك. وكأن هذا لا يستقيم، والسورة مكية.
- وقيل: فإذا فرغت أي: من أمور دنياك
والأولى ما ذهب إليه ابن جرير الطبري - رحمه الله - من حمل الآية على العموم، وأن المقصود إذا فرغت من كل ما يشغلك، من أمر دينك، ودنياك. والمقصود بأمر دينك، الولايات اللازمة، والوظائف الراتبة.


(فَانْصَبْ): أي: اتعب في عبادة ربك، ودعائه، ففي هذا أمر للنبي - صلى الله عليه وسلم - أن يتوفر على طاعة الله، كلما أمكنه ذلك، وقد كان، فإنه سيد الذاكرين، وإمام المتعبدين.


(وَإِلَى رَبِّكَ): قدم الجار والمجرور؛ لكي يحصل به الاختصاص، والحصر.


(فَارْغَبْ): اطلب، وتضرع.


الفوائد المستنبطة

§ الفائدة الأولى: انشراح صدر النبي - صلى الله عليه وسلم – بالإسلام، علما ودعوة، وخلقا. وهكذا ينبغي أن يكون الداعي إلى دينه.
§ الفائدة الثانية: مغفرة ذنبه - صلى الله عليه وسلم -، ووضع جميع ما يثقله.
§ الفائدة الثالثة: إمكان وقوع الذنب منه - صلى الله عليه وسلم -، وأن ذلك لا ينافي العصمة.
§ الفائدة الرابعة: تحقق وعد الله - تعالى - برفع ذكر نبيه في الخافقين.
§ الفائدة الخامسة: لطف الله تعالى الظاهر، والخفي. فاللطف الظاهر: هو ما تدركه من الأمور، والحوادث، التي يخفف الله تعالى عنك بها المصاب، ويجلب لك الرحمة.
واللطف الخفي: هو مالا تدركه من الأمور التي يقضيها الله تعالى، ولا تشعر بها. فاشكر الله على لطفه الظاهر، والخفي. ولذلك كان من أسماء الله الحسنى (اللطيف). واللطف هو ما دق، وخفي.

§ الفائدة السادسة: الأمر بالاشتغال بعبادة الله تعالى، والاجتهاد في ذلك.
§ الفائدة السابعة: الأمر بالرغبة إليه سبحانه. ومقام الرغبة: أن تطلب الرب، وتضرع إليه، وتتوجه نحوه.
§ الفائدة الثامنة: فائدة أصولية وهي: أن الخطاب للنبي - صلى الله عليه وسلم - خطاب لجميع الأمة، ما لم يرد دليل على التخصيص. وذلك في قوله (فإذا فرغت فانصب* وإلى ربك فارغب) فلا يقال هذا من خصائصه - صلى الله عليه وسلم -فالأصل أن ما أمر الله تعالى به نبيه ينسحب على عموم الأمة، كما في قوله: (يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ مَا أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضَاتَ أَزْوَاجِكَ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ. قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمَانِكُمْ وَاللَّهُ مَوْلَاكُمْ وَهُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ). إلا أن يرد مخصص، كما في قوله: (وَامْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَهَا لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرَادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَهَا خَالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ).
 
سورة (التين)

سورة (التين)

التفسير العقدي لجزء عم

سورة التين

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

(أعوذ بالله من الشيطان الرجيم)

(بسم الله الرحمن الرحيم)

(وَالتِّينِ وَالزَّيْتُونِ (1) وَطُورِ سِينِينَ (2) وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4) ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ (5) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ (8))


سورة (التين) سورة مكية، آياتها قليلة، ولكنها تتضمن معاني عظيمة.


ولهذه السورة مقاصد منها

أولا: بيان ترابط الشرائع السماوية.

الثانية: بيان الصلة بين الفطرة، والإيمان.

الثالثة: إثبات البعث.


(والتِّينِ وَالزَّيْتُونِ) اختلف المفسرون في المراد بهما:

- فقيل: النباتان المعروفان، التين الذي يؤكل، والزيتون الذي يعصر.
- وقيل: أماكن نباتهما، فالمراد (بالتين): أرض الشام، وبـ (الزيتون) أرض فلسطين. أو تحديداً: المراد (بالتين): مسجد دمشق، و(بالزيتون): مسجد بيت المقدس. فعبر عن منبتهما بهما,
- وقيل: إن المراد بـ(التين): مسجد نوح، و(بالزيتون): مسجد بيت المقدس.
- وقيل: إنهما جبلان بأرض الشام.
ومؤدى هذه الأقوال إلى أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بهاتين الشجرتين المعروفتين، وفيه إشارة إلى مواضع نباتهما.

ولله - تعالى - أن يقسم بما شاء، لكنه أقسم بهما – سبحانه - لشرف مواضع نباتهما؛ فإن أرض الشام، وبيت المقدس، أرض النبوات السابقة.


(وَطُورِ سِينِينَ) عطف على ما تقدم. واختلفت أقوال المفسرين في المراد به:

- فقيل: الجبل الذي كلم الله - تعالى - عليه موسى، عليه السلام، وهو جبل في سيناء. وعلى هذا فكلمة (سينين) لغة من سيناء. وقد قال تعالى في سورة (المؤمنون): (وشَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْنَاءَ).
- وقيل: الجبل الذي فيه نبات. فإذا كان الجبل فيه شجر، قيل عنه: طور.
- وقيل: أن (سِينِينَ) صفة للطور، وهي بمعنى: حسن، أو مبارك. واعتمد قائل
هذا القول على ما رواه البخاري من حَديث أُمُّ خَالِدٍ بِنْتُ خَالِدٍ، قَالَتْ: أُتِيَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - بِثِيَابٍ فِيهَا خَمِيصَةٌ سَوْدَاءُ، قَالَ: (مَنْ تَرَوْنَ نَكْسُوهَا هَذِهِ الْخَمِيصَةَ؟) فَأُسْكِتَ الْقَوْمُ. قَالَ: (ائْتُونِي بِأُمِّ خَالِدٍ) فَأُتِيَ بِي النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فَأَلْبَسَهَا بِيَدِهِ، وَقَالَ: (أَبْلِي، وَأَخْلِقِي) مَرَّتَيْنِ. فَجَعَلَ يَنْظُرُ إِلَى عَلَمِ الْخَمِيصَةِ، وَيُشِيرُ بِيَدِهِ إِلَيَّ، وَيَقُولُ: (يَا أُمَّ خَالِدٍ! هَذَا سَنَا) وَالسَّنَا بِلِسَانِ الْحَبَشِيَّةِ الْحَسَنُ.

وهذا القول الأخير، يستدرك عليه أن اللفظ الذي ذكره النبي - صلى الله عليه وسلم - مخالف للوارد في الآية؛ فإن روايات البخاري فيها: سنا بالمد، وسنه بالهاء، وليس فيه سينين. ثم إنه لو كان المراد به صفة الطور، لنُوِّن (الطور) فقال: وطورًا سنين، وهذا لم يقع.

فأرجح الأقوال: أن المراد به الموضع الذي كلم الله - تعالى - عنده (موسى)، عليه السلام، في صحراء سيناء، حينما خرج بأهله، وأبصر ناراً، وقصدها، ثم جرى ما ذكر الله - تعالى - من القصة المعروفة.


(وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) أشار إليه بلفظ (هذا) لقربه.

(الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة؛ وذلك لأن كل شيء يأمن فيه، فقد حرمه الله - تعالى - حينما خلق السموات والأرض، وجدد إبراهيم - عليه السلام – حرمته، فلم تزل العرب منذ زمن إبراهيم يعظمون البيت، حتى إن الرجل ليلقى قاتل أبيه في الحرم، فلا يتعرض له، وحتى إن الطير، والوحش يأمن فيه، فهو أمين. ثم جاء محمد - صلى الله عليه وسلم - ووثق هذا الأمان، فقال: (إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَ مَكَّةَ، فَلَمْ تَحِلَّ لأَحَدٍ قَبْلِي، وَلاَ تَحِلُّ لأَحَدٍ بَعْدِي. وَإِنَّمَا أُحِلَّتْ لِي سَاعَةً مِنْ نَهَارٍ؛ لاَ يُخْتَلَى خَلاَهَا، وَلاَ يُعْضَدُ شَجَرُهَا، وَلاَ يُنَفَّرُ صَيْدُهَا، وَلاَ تُلْتَقَطُ لُقَطَتُهَا، إِلاَّ لِمُعَرِّفٍ) وَقَالَ الْعَبَّاسُ: يَا رَسُولَ اللهِ! إِلاَّ الإِذْخِرَ، لِصَاغَتِنَا، وَقُبُورِنَا. فَقَالَ: (إِلاَّ الإِذْخِرَ.الإِذْخِرَ). [متفق عليه].


ولو تأملنا في هذه الأقسام الأربعة، لوجدنا بينها ترابطًا عجيبًا؛ إذ أنها تشير إلى مواطن الرسالات السماوية الكبرى:

- فالتين والزيتون: تنبت في أرض الشام، وهي موطن أكثر أنبياء بني إسرائيل، ومنهم عيسى ابن مريم - عليه السلام -، إذ كان عيسى - عليه السلام - آخر أنبياء بني إسرائيل، وتبعه فئام كثير من البشر.
- وأما طور سينين: فهو الموضع الذي أرسل منه موسى - عليه السلام – .
- وأما البلد الأمين: فمكة، موطن أشرف الرسالات؛ رسالة محمد - صلى الله عليه وسلم – .

فهذه المواضع الثلاثة مواضع شريفة، معظمة، وتعظيمها ليس في القرآن وحده، بل فيما يجده أهل الكتاب في كتبهم، قال ابن كثير- رحمه الله -: (في آخر السفر الخامس، وهو آخر التوراة التي بأيديهم: "جاء الله من طور سيناء، وأشرق من ساعير، واستعلن من جبال فاران: وظهر من ربوات قدسه، عن يمينه نور، وعن شماله نار، عليه تجتمع الشعوب". أي جاء أمر الله، وشرعه من طور سيناء - وهو الجبل الذي كلم الله موسى عليه السلام عنده - وأشرق من ساعير، وهي جبال بيت المقدس - المحلة التي كان بها عيسى بن مريم عليه السلام – واستعلن، أي ظهر، وعلا أمره، من جبال فاران، وهي جبال الحجاز، بلا خلاف. ولم يكن ذلك إلا على لسان محمد صلى الله عليه وسلم. فذكر تعالى هذه الأماكن الثلاثة، على الترتيب الوقوعي، ذكر محلة موسى، ثم عيسى، ثم بلد محمد - صلى الله عليه وسلم - ولما أقسم تعالى بهذه الأماكن الثلاثة ذكر الفاضل أولا، ثم الأفضل منه، ثم الأفضل منه، على قاعدة القسم، فقال تعالى: (والتين والزيتون)، والمراد بها محلة بيت المقدس، حيث كان عيسى عليه السلام (وطور سينين)، وهو الجبل الذي كلم الله عليه موسى. (وهذا البلد الأمين) وهو البلد الذي ابتعث منه محمدًا صلى الله عليه وسلم. قاله غير واحد من المفسرين في تفسير هذه الآيات الكريمات) [البداية والنهاية - (6 / 199)]


ففي هذا النص إشارة إلى الترابط بين الملل، والشرائع السماوية، الكبرى، وهي: دين موسى- عليه السلام -، ودين عيسى - عليه السلام -، ودين محمد - صلى الله عليهم جميعا وسلم - ودينهم جميعًا هو الإسلام.

ولهذا لا نقول: اليهودية، والنصرانية، أديان سماوية - كما يقول بعض الناس - فإن موسى - عليه السلام - لم يبعث باليهودية، وعيسى - عليه السلام - لم يبعث بالنصرانية، وإنما بعثوا جميعًا بالإسلام، قال الله - عز وجل -:

(إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا) فدين الأنبياء جميعًا هو الإسلام، ولذلك قال الحواريون: (وَاشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ) [آل عمران: 52]، وفي موضع: (وَاشْهَدْ بِأَنَّنَا مُسْلِمُونَ) [المائدة:111]، وكذا جاء موسى - عليه السلام -، ومحمد وجميع أنبياء الله، كلهم بعثوا بالإسلام.

فدين الله - تعالى – واحد، وهو الإسلام، وإنما تتنوع الشرائع، (الأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ مِنْ عَلاَّتٍ وَأُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) [رواه مسلم].


فاليهودية: هي ما آل إليه دين موسى، عليه السلام، بعد تحريف الأحبار، والحاخامات.

والنصرانية: هي ما آل إليه دين عيسى، عليه السلام، بعد ما أحدثه الرهبان، والقسس، والأساقفة.


فلم يكن أحدٌ من أنبياء الله، يهوديًا ولا نصرانيًا، كما قال الله عن أبيهم إبراهيم: (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا وَلَكِنْ كَانَ حَنِيفًا مُسْلِمًا)، وقال: (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)، فلا يمكن أن يكون عيسى، وموسى -عليهما السلام - رغبا عن ملة إبراهيم، التي هي الإسلام. حاشا، وكلا!

وقد أنكر الله - تعالى - على من دعا إلى يهودية، أو نصرانية، فقال - سبحانه -: (وَقَالُوا كُونُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْرَاهِيمَ حَنِيفًا وَمَا كَانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ).


فدين الله - تعالى – واحد، وهو الإسلام، ولكنه الإسلام بالمعنى العام، الذي يعني: الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والبراءة من الشرك وأهله.

والإسلام، بالمعنى الخاص: هو ما بعث الله به محمد - صلى الله عليه وسلم - من العقائد الصحيحة، والشرائع العادلة، والأخلاق القويمة، والآداب الرفيعة.


ثم إن كل شريعة أنزلت على كل نبي، هي الإسلام في ذلك الزمان، فإذا جاء ما ينسخها، صار الإسلام هو الدين الناسخ. حتى في شريعة محمد - صلى الله عليه وسلم - يكون الشيء مشروعا في أول الأمر، ثم ينسخ، فقد كان دين الإسلام في أول الأمر هو التوجه في الصلاة إلى بيت المقدس، ثم نسخ بعد ذلك، فصار التوجه في الصلاة إلى الكعبة المشرفة. فالله - تعالى - يمحو ما يشاء ويثبت. قال تعالى: (مَا نَنْسَخْ مِنْ آَيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا)، لكن الذي لا يتغير أبدًا، هو الدين الذي بمعنى أصول الاعتقاد، وأمهات العبادات، والأخلاق. وأما تفاصيل الشرائع، فإنها تتنوع.


فحينما يسمع المؤمن القسم بهذه المذكورات، يذهب وهله إلى مواطنها، وإلى من كان في تلك المواطن من أنبياء الله، فيعلم أن التين والزيتون إنما تنبت في بلاد الشام، التي عاش فيها أنبياء بني إسرائيل، وتُوجوا بعيسى- عليه السلام-،

وحينما يسمع ذكر (وطُورِ سِينِينَ)، يذهب وهله إلى موسى- عليه السلام– ،

وحينما يسمع (وَهَذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ) مكة، فيتبادر ذهنه إلى محمد - صلى الله عليه وسلم -، فيبصر هذه الملل، كالحلقات المتصلة، في سلسلة واحدة، يشد بعضها بعضًا، حتى ختمت بالرسالة المحمدية الخالدة، فهيمنت على ما سبقها، وصارت حاكمة، وقاضية، وناسخة، لما سواها.


ثم قال الله - عز وجل - مجيبًا على هذه الأقسام: (لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسَانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ . ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)

(لَقَدْ خَلَقْنَا) اللام في (لقد) لام القسم، و(قد) للتحقيق.

(الْإِنْسَانَ) المراد به جنس الإنسان.


(أْحسَنِ تَقْوِيمٍ) قيل فيها معاني متقاربة:

- معتدل الخلقة، حسن الصورة.
- وقيل: - وهو يرجع إلى المعنى الأول - أنه ما من مخلوق إلا وخلقه الله مكبًا على وجهه، إلا ابن آدم، فسائر الحيوانات، والطيور، تجدها مكبة على وجوهها، أما الإنسان فإنه معتدل الخلقة، منتصبًا على قدميه. فيرجع هذا إلى كمال خلقته، واستوائها، ويدخل في هذا المعنى، سلامة الفطرة، وأنه خلق سويًا، على الفطرة الأصلية؛ الموافقة لدين الله، قال تعالى: (فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفًا فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْهَا لَا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذَلِكَ الدِّينُ) [الروم : 30]، فالفطرة هي خلق الله، التي يسعى الشيطان لإغراء الناس بتغييرها: (وَلآَمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ).
فالفطرة إذًا خلق الله الأصلي لابن آدم، فقد خلقه في أحسن تقويم، في أحسن صورة ظاهرة، معتدل البنية، وفي أحسن صورة باطنة، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (مَا مِنْ مَوْلُودٍ إِلاَّ يُولَدُ عَلَى الْفِطْرَةِ فَأَبَوَاهُ يُهَوِّدَانِهِ وَيُنَصِّرَانِهِ وَيُمَجِّسَانِهِ كَمَا تُنْتَجُ الْبَهِيمَةُ بَهِيمَةً جَمْعَاءَ هَلْ تُحِسُّونَ فِيهَا مِنْ جَدْعَاءَ) [متفق عليه].


وهذا المعنى يدل على مبدأ من مبادئ فقه النفس، وهو أن الله سبحانه و- تعالى - خلق الإنسان على الفطرة الأصلية السوية، كما في الحديث القدسي: (خَلَقْتُ عِبَادِى حُنَفَاءَ كُلَّهُمْ، وَإِنَّهُمْ أَتَتْهُمُ الشَّيَاطِينُ، فَاجْتَالَتْهُمْ عَنْ دِينِهِمْ) [رواه مسلم].

فالإنسان حينما يولد، يولد نقيًا، غير ملوث، لم يتعرض له الشيطان بعد. ثم يكثف الشيطان حملاته الشهوانية، وشبهاته العقلية، فيخرجه عن الجادة، فيقع نقص، وثلم لكل أحد، بمقدار استجابته للشيطان. والإيمان يصون الفطرة، ويحفظها، وينميها. وأما فاقد الإيمان، فإنه لا يزال يتردى في مهاوي الردى، حتى يطمس فطرته. ولذلك سمي الكفر كفرًا، لأن الكفر في اللغة بمعنى التغطية، فهو يغطي الفطرة، ويحجبها عن الاتصال بخالقها، فيفقد الإنسان إنسانيته، وإن ادعى الإنسانية. فلا يغرنكم ما تسمعون من دعاوى الإنسانية، من قبل أناس محجوبين عن الله، ودينه. هؤلاء، في الواقع، أبعد الناس عن الإنسانية. فلا يمكن أن تحصل الإنسانية الحقة، إلا بالاتصال بخالق الإنسان، والإيمان به. ليست الإنسانية مجرد ذرف دموع، أو رقة عاطفية، أعظم الإنسانية أن يحافظ الإنسان على خلقه القويم، فيكون عبدًا لله حقاً.وإذا تحقق ذلك صلح كل شيء.


- وقيل: أيضا خلقناه شابًا، جلدًا، قويًا، وذلك حينما يكتمل شبابه، ما بين الثالثة والثلاثين، إلى الأربعين؛ لقوله تعالى: (حَتَّى إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً) فهذا السن، ذروته سن الأربعين، ولكنه يبدأ في اكتمال القوة العقلية، والبدنية، من الثالثة والثلاثين، فيكون المراد حال الشباب، والقوة، والجلد.

وينبني على هذا الخلاف، معنى بقية الآية، وهي قوله تعالى: (ثُمَّ رَدَدْنَاهُ أَسْفَلَ سَافِلِينَ)، فقد ذكر المفسرون في معناها، وجهين:

- الوجه الأول: أي: أرذل العمر، وهو سن الهرم، كما قال تعالى: (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ)؛ فبعد أن كان منتصب القامة، احدودب ظهره. وبعد أن كان فتيًا، جلدًا، صار ضعيفًا، لا يقوى.
ووجهوا قوله: (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) بأن المؤمن الذي يعمل الصالحات، إذا رد إلى أرذل العمر، فإنه يكتب له ما كان يعمله من العمل، صحيحًا مقيمًا، كما دل على ذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِذَا مَرِضَ الْعَبْدُ، أَوْ سَافَرَ كُتِبَ لَهُ مِثْلُ مَا كَانَ يَعْمَلُ مُقِيمًا صَحِيحًا) رواه البخاري.

وممن ذهب إلى هذا القول ابن جرير الطبري - رحمه الله -. لكن يضعفه أنه لا ينطبق على كل أحد، بل إن الأعم الأغلب، أن يموت الإنسان قبل أن يبلغ الهرم. فكيف تحمل الآية على الأقل ويترك الأكثر؟!

وقيل في توجيهها، أيضاً، معنى قريب من ذلك، وهو أن الله - تعالى - لا يؤاخذه بما يصدر منه في حال الهرم، فإن الإنسان إذا هرم، ربما صار عنده نوع جزع، وضجر، وغير ذلك، فلا يؤاخذ عليه.

- الوجه الثاني: أن أسفل سافلين هي النار، وأن الإنسان لما تنكر لربه، وكفر به، حطه الله - تعالى - في أقصى دركات النار.

فإن قال قائل لكن هذا لا ينطبق على جميع الناس! قلنا: هذا صحيح، ولهذا استثنى الله - تعالى - فقال (إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا)، ولكن لما كان أكثر الناس على خلاف الاستقامة، جعل هذا أصلا، وجعل الأقل هو الاستثناء. ويدل على ذلك حديث بعث النار: يَقُولُ اللَّهُ - تَعَالَى - يَا آَدَمُ! فَيَقُولُ: لَبَّيْكَ، وَسَعْدَيْكَ. وَالْخَيْرُ فِي يَدَيْكَ. فَيَقُولُ: أَخْرِجْ بَعْثَ النَّارِ. قَالَ: وَمَا بَعْثُ النَّارِ؟ قَالَ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ، تِسْعَمِئَةٍ، وَتِسْعَةً وَتِسْعِينَ. فَعِنْدَهُ يَشِيبُ الصَّغِيرُ، وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا، وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى، وَمَا هُمْ بِسُكَارَى، وَلَكِنَّ عَذَابَ اللهِ شَدِيدٌ. قَالُوا : يَا رَسُولَ اللهِ! وَأَيُّنَا ذَلِكَ الْوَاحِدُ؟ قَالَ: أَبْشِرُوا! فَإِنَّ مِنْكُمْ رَجُلٌ، وَمِنْ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ أَلْفٌ. ثُمَّ قَالَ: وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ، إِنِّي أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا رُبُعَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا ثُلُثَ أَهْلِ الْجَنَّةِ. فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: أَرْجُو أَنْ تَكُونُوا نِصْفَ أَهْلِ الْجَنَّةِ، فَكَبَّرْنَا، فَقَالَ: مَا أَنْتُمْ فِي النَّاسِ إِلاَّ كَالشَّعَرَةِ السَّوْدَاءِ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَبْيَضَ، أَوْ كَشَعَرَةٍ بَيْضَاءَ فِي جِلْدِ ثَوْرٍ أَسْوَدَ) [متفق عليه]. فهذا يدل على أن أكثر بني آدم على الضلال، والانحراف؛ (وَمَا أَكْثَرُ النَّاسِ وَلَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ).


وحين نتأمل هذين الوجهين في التفسير، يتبين أن تفسير من فسر (أسفل سافلين) أنها النار، أوجه وأرجح، وإلى هذا ذهب ابن القيم - رحمه الله - ونصره نصرًا مؤزرًا، في كتابه [التبيان في أقسام القرآن]، وعد نحو عشرة أوجه في الترجيح، وأن مقتضى القسمة: فكما وصف الله - تعالى – جزاء المؤمنين بأنه: (أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) فينبغي أن يكون جزاء مخالفيهم - وهم الكافرون – (أسفل سافلين) لكي تتقابل الصورتان.

ويؤيد هذا - أيضا التنظير- على قول الله - تعالى - في أخر سورة (الانشقاق) (بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ.وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا يُوعُونَ.فَبَشِّرْهُمْ بِعَذَابٍ أَلِيمٍ.إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ) [الانشقاق : 22 - 25].


وخلاصة ما تقدم: أن الله -سبحانه وتعالى- أقسم بهذه الأقسام الأربعة، مبينا أنه: خلق ابن آدم خلقة سوية، معتدلة من الناحية الظاهرية، وخلقة سوية، معتدلة من الناحية الباطنية، لكونها على الفطرة الأصلية، ثم أن الكافر أفسد ذلك بكفره، فكان جزاؤه أن رد في (أسفل سافلين)، فهوى في الدرك الأسفل من النار، وأما المؤمن قد عصمه الله - تعالى – بإيمانه، وعمله الصالحات، فكافئه بالأجر غير الممنون.


(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) : هذا هو الاستثناء. وقد تضمنت الجملة

مسألة عقدية كبيرة: هل العمل داخل في مسمى الإيمان، وحده، وتعريفه، أم لا؟

- فأهل السنة يرون أن مثل هذه الآيات التي فيها اقتران الإيمان بالعمل الصالح دليل يؤيد ما ذهبوا إليه من أنه لا إيمان بلا عمل، حيث إن الله - تعالى – غالباً، لا يذكر الإيمان إلا ويقرنه بالعمل.
- ولكن مخالفيهم من المرجئة، استدلوا بها على عكس ذلك! فقالوا: العطف يقتضي المغايرة، فلو كان العمل داخلاً في مسمى الإيمان، ما عطف عليه؛ فإذا قلت: جاء زيد وعمرو، فهذا يقتضي أن عمرواً غير زيد.
ولكن يجاب عن ذلك بأحد جوابين :
الجواب الأول: أن يقال: هذا من عطف الخاص على العام. وهذا موجود في القرآن، وفي اللغة. مثاله من القرآن: (إِنَّا أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ كَمَا أَوْحَيْنَا إِلَى نُوحٍ وَالنَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَأَوْحَيْنَا إِلَى إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطِ وَعِيسَى وَأَيُّوبَ وَيُونُسَ وَهَارُونَ وَسُلَيْمَانَ وَآتَيْنَا دَاوُودَ زَبُورًا) [النساء : 163] مع دخول المذكورين في لفظ النبيين. ولو قلت: جاء الطلبة، ومحمد، ومحمد من الطلبة، عطفت الخاص على العام. فهذا سائغ لغة. وللعطف في اللغة أنواع متعددة، لا نستطرد بذكرها.

الجواب الثاني: أن يقال: إن من الألفاظ ما يكون له دلالة عند الإنفراد، ودلالة عند الاقتران. فإذا انفردت عمت، وإذا اقترنت خصت. مثل: الفقير والمسكين، ومثل: البر والتقوى، ومثل: الإثم والعدوان. فلو أعطاك إنسان مبلغاً من المال، وقال: أعطه فقيرًا، صح بذله لكل ذي فاقة. ولو أعطاك درهمين، وقال: أعط هذا فقيرًا، وأعط هذا مسكينًا، فينبغي أن يكون للمسكين معنى غير معنى الفقير، كما ميز الله بينهما، فقال: (إِنَّمَا الصَّدَقَاتُ لِلْفُقَرَاءِ وَالْمَسَاكِينِ) .فيكون الفقير: هو الذي كسرت الحاجة فقاره يعني: أنه أشد فاقة. والمسكين: من أسكنته الحاجة، وكان دون الأول. وفرق الفقهاء بينهما في باب الزكاة، فقالوا: الفقراء: من لا يجدون شيئاً، أو يجدون بعض الكفاية. والمساكين: يجدون أكثرها، أو نصفها. ومثل: التوبة، والاستغفار، عند الانفراد يجتمعان في معنى الندم، والإقلاع، والعزم على عدم العود. وعند الاقتران ينبغي أن يكون للتوبة معنى، غير معنى الاستغفار، كما قال تعالى على لسان غير واحد من رسله: (وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ). فيكون الاستغفار عما مضى، والتوبة لما يستقبل.


فكذلك الإيمان والعمل الصالح؛ إذا جاء الإيمان منفردًا، شمل القول، والعمل معًا، وإذا جاء الإيمان مقترنًا بالإسلام، أو بالعمل الصالح، فإنه يختص بالعقائد الباطنة. كما في حديث جبريل المشهور.

وعلى هذا فليس للمرجئة مستمسك بهذه الآية، وأمثالها، بل أهل السنة والجماعة أسعد بها، فإن الله تعالى يقرن كثيرًا بين الإيمان، والعمل الصالح، لتلازمهما؛ فلا إيمان بلا عمل.


(غَيْرُ مَمْنُونٍ) أي: غير مقطوع. وتأتي بمعنى: محسوب أي: أنه لا يعد عليه، وتأتي بمعنى: منقوص، بل يعطى عطاءً كثيرًا، وافياً، لا منة فيه، ولا حسبان، ولا انقطاع.


(فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) : اختلف في معنى الدين هاهنا:

- قيل: هو الدينونة، التي بمعنى الجزاء، والحساب، والعرب تقول: دنته، فدان.فيكون الاستفهام: للاستنكار، يعني: كيف يكذب الإنسان بالدينونة؟ والله - تعالى – قد بين أنه قد خلقه في أحسن تقويم، وأن جزاء الكافر أن يرد في أسفل سافلين، وأن جزاء المؤمن أجر غير ممنون، فكيف يكذب الإنسان بعد ذلك بالدينونة ؟ ويكون الخطاب في قوله: (فَمَا يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ) موجه إلى المكذب، الذي هو الكافر، المنكر للبعث.
- وقيل: (الدين) بمعنى الحكم والقضاء. فلا يسوغ إذا كان الإنسان يعلم بأن الكافر يرد إلى: (أسفل سافلين)، وأن المؤمن يؤتى أجرًا غير ممنون، أن يعصي الله - عز وجل -، بل يجب عليه أن يمتثل أمره، وأن يجتنب نهيه، وأن يصبر على قضائه؛ لأن الله - سبحانه وتعالى - هو المثيب، وهو المعاقب، فإذا كان هو المثيب وهو المعاقب، فلابد أنه يأمر وينهى، ويقضي ويحكم. ولهذا قال:

(أَلَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ): والجواب: بلى! فيكون الاستفهام: تقريرياً. وقد وصف الله نفسه (أَحْكَمِ الْحَاكِمِينَ)، ومعنى ذلك أنه أثبت وصف الحكم لغيره، لكنه –سبحانه- أحكمهم. وهذا يدل على إمكان الاشتراك في أصل الصفة، أي المعنى المشترك الكلي، المطلق، الموجود في الأذهان، لا خارج الذهن. ولكن الله - تعالى - له المثل الأعلى، فلا يقع حينئذ اشتراك في الأعيان؛ لأنه إذا انفرد - سبحانه بالمثل الأعلى للصفة، فإنه لا يمكن أن يشابهه، ويماثله أحد في ذلك، فيزول المحظور الذي تدعيه سائر فرق المعطلة.


ولهذا لَمَّا وَفَدَ أبو شريح، - رضي الله عنه - إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم - مَعَ قَوْمِهِ سَمِعَهُمْ يَكْنُونَهُ بِأَبِى الْحَكَمِ فَدَعَاهُ رَسُولُ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم – فَقَالَ: « إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَكَمُ وَإِلَيْهِ الْحُكْمُ فَلِمَ تُكْنَى أَبَا الْحَكَمِ ».

فَقَالَ: إِنَّ قَوْمِى إِذَا اخْتَلَفُوا فِى شَىْءٍ، أَتَوْنِى فَحَكَمْتُ بَيْنَهُمْ، فَرَضِىَ كِلاَ الْفَرِيقَيْنِ.

فَقَالَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم- « مَا أَحْسَنَ هَذَا فَمَا لَكَ مِنَ الْوَلَدِ ».

قَالَ: لِى شُرَيْحٌ، وَمُسْلِمٌ، وَعَبْدُ اللَّهِ.

قَالَ: « فَمَنْ أَكْبَرُهُمْ ».

قُلْتُ: شُرَيْحٌ

قَالَ: « فَأَنْتَ أَبُو شُرَيْحٍ ». [رواه أبو داود، والنسائي، وصححه الألباني].

وذلك لما يوهمه لقب (أبو الحكم) من بلوغ الغاية في الحكم، فإن أبا الشيء، كأنه المستبد به، المستوعب له، والمستولي عليه، وهذا لا يكون إلا لله - عز وجل - فإن الله - تعالى - له المثل الأعلى.


وقد ورد أنه يقال في آخر هذه السورة: بلى، وأنا على ذلك من الشاهدين؛ جواباً للسؤال. ولكن الرواية جاءت من طريق قتادة، مرسلة، وجاءت عن قتادة منسوبة إليه، يعني: بسند مقطوع. فالإسناد الأول، يسمى منقطع، والثاني مقطوع. فهو لم يثبت. وممن ضعفه الألباني - رحمه الله - وكذلك الحال عند قول الله - تعالى - (أَلَيْسَ ذَلِكَ بِقَادِرٍ عَلَى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتَى)، لم يصح في جوابه رواية مرفوعة.

ولا بأس أن يأتي الإنسان بجواب مناسب لسؤالٍ ملقى، لكنه لا يفعل ذلك على سبيل الالتزام، لأن هذا يحتاج إلى توقيف.


الفوائد الستنبطة

§ الفائد الأولى: أن لله - تعالى - أن يقسم بما شاء من مخلوقاته.
§ الفائدة الثانية: ترابط الشرائع السماوية، وأن دين الله واحد.
§ الفائدة الثالثة: أن الأصل سلامة الإنسان، واستواء خلقه، ظاهرًا وباطنًا.
§ الفائدة الرابعة: إفساد الكافر لفطرته السوية، وتغييره لخلق الله.
§ الفائدة الخامسة: أن الإيمان يحفظ الفطرة السوية وينميها.
§ الفائدة السادسة: اقتران العمل بالإيمان، وأنه لا إيمان بلا عمل.
§ الفائدة السابعة: سعة فضل الله، وعطاءه.
§ الفائدة الثامنة: إثبات الجزاء، والحساب، إذا قلنا إن المراد بالدين الجزاء.
§ الفائدة التاسعة: إثبات حكم الله، وحكمته.
§ الفائدة العاشرة: إثبات المثل الأعلى لله تعالى.
 
سورة العلق

سورة العلق

التفسير العقدي لجزء عم

سورة العلق

بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4) عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى (7) إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى (8) أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى (9) عَبْدًا إِذَا صَلَّى (10) أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى (12) أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى (13) أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى (14) كَلَّا لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعًا بِالنَّاصِيَةِ (15) نَاصِيَةٍ كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ (18) كَلَّا لَا تُطِعْهُ وَاسْجُدْ وَاقْتَرِبْ (19))

الآيات الخمس الأول، من هذه السورة، هي أول ما أنزل الله - تعالى - على نبيه، صلى الله عليه وسلم، في قصة بدء الوحي المشهورة، التي رواها البخاري، وغيره، من حديث عائشة - رضي الله عنها - وفيه: (كَانَ يَخْلُو بِغَارِ حِرَاءٍ فَيَتَحَنَّثُ فِيهِ - وَهُوَ التَّعَبُّدُ - اللَّيَالِيَ ذَوَاتِ العَدَدِ، قَبْلَ أَنْ يَنْزِعَ إِلَى أَهْلِهِ، وَيَتَزَوَّدُ لِذَلِكَ، ثُمَّ يَرْجِعُ إِلَى خَدِيجَةَ فَيَتَزَوَّدُ لِمِثْلِهَا، حَتَّى جَاءَهُ الحَقُّ وَهُوَ فِي غَارِ حِرَاءٍ، فَجَاءَهُ المَلَكُ فَقَالَ: اقْرَأْ، قَالَ: " مَا أَنَا بِقَارِئٍ "، قَالَ: " فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، قُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّانِيَةَ حَتَّى بَلَغَ مِنِّي الجَهْدَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: اقْرَأْ، فَقُلْتُ: مَا أَنَا بِقَارِئٍ، فَأَخَذَنِي فَغَطَّنِي الثَّالِثَةَ ثُمَّ أَرْسَلَنِي، فَقَالَ: { اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ . خَلَقَ الإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ . اقْرَأْ وَرَبُّكَ الأَكْرَمُ } "


من مقاصد هذه السورة:

- شرف العلم، وما يوصل إليه من القراءة، والكتابة،
- بيان طبيعة النفس الإنسانية.
- بيان مآلات الناس

(اقْرَأْ): هذا فعل أمر؛ الآمر هو الله، تعالى. والمأمور نبيه، صلى الله عليه وسلم.

(بِاسْمِ): الباء للاستعانة، أي: أقرأ مستعينًا باسم ربك، فهي ليست قراءة مجردة، بل قراءة متلبسة بالاستعانة بالله، تعالى.

وليس المقصود مجرد القراءة، كما يستشهد كثير من الناس بهذه الآية، حينما يحضون على القراءة، والاطلاع؛ فيقولون: أقرأ! لا ريب أن هذه الآية أصل عظيم في شرف القراءة، لكن القراءة المقصودة، التي هي محل الحمد، والشرف، هي التي باسم ربك، لا القراءة المجردة، فإن من القراءة ما تضر بصاحبها، وتنقله إلى عالم من الشهوات، والشبهات. لكن القراءة المحمودة، هي التي تكون باسم الله، يعني مستعانًا فيها بالله، مرادًا بها وجهه، تعالى.

(رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ) عبر بوصف الربوبية، لأن المقام مناسب لذلك، فهو الرب المالك، المدبر، الذي يربي عبده بنعمه، ولهذا قال: (الَّذِي خَلَقَ) كل شيء. فعرف الربوبية بأخص أوصافها، وهو الخلق.

وبين نوعًا من أنواع الخلق فقال:

(خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ) جنس الإنسان. والعلق هو: الدم اليسير، المتجمد، الملتصق بجدار الرحم.

وذلك أن خلق الإنسان يمر بأطوار، كما في حديث الصَّادِقُ الْمَصْدُوقُ: ( إِنَّ أَحَدَكُمْ يُجْمَعُ خَلْقُهُ فِي بَطْنِ أُمِّهِ أَرْبَعِينَ يَوْمًا، ثُمَّ يَكُونُ عَلَقَةً مِثْلَ ذَلِكَ) الحديث، متفق عليه. فإذا قذف الرجل الماء في رحم المرأة، ومضى عليه أربعون يومًا، اخترقته الأوعية الدموية، المستمدة من جدار الرحم، فيستحيل إلى علقة،كما هو معروف في علم الأجنة.

وفي هذا لفتة للنقلة الكبيرة، الواسعة، بين هذا العلق الذي يشبه الدود، وبين هذا الكائن، السوي، البصير، السميع، الذي يغدو، ويروح، ويتكلم.

و(اقْرَأْ) الثانية تأكيد لـ(اقْرَأْ) الأولى. وأصل القرء: الجمع، لاجتماع الكلمات بعضها مع بعض.

(وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ): الواو ها هنا، واو الحال، يعني: (اقْرَأْ) والحال أن ربك هو الأكرم، فهو خلق، وهو قد تكرم. فهذا وصف زائد على مجرد الخلق.

(الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ): فتعليمه بالقلم من مظاهر الكرم. والمراد بالقلم، جنس الأقلام التي يكتب بها. ويقال إن أول من خط بالقلم، إدريس - عليه السلام –

والكتابة بالأقلام لم تزل منذ فجر البشرية، إلى يومنا هذا، لا يُستغنى عنها، وإن تنوعت مادة الأقلام، فكانت من الخشب، كما قال الله - تعالى - (وَلَوْ أَنَّمَا فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلَامٌ)؛ تؤخذ من الأشجار، تقلَّم، وتبرى، وتغمس في المواد الملونة، ويكتب بها. وإلى عهد ليس بالبعيد، كان الناس يكتبون بالعصفر، وبأنواع الأحبار، ثم تطورت طرائق الكتابة حتى كانت هذه الأقلام الحديثة. ويبقى القلم قلما.

(عَلَّمَ الْإِنْسَانَ مَا لَمْ يَعْلَمْ): إذًا هذا الكرم، في التعليم، فكأن التعليم مرحلة تالية للخلق، كما قال الله سبحانه و- تعالى - (الرحمن* علم القرءان*خلق الإنسان علمه البيان)، فبين الخلق، والعلم صلة، وترابط. فالرب الأكرم علم الإنسان ما لم يكن يعلمه من قبل، قال الله - تعالى - (وَاللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهَاتِكُمْ لَا تَعْلَمُونَ شَيْئًا وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَالْأَفْئِدَةَ) [النحل: 78]. هذه منافذ العلم. فحينما يخرج الإنسان من بطن أمه، ليس عنده علم البتة، لكن عينيه وما تبصران، وأذنيه وما تسمعان، وعقله وما يفقهه، يكوِّن مفردات المعلومات، حتى يبلغ شأوًا عظيمًا، لكنه بعد ذلك يؤول، وينحط إلى الجهل، (وَمِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلَى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لَا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئًا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ) [النحل: 70]

(كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى):

(كَلَّا): كلمة ردع، وزجر، والمراد نفي شيء، وإنكاره، وهو إنكارهم للبعث، وطغيانهم. والإنسان، هنا، الكافر. والطغيان هو تجاوز الحد، كما قال الله - تعالى -: (إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ).

(أَنْ رَآَهُ) أي: لأن رآه ، يعني: أن رأى نفسه.

ورأى تنصب مفعولين أولهما هنا الضمير (أَنْ رَآَهُ) يعني أن رأى نفسه.

(اسْتَغْنَى): يعني زهد في عطاء الله، وفضله. وجملة (استغنى) هي المفعول الثاني.

والمعنى: أن هذا الإنسان الكافر، إذا آنس من نفسه غنى في رزقه، وصحة في بدنه، نسي ربه، ولم يلجأ إليه، ولم يضرع إليه، وخيل إليه أنه مكتف، وغير مفتقر إلى الله، عز وجل، فقال الله:

(إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى) أي المردُّ. إذا كان يظن الإنسان أنه قد استغنى ببنيه، وذويه، وعشيرته، وماله، وغير ذلك، واستدام له في دنياه، فـ (إِنَّ إِلَى رَبِّكَ الرُّجْعَى).

وهذا المعنى قائم في ضمير كل مؤمن، وبقدر حضوره، تحصل التقوى. لقي الفضيل بن عياض - رحمه الله – رجلًا، فقال له: كم أتت عليك؟ قال: ستون سنة. قال: فأنت منذ ستين سنة، تسير إلى الله، توشك أن تبلغ! فاسترجع الرجل؛ قال: (إنا لله وإنا إليه راجعون). فقال له الفضيل: أتدري ما تقول؟! من علم أنه لله راجع، علم أنه موقوف، ومن علم أنه موقوف، علم أنه مسؤول، ومن علم أنه مسئول، أعد للسؤال جوابًا. فقال الرجل: فما الحيلة؟ قال: يسيرة؛ تحسن فيما بقي، يغفر لك ما قد مضى، فإنك إن أسأت فيما بقي، أخذت بما مضى وما بقى.

(أَرَأَيْتَ الَّذِي يَنْهَى) استفهام يراد به الإنكار. والرؤية هنا: رؤية علمية، بمعني أعلمت، أدريت. والمخاطب مبهم، لا يختص بالنبي - صلى الله عليه وسلم -، وكأنما الخطاب لكل من يسمع. والناهي: أبو جهل، والمنهي: نبينا محمد - صلى الله عليه وسلم. وذلك أن أبا جهل - لعنه الله - انتهر نبينا - صلى الله عليه وسلم -، وهدده، وقال: لأملأن عليك هذا الوادي خيلًا جردًا، وشبابًا مردًا. قد علمت أني من أكثرهم ناديًا. يفتخر، ويستطيل على النبي - صلى الله عليه وسلم – . وفي بعض الروايات: أنه تهدده، وقال: لئن صليت في البيت، لأطأن على عنقك.

(عَبْدًا) المراد بالعبد هنا محمد - صلى الله عليه وسلم –

(إِذَا صَلَّى) تشنيعاً لمقالته، وتعجباً من نهيه، إشارة إلى تهديده الوقح، بأن يطأ عنق النبي - صلى الله عليه وسلم –

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى) الخطاب للسامع لهذه الجمل.

(إِنْ كَانَ عَلَى الْهُدَى) وهذا هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم -

(أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوَى) كلمة (أَوْ) هنا للتقسيم، والتنويع، وليس المقصود بها: هذا، أو ذاك، وفي كلا الحالين، هو حال النبي - صلى الله عليه وسلم، أنه كان على الهدى، وأنه كان يأمر بالتقوى. فكأنما يقول: كيف يستقيم، ويليق، ويسوغ، أن تتهدده، وتتوعده بهذا التوعد الخبيث، وهذا حاله؟!

(أَرَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَتَوَلَّى) المراد أبو جهل، وأضرابه، فقد كذب، وفوق التكذيب تولى، وأعرض. وبهذا تبدو المقابلة المستنكرة؛ رجل على الهدى، ويأمر بالتقوى، يتهدده رجل كذَّب، وتولى.

(أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى) غاب عنه، وخفي عليه أن الله - تعالى – يرى. والمراد بالرؤية هنا: الرؤية الحقيقية؛ فإن الله سبحانه و- تعالى – يسمع، ويرى، يبصر، بعينيه، - سبحانه و تعالى- وله عينان حقيقيتان، كريمتان، كما دلت على ذلك النصوص الصحيحة؛ من الكتاب، والسنة، لا تشبهان أعين المخلوقين، يبصر بهما. قال الله - عز وجل - (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى)، فهذا المسكين التائه، أبو جهل (أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى)، أكان الله يدعه يفعل فعلته في حق النبي - صلى الله عليه وسلم؟!

(كَلَّا) كلمة ردع، وزجر، فليس الأمر، كما يتوهم أبو جهل.

(لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ) اللام، لام القسم، يعني: لم ينتهِ عن دعواه هذه.

(لَنَسْفَعَنْ بِالنَّاصِيَةِ) ومعنى السفع بالناصية أي: جذبها بشدة، والناصية هي: مقدم الرأس. والمراد جميعه، لكنه عبر بالبعض عن الكل؛ لأن أشرف، وأعلى ما في الإنسان، ناصيته، التي يستقبل بها، وهي مقدم رأسه. وهذا تهديد بليغ من الله - عز وجل – وقد جاء أنه لو هم بذلك، لأخذته الزبانية، والناس ينظرون.

(نَاصِيَةٍ) هذه نكرة، بدل من معرفة؛ لأن (نَاصِيَةٍ) الأولى، معرَّفة، وهنا منكَّرة.

(كَاذِبَةٍ خَاطِئَةٍ) وصفها بالكذب، والخطيئة، وبئس الوصفان؛ قولاً، وعملاً.

(فَلْيَدْعُ) لينفذ تهديده، إن كان صادقًا، أنه سيملأ عليه الوادي خيلا جردًا، وشبابًا مردًا.

(نَادِيَهُ) يعني ذلك الجمع الذي يفتخر بكثرته، ويقول للنبي - صلى الله عليه وسلم -: قد علمت أني من أكثر أهل هذا الحي ناديًا، يريد أن الناس مجتمعون عليه. وهذا من التفاخر؛ فقد كان من بني مخزوم، وهم من أشرف بطون قريش، وهذا يدل على مكانته، عند قومه، لكن (فَلْيَدْعُ نَادِيَهُ) ليدعو كما زعم

(سَنَدْعُ الزَّبَانِيَةَ) هم الملائكة الغلاظ، الشداد، فلو وقع ما ادعاه، لسلط الله عليه الزبانية، لكنه لم يجرأ.

(كلا لَا تُطِعْهُ) لا تطعه إلى ما يساومك عليه، من التخلي عن دعوتك، أو عدم ذم آلهته المزعومة، بل عوضًا عن ذلك:

(وَاسْجُدْ) عبر عن الصلاة بالسجود؛ لأن السجود أشرف ما فيها؛ فإن السجود عنوان العبودية لله - تعالى -، حيث يضع العبد أشرف ما فيه، وهي جبهته على الأرض، يعفرها بالتراب، فهذه عبودية خالصة لله - تعالى –

(وَاقْتَرِبْ) يعني: تقرب إلى لله - عز وجل – فقرن بين السجود، والقرب. ويشهد لهذا المعنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - (أَقْرَبُ مَا يَكُونُ الْعَبْدُ مِنْ رَبِّهِ، وَهُوَ سَاجِدٌ، فَأَكْثِرُوا الدُّعَاءَ) رواه مسلم. فمن أراد أن يدعو الله، ويتملقه، ويلح عليه، ويسأله، فليدع الله ساجدًا، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - (أَلاَ، وَإِنِّى نُهِيتُ أَنْ أَقْرَأَ الْقُرْآنَ، رَاكِعًا، أَوْ سَاجِدًا، فَأَمَّا الرُّكُوعُ، فَعَظِّمُوا فِيهِ الرَّبَّ، عَزَّ وَجَلَّ، وَأَمَّا السُّجُودُ فَاجْتَهِدُوا فِى الدُّعَاءِ، فَقَمِنٌ أَنْ يُسْتَجَابَ لَكُمْ) رواه مسلم. أي: حري أن يستجاب لكم.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: فضل القراءة النافعة.

الفائدة الثانية: الاستعانة بالله في جميع الأمور، ولو دقت.

الفائدة الثالثة: فضل الاسم الشريف،اسم الله؛ فإنه ما كان في شيء إلا حلت فيه البركة.

الفائدة الرابعة: التنويه بالربوبية، المتضمنة للخلق.

الفائدة الخامسة: التذكير بأصل خلق الإنسان.

الفائدة السادسة: إثبات اسم الله الأكرم، وما تضمنه من وصفه بالكرم.

الفائدة السابعة: فضل الكتابة (الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ).

الفائدة الثامنة: شرف العلم وأنه من الله - تعالى –

الفائدة التاسعة: بيان طبيعة النفس الإنسانية.

الفائدة العاشرة: وجوب الافتقار إلى الله؛ لأن الله - تعالى - أنكر استغناء العبد عن ربه.

الفائدة الحادية عشرة: إثبات المعاد.

الفائدة الثانية عشرة: شدة ما كان يلقاه النبي - صلى الله عليه وسلم - من أذى قومه.

الثالثة عشرة: أنه - صلى الله عليه وسلم - بعث بالهدى، والتقوى.

الفائدة الرابعة عشرة: غلظ كفر أبي جهل.

الفائدة الخامسة عشرة: إثبات صفة الرؤية لله - تعالى -.

الفائدة السادسة عشرة: الخوف من انتقام الله - تعالى -

الفائدة السابعة عشرة: ضعف بني آدم، وأنهم لا يقومون لغضب الله.

الثامنة عشرة: فضل السجود.

التاسعة عشرة: أن أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد؛ لقرنه بينهما.

العشرون: التحذير من طاعة الكفار.
 
التفسير العقدي لجزء عم سورة القدر

التفسير العقدي لجزء عم سورة القدر

التفسير العقدي لجزء عم

سورة القدر

بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5))

سورة (القدر): سورة مكية.

سميت بهذا الاسم: نسبة إلى ذكر الليلة المباركة، (ليلة القدر).

ولهذه السورة مقصدان :

- أحدهما: الإيمان بالقرآن، بوصفه كلام الله. وهو أمر كان ينازع فيه كفار قريش، وكفار العرب، ويأبون التصديق بأن هذا الكلام الذي يأتي به محمد - صلى الله عليه وسلم - من عند الله! ويزعمون أنه كهانة، أو أنه أساطير الأولين، أو أنه من كلام بعض أهل الكتاب، ألقاه إلى النبي - صلى الله عليه وسلم - أو غير ذلك من الدعاوى، فجاءت هذه السورة لتبين مصدر هذا القرآن، وأنه من عند الله.

- أما المقصد الثاني: فهو شرف هذه الليلة العظيمة، (ليلة القدر).

(إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ) (إِنَّا) هذا ضمير للدلالة على الله - عز وجل -، أتى بصيغة الجمع، للتعظيم، فإن من شأن العظيم أن يعبر عن نفسه بصيغة الجمع، كما يقع من بعض سلاطين الدنيا، يقول: "نحن" و "أمرنا" و "نهينا" و "قضينا" و "رسمنا" وغير ذلك، وهو شخص واحد. فالله - سبحانه وتعالى - أحق بالتعظيم، فلذلك يقول عن نفسه – سبحانه - (إِنَّا).

(أَنْزَلْنَاهُ) ولم يصرح بذلك المبهم، وذلك لمزيد تعظيمه، وإجلاله، وهو القرآن.

وهل المراد أن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن جملة واحدة، في ليلة القدر؟ أم المراد ابتدأ تنزيله؟ قولان للعلماء:

- فمنهم من قال: إن المراد: ابتداء تنزيله؛ لأن القرآن العظيم لم ينزل جملة واحدة؛ بل نزل منجمًا، حتى إن المشركين احتجوا وشبهوا وقالوا:(لَوْلَا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآَنُ جُمْلَةً وَاحِدَةً)، فرد الله تعالى عليهم بقوله: (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا).
- والقول الثاني: أنه أنزل إلى السماء الدنيا، من اللوح المحفوظ، جملة واحدة، وأن في السماء الدنيا بيت يقال له "بيت العزة"، أنزل الله فيه القرآن جملة واحدة، ليلة القدر، ثم صار ينزل منجما، على حسب الوقائع، على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -.
وعند التأمل في القولين نجد أن القول الأول، يتوافق مع ما دلت عليه آية الفرقان (كَذَلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤَادَكَ وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا)، ويتوافق مع عقيدة أهل السنة والجماعة، في أن الله - سبحانه وتعالى - يتكلم بالوحي على حسب الوقائع، ثم ينزل به جبريل على قلب محمد - صلى الله عليه وسلم -، والعبارة تحتمل ذلك؛فقد يعبر بالجزء عن الكل.

والقول الثاني يعضده أثر عن ابن عباس - رضي الله عنهما - وهذا الأثر قد صح إليه، من أن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن جملة واحدةً إلى السماء الدنيا، ثم صار ينزل منجمًا، على النبي - صلى الله عليه وسلم - على حسب الحوادث. ومثل هذا، لا يمكن أن يقوله ابن عباس، من عند نفسه، بل ينبغي أن يكون له حكم الرفع. ولا يمكن – أيضا - أن يقوله بناءً على ما قرأ في كتب أهل الكتاب؛ لأن هذا أمر يتعلق بهذه الأمة، لا بأخبار الأولين.

ويمكن الجمع بين القولين، فيقال: إن الله - سبحانه وتعالى - أنزل القرآن من اللوح المحفوظ، إلى السماء الدنيا، وذلك أن اللوح المحفوظ متضمن للقرآن؛ كما قال الله - عز وجل - (فَلَا أُقْسِمُ بِمَوَاقِعِ النُّجُومِ. وَإِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ. إِنَّهُ لَقُرْآَنٌ كَرِيمٌ. فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) الواقعة: 75-77 . فهذا القرآن العظيم، مسطور في اللوح المحفوظ، ولا يمنع أن يكون الله - سبحانه وتعالى - أنزله مكتوبا إلى السماء الدنيا، ثم تكلم الله به حسب الوقائع، وأنزله وحياً إلى النبي - صلى الله عليه وسلم، متى شاء، بما شاء، كيف شاء.

ولتقريب ذلك للأذهان، ولله المثل الأعلى: ربما كتب الخطيب خطبة الجمعة، أو المحاضر نص المحاضرة، وبقيت محفوظة في الأوراق، لكنه يتكلم بها إذا صعد المنبر، أو اعتلى المنصة. فلا يمنع أن يكون الله - سبحانه وتعالى - قد أودع كلامه الذي سيتكلم به، في اللوح المحفوظ؛ لأن اللوح المحفوظ هو أم الكتاب، فيه كل شيء، حتى القرآن، كما قال تعالى : (إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ . فِي كِتَابٍ مَكْنُونٍ) [الواقعة : 77 ، 78]، وقال: (بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ. فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ) [البروج : 21 ، 22]. وليس المقصود، على الراجح، مجرد ذكره فيه، بل هو بحروفه، فيه. ثم إن الله - سبحانه وتعالى - إذا تكلم بالوحي، حسب مشيئته، نزل به جبريل، وهذا الوحي الذي يتكلم به يكون مطابقاً للمكتوب في اللوح المحفوظ، وبهذا يزول التعارض، إن شاء الله.


(فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ): هذا بيان لزمن الإنزال، وهو ليلة القدر.


(وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ) يعني: ما أعلمك؟، والمخاطب هو: النبي - صلى الله عليه وسلم -، والمقصود من هذا الاستفهام هو: التفخيم، والتعظيم،. والمراد بالقدر:

- الشرف، والرفعة. حينما تقول: "فلان ذو قدر" فالمقصود: أنه شريف، رفيع.
- التقدير: لأن الله يقدر فيها مقادير السنة القادمة. قال - سبحانه وتعالى - في مستهل سورة (الدخان) (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ(4) أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ)
ولا تنافي بين المعنيين؛ فهذه الليلة، ليلة شريفة، عظيمة، جليلة، ومن شرفها، وقدرها، أن الله تعالى يقدر فيها ما يكون في العام التالي، من حياة، وموت، وصحة، ومرض، وعز، وذل، وكرب، وفرج.


(لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ): هذا جواب الاستفهام. يعني أن العمل الصالح فيها، خير من العمل في ألف شهر، ليست فيه؛ فلو قدرنا ألف شهر، خالياً من ليلة القدر، فإن ليلة القدر خير منه.

ولا شك أن هذا يدل على عظم قدرها. فكم يعادل ألف شهر؟ ثلاث وثمانين سنة، يعني أنه عمر إنسان معمر، فلو أن هذا الإنسان المعمر عمل طوال عمره، لقابل ذلك عمل ليلة قدر واحدة! والله ذو الفضل العظيم.


ومحلها في شهر رمضان، كما دل على ذلك القرآن العظيم، بدليل مركب من قوله - تعالى - (إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ)، وقوله: (شَهْرُ رَمَضَانَ الَّذِي أنزل فِيهِ الْقُرْآَنُ)، وبهذا جاءت السنة النبوية. فعَنْ أَبِي سَلَمَةَ، قَالَ: انْطَلَقْتُ إِلَى أَبِي سَعِيدٍ الْخُدْرِيِّ، فَقُلْتُ: أَلاَ تَخْرُجُ بِنَا إِلَى النَّخْلِ، نَتَحَدَّثْ، فَخَرَجَ، فَقَالَ: قُلْتُ: حَدِّثْنِي مَا سَمِعْتَ مِنَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ. قَالَ: اعْتَكَفَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم عَشْرَ الأُوَلِ مِنْ رَمَضَانَ، وَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَاعْتَكَفَ الْعَشْرَ الأَوْسَطَ، فَاعْتَكَفْنَا مَعَهُ. فَأَتَاهُ جِبْرِيلُ، فَقَالَ: إِنَّ الَّذِي تَطْلُبُ أَمَامَكَ. فَقَامَ النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم خَطِيبًا، صَبِيحَةَ عِشْرِينَ مِنْ رَمَضَانَ، فَقَالَ: مَنْ كَانَ اعْتَكَفَ مَعَ النَّبِيِّ صلى الله عليه وسلم، فَلْيَرْجِعْ، فَإِنِّي أُرِيتُ لَيْلَةَ الْقَدْرِ، وَإِنِّي نُسِّيتُهَا، وَإِنَّهَا فِي الْعَشْرِ الأَوَاخِرِ، فِي وِتْرٍ، وَإِنِّي رَأَيْتُ كَأَنِّي أَسْجُدُ فِي طِينٍ وَمَاءٍ. وَكَانَ سَقْفُ الْمَسْجِدِ جَرِيدَ النَّخْلِ، وَمَا نَرَى فِي السَّمَاءِ شَيْئًا، فَجَاءَتْ قَزْعَةٌ، فَأُمْطِرْنَا، فَصَلَّى بِنَا النَّبِيُّ صلى الله عليه وسلم، حَتَّى رَأَيْتُ أَثَرَ الطِّينِ، وَالْمَاءِ، عَلَى جَبْهَةِ رَسُولِ اللهِ صلى الله عليه وسلمن وَأَرْنَبَتِهِ، تَصْدِيقَ رُؤْيَاهُ) [رواه البخاري].

فاتفق تلك السنة، أن وقعت ليلة إحدى وعشرين. وليلة القدر لا تختص بليلة سبع وعشرين - كما يعتقد كثير من الناس - وإن كانت أرجاها، لكنها – على الصحيح- تتنقل في ليالي العشر، لا سيما ليالي الوتر منه، وأرجاها ليلة سبعة وعشرين.


وإنما أخفيت لحكمة! ومن حكمة الله في إخفائها، وعدم القطع بموعدها: أن يجتهد الناس في إصابتها؛ بطول القيام، ليالي العشر كلها. ولهذا ترى المسلمين يحرصون على التهجد في ليالي عشر؛ فعَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللهِ صلى الله عليه وسلم : (مَنْ يَقُمْ لَيْلَةَ الْقَدْرِ إِيمَانًا، وَاحْتِسَابًا، غُفِرَ لَهُ مَا تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِهِ) [متفق عليه].

الله أكبر! يقوم الإنسان ليلة واحدة، فيبيض الله صحائفه! فلا شك أنها ليلة شريفة، عظيمة، جليلة.

(تنزل): أي تتنزل، فأدغمت التاءان


(الْمَلَائِكَةُ): جمع ملَك، وأصله: مألك، من الألوكة، وهي الرسالة. وهم عالم غيبي كريم، خلقهم الله من نور، واستعملهم في طاعته، وعبادته، وتسبيحه، وأعطاهم القوة على ذلك؛ فهم يسبحون الليل والنهار، (لا يفترون) (لا يسئمون) (لا يستحسرون). وليس لهم من خصائص الربوبية، والألوهية شيء، قال تعالى: (بَلْ عِبَادٌ مُكْرَمُونَ. لَا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَهُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ. يَعْلَمُ مَا بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَمَا خَلْفَهُمْ وَلَا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ. وَمَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلَهٌ مِنْ دُونِهِ فَذَلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذَلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ) [الأنبياء : 26 - 29]


(وَالرُّوحُ فِيهَا) الروح هنا هو: جبريل - عليه السلام -، وهو سيد الملائكة؛ لكونه - عليه الصلاة والسلام - الموكل بحياة القلوب؛ إذا أنه ينزل بالوحي. ولهذا خصه بالذكر، مع أنه أحدهم ، وهذا من عطف الخاص على العام.


(فِيهَا) أي في تلك الليلة؛ لأن هذا هو المقصود.


(بِإِذْنِ رَبِّهِمْ) أي بأمره، فمن أمره الله أن ينزل من الملائكة نُزل، فلا يلزم أن يكون جميع ملائكة الرحمن ينزلون؛ إذ أن ملائكة الرحمن لا يحصيهم كثرة إلا هو، كما قال: (وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ) [المدثر : 31]. وفي الحديث عن أبي ذر، قال : قال رسول الله صلى الله عليه و سلم: (إني أرى ما لا ترون! وأسمع ما لا تسمعون! أطَّت السماء، وحق لها أن تئط؛ ما فيها موضع أربع أصابع، إلا وملك واضع جبهته، ساجدًا لله. لو تعلمون ما أعلم، لضحكتم قليلًا، ولبكيتم كثيرًا، وما تلذذتم بالنساء على الفرش، ولخرجتم إلى الصعدات، تجأرون إلى الله. لوددت أني كنت شجرة تعضد) رواه الترمذي، وحسنه الألباني. والجملة الأخيرة، تروى من كلام أبي ذر. وأطت يعني: ثقلت، وسمع لها أطيط، وهو الصوت الذي يسمع من سيور الرحل إذا ثقل بالراكب.


(مِنْ كُلِّ أَمْرٍ): (مِنْ) هنا سببية، أي بسبب، يعني بسبب تقدير الله لكل أمر. والمقصود: من قضاء الله إلى السنة القادمة، ثم وصفها بوصف آخر، فقال:


(سَلَامٌ هِيَ): قال (سَلَامٌ هِيَ)، ولم يقل هي سلام، فقدم الخبر، وأخر المبتدأ، لبيان الاختصاص، أي أنها موصوفة بذلك. وقيل في معناها:

- لكثرة السلام فيها؛ فإن الملائكة لا تمر على طائفة من المؤمنين، إلا وألقت عليهم السلام، فيكثر السلام فيها. وإن كان المؤمنون لا يشعرون، ولا يسمعون هذا السلام، لكن هذا لا يضر، فإنه نوع دعاء.
- وقيل : أي أنها سالمة من الشر.

(حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ) (حتى) للغاية. يعني: وقت طلوعه، فهذه الليلة المباركة يبتدئ زمانها من مغيب الشمس، وينتهي بطلوع الفجر؛ لأن هذا هو زمان الليل، فتتنزل ملائكة الرحمن، وتغمر الأرض بالسلام، والسلامة، إلى أن يطلع الفجر، ثم تشرع في العروج إلى ربها. قال بعض العلماء: إن معنى قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في ذكر علامات ليلة القدر: تُصْبِحُ الشَّمْسُ صَبِيحَةَ تِلْكَ اللَّيْلَةِ مِثْلَ الطَّسْتِ، لَيْسَ لَهَا شُعَاعٌ، حَتَّى تَرْتَفِعَ) رواه الترمذي، بسبب كثرة عروج الملائكة، إلى السموات، وحيلولتهم دونها، لا يكاد يرى لها شعاع، بل ترى بيضاء، كالطست.

وهي ليلة مطمئنة، معتدلة، ليست باردة، ولا حارة، بل متوسطة بالنسبة لليالي التي حواليها. وإلا فمن المعلوم أن رمضان قد يوافق شدة البرد، وقد يوافق شدة الحر، ولكن المقصود مقارنةً بما قبلها، وما بعدها من الليالي.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: القرآن كلام الله، منزل من عند الله، غير مخلوق، فهو صفة للخالق، وصفات الخالق لا يمكن أن تكون مخلوقة، وفي هذا رد على المعتزلة الذين زعموا خلق القرآن.

الفائدة الثانية: إثبات علو الله، لأن التنزيل يكون من الأعلى. فالله - سبحانه وتعالى - فوق جميع خلائقه، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، ليس فيه شيء من خلقه، ولا في خلقه شيء منه.

الفائدة الثالثة: شرف تلك الليلة.

الفائدة الرابعة: اصطفاء الله واختياره لما يشاء من الأزمنة، والأمكنة، والذوات، والأحوال، (وربك يخلق ما يشاء ويختار).

الفائدة الخامسة: إثبات الملائكة، ونزولها، وعروجها؛ لأن الذي ينزل يعرج.

الفائدة السادسة: شرف جبريل - عليه السلام -؛ لأنه خصه بالذكر.

الفائدة السابعة: إثبات القدر السابق، وإثبات التقدير السنوي.​
 
سورة البينة [1]

سورة البينة [1]

التفسير العقدي لجزء عم

سورة البينة [1]

بقلم /د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً (2) فِيهَا كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) )


سبب تسمية هذه السورة بسورة البينة،

قوله فيها: (حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ). وهو اسم على مسمى، فقد حصلت بها البينة العظيمة.

فمن مقاصد هذه السورة:-
- تحقيق البينة، ورفع الالتباس.

- إثبات الرسالة الخاتمة، وصاحبها - صلى الله عليه وسلم -

- بيان حقيقة الدين، واستقامته.

- بيان مآلات الناس.

ويلاحظ أن هذه السورة تختلف عن سابقاتها ولاحقاتها، من سور (جزء عم)، بطول الفواصل، فغالب سوره آياتها قصيرة، أما هذه السورة ففي آياتها نوع طول.


(لَمْ) أداة نفي.


(يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا): اسم كان، وأما خبرها: (مُنْفَكِّينَ).


(أَهْلِ الْكِتَابِ) اليهود، والنصارى، لنزول التوراة، والإنجيل فيهم، إلا أنهم حرفوه، وأضاعوه، وأفسدوا دينهم، بما أدخله أحبار السوء، ورهبان الضلالة من البدع المضلة.


(الْمُشْرِكِينَ) عبدة الأوثان من جميع الأمم، ومنهم مشركو العرب.


(مُنْفَكِّينَ) منتهين، ومنفصلين عما هم فيه من الكفر والضلال. و(الانفكاك) لفظ يدل على العلوق، يعني أنهم عالقون، ساقطون في وضع لا يمكن أن يخرجوا منه، إلا بنفحة علوية، ورسالة سماوية.


(حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ) البينة: الحجة الواضحة، والمراد بها هنا تحديدًا: بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم -، فهذه هي البينة التي ترفع كل التباس، وتزيل كل إشكال. ومعنى هذه الآية الاستهلالية: أن الكفار على مختلف أصنافهم؛ من المشركين، عبدة الأوثان، ومن كفرة أهل الكتاب؛ من اليهود والنصارى، ما كان لهم أن ينفكوا، ويزولوا، وينفصلوا عما هم فيه من الضلال، إلا بمجيء البينة، وهي الدليل الواضح، والبرهان الساطع، الذي يكشف كل التباس، ويرفع كل خلاف.


وفي هذه إشارة إلى حال الناس قبل بعثة النبي صلى الله عليه وسلم. فقد كان الناس في جاهلية جهلاء، وضلالة عمياء، فهم ما بين مشرك يعبد صنماً، أو شجرًا، أو حجرًا، أو غير ذلك من أنواع المعبودات، وهم الوثنيون، ومنهم مشركو العرب، الذين بعث فيهم النبي - صلى الله عليه وسلم -، فكانوا يعبدون أنواع الآلهة: اللات، والعزى، ومناة، وهُبَل، وودًا، وسواعًا، ويغوث، ويعوق ،ونسرا.


وكان أحدهم إذا نزل منزلاً، بحث عن أربعة أحجار، فجعل ثلاثة منها أثافيَّ لقدره، والرابع إلهًا يعبده!. وإذا نزل أرضًا سهلة ليس فيها حجر، جمع كثيبًا من رمل، ثم حلب عليه ناقته، ثم عبده!. وربما جمع أحدهم التمر، وعبطه، فعبده، فإذا جاع أكله! وكانوا يعبدون الجن، والملائكة، ويعبدون كل شيء. وذكر(الكلبي) في كتاب [الأصنام] أكثر من هذا. هذا من ناحية الاعتقاد.


وكانوا من الناحية الأمنية، والاجتماعية على أسوء حال؛ يقتل بعضهم بعضًا، ويغزو بعضهم بعضًا، فكانوا في حروب وثارات مستمرة. وكانوا يظلمون الضعيف، ويأكلون مال اليتيم، والمرأة، فلا يورثونهما، ويغمطونهما حقهما.


ولم يكن أهل الكتاب، في ذلك الوقت، بخير حال منهم. فأما اليهود، المغضوب عليهم، فإنها أفسدت دين موسى - عليه السلام -، وأخرجته من التوحيد الصرف، إلى أنواع من الشرك، وسوء الأدب مع الله - عز وجل -، والتطاول على جنابه، والنيل من أنبيائه، إضافة إلى أخلاقهم الدنيئة، الوضيعة في التعامل مع الناس؛ من الكبر، والحسد، والسعي في الأرض فساداً، ولهذا عوقبوا بأن شتتهم الله في الأرض، شذر مذر، حتى آل طائفة منهم إلى يثرب - كما كانت تسمى في الجاهلية - يترقبون بعثة النبي الخاتم.


وأما النصارى الضالون، فقد تفرقوا فرقًا كثيرة، وتناحروا فيما بينهم، حتى كانوا يعقدون المجامع، فلا ينفضُّون إلا بين لاعن وملعون! فأغرى الله بينهم العداوة والبغضاء، وسالت الدماء بسبب ذلك، فكانوا مضطربين في معتقدهم، حتى تسيَّد قول القائلين منهم، بأن الله ثالث ثلاثة، تعالى الله عما يقولون، وصاروا يحملون الناس على هذا، وجرت حروب عظيمة.


وقد وصف أبو الحسن الندوي - رحمه الله - في كتابه (ماذا خسر العالم بانحطاط المسلمين)([1]) - حال البشرية قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -، على اختلاف أممها، وكيف كانوا بأمس الحاجة إلى من يستنقذهم من هذا التيه والضلال، الذي تردوا فيه ، فكان أن بعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - رحمة للعالمين. قال تعالى: (إِنَّ هَذَا الْقُرْآَنَ يَقُصُّ عَلَى بَنِي إِسْرَائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ) فبعث الله محمدا - صلى الله عليه وسلم - من العرب، ووصف دينه بأنه من البينة، فقد أنزل الله تعالى كلاما بينًا، واضحًا، لا يستعصي فهمه على الأعرابي البسيط، ولا يستنكف عنه العالم الضليع، بل تخضع له الرقاب، ويقبله كل صاحب فطرة سوية، وكل صاحب عقل سليم، ولا يرون فيه تفاوتًا، ولا تناقضًا، (وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا).


(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُو صُحُفًا مُطَهَّرَةً): (رَسُولٌ)، بالرفع، بدل من (الْبَيِّنَةُ). وهذا الرسول هو محمد - صلى الله عليه وسلم - الذي دلت الدلائل المتكاثرة على صدقه. قال الله تعالى (لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ). كانت بعثة محمد - صلى الله عليه وسلم – فتحًا، وفرجًا، ونَفَسًا، من الله، سبحانه وتعالى، وإلا فإن الناس كانوا على شفير هلكة، وفي الحديث: (إِنَّ اللَّهَ نَظَرَ إِلَى أَهْلِ الْأَرْضِ، فَمَقَتَهُمْ؛ عَرَبَهُمْ، وَعَجَمَهُمْ، إِلَّا بَقَايَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. وَقَالَ: إِنَّمَا بَعَثْتُكَ لِأَبْتَلِيَكَ، وَأَبْتَلِيَ بِكَ، وَأَنْزَلْتُ عَلَيْكَ كِتَابًا لَا يَغْسِلُهُ الْمَاءُ، تَقْرَؤُهُ نَائِمًا وَيَقْظَانَ) [رواه مسلم].


وكان قد بقي بقية من صالحي أهل الكتاب، في الصوامع، والديارات، باقون على الدين الصحيح، فكانوا أعظم الناس فرحًا ببعثة محمد - صلى الله عليه وسلم - . قال تعالى: (وَلَقَدْ وَصَّلْنَا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ. الَّذِينَ آَتَيْنَاهُمُ الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ.وَإِذَا يُتْلَى عَلَيْهِمْ قَالُوا آَمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ. أُولَئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِمَا صَبَرُوا وَيَدْرَءُونَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ) [القصص:51-52]، وفي الآية الأخرى (وَإِذَا سَمِعُوا مَا أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرَى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنَا آَمَنَّا فَاكْتُبْنَا مَعَ الشَّاهِدِينَ. وَمَا لَنَا لَا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَمَا جَاءَنَا مِنَ الْحَقِّ وَنَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنَا رَبُّنَا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ)،[المائدة:82-83]. فحينما جاء محمد -صلى الله عليه وسلم- فرح به أولئك المؤمنون، ورأوا فيه امتدادًا طبيعيًا لرسالة الأنبياء السابقين، وإحياءً لدين الله الحق.


(رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ) إذا رسالته من عند الله، ليس صاحب نظرية فكرية، أو فلسفية، وكلا!، وليس مجرد مصلح اجتماعي ساءه ما رأى من حال الناس، فانتدب للإصلاح الاجتماعي، كلا! هي رسالة ربانية قبل كل شيء. وقد حاول المستشرقون أن يقولوا إنه كان مصلحًا اجتماعيًا، أو أنه كان مثقفًا ثقافةً دينية، يريدون أن يزيلوا عنه وصف النبوة - خابوا وخسروا - هو رسول من الله


(يَتْلُو صُحُفًا) يتبع، وهي القرآن العظيم.


(مُطَهَّرَةً) أي: مبرئة من كل شائبة باطل؛ (لا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ).


لهذا كانت هذه الرسالة تحمل صفة البينة؛ لأن الرسول من الله، والكتب التي يتلوها، وتورث من بعده مطهرة. وفي هذا إشارة إلى أنه لا يأتيها الباطل، ولا يمكن أن يلحقها تحريف، ولا تغيير، ولا زيادة، ولا نقصان؛ لأن الله - تعالى - تكفل بحفظها. قال الله تعالى: (إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ)، فلذلك لم ينخرم منه حرف واحد، ولم يقع بين المسلمين خلاف في موضع واحد. دعك من الرافضة! أدعياء الإسلام، الذين يزعمون أن القرآن ناقص، أو أن القرآن فيه تحريف، حتى ألف أحد خبثائهم- قبحه الله- كتابًا سماه: (فصل الخطاب في إثبات تحريف كتاب رب الأرباب)، ويزعمون أن عندهم مصحف فاطمة، ثلاثة أضعاف المصحف الذي بين أيدي المسلمين. هؤلاء زنادقة لا يلتفت إلى كلامهم.


أما كتب من قبلنا فإن الله – تعالى - قد وكل إليهم حفظ كتبهم، فأضاعوها قال الله تعالى: (إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْرَاةَ فِيهَا هُدًى وَنُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هَادُوا وَالرَّبَّانِيُّونَ وَالْأَحْبَارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتَابِ اللَّهِ وَكَانُوا عَلَيْهِ شُهَدَاءَ) فالله – تعالى - وكَل إلى الأحبار والرهبان حفظ كتبهم، لكنهم أضاعوها.


(فِيهَا كُتُبٌ): كُتُبٌ، جمع كتاب، بمعنى مكتوب، أي آيات مكتوبة.


(قَيِّمَةٌ) أي: مستقيمة، لا اعوجاج فيها، ولا خلل.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: بيان حال الناس قبل بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم -.

الفائدة الثانية: كفر أهل الكتاب. ومن العجب العجاب أن تجد من الناس من ينازع في كفر أهل الكتاب، وقد صرح الله بكفرهم هاهنا، وفي قوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ ثَالِثُ ثَلَاثَةٍ)، وقوله: (لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ).

الفائدة الثالثة: أن الكفر أنواع:

- كفر المشركين: المتمثل بعبادة الأوثان، واتخاذ الأنداد.

- وكفر أهل الكتاب: المتمثل، بكفر اليهود، كقولهم (يد الله مغلولة) وقولهم (إن الله فقير ونحن أغنياء) وقولهم: (إن الله خلق السموات والأرض في ستة أيام واستراح في اليوم السابع)،وكفر النصارى بقولهم: (إن الله ثالث ثلاثة)،وقولهم: (المسيح ابن الله).

- وكفر المنافقين: المتمثل بإظهارهم الإيمان، وإبطانهم خلافه.

- وكفر إبليس: المتمثل بالإباء، والاستكبار.

- وكفر الغافلين، المتمثل بالتولي، والإعراض.

الفائدة الرابعة: أن رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم – بيِّنة، واضحة، رافعة لكل اشتباه، والتباس: (ما فرطنا في الكتاب من شيء).

الفائدة الخامسة: إثبات رسالة النبي - صلى الله عليه وسلم - من الله.

الفائدة السادسة: إثبات تنزيل القرآن.

الفائدة السابعة: حفظ القرآن من كل تحريف، ونقص.


ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) وهو من أحسن من كتب في هذا الصدد، وقد ألف قبل نحو أربعين سنة، لكنه كتاب نافع ماتع، أوصي بقراءته.
 
التفسير العقدي لسورة البينة [2]

التفسير العقدي لسورة البينة [2]

التفسير العقدي لجز عم

التفسير العقدي لسورة البينة [2]

بقلم /د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

(وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4) وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8))



(وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) لم يقل هنا والمشركون! والسبب، والله أعلم، لكون أهل الكتاب صدروا عن أصلٍ صحيح واحد، بخلاف المشركين. وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المراد بقوله (وَمَا تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ) يعني في شأن الإيمان بمحمد - صلى الله عليه وسلم - ما بين مصدق، ومكذب.


(إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) قيل: إلا من بعد أن جاءهم محمد - صلى الله عليه وسلم - أو: إلا من بعد ما جاءهم القرآن!


وفي هذا نظر!؛ لأن البينة هنا، ليست هي البينة التي في الآيات الأولى، لأن هذه الآية لبيان سبب تفرق أهل الكتاب عن دين أنبيائهم، كما قال الله - عز وجل –(كَانَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَمُنْذِرِينَ وَأَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَمَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَاتُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَاللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشَاءُ إِلَى صِرَاطٍ مُسْتَقِيمٍ) [البقرة/213] ، وقال: (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ وَمَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [آل عمران/19] ، وقال: (شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلَا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ . وَمَا تَفَرَّقُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [الشورى/13، 14]، وقال: (وَآَتَيْنَاهُمْ بَيِّنَاتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْيًا بَيْنَهُمْ) [الجاثية/17]


فالذي يظهر، كما تدل الآيات السابقات، أن هذه الآية إشارة إلى تفرق سابق، وأن البينة، هي قيام الحجة الرسالية السابقة عليهم؛ لأن هذه السورة سورة مكية، وبعض أهل الكتاب لم تبلغهم بعثة النبي - صلى الله عليه وسلم – ولا دعوته، بعد. ولم يدعُ النبي - صلى الله عليه وسلم – هرقل، والمقوقس، والنجاشي، إلا بعد أن هاجر إلى المدينة، بعد صلح الحديبية، فلم يقع التفرق في شخصه - صلى الله عليه وسلم – من قبل أهل الكتاب، إلا في العهد المدني.


فهذه الآية إنما تدل على تفرقهم السابق في دينهم، وتكفير بعضهم بعضًا، ولعن بعضهم بعضًا، مع أن الله - سبحانه وتعالى – أقام عليهم الحجة الرسالية، لكنهم تنكبوا الطريق، بعد حصول العلم.


وعليه فيكون معنى: (إِلَّا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ) يعني: التي بينها الله لهم سابقا، حتى لا يقول قائل: إن القوم معذورون بتفرقهم، بدعوى تأخر البينة، فرد الله ذلك، وبين أن تفرقهم، كان عن سبق علم، واتباع هوى.


وهذا التوجيه، يزيل الإشكال في عدم قرن المشركين بأهل الكتاب، في هذه الآية، لأنه لا محوج؛ فالمشركون لم يقع تفرق منهم عن أصل رسالة؛ بخلاف أهل الكتاب، فإنهم كانوا يرجعون إلى دين صحيح، فرغبوا عنه.


(وَمَا أُمِرُوا إِلاَّ) هذا الاستثناء استثناء مفرغ، من أعم الأحوال، مثل قولنا: (لا إله إلا الله)، فهو يدل على كمال الحصر.


(لِيَعْبُدُوا اللَّهَ) يعني: أن يعبدوا الله.


(مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفَاءَ وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) أي أن أهل الكتاب، وغيرهم، ما أمروا إلا بهذه الخصال العظيمة:

1) عبادة الله وحده، والإخلاص له في ذلك.

2) إقام الصلاة، وإيتاء الزكاة.

وهذه هي أمهات العقائد، والعبادات،


(مُخْلِصِينَ) حال من: (يعبدوا).فلا تتحقق عبادة الله، ولا تصح، إلا بالإخلاص. فلو أن إنسانا عبد الله، وعبد غيره معه، فإنه لا يكون عابدًا لله.


(حُنَفَاءَ) أي: مستقيمين على التوحيد، مائلين عن الشرك؛ لأن الحنف في اللغة، معناه: الميل، ولذلك يلقب من كان في مشيته ميل بالأحنف. فالمراد: الميل عن الشرك إلى الإسلام.


(وَيُقِيمُوا الصَّلَاةَ) يعني: يؤدوها على وجه الاستقامة، ولم يقل: ويفعلوا الصلاة، لأن ثَمَّ فرق بين فعل الصلاة، وبين إقامتها؛ فإقام الصلاة: أداؤها على وجه الاستقامة؛ بأركانها، ووجباتها، وسننها، وخشوعها، وشروطها.


(وَيُؤْتُوا الزَّكَاةَ) الزكاة في اللغة: الطهرة، والنماء. والمراد بها هنا: زكاة المال.

وكثيرا ما يقرن الله – تعالى - بين هذين الركنين العظيمين:

- قال الله تعالى في سورة براءة: (فَإِنْ تَابُوا وَأَقَامُوا الصَّلاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ) [التوبة: 5]، وقال في الآية الأخرى (فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ) [التوبة: 11]

- ولأجل هذا قال أبو بكر الصديق - رضي الله عنه - في حرب المرتدين: (وَاللَّهِ لَأُقَاتِلَنَّ مَنْ فَرَّقَ بَيْنَ الصَّلَاةِ وَالزَّكَاةِ فَإِنَّ الزَّكَاةَ حَقُّ الْمَالِ) متفق عليه.


(وَذَلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ) المشار إليه مجموع هذه الخصال هو: الملة المستقيمة.


(إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ فِي نَارِ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا): أعاد ذكر المشركين مع كفرة أهل الكتاب، لأنهم يشتركون في الجزاء.


( أُولَئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ): الخليقة.


(إِنَّ الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أُولَئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزَاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ)

هذه مآلات الناس: فإما أن يكون المرء كافرًا، أو مؤمنًا، ليس شيء ثالث؛ قال تعالى: (هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كَافِرٌ وَمِنْكُمْ مُؤْمِنٌ)، فهما حالان فقط. وليس هناك منزلة بين منزلتين، كما زعمت المعتزلة. ولكن الإيمان درجات، والكفر دركات، وبينهما حدود فاصلة.

فبين الله تعالى مآل الكافرين؛ من أهل الكتاب والمشركين، وأنهم في النار المظلمة، التي يحطم بعضها بعضًا، خالدين فيها، خلودًا أبديًا، كما دلت على ذلك ثلاث آيات في كتاب الله. وسبب ذلك: أنهم شر الخليقة، فإن من كفر بالله فقد تنكر لفطرته، وإنسانيته، وصار شر الخليقة. وفي المقابل، فالذي آمن بالله، وعمل الصالحات، فقد وافق فطرته، ووفى لربه، وصار خير البرية. ولهذا كافأه الله - عز وجل - بهذا الثواب العظيم، بفضله، ومنه.


(جَنَّاتُ): هي البساتين المستترة بكثرة أشجارها.


(عَدْنٍ) أي: إقامة.


(خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا) يعني أنهم في الخلود المطلق، الذي لا ينقطع، عطاء غير مجذوذ، وأجر غير ممنون.


(ذَلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ) بيّن سبب استحقاقهم للخلود في الجنان، وأنه خشيتهم لربهم - عز وجل -، لأنها حملتهم على الإيمان، وعمل الصالحات.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: أن تفرق أهل الكتاب عن علم؛ واتباع للهوى.

الفائدة الثانية: بيان أصول الدين: من العقائد، وأمهات العبادات.

الفائدة الثالثة: أن دين الله واحد، وهو الإسلام بالمعنى العام، الذي هو الاستسلام لله بالتوحيد، والانقياد له بالطاعة، والخلوص من الشرك. والإسلام بالمعنى الخاص هو ما بعث الله به محمد - صلى الله عليه وسلم -.وإنما تتنوع الشرائع.

وليس لله عدة أديان؛ ليس لله دين اسمه اليهودية، أوالنصرانية. الإسلام هو دين الله (إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلَامُ) [آل عمران/19]. فالله تعالى بعث جميع أنبيائه بدين الإسلام، لكن الشرائع متنوعة، كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم - (وَالْأَنْبِيَاءُ إِخْوَةٌ لِعَلَّاتٍ أُمَّهَاتُهُمْ شَتَّى، وَدِينُهُمْ وَاحِدٌ) رواه البخاري. فدين الأنبياء واحد؛ فموسى - عليه السلام - لم يبعث باليهودية، وعيسى - عليه السلام - لم يبعث بالنصرانية. اليهودية: هي ما آل إليه دين موسى- عليه السلام - بغد أن حرفها الأحبار. والنصرانية: هي ما آل إليه دين عيسى - عليه السلام - بعد ما حرفها الرهبان. وموسى، وعيسى (عليهما السلام)، وسائر أنبياء الله، دعوا إلى ملة إبراهيم. ولهذا قال الله - عز وجل - : (مَا كَانَ إِبْرَاهِيمُ يَهُودِيًّا وَلَا نَصْرَانِيًّا) وقال منكراً عليهم: (أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ وَالْأَسْبَاطَ كَانُوا هُودًا أَوْ نَصَارَى قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ)، وقال (وَمَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْرَاهِيمَ إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ)

قال قتادة - رحمه الله -: (رغب عن ملته اليهود، والنصارى، واتخذوا اليهودية، والنصرانية، بدعة ليست من الله، وتركوا ملة إبراهيم -يعني الإسلام- حنيفا؛ كذلك بعث الله نبيه محمدا صلى الله عليه وسلم بملة إبراهيم) تفسير الطبري - (ج 3 / ص 89)
الفائدة الرابعة: خطأ طريقة بعض الأصوليين في تقسيم الدين إلى أصول وفروع؛ فيجعلون الأصول العقائد فقط، والفروع العبادات، والمعاملات. وهذه السورة تدل على أن من العبادات ما يكون أصلا.

الفائدة الخامسة: أن التوحيد هو أصل دين الله.

الفائدة السادسة: اقتران العمل بالإيمان.

الفائدة السابعة: أن دين الله مستقيم، لا اعوجاج فيه، ولا تفاوت.

الفائدة الثامنة: خلود الكفار في النار.

الفائدة التاسعة: شناعة الكفر، ومنافاته للإنسانية.

الفائدة العاشرة: فضيلة الإيمان، وموافقته للحق، والفطرة.

الفائدة الحادية عشرة: خلود المؤمنين في الجنة.

الفائدة الثانية عشرة: إثبات صفة الرضا لله -سبحانه وتعالى- وأنها من الصفات الفعلية، ووقوع الرضا من الطرفين، ولكل ما يليق به.

الفائدة الثالثة عشرة: فضل الخشية، وأنها أصل التدين، وسبب النعيم.
 
التفسير العقدي لسورة الزلزلة

التفسير العقدي لسورة الزلزلة

التفسير العقدي لسورة الزلزلة

بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي
أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا (1) وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا (2) وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا (4) بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8))

إن سورة الزلزلة مع السور الثلاثة التالية لها( العاديات – القارعة – التكاثر ) تكاد أن تكون موضوعاتها متقاربة؛ إذ أنها تتكلم عن البعث، وهي قضية يركز عليه القرآن المكي، وتبدو أهميتها في باب الإيمان بالله - عز وجل -، أو في باب الإيمان عموما على درجة كبيرة؛ ذلك أن الإيمان باليوم الآخر هو الذي يضبط العمل، ويحمل الإنسان على التقوى، ويحجزه عن غشيان محارم الله تعالى.

مقصد السورة:

سورة (الزلزلة) مقصدها العام هو: تقرير الإيمان باليوم الآخر وما يتضمنه

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا):

(إِذَا) هذه ظرفية

(زُلْزِلَتِ) أي: حركت تحريكا شديدا، ورجت، كما قال في الآية الأخرى (رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا) فالزلزلة هي التحريك الشديد؛ بدليل قوله (زلزالها)، وكأن هذا أمر معروف بَيِّن، فعرفه بالإضافة إليها (زلزالها)

(إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا) وذلك أنه في يوم القيامة يقع تغيرات كونية، فمن ذلك: أن الأرض تبدل غير الأرض، فهذه الأرض الممتدة الساكنة يقع لها اهتزاز عظيم، حتى أنه تبدل الأرض غير الأرض، وتعود الأرض وليس فيها معلم لأحد، لا جبل يشرف عليه، ولا وادي يكن من فيه، ولكن تعود كالقرصة، كالخبزة، أرض لم يسفك عليها دم، كما قال النبي - صلى الله عليه وسلم - (تمد مد الأديم) [أخرجه أحمد (3556)، وابن ماجه (4081)، وضعفه الألباني في السلسلة الضعيفة (4318)]؛ وذلك لكي تتسع للمحشر العظيم.

(وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا) الأرض هي التي ذكرت قبل قليل

وما أثقالها؟ أي: ما في بطنها من الموتى المقبورين.

وعبر بعض المفسرين بقولهم: كنوزها ونحو ذلك، ولكن المقصود هو ما في بطنها من المقبورين؛ إذ أن المقصود ها هنا هو إثبات البعث، ولا شك أن الأرض قد امتلأت بالقبور، والأجداث، كما قال المعري:

رب قبر قد صـار قبرا مرارا ضاحكا من تزاحم الأضداد

سر إن استعط في الهواء رويدا لا اختيالا على رفات العباد

إلى أخر ما قال.

فلا شك أن هذه الأرض من لدن آدم - عليه السلام - إلى يومنا هذا إلى من يموت من آخر الناس يملئون جوفها، فهي بمنزلة الأم لهم، ثم هي يوم القيامة تلفظ ما فيها، وتخرج ما في رحمها، فمن كان في بطنها خرج على ظهرها.

(وَقَالَ الْإِنْسَانُ) من الإنسان ها هنا؟

- يحتمل أن يكون جنس الإنسان.

- ويحتمل أن يكون المكذب والمنكر بالبعث؛ وربما يؤيد هذا الثاني كون هذا الاستفهام استفهام إنكاري (وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا) فهذا الاستنكار إنما يقع من الكفار؛ كما أخبر الله - سبحانه وتعالى – بقوله: (وَنُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذَا هُمْ مِنَ الْأَجْدَاثِ إِلَى رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ(51) قَالُوا يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ) فهذا التعجب والاستنكار منهم يؤيد أن المراد بالإنسان ها هنا منكر البعث على وجه الخصوص

(مَا لَهَا) يعني: ما الذي جرى لها؟ ماذا حل بها؟

(يَوْمَئِذٍ) أي: في ذلك اليوم الموصوف.

(تُحَدِّثُ) أي: الأرض هي التي تحدث، كيف ذلك؟ انطقها الله الذي انطق كل شيء؛ فإن الله - سبحانه وتعالى - قادر على إنطاق الجماد، وقادر على إنطاق أعضاء الإنسان يوم القيامة (يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَأَيْدِيهِمْ وَأَرْجُلُهُمْ) فالله على كل شيء قدير، فمن قدرته أن تخبر هذه الأرض بما عمل عليها من خير أو شر

(تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا) أي تخبر بما عمل عليها من خير أو شر.

(بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا) الباء هنا للسببية، والتقدير: لأن رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا، أو بسبب أن رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا.

والمقصود بـ (أَوْحَى لَهَا) يعني: أعلمها، وأمرها بالتحديث.

وقد ورد في ذلك حديث أبي هريرة – رضي الله عنه - قَالَ : قرأ رَسُول الله - صلى الله عليه وسلم - : { يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا } [ الزلزلة : 4 ] ثُمَّ قَالَ : ((أتَدْرونَ مَا أخْبَارهَا )) ؟ قالوا : الله وَرَسُولُهُ أعْلَمُ . قَالَ : (( فإنَّ أخْبَارَهَا أنْ تَشْهَدَ عَلَى كُلّ عَبْدٍ أَوْ أمَةٍ بما عَمِلَ عَلَى ظَهْرِهَا تَقُولُ : عَملْتَ كَذَا وكَذَا في يَومِ كَذَا وكَذَا فَهذِهِ أخْبَارُهَا )) [رواه أحمد (8854) والترمذي (2429) وغيرهما]، إلا أن هذا الحديث قد ضعفه بعض العلماء ومنهم الألباني - رحمه الله –

وقد جاءت أيضا أثارا أخرى في أن البقاع تشهد لمن مر عليها، أو عمل عليها عملا.

وهذه الآية أصلا لرأسه في أن الأرض تحدث وتخبر بما جرى على ظهرها، وهي من شهود الله.

فإن شهود الله كثر:

- فمما يقيم الله تعالى به الحجة على الظالم وعلى الكافر: أن تشهد عليه الملائكة الكرام، (بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ)،
- ومن إقامة الله الحجة: أن تشهد عليهم جوارحهم؛ كما جاء في حديث أَنَسِ بْنِ مَالِكٍ ، قَالَ: كُنَّا عِنْدَ رَسُولِ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - فَضَحِكَ ، فَقَالَ : هَلْ تَدْرُونَ مِمَّ أَضْحَكُ ؟ قَالَ : قُلْنَا : اللهُ وَرَسُولُهُ أَعْلَمُ ، قَالَ : مِنْ مُخَاطَبَةِ الْعَبْدِ رَبَّهُ ، يَقُولُ : يَا رَبِّ ، أَلَمْ تُجِرْنِي مِنَ الظُّلْمِ ؟ قَالَ : يَقُولُ : بَلَى ، قَالَ : فَيَقُولُ : فَإِنِّي لاَ أُجِيزُ([1]) عَلَى نَفْسِي إِلاَّ شَاهِدًا مِنِّي ، قَالَ : فَيَقُولُ : كَفَى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ شَهِيدًا ، وَبِالْكِرَامِ الْكَاتِبِينَ شُهُودًا ، قَالَ : فَيُخْتَمُ عَلَى فِيهِ ، فَيُقَالُ لأَرْكَانِهِ : انْطِقِى ، قَالَ : فَتَنْطِقُ بِأَعْمَالِهِ ، قَالَ : ثُمَّ يُخَلَّى بَيْنَهُ وَبَيْنَ الْكَلاَمِ ، قَالَ : فَيَقُولُ : بُعْدًا لَكُنَّ وَسُحْقًا ، فَعَنْكُنَّ كُنْتُ أُنَاضِلُ([2]).[رواه مسلم: 2969 ] فهذا سبب ضحك النبي - صلى الله عليه وسلم -
- ومن شهود الله تعالى: هذه الأرض، فإنها تشهد أيضا بما عمل على ظهرها؛ فحجة الله بالغة
(يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ) (يَصْدُرُ) أي: ينصرف، ويرجع. فالناس يصدرون من موقف الحساب، بمعنى أنهم ينصرفون إلى مآلاتهم

(أَشْتَاتًا) أي: متفرقين بحسب ما أسلفوا من العمل، فهم ليسوا على نسق واحد، ولا يساقون مساقا واحدا، بل لكل وجه ولكل طريق

(لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ) أي:

- لِيُرَوْا نتائج وجزاء أعمالهم؛ لأنه بعد صدورهم يكون قد قضي بينهم (فريق في الجنة وفريق في السعير)، وهذا الراجح في المعنى المراد.
- ويحتمل أن يكون أن يكون المعنى: لكي يروا ما قدموا من خير، أو شر، ويجازوا عليه، فتشمل: رؤية العمل، والمجازاة عليه. تشمل رؤية العمل بمعنى: أن الله يوقفهم عليه، والمجازاة عليه
وربما يؤيد الأول أنه جعلها بعد قوله: (يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا)؛ فصدورهم هذا يكون بعد أن أروا أعمالهم، فبقي أن يروا جزاء أعمالهم.

(فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7) وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ):

(الفاء) للتفريع.

والمقصود بـ (مِثْقَالَ ذَرَّةٍ) يعني: وزن ذرة، والذرة: هي النملة الصغيرة، ويضرب بها المثل في دقة الشيء، وحقارته، وصغره.

وهذا هو الذي تفهمه العرب من لغتها، ودعك من قوم أرادوا أن يحملوا القرآن على غير مراده، فزعموا أن الذرة هنا هي الذرة المعروفة في علم الفيزياء الآن، (الذرة الفيزيائية) فإن هذا لم يكن معروفا عند المخاطبين، ولا يمكن أن يخاطب الله الناس بغير ما يعلمون، وهم إنما قالوا ذلك؛ لأنهم لاحظوا أن هذه الذرة التي عند (الفيزيائيين) هي أصغر ما يكون.

إذا الحساب على مثاقيل الذر، وهذا يدل على أن كل ما يصدر من الإنسان من خير، أو شر، فهو محفوظ كما قال قائلهم (مَالِ هَذَا الْكِتَابِ لَا يُغَادِرُ صَغِيرَةً وَلَا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصَاهَا وَوَجَدُوا مَا عَمِلُوا حَاضِرًا وَلَا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَدًا) فهناك دقة في الإحصاء وعدل في الأحكام


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: هول يوم القيامة، وانقلاب الأرض.

الفائدة الثانية: إثبات البعث.

الفائدة الثالثة: مفاجئة منكري البعث - أجارنا الله وإياكم من هذه الفجئة -؛ قارنوا بين هذين القولين:

- قول من يقول (يَا وَيْلَنَا مَنْ بَعَثَنَا مِنْ مَرْقَدِنَا)
- وبين من يقول (هَذَا مَا وَعَدَ الرَّحْمَنُ وَصَدَقَ الْمُرْسَلُونَ)
الأول: مدهوش، مفزوع، مصدوم، مفجوء.

والثاني: مطمئن، مصدق، مستوعب لما جرى.

الفائدة الرابعة: قدرة الله على إنطاق كل شيء، وهذا رد على هؤلاء المادين والعقلانيين، الذين حجروا عقولهم في الشيء المادي المحسوس، الذي يقع تحت الحواس، ولا تتسع أفاقهم، لأن يخلف الله تعالى هذه السنن، ويجري الأمور على غير النسق الذي هو عليه.

الفائدة الخامسة: إثبات الجزاء

الفائدة السادسة: كمال عدل الله، وإحاطته، وإحصائه؛ حيث انه لم يترك صغيرة، ولا كبيرة، من خير، أو شر، إلا أحصاها، وأحاط بها، وجازى عليها بالعدل.

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

(1) لا أجيز اليوم : أي : لا أمضي ولا أقبل علي شاهدا. [من((جامع الأصول في أحاديث الرسول)) لابن الأثير]

(2) أناضل: أي أدافع وأجادل. من [((شرح مسلم للنووي))]
 
التفسير العقدي لجزء عم

العاديات

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا (5) إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ (9) وَحُصِّلَ مَا فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11))


مقاصد السورة:

1- إثبات البعث، والحساب.

2- بيان حال النفس المنكرة للبعث، وتوصيفها.

(وَالْعَادِيَاتِ ضَبْحًا (1) فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا (2) فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا (4) فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) هذه ثلاثة أقسام أقسم الله بها، والمقسم به هي الخيول، على القول الراجح، في المواضع الثلاثة، وإليك بيانها واحدة واحدة:-

(وَالْعَادِيَاتِ): هي الخيل التي تجري جريا شديدًا.

(ضَبْحًا): أي أنها تحمحم، والحمحمة: الصوت الذي يصدر من جوف الفرس، في حال شدة العدو، فإنه يسمع من صدره هدير، هو الضبح الذي ذكره الله تعالى.

(فَالْمُورِيَاتِ قَدْحًا): الفاء هنا للتعقيب، يعني: أنها إذا عدت أورت.

- (الْمُورِيَاتِ) على القول الراجح، الخيل حين توري النار، عند وقع حوافرها على الصفا، فإنها تحدث هذا الشرر، الذي هو القدح. وهذا ينم عن شدة حركتها، وسرعتها.
- وقيل في معنى (الْمُورِيَاتِ): جماعات المقاتلين، الذين يقدحون الزناد، ليشعلوا النار في الحروب.
- وقيل المراد بـ(الْمُورِيَاتِ): الألسنة! فإن اللسان يثير الفتنة بما يلقيه، وما يهيجه في النفوس. ولا ريب أن الكلمة أحيانًا تفعل فعل النار في الهشيم، فمن الألسنة ما تذكي في النفوس شرر الحمية، والغضب.
- وقيل إن (الْمُورِيَاتِ): مكر الرجال، بمعنى: أن ما يحيكه الرجال من خطط، كإيراء النار، ولو لم تتكلم الألسنة. ولهذا استعاذ النبي- صلى الله عليه وسلم - من غلبة الرجال، كما جاء في حديث أَنَس بْنَ مَالِكٍ – رضي الله عنه - قَالَ كَانَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – يَقُولُ: اللَّهُمَّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ مِنَ الْهَمِّ، وَالْحَزَنِ، وَالْعَجْزِ، وَالْكَسَلِ، وَالْجُبْنِ، وَالْبُخْلِ، وَضَلَعِ الدَّيْنِ، وَغَلَبَةِ الرِّجَالِ) [رواه البخاري: 6369]
- وقيل: إنها الإبل خاصة.
- وقيل: بالعموم، وإلى هذا ذهب الحافظ، إمام المفسرين، ابن جرير الطبري، إلى أن كل ما يتناوله الإيراء، فهو داخل في عموم الآية، فتشمل الخيل التي تقدح بحوافرها على الصفا، فينطلق الشرر، والإبل، والرجال المقاتلة التي تقدح بالزناد، والألسن الحادة التي تستثير العواطف والانفعالات، والخطط الماكرة، التي تبدر عن الدهاة من الرجال. فكل ذلك يدخل في عموم (الموريات)
والذهاب إلى العموم يجمع الأقوال، لكن سياق الآيات يشعر بأنها موصوف لشيء واحد؛ لأنه ابتدأ بالعاديات، التي هي الخيل، إلى أن قال (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا) أي: الغبار، فيبعد أن يتفرق الوصف، أو يتخلله في أثنائه ما ليس منه، فالأقرب: أن تحمل على الخيل، فقط.

وللخيل فضيلة، ومزية، ففي الحديث: ((الْخَيْلُ مَعْقُودٌ فِي نَوَاصِيهَا الْخَيْرُ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ)) [متفق عليه (البخاري: 2849)، (مسلم: 1873)]. فالخيل إلى يومنا هذا، لا تستغني عنها الجيوش، فلا يزال في الفرق العسكرية ما يسمى بـ (الخيالة). وستبقى إلى يوم القيامة، حتى إن بعض أحاديث الفتن والملاحم، فيها ذكر الخيول، والقتال عليها، في آخر الزمان.

(فَالْمُغِيرَاتِ صُبْحًا): هي الخيل، تقتحم أول النهار، وذلك أن أحسن أوقات الإغارة في الصباح، كما قال الله - عز وجل - (فَسَاءَ صَبَاحُ الْمُنْذَرِينَ) [الصافات: 177]. وقيل: إن المراد: أهلها، يعني القوم المغيرون هم المغيرات. والأقرب: أن نحملها على ما حملنا عليه ما سبق، أنها الخيل نفسها ولهذا قال (فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعًا).

(فَأَثَرْنَ) أي: هيجنا.

(بِهِ) يعني: بمكان العدو، أو: في ذلك الوقت، الذي هو الصبح.

(نَقْعًا) النقع: هو الغبار المتصاعد، يقول حسان:

عدِمْنا خَيلَنا إن لم تروها تثيرُ النقعَ موعدُها كَداء([1])


وذلك أن الخيول إذا اقتحمت، وصالت، ارتفع لها غبار، إلى عنان السماء، من جراء هذه السرعة المتتابعة.

(فَوَسَطْنَ بِهِ جمعاً): إما بالغبار، أو بالمكان. يعني: سرنَ في وسط جمع العدو.

وهذه الآيات إذا أريد بها الخيل، فتحمل على ما تصنعه في أثناء الغزو، والحروب. وذهب بعض المفسرين، إلى أن المراد الإبل، وأن هذا محمول على ما يقع في المناسك؛ لأن الغالب فيها ركوب الإبل، وقالوا (فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعًا) أي: مزدلفة، لأن من أسمائها (جمع). ولكن القول الأول أولى.

(إِنَّ الْإِنْسَانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ) هذا جواب القسم. والمراد بالإنسان، هنا: الكافر، المنكر. ومعنى كنود: جحود لنعمة ربه، غير شكور. وذلك بأن لا يثني بالنعمة على مسديها، ولا يستعملها في مرضاته، بل يستعملها في معصيته. فبهذا يكون كنوداً.

وهذا مثار عجب!! فهذا الإنسان الكنود، خلقه الله، ويعيش في أرض الله، ويأكل من رزق الله، ويشرب من ماء الله، ثم يعبد غير الله! سبحان الله! ما أشد هذا الجحود؟! لو كان للواحد منا عبد رقيق، اشتراه بحر ماله، وألبسه، وأسكنه، وأطعمه، وسقاه، ثم ذهب يخدم غيره، لعد ذلك كفرانًا، وجحودًا، وأوقع فيه المثلات. والله تعالى رب الناس، وملك الناس، وهو خالقهم، ورازقهم، ومدبر أمورهم، فهو إلههم. ومع ذلك يعبد الكافر غيره، فلا شك أن هذا أعظم الجحود، وأظلم الظلم، كما قال تعالى: (إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ).

(وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ): اختلف في مرجع الضمير:

- فقيل: مرجعه للإنسان، يعني: إن الإنسان شهيد على كنوده، وجحده نعمة ربه. وهذا المعنى هو المتبادر إلى الذهن. والمراد بشهادته لسان الحال، لا لسان المقال، فإنه لا يكاد أحد يشهد على نفسه لفظاً بالجحود. فأفعاله، وتصرفاته، دالة على جحده لنعمة ربه، فهو لا يرى لله فيها حقًا، ولا يرفع بطاعته رأساً، ولا معصيته بأساً. فهذه شهادة.
- وقيل: إن مرجع الضمير إلى الله - عز وجل - (وَإِنَّهُ عَلَى ذَلِكَ لَشَهِيدٌ)، يعني: إن الله - عز وجل - شهيد على كنود عبده، وجحوده.والأول أولى
(وَإِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ): جملة مؤكدة بإن. والواقع شاهد بذلك. والمراد بالخير هنا، المال، والعرَض، والمتاع. وقوله: (لَشَدِيدٌ): أي شديد التعلق به، شديد الحرص عليه. ولا شك أن هذه صفة بشرية، طبعية. فإن الإنسان بطبعه يحب الخير، يحب المال؛ ففي حديث أَنَسٍ – رضي الله عنه – قال: أُتِيَ النَّبِيُّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - بِمَالٍ مِنْ الْبَحْرَيْنِ، فَقَالَ: انْثُرُوهُ فِي الْمَسْجِدِ، فَكَانَ أَكْثَرَ مَالٍ أُتِيَ بِهِ رَسُولُ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - إِذْ جَاءَهُ الْعَبَّاسُ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ أَعْطِنِي، إِنِّي فَادَيْتُ نَفْسِي، وَفَادَيْتُ عَقِيلًا، قَالَ: خُذْ، فَحَثَا فِي ثَوْبِهِ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ، فَلَمْ يَسْتَطِعْ، فَقَالَ: أْمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ إِلَيَّ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ ذَهَبَ يُقِلُّهُ فَلَمْ يَرْفَعْهُ، فَقَالَ: فَمُرْ بَعْضَهُمْ يَرْفَعْهُ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، قَالَ: فَارْفَعْهُ أَنْتَ عَلَيَّ، قَالَ: لَا، فَنَثَرَ مِنْهُ، ثُمَّ احْتَمَلَهُ عَلَى كَاهِلِهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ، فَمَا زَالَ يُتْبِعُهُ بَصَرَهُ، حَتَّى خَفِيَ عَلَيْنَا، عَجَبًا مِنْ حِرْصِهِ.. الحديث ) [رواه البخاري: 3165]

وهذا ربما وقع للأنبياء؛ ففي الحديث الصحيح عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ - رضي الله عنه - عَنْ النَّبِيِّ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: بَيْنَا أَيُّوبُ يَغْتَسِلُ، عُرْيَانًا، فَخَرَّ عَلَيْهِ جَرَادٌ مِنْ ذَهَبٍ، فَجَعَلَ أَيُّوبُ يَحْتَثِي فِي ثَوْبِهِ، فَنَادَاهُ رَبُّهُ: يَا أَيُّوبُ، أَلَمْ أَكُنْ أَغْنَيْتُكَ عَمَّا تَرَى، قَالَ: بَلَى وَعِزَّتِكَ، وَلَكِنْ لَا غِنَى بِي عَنْ بَرَكَتِكَ) [رواه لبخاري: 279]

فالنفس مجبولة، ومطبوعة، على حب الخير، والاستئثار، إلا من عصمه الله تعالى بعصمة الإيمان، وقنعه بما أتاه، ولا شك أن القناعة كنز لا يفنى. وتأمل حال أكرم الخلق على الله - عز وجل - محمد - صلى الله عليه وسلم - ففي حديث عَنْ عَائِشَةَ - رَضِيَ اللَّهُ عَنْهَا - أَنَّهَا قَالَتْ لِعُرْوَةَ: ابْنَ أُخْتِي، إِنْ كُنَّا لَنَنْظُرُ إِلَى الْهِلَالِ، ثُمَّ الْهِلَالِ، ثَلَاثَةَ أَهِلَّةٍ فِي شَهْرَيْنِ، وَمَا أُوقِدَتْ فِي أَبْيَاتِ رَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – نَارٌ، فَقُلْتُ: يَا خَالَةُ، مَا كَانَ يُعِيشُكُمْ؟ قَالَتْ: الْأَسْوَدَانِ، التَّمْرُ وَالْمَاءُ، إِلَّا أَنَّهُ قَدْ كَانَ لِرَسُولِ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - جِيرَانٌ مِنْ الْأَنْصَارِ، كَانَتْ لَهُمْ مَنَائِحُ، وَكَانُوا يَمْنَحُونَ رَسُولَ اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ - مِنْ أَلْبَانِهِمْ، فَيَسْقِينَا) [رواه البخاري: 2567]

فلو كانت الدنيا علامة على كرامة، لكان أولى الناس بها محمد- صلى الله عليه وسلم -، وبهذا تطيب نفس المؤمن، فإذا رأى بهجة الحياة الدنيا، وأهلها متهافتون عليها، فليذكر حال أكرم الخلق على الله - عز وجل -.

أما حديث (اللهم أحيني مسكينا وتوفني مسكينا واحشرني في زمرة المساكين) فقد ضعفه بعض أهل العلم، وحسنه بعضهم. ([2]). لكن الإنسان يسأل الله عيش الكفاف، بحيث لا يحوجه إلى أحد، ولا يشغله بمتاع زائد.

(أَفَلَا يَعْلَمُ إِذَا بُعْثِرَ مَا فِي الْقُبُورِ) أي: أُثِير، واسْتُخْرِج من الأجساد.

(وَحُصِّلَ): التعبير بالتحصيل، يدل على الفرز، والتنقيب.

(مَا فِي الصُّدُورِ) يعني: ما تنطوي عليه الصدور، من العقائد، والمواجد. لأن القلوب في الصدور ، فيستخرج ما فيها من بر، وإيمان، أو فجور، وكفر، وعصيان.

(إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ): ربما يكون المراد: عموم الناس، وربما أراد هؤلاء المنكرين. والعموم أولى. فالله - سبحانه وتعالى - رب الجميع، لكنه ربهم ربوبية عامة، تقتضي تربيتهم بنعمه؛ من خلق، ورزق، وإعداد، وإمداد. أما ربوبيته الخاصة: فهي لأوليائه المؤمنين، وأما ربوبية خاصة الخاصة: فهي لنبيه محمد - صلى الله عليه وسلم - ولإخوانه من الأنبياء. والخبير: هو العليم ببواطن الأمور، ودقائقها.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: فضل الخيل، وشدة بأسها، وقوة أثرها في الحروب.

الفائدة الثانية: جحود الكافر لنعم الله بكفره.

الفائدة الثالثة: شهادة الأفعال على الحال.

الفائدة الرابعة: شدة تعلق الإنسان بالمال، والمتاع.

الفائدة الخامسة: إثبات البعث.

الفائدة السادسة: كمال علم الله، واطلاعه.

الفائدة السابعة: إثبات اسم الله (الخبير)، وما تضمنه من صفة (الخبرة).

الفائدة الثامنة: إثبات الربوبية العامة.


ــــــــــــــــــــــــــــــــ
([1]) كَداء: اسم لعرفات أو جبل بأعلى مكة ودخل النبي - صلى الله عليه وسلم مكة منه -. [القاموس 4/382. ب]

([2]) قال الألباني في "السلسلة الصحيحة" 1 / 555 :

أخرجه عبد بن حميد في " المنتخب من المسند " ( 110 / 2 ) فقال :

حدثني ابن أبي شيبة : حدثنا وكيع عن همام عن قتادة عن أبي عيسى الأسواري عن أبي سعيد : أحبوا المساكين فإني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول في دعائه . فذكره .

قلت : و هذا إسناد حسن عندي ، رجاله كلهم ثقات رجال الشيخين غير أبي عيسى الأسواري فقد وثقه الطبراني و ابن حبان فذكره في " الثقات " ( 1 / 271 ) و روى عنه ثلاثة منهم ، أحدهم قتادة و لذلك قال البزار : " إنه مشهور " .

و قول من قال فيه " مجهول " أو " لم يرو عنه غير قتادة " فبحسب علمه و فوق كل ذي علم عليم ، فقد جزم في " التهذيب " أنه روى عنه ثابت البناني و قتادة و عاصم الأحول .

قلت: و هؤلاء جميعا ثقات فبهم ترتفع الجهالة العينية ، و بتوثيق من ذكرنا تزول الجهالة الحالية إن شاء الله تعالى ، لاسيما و هو تابعي ، و من مذهب بعض المحدثين كابن رجب و ابن كثير تحسين حديث المستور من التابعين ، و هذا خير من المستور كما لا يخفى .

و للحديث طريق أخرى عن أبي سعيد ، و شواهد عن أنس بن مالك و عبادة ابن الصامت و ابن عباس خرجتها كلها في " إرواء الغليل " ( رقم 853 ) و إنما آثرت إيراد هذه الطريق هنا لأنها مع صلاح سندها عزيزة لم يتعرض لها بذكر كل من تكلم على طرق الحديث كابن الجوزي و ابن الملقن في "الخلاصة" و ابن حجر في " التلخيص" و السيوطي في " اللآلي " و غيرهم ،

و لا شك أن الحديث بمجموع طرقه يرتقي إلى درجة الصحة ، و لذلك أنكر العلماء على ابن الجوزي إيراده إياه في " الموضوعات " و قال الحافظ في " التلخيص " ( ص 275 ) :

" أسرف ابن الجوزي فذكر هذا الحديث في " الموضوعات " ، و كأنه أقدم عليه لما رآه مباينا للحال التي مات عليها النبي صلى الله عليه وسلم لأنه كان مكفيا،

قال البيهقي : ووجهه عندي أنه لم يسأل حال المسكنة التي يرجع معناها إلى القلة ، و إنما سأل المسكنة التي يرجع معناها إلى الإخبات و التواضع " .
 
التفسير العقدي لسورة القارعة

بقلم/ د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي


أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(الْقَارِعَةُ (1) مَا الْقَارِعَةُ (2) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْقَارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَرَاشِ الْمَبْثُوثِ (4) وَتَكُونُ الْجِبَالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ (7) وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ (9) وَمَا أَدْرَاكَ مَا هِيَهْ (10) نَارٌ حَامِيَةٌ (11))

بسم الله الرحمن الرحيم

سورة (القارعة) مقصدها الأساسي: تقرير الإيمان باليوم الآخر، وما يتضمنه.

يقول الله - عز وجل - (الْقَارِعَةُ): أي الساعة، وسميت بهذا الاسم؛ لأنها تقرع القلوب، ومن المعلوم، أن من أشد موجعات القلب، أن يحس بالقرع.

(مَا الْقَارِعَةُ)؟ هذا الاستفهام للتهويل.

(وَمَا أَدْرَاكَ) يعني: ما أعلمك

(مَا الْقَارِعَةُ) كررها هنا لمزيد التهويل. ولا ريب، فما عظمه الله تعالى فهو عظيم، وما هوله الله تعالى فهو هائل.

(يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ) : هذه الجملة بدل من القارعة. أي القارعة: يوم يكون كذا وكذا. و(النَّاسُ) هنا، كل الناس.

(كَالْفَرَاشِ) ليس المراد بالفراش هنا الفراشة المعهودة، وإنما المقصود بالفراش الحشرات المتطايرة، وقيل: الجراد المنتشر، التي تملأ الجو، أو تملأ المكان، متفرقة أوزاعا، أو جرادا مبثوثا، في كل مكان، كما وصف الله - عز وجل - (كَأَنَّهُمْ جَرَادٌ مُنْتَشِرٌ) [القمر:7]. فالناس، كل الناس على أديم الأرض، مبثوثين، منشورين، مفرقين، كمشهد الجراد، أو الحشرات المنثورة على صفحة الأرض. والمبثوث أي: المتفرق المنتشر. وقد وصفهم الله في موضع أخر (يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْدَاثِ سِرَاعًا)، وكذلك وصفه نبيه - صلى الله عليه وسلم -كما في حديث عَائِشَةَ – رضي الله عنها - أَنَّ رَسُول اللَّهِ - صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ – قَالَ: "يُبْعَثُ النَّاسُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ حُفَاةً عُرَاةً غُرْلًا" [أحمد 6/89. و"النَّسائي" 4/114.وصححه الألباني، ومعناه في الصحيحين] وفي لفظ "بُهْمًا" [حسن: رواه أحمد:16042، صحيح الأدب المفرد].


(وَتَكُونُ الْجِبَالُ) الجبال الصلدة، الضخمة، الهائلة، الثقيلة، التي قد أرسى الله بها الأرض، تكون (كَالْعِهْنِ الْمَنفوش) : أي الصوف المندوف، يعني لخفته وتطايره، تتحول هذه الجبال إلى ما يشبه السراب؛ (وَسُيِّرَتِ الْجِبَالُ فَكَانَتْ سَرَابًا) [النبأ:20] من سرعة التسيير، تتحول إلى ما يشبه السراب.

قال الله تعالى (وَتَرَى الْجِبَالَ تَحْسَبُهَا جَامِدَةً وَهِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحَابِ) [النمل:88] وقال: (وَبُسَّتِ الْجِبَالُ بَسًّا(5) فَكَانَتْ هَبَاءً مُنْبَثًّا) [الواقعة:5-6]،

( فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوَازِينُهُ) الفاء جاءت للتفريع، والتقسيم.

(ثَقُلَتْ) يعني: رجحت حسناته، بسيئاته.

(مَوَازِينُهُ) المراد بـ (الموازين): موازين الأعمال. وهذا يدل أن الموازين متعددة، كما قال في الآية الأخرى: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة)

وهي موازين حقيقية، كل ميزان له: لسان، وكفتان. خلافا لما ادعت المعتزلة، من أن المراد بالميزان هو العدل، أو إقامة العدل. وأهل السنة يقولون: بل إقامة العدل تحصل بالوزن الحقيقي، بميزان حقيقي، له لسان، وكفتان ، لكن لا نعلم كيفيته.

وقد دلت عليه النصوص كحديث (صاحب البطاقة) الذي فيه "قَالَ : فَتُوضَع السِّجِلَّات فِي كِفَّة وَالْبِطَاقَة فِي كِفَّة فَطَاشَتْ السِّجِلَّات وَثَقُلَتْ الْبِطَاقَة" [صحيح: رواه أحمد: من طريق عبدالله بن عمرو، 2/213 (6994)، الصحيحة: برقم135]

والصحيح أن الذي يوزن هو كلا من:

- الأعمال،

- العامل،

- الصحف.

فحديث (البطاقة) يدل على وزن الصحف.

وقول الله تعالى: (فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ (7)) [الزلزلة] يدل على وزن الأعمال.

وقول النبي - صلى الله عليه وسلم - (إِنَّهُ لَيَأْتِي الرَّجُلُ الْعَظِيمُ السَّمِينُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ لاَ يَزِنُ عِنْدَ اللهِ جَنَاحَ بَعُوضَةٍ) [متفق عليه من حديث أبي هريرة: البخاري 6/117، ومسلم 8/125] يدل على أن العامل يوزن، ويدل عليه أيضا قول النبي - صلى الله عليه وسلم - في قصة عبد الله بن مسعود لما (كَانَ يَجْتَنِي سِوَاكًا مِنَ الأَرَاكِ ، وَكَانَ دَقِيقَ السَّاقَيْنِ ، فَجَعَلَتِ الرِّيحُ تَكْفَؤُهُ ، فَضَحِكَ الْقَوْمُ مِنْهُ ، فَقَالَ رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم - : مِمَّ تَضْحَكُونَ ؟ قَالُوا : يَا نَبِيَّ اللهِ ، مِنْ دِقَّةِ سَاقَيْهِ ، فَقَالَ : وَالَّذِي نَفْسِي بِيَدِهِ ، لَهُمَا أَثْقَلُ فِي الْمِيزَانِ مِنْ أُحُدٍ.) [صحيح: أخرجه أحمد 1/420(3991)، الصحيحة 2750]


(فَهُوَ فِي عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ) يعني: فقد نجا، وفاز.

(عِيشَةٍ) المراد بتلك العيشة: الجنة.

(رَاضِيَةٍ) يعني مُرضية، فهي وإن أتت على صيغة اسم الفاعل (راضية)، فالمراد بها اسم المفعول، أي: مرضية، هانئة، أو هنيئة.

(وَأَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوَازِينُهُ) يعني طاش ميزان حسناته، وثقل ميزان سيئاته.

(فَأُمُّهُ هَاوِيَةٌ): معنى (فَأُمُّهُ) أي: فمأواه، ومسكنه، ومرجعه، ومنه سميت الوالدة "أما"؛ لأن الولد يأوي إليها، وهذا الذي خفت موازينه، أمه التي يأوي إليها، ومسكنه، ومرجعه، (هاوية)، وهي: (نَارٌ حَامِيَةٌ). وسماها (هَاوِيَةٌ)؛ لأنه يهوي على رأسه فيها.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: شدة وقع الساعة، وهول قيامها.

الفائدة الثانية: إثبات البعث، وصفته، والرد على منكريه.

الفائدة الثالثة: إثبات الموازين، وكمال عدل الله.

الفائدة الرابعة: إثبات الجنة ونعيمها.

الفائدة الخامسة: إثبات النار وعذابها.
 
التفسير العقدي لسورة التكاثر

التفسير العقدي لسورة التكاثر

التفسير العقدي لسورة التكاثر

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بسم الله الرحمن الرحيم

(أَلْهَاكُمُ التَّكَاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ (2) كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4) كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8))


هذه السورة مقصدها الأساس: بيان خطر الغفلة، والاستغراق في الدنيا.

(أَلْهَاكُمُ) أي: شغلكم عن عبادة الله.

(التَّكَاثُرُ) المراد به التفاخر بكثرة الأموال، والأولاد، فهم يتكاثرون في أموالهم، وأولادهم، ويفتخرون بذلك، ويطلبونه، كما قال الله - عز وجل - (وَبَنِينَ شُهُودًا) [المدثر:13]

(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) يعني: أنكم ما زلتم في هذا اللهو إلى هذه الغاية.

قال الله - عز وجل - (اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا لَعِبٌ وَلَهْوٌ وَزِينَةٌ وَتَفَاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَتَكَاثُرٌ فِي الْأَمْوَالِ وَالْأَوْلَادِ) [الحديد:20]، وهذا بيان لحقيقة الدنيا بصورتها المادية، إنها نزعة نحو اللعب، واللهو، والتكاثر، والتفاخر.

فهؤلاء المشركون المنكرون للبعث، طمس قلوبهم، وبصائرهم، انشغالهم بالتكاثر، فهم منهمكون في تحصيل الدنيا، والاستيلاد، والمباهاة، والتفاخر، فلا يدري أحدهم إلا وقد طوي بساط العمر، وأفضى إلى قبره.


(حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقَابِرَ) هذا كناية عن الموت، يعني حتى متم، وحملتم إلى القبور. وقيل زرتموها بأنفسكم! وقد روي في هذا المعنى أثر، لكنه ضعيف باطل، فقيل: "إنها نزلت في حيين من قريش: بني عبد مناف، وبني سهم، كان بينهما لحاء، فتعاند السادة والأشراف أيهم أكثر، فقال بنو عبد مناف: نحن أكثر سيدا، وعزا، وعزيزا، وأعظم نفرا، وقال بنو سهم مثل ذلك، فكثرهم بنو عبد مناف، ثم قالوا: نعد موتانا، حتى زاروا القبور، فعدوا موتاهم، فكثرهم بنو سهم، لأنهم كانوا أكثر عددا في الجاهلية" [أخرجه الواحدي في أسباب النزول عن مقاتل والكلبي] ولكنه ضعيف سنداً، ومعنى، لأن التكاثر في العادة لا يكون بالأموات، وإنما يكون بالأحياء، فمن مات لم يعد في الحسبان.

وقد استنبط منها عمر بن عبد العزيز - رحمه الله - دليلا على إثبات البعث، وذلك من معنى الزيارة المستفاد من قوله (زُرْتُمُ)، قال: فكما أن الزائر لا يمكث في زيارته، وهو عما قليل ينصرف، فكذلك وجودهم في هذه المقابر، كوجود الزائر في بيت نزل فيه، ثم عما قليل يترحل.


(كَلَّا) معناها من حيث الجملة: ليس الأمر كما تزعمون، أو كما تظنون، وهي كلمة ردع - ولا ريب - لكن من المفسرين من يقول (كَلَّا) بمعنى: حقاً، ولكنها في الواقع تدل على النفي، أي: ليس الأمر كما تزعمون، أو كما تظنون.


(سَوْفَ تَعْلَمُونَ) هذه جملة مستأنفة يعني: سوف تعلمون شؤم عاقبتكم، وفساد ظنكم، فهي جملة تهديدية.

(ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ) هي – أيضا - جملة تهديدية، وإنما كررها لتأكيد التهديد.

(كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ): جوابه: لما اشتغلتم بالتكاثر.

(عِلْمَ الْيَقِينِ) هو العلم المؤكد، الذي لا شك فيه، ولا تردد.

(لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ) يعني: لو كنتم تعلمون علم اليقين، لعلمتم أنكم سترون الجحيم، وهي النار.

(ثُمَّ لَتَرَوُنَّهَا عَيْنَ الْيَقِينِ) الدرجة الأولى كانت: علما يقينيا، والدرجة الثانية: يقينا عينيا.


* والفرق بين (علم اليقين) و(عين اليقين) ؟

أن الأول: ذهني، والثاني: حسي، بصري.

فمثلا: لو قدرنا أن إنسانا لم يتح له أن يسافر إلى مكة، ويرى الكعبة، لكنه قد تواتر عنده وجود الكعبة، فعلمه بوجود الكعبة، علم يقين، فهومتيقن أن على وجه الأرض مكة، وأن فيها الكعبة.

فإذا أتيح له أن يذهب في حج أو عمرة، ويرى الكعبة بعيني رأسه، فعلمه، حينئذ، بوجود الكعبة، عين اليقين.

فعين اليقين بجهنم، يحصل لمنكري البعث، يوم القيامة.


(ثُمَّ لَتُسْأَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ) المقصود بـ (النَّعِيمِ) هنا ما يلتذ به من لذائذ الدنيا: من المأكل، والمشرب، والمنكح، والصحة، والرفعة، والفراغ، وغير ذلك كل هذه من لذائذ الدنيا.

ويشهد لهذا "حديث أَبِي هُرَيْرَةَ قال: خَرَجَ النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم - فِى سَاعَةٍ لاَ يَخْرُجُ فِيهَا، وَلاَ يَلْقَاهُ فِيهَا أَحَدٌ، فَأَتَاهُ أَبُو بَكْرٍ، فَقال: مَا جَاءَ بِكَ يَا أَبَا بَكْرٍ . فَقال: خَرَجْتُ أَلْقَى رَسُولَ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -، وَأَنْظُرُ فِى وَجْهِهِ، وَالتَّسْلِيمَ عَلَيْهِ . فَلَمْ يَلْبَثْ أَنْ جَاءَ عُمَرُ، فَقال: مَا جَاءَ بِكَ يَا عُمَرُ . قال: الْجُوعُ يَا رَسُولَ اللهِ، قال: فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: وَأَنَا قَدْ وَجَدْتُ بَعْضَ ذَلِكَ . فَانْطَلَقُوا إِلَى مَنْزِلِ أَبِى الْهَيْثَمِ بْنِ التَّيِّهَانِ الأَنْصَارِىّ،ِ وَكَانَ رَجُلاً كَثِيرَ النَّخْلِ وَالشَّاءِ، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ خَدَمٌ، فَلَمْ يَجِدُوهُ فَقالوا لاِمْرَأَتِهِ: أَيْنَ صَاحِبُكِ؟ فَقالتِ: انْطَلَقَ يَسْتَعْذِبُ لَنَا الْمَاءَ . فَلَمْ يَلْبَثُوا أَنْ جَاءَ أَبُو الْهَيْثَمِ بِقِرْبَةٍ، يَزْعَبُهَا، فَوَضَعَهَا، ثُمَّ جَاءَ يَلْتَزِمُ النَّبِيَّ - صلى الله عليه وسلم -، وَيُفَدِّيهِ بِأَبِيهِ وَأُمِّهِ، ثُمَّ انْطَلَقَ بِهِمْ إِلَى حَدِيقَتِهِ، فَبَسَطَ لَهُمْ بِسَاطًا، ثُمَّ انْطَلَقَ إِلَى نَخْلَةٍ، فَجَاءَ بِقِنْوٍ فَوَضَعَهُ، فَقال النَّبِيُّ - صلى الله عليه وسلم -: أَفَلاَ تَنَقَّيْتَ لَنَا مِنْ رُطَبِهِ . فَقال: يَا رَسُولَ اللهِ إِنِّى أَرَدْتُ أَنْ تَخْتَارُوا - أَوْ قال: تَخَيَّرُوا - مِنْ رُطَبِهِ وَبُسْرِهِ . فَأَكَلُوا، وَشَرِبُوا مِنْ ذَلِكَ الْمَاءِ فَقال رَسُولُ اللهِ - صلى الله عليه وسلم -: هَذَا وَالَّذِى نَفْسِى بِيَدِهِ مِنَ النَّعِيمِ الَّذِى تُسْأَلُونَ عَنْهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ظِلٌّ بَارِدٌ، وَرُطَبٌ طَيِّبٌ، وَمَاءٌ بَارِدٌ "...الحديث [رواه الترمذي :2369، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي]


وليس معنى ذلك أنه لا يجوز للإنسان أن يتنعم بالطيبات، لكنه يُسأل عن شكرها، فلابد من شكر النعم، فبقدر ما ينعم الله عليك، قابل هذه النعمة بالشكران، ولن يبلغ الإنسان شكر نعمة الله قطعا؛ لأن نعم الله - عز وجل - لا يمكن أن تكافأ، حيث إن توفيقك للشكر يعد نعمة، وهذه النعمة تحتاج إلى شكر، فإذا وفقت لشكر النعمة التالية، فقد نشأت نعمة أخرى تحتاج إلى شكر، وهكذا. وأنشد بعضهم:

إذا كان شكري نعمة الله نعمـةً علي له في مثلها يجب الشــكر

فكيف بلوغ الشكر والشكر نعمةٌ ولو طالت الأيام واتصل العمـر


ولكن على الإنسان أن يجتهد في شكر الله - عز وجل -.

* ويكون بثلاثة أشياء:

1. بالقلب
2. وباللسان
3. وبالجوارح
أفادتكم النعماء مني ثلاثة *** يدي ولساني والضمير المحجبا

باليد: واليد كناية عن الجوارح، فيسخر الإنسان جوارحه في طاعة الله، فيكون شاكرا بجوارحه.

وباللسان: فيلهج بشكر نعمة الله (وَأَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ) [الضحى:11].

وبالقلب: الذي هو الضمير المحجب، وذلك بأن يمتلئ قلبه ويغتبط بنعمة الله تعالى. وهذا أمر خفيٌ بين الضلوع، فبعض القلوب تكون مغتبطة بنعمة الله، تحس بحلاوة النعمة والشكر، وبعضها تحس بالمرارة، والنقمة. فيجب على العبد أن يشكر الله بقلبه، ولسانه، وجوارحه.


وقد ذم الله الغافلين في مواضع من كتابه. والغفلة نوعان:

1- غفلة مطلقة: أن يعرض الإنسان بقلبه عن ربه فلا يرى لله عليه حقاً، ولا يلتفت إلى عبادته، فقلبه معلق في بالدنيا ومتاعها. وهذا لا شك أنه كافر، وهو من حطام جهنم. قال تعالى -: (ولقد ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِنَ الْجِنِّ وَالْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لَا يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لَا يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آَذَانٌ لَا يَسْمَعُونَ بِهَا أُولَئِكَ كَالْأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولَئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ) [الأعراف:179].
2- غفلة نسبية: وهي ما قد يعتري بعض أهل الإسلام، من ذهول عارض، وهذا لا يكاد ينفك عنه إنسان، ولكن الناس يتفاوتون فيها، قلةً وكثرةً، فمن الناس من يجاهد نفسه على الذكر، وينال درجة الذاكرين.

وقد عظم الله، ونبيه، شأن الذكر، فقال تعالى: (وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ) [العنكبوت:45] وقال نبيه - صلى الله عليه وسلم - " أَلاَ أُنبئكم بِخَيْرِ أَعْمَالِكُمْ وَأَزْكَاهَا عِنْدَ مَلِيكِكُمْ ، وَأَرْفَعِهَا فِي دَرَجَاتِكُمْ ، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ إنفاق الذَّهَبِ وَالْوَرِق، وَخَيْرٍ لَكُمْ مِنْ أَنْ تَلْقَوْا عَدُوَّكُمْ، فَتَضْرِبُوا أَعْنَاقَهُمْ ، وَيَضْرِبُوا أَعْنَاقَكُمْ ؟ قَالُوا : بَلَى يَا رَسُولَ اللهِ ، قَالَ : ذِكْرُ اللهِ." [رواه الترمذي عن أبي الدرداء: 3377، وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي]

والذكر: أن يكون الإنسان موصول القلب بالله - سبحانه وتعالى - في جميع أحواله، وتقلباته، هذه أعظم العبادات، "ولما جاء أعرابي إِلَى رَسُولِ اللَّهِ - صلى الله عليه وسلم -، وقال: يَا رَسُولَ اللَّهِ إِنَّ شَرَائِعَ الْإِسْلَامِ قَدْ كَثُرَتْ عَلَيَّ فَأخبِرْنِي بشيء أَتَشَبَّثُ بِهِ" يعني بشيء هو جماع العمل الصالح " فَقَالَ لَا يَزَالُ لِسَانُكَ رَطْبًا بِذِكْرِ اللَّهِ " [رواه الترمذي: 2329 وصححه الألباني في صحيح سنن الترمذي]


فعلينا أن نحذر من التكاثر، لأن التكاثر يؤدي إلى الغفلة، والغفلة تؤدي إلى القسوة. والتكاثر في متاع الحياة الدنيا لا حد له، كما وصف النبي - صلى الله عليه وسلم - " قَالَ: لَوْ أَنَّ لِابْنِ آدَمَ وَادِيًا مِنْ ذَهَبٍ، أَحَبَّ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَادِيَانِ، وَلَنْ يَمْلَأَ فَاهُ إِلَّا التُّرَابُ وَيَتُوبُ اللَّهُ عَلَى مَنْ تَابَ" [متفق عليه: البخاري واللفظ له: 5672، مسلم:1050]. كناية عن الموت، حينما يُقبر ويبلغ التراب فاه. فعلى الإنسان أن يضع لنفسه حدا، وألا يتمادى ويترك لنفسه العنان، بل يقنع، فالقناعة كنز لا يفنى.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: خطر الغفلة، والانهماك في الدنيا، والتعلق بمتاعها.

الفائدة الثانية: الترابط بين الشهوات، والشبهات:

فالإنسان إذا استغرق في الشهوات رشحه ذلك للوقوع في الشبهات؛ لأن صاحب الشهوة حينما يستكثر من الشهوات والمعاصي، يجد تأنيبا فطريا في قلبه، فهو يريد أن يتخلص من هذا الذي يخز ضميره، من الاعتقاد بالبعث، والجنة والنار، فيحمله ذلك على الوقوع في الشبهة، والشك، والتردد في قبول خبر الله، وخبر رسوله - صلى الله عليه وسلم -، كما وقع لصاحب الجنتين حين قال (وَمَا أَظُنُّ السَّاعَةَ قَائِمَةً وَلَئِنْ رُدِدْتُ إِلَى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْرًا مِنْهَا مُنْقَلَبًا) [الكهف:36] ،فهو يريد أن يسوي الأمر، ويتصالح مع نفسه، بحيث لا يجد غضاضة في ركوب المنكرات، وفعل المحرمات. فالشهوات بريد الشبهات.

الفائدة الثالثة: إثبات البعث.

الفائدة الرابعة: وجوب شكر النعم.

الفائدة الخامسة: تفاوت درجات اليقين : (علم اليقين) و (عين اليقين)


ولهذا ينبغي للإنسان أن يحقق العلم في كل شيء، وأعظم ما حقق فيه العلم: هو ما يتعلق بالإيمان بالله، وبالغيب حتى كأنه يراه رأي العين، فهذا هو اليقين الذي ينفع صاحبه، ويثبت معه عند الشدائد. فلهذا نجد أن المرء في قبره إذا كان مؤمنا كما قال النبي- صلى الله عليه وسلم – " َيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ لَهُ : مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ : رَبِّىَ اللَّهُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ : مَا دِينُكَ فَيَقُولُ : دِينِى الإِسْلاَمُ. فَيَقُولاَنِ لَهُ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ قَالَ فَيَقُولُ : هُوَ رَسُولُ اللَّهِ -صلى الله عليه وسلم-. فَيَقُولاَنِ : وَمَا يُدْرِيكَ فَيَقُولُ : قَرَأْتُ كِتَابَ اللَّهِ فَآمَنْتُ بِهِ وَصَدَّقْتُ ». وفي رواية : « فَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ (يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا) ». الآيَةَ. قَالَ : « فَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ قَدْ صَدَقَ عَبْدِى فَأَفْرِشُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى الْجَنَّةِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ الْجَنَّةِ ». قَالَ : « فَيَأْتِيهِ مِنْ رَوْحِهَا وَطِيبِهَا ». قَالَ : « وَيُفْتَحُ لَهُ فِيهَا مَدَّ بَصَرِهِ ».

قَالَ : « وَإِنَّ الْكَافِرَ ». فَذَكَرَ مَوْتَهُ قَالَ : « وَتُعَادُ رُوحُهُ فِى جَسَدِهِ وَيَأْتِيهِ مَلَكَانِ فَيُجْلِسَانِهِ فَيَقُولاَنِ : مَنْ رَبُّكَ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ لَهُ : مَا دِينُكَ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيَقُولاَنِ : مَا هَذَا الرَّجُلُ الَّذِى بُعِثَ فِيكُمْ فَيَقُولُ : هَاهْ هَاهْ لاَ أَدْرِى. فَيُنَادِى مُنَادٍ مِنَ السَّمَاءِ : أَنْ كَذَبَ فَأَفْرِشُوهُ مِنَ النَّارِ وَأَلْبِسُوهُ مِنَ النَّارِ وَافْتَحُوا لَهُ بَابًا إِلَى النَّارِ ». قَالَ : « فَيَأْتِيهِ مِنْ حَرِّهَا وَسَمُومِهَا ». قَالَ : « وَيُضَيَّقُ عَلَيْهِ قَبْرُهُ حَتَّى تَخْتَلِفَ فِيهِ أَضْلاَعُهُ » [رواد أبو داود: 4755، وصححه الألباني في صحيح سنن أبي داوود]
 
أختي الكريمة محبة القرآن نشكر لك هذا الجهد الطيب والعرض المبارك جزاك الله خيراً وآثابك ووفقك لكل خير..
تحياتي لك..
 
التفسير العقدي لجزء عم سورة العصر

التفسير العقدي لجزء عم سورة العصر

التفسير العقدي لجزء عم

سورة العصر

فضيلة الشيخ / أحمد بن عبد الرحمن القاضي

أعوذ بالله من الشيطان الرجيم

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ

وَالْعَصْرِ (1) إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ (3)


تأتي سورة العصر في طليعة مجموعة من السور القصار في مبناها، العظيمة في معناها، ختم الله بها كتابه الكريم.

وإن الإنسان ليعجب من حكمة الله - عز وجل – بختم المصحف، حسب العرضة الأخيرة، بهذه السور، السهلة الألفاظ، الجزلة المعانى، البديعة التراكيب، من قصار المفصل، التي يقرأها عامة المسلمين، ويحفظونها، ويرددونها، في صلواتهم؛ فرائضهم، ونوافلهم، لما تتضمنه من المعاني الكبيرة، التي تحيي القلوب، فلله الحكمة البالغة فيما حكم، وقضى، وقدر.

ومع قصر سورة (العصر) إلا أن الإمام الشافعي - رحمه الله – قال عنها: "لو ما أنزل الله حجةً على خلقه، إلا هذه السورة، لكفتهم" أي: لكانت حجة عليهم، في بيان مقاصد الدين، وأركانه، وآدابه. وليس المراد تضمنها لتفاصيل الشريعة.


مقصد السورة الرئيس:

بيان المنهج الوحيد للنجاة؛ إذ أن الله - سبحانه وتعالى - حكم على الإنسان من حيث هو إنسان- بالخسار، واستثنى مَنْ جمع أربع خصال، يأتي بيانها.


يقول الله تعالى: (وَالْعَصْرِ) هذا قسم من الله تعالى بـ (العصر). و(العصر):

1) قيل: هو مطلق الدهر، يعني: الزمان.
2) وقيل: هو ما بعد الزوال، الذي هو وقت العشي.
3) وقيل: إن المراد الصلاة نفسها، صلاة العصر.

والأولى حمل هذه المعاني على أولها، وهو الدهر؛ إذ أن ذلك يشمل ما بعد الزوال، وهو وقت العشي، ووقت صلاة العصر، والليل، والنهار، بمعنى أن الله - سبحانه وتعالى - أقسم بالعصر، الذي هو ظرف الأعمال، صالحها، وسيئها، والذي يترتب عليه إما النجاة، وإما الخسار، فمن المناسب جدًا، أن يقسم الله تعالى بالزمن، الذي هو مضمار الأعمال، وظرفها، لعظيم خطره.

وبمقدار عقل الإنسان، وإيمانه، يكون اهتمامه بالوقت، قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (نِعْمَتَانِ مَغْبُونٌ فِيهِمَا كَثِيرٌ مِنْ النَّاسِ الصِّحَّةُ وَالْفَرَاغُ) [البخاري:( 6412)، من حديث ابن عباس] فكثير من الناس يغبن في صحته، وفي فراغه، فيمضي عليه العمر سبهللا، فلا يبالي، وهو في حال الصحة والفراغ، فإذا ما مرض، أو شغل، تمنى أن لو كان صحيحاً، فارغًا، وهذا هو الغبن الحقيقي.


وقد كان السلف الصالح - رحمهم الله- يعتنون بأوقاتهم غاية العناية، يحسبون الدقائق، والثواني، حتى حفظ عن بعضهم العجب:

فقد ذكر عن المجد ابن تيمية - رحمه الله -: أنه كان يضن بوقته، حتى إنه كان إذا دخل بيت الخلاء، أمر قارئا أن يقرأ، من وراء الحائط، حتى لا يذهب عليه شيء من وقته، دون فائدة.

ويذكر أن الحافظ ابن رجب - رحمه الله -: كان يضن بوقته، فكان إذا حضره بعض أصحابه، الذين يتشاغلون بالأحاديث الدنيوية، ومجريات الحياة اليومية، يخصص للبقاء معهم، على أوراقاً يقطعها، ويرتبها، ويعدها لكتابته، ولا يدع مجلس أصحابه.

فبمقدار ما يشعر المؤمن، باليوم الآخر، وتقوم في قلبه حقائق الإيمان، يشعر بأهمية الوقت، وإذا ضعف ذلك صار الوقت عنده أرخص ما يكون، حتى أنك تجد بعضهم يقول: "نقتل الوقت"، سبحان الله وهل الوقت يقتل؟!، الوقت أغلى الأثمان، وفي هؤلاء يقول الشاعر:

والوقت أعظم ما عنيت بحفظه *** وأراه أسهل ما عليك يضيع


(إِنَّ الإِنْسَانَ لَفِي خُسْرٍ) هذا جواب القسم. والمقصود: جنس الإنسان. ووقعت اللام في جواب القسم، للتأكيد. والمعنى: أن الإنسان في نقص وهلاك؛ لأن في طبعه قصور، وتقصير، يستغلهما، الشيطان، والنفس، والهوى، وغير ذلك من المؤثرات، فتفضي به إلى الهلاك. فالأصل في الإنسان أن يؤول إلى خسار، إلا ما استثني. والمستثنى أقل من المستثنى منه، فلهذا قال تعالى، في مواضع:

(وَقَلِيلٌ مِنْ عِبَادِيَ الشَّكُورُ) [سبأ:13]، (وَقَلِيلٌ مَا هُمْ) [ص:24]، وقال عن إبليس (قَالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ . إِلَّا عِبَادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ) [ص:82-83].


فتجد أن المستثنى هم أهل الإيمان، مما يدل على أن الكثرة الكاثرة، تؤول إلى الخسار، والبوار، ويشهد لذلك قول النبي - صلى الله عليه وسلم – عند وصفه يوم القيامة، لأصحابه ، فقال: "ذَاكَ يَوْمٌ يُنَادِي اللَّهُ فِيهِ آدَمَ، فَيُنَادِيهِ رَبُّهُ فَيَقُولُ: يَا آدَمُ ابْعَثْ بَعْثَ النَّارِ، فَيَقُولُ: يَا رَبِّ وَمَا بَعْثُ النَّارِ، فَيَقُولُ: مِنْ كُلِّ أَلْفٍ تِسْعُ مِائَةٍ وَتِسْعَةٌ وَتِسْعُونَ فِي النَّارِ وَوَاحِدٌ فِي الْجَنَّةِ " [رواه الترمذي(3169)، وصححه الألباني في صحيح الترمذي]


(إِلَّا الَّذِينَ آَمَنُوا): أي صدقوا بقلوبهم، وأيقنوا بخبر الله، وخبر رسوله، - صلى الله عليه وسلم -؛ كما قال ربنا - عز وجل -: (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آَمَنُوا بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتَابُوا). فأصل الإيمان: التصديق المستلزم للقبول، والإقرار، والإذعان، والرضا. ولهذا ينبغي للعاقل قبل أن يشتغل بإصلاح الظاهر، والعناية بالسنن، والنوافل، أن يصلح قلبه، وأن يتعاهده، فإذا صلح قلبه، انقادت جوارحه، واستسهلت كل عمل صعب، بل وتلذذت به، كما قال نبينا - صلى الله عليه وسلم -: (أَلَا وَإِنَّ فِي الْجَسَدِ مُضْغَةً، إِذَا صَلَحَتْ: صَلَحَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، وَإِذَا فَسَدَتْ: فَسَدَ الْجَسَدُ كُلُّهُ، أَلَا وَهِيَ: الْقَلْبُ) [متفق عليه، واللفظ للبخاري]


ثم عطف عليه ما هو من لوازمه، التي لا تنفك عنه، ولا تتم إلا به، فقال:

(وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ) يعني: أنهم لم يقتصروا على الإيمان القلبي، بل اتبعوا ذلك بالعمل الصالح. و(الصَّالِحَاتِ): ما شرعه الله تعالى على لسان نبيه - صلى الله عليه وسلم -، من الأقوال، والأعمال، فكل ذلك صالح.


ومسألة الإيمان مسألة كبيرة:

فالإيمان عند أهل السنة والجماعة: حقيقة مركبة من القول، والعمل. فالإيمان: قول القلب، واللسان، وعمل القلب، واللسان، والجوارح. ويرون أنه لا انفكاك بين العمل، والتصديق، وأن من زعم وجود تصديق في القلب لا يستلزم عملاً، فهو مخطئ.

وأما من سواهم، فإنهم أرجئوا العمل عن مسمى الإيمان، ولذلك سموا مرجئة؛ يعني أخروا العمل، وأخرجوه عن حقيقة الإيمان، وحده، وتعريفه.


وهؤلاء المرجئة على ثلاثة طبقات:

1) فمنهم -وهم أشدهم –: [الجهمية]، المنسوبون إلى جهم بن صفوان السمرقندي، الذين يقولون: إن الإيمان هو "معرفة القلب"، وربما عبر بعضهم فقال: "تصديق القلب". فيلزم من ذلك إثبات الإيمان للمشركين، واليهود، والنصارى، بل وفرعون، بل وإبليس!
2) الطائفة الثانية من المرجئة: [الكرامية] المنسوبون إلى محمد بن كرام السجستاني، الذين يقولون: "إن الإيمان هو قول اللسان". فيلزم على قولهم وصف المنافقين بالإيمان! ؛ وقد قال تعالى: (إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ) [المنافقون:1]، فكيف يجرؤون على تسمية من قال بلسانه فقط مؤمنا، والله قد أكذبه،
3) الطائفة الثالثة من المرجئة: [مرجئة الفقهاء]، أصحاب أبي حنيفة، وشيخه حماد بن سليمان، وفقهاء الكوفة، وعبادها، الذين يقولون: "الإيمان: قول باللسان، واعتقاد بالجنان، أو إقرار بالجنان، يعني بالقلب". فجعلوا الإيمان ركنين: اعتقاد القلب، وقول اللسان، ولكنهم أخرجوا الأعمال عن مسمى الإيمان، إلا أنهم قالوا إنه من ثمراته، وأن المطيع: محمود في الدنيا، مثاب في الآخرة، وأن العاصي: مذموم في الدنيا، مستحق للعقاب في الآخرة، ولم يخرجوا مرتكب الكبيرة عن حد الإيمان. ولهذا قال من قال: "إن الخلاف بين مرجئة الفقهاء، وأهل السنة، خلاف لفظي" صوري، والصحيح: أن منه ما هو حقيقي، ومنه ما هو صوري.

فالحق أن الإيمان لابد معه من العمل، فإن قال قائل: إذاً لماذا عطف الله العمل على الإيمان في هذه الآية، وغيرها، والعطف يقتضي المغايرة؟ ، فدل ذلك على أن العمل ليس داخلاً في مسمى الإيمان. وهذا من أشهر حجج المرجئة.

فعن ذلك جوابان :

الجواب الأول: أن يقال أن هذا من باب عطف الخاص على العام، كما لو قلت: "جاء الطلبة ومحمد"، مع أن محمداً من الطلبة. فيكون من باب عطف الخاص على العام.

الجواب الثاني: أن يقال إن هذا من باب اختلاف المعني: عند الاقتران، وعند الافتراق. فيكون للفظ الواحد معنيان: معنى إذا اقترن بغيره، ومعنى إذا انفرد. فالإيمان عند الانفراد يشمل الاعتقاد، والعمل. وعند الاقتران مع العمل: يختص بالاعتقاد. كما في حديث جبريل لما سأل عن الإيمان، والإسلام، والإحسان، فسر الإسلام بالأعمال الظاهرة، والإيمان بالعقائد الباطنة. ونظائر ذلك في اللغة والاصطلاح، كثير، كما في لفظ "الفقير" و"المسكين"، و"التوبة" و"الاستغفار"،"والبر" و"التقوى"، و"الإثم" و"العدوان".


(وَتَوَاصَوْا بِالْحَقِّ): صيغة مفاعلة، أي: أنها تقع من الطرفين، فيوصي بعضهم بعضًا بالحق الذي جاء عن الله، ورسوله، ويحض بعضهم بعضًا على التمسك به. ولهذا جاء في بعض التفاسير أن (الحق) هو: كتاب الله،


(وَتَوَاصَوْا بِالصَّبْرِ): الصبر: في أصل اللغة: هو الحبس. وأنواعه ثلاثة:

1) الصبر على طاعة الله،
2) والصبر عن معصية الله،
3) والصبر على أقدار الله المؤلمة.
وهو من أعلى مراتب الدين، وورد ذكره في القرآن في نحو تسعين موضعاً. وجاء في الأثر " أن منزلة الصبر من الدين، كمنزلة الرأس من الجسد". وهو من أمهات الأخلاق، وأصولها.


والتواصي بين أهل الإسلام، في هذه الأزمان، وللأسف، أندر من الكبريت الأحمر - كما يقال -، قل أن يتواصى الناس فيما بينهم، بل إنه يبلغ الحال عند بعض الناس، أن يغض بعضهم الطرف عن خطأ الآخر، حتى لا يقابله بالمثل!، وهذا علامة خذلان. والواجب على أهل الإيمان أن يتناصحوا، وأن يتواصوا كما أمر الله - سبحانه وتعالى، فالمؤمن للمؤمن كالبنيان، والمؤمن للمؤمن كاليدين تغسل إحداهما الأخرى. ولو أن كل أحد صمت عن خطأ أخيه، لضاعت السنن، ووقع التساهل. لكن إذا قرعت سمع الإنسان نصيحة أخيه، فربما يندهش لأول وهلة، ويزعجه ذلك، لكنه يحمد العاقبة.


فلو تأملنا في هذه الخصال الأربع، التي ذكر الله تعالى، لوجدناها أسباب النجاة، والفلاح، والفوز:

1) إيمان يباشر القلب، ويرسخ فيه،
2) عمل صالح باللسان، والجوارح، يصدقه.
3) تواص بين المؤمنين بالحق، يثبته.
4) تواص بينهم بالصبر، يقويه.

ولو اختل شيء من هذه الأربعة، لوقع الاضطراب، والخلل، فلو فسد أصله، لفسد باقيه، وفرعه، ولو وجد معرفة لا يقترن بها عمل، لما كان ذلك تصديقا بحق، ولو وجد تصديق، وعمل، لكن بلا تواصٍ بالحق، ولا تواصٍ بالصبر، لنشأ عن ذلك ملل، وفتور، وضعف، وقصور. فلهذا كانت هذه السورة حجة من الله، على عباده، ولو لم ينزل الله - سبحانه وتعالى - حجة سواها، لكفتهم، كما قال الشافعي، وإنما أراد الشافعي - رحمه الله - الأصول الكبار، وإلا فإنه لا غنى للعباد عن معرفة التفاصيل.


الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: أهمية الوقت، وأنه مضمار الأعمال، التي يترتب عليها الثواب، والعقاب.

الفائدة الثانية: أن الأصل في الإنسان حصول الخسار، بسبب القصور، والتقصير المفضي إلى الهلاك، أما القصور: فإنه طبعي، وأما التقصير: فإنه كسبي، ولا يكاد أحد ينفك من هذين الوصفين إلا من رحم الله.

الفائدة الثالثة: بيان أركان الفوز، والنجاة، وهي الخصال الأربعة المذكورة.

الفائدة الرابعة: أن الإيمان أصل الدين، يعني ما يقوم في القلب، من العقائد الصحيحة، والمعارف النافعة، المصحوبة بالقبول، والرضا، والإذعان.

الفائدة الخامسة: أن العمل داخل في حقيقة الإيمان، ومسماه، فلا يتحقق بدونه.

الفائدة السادسة: أهمية التواصي بالحق، والصبر، بين أهل الإيمان.

الفائدة السابعة: عظم منزلة الصبر من الدين
 
بارك الله في علمك أختي محبة القرآن وجزاك الله عنا خيراً على هذا الجهد المبارك وأحتوت سورة العصر على فوائد ومعاني عظيمة واستفدت كثرا هنا بما ورد عن تفسيرها فشكر الله لك وآثابك..
تحياتي لك..
 
بارك الله في علمك أختي محبة القرآن وجزاك الله عنا خيراً على هذا الجهد المبارك وأحتوت سورة العصر على فوائد ومعاني عظيمة واستفدت كثرا هنا بما ورد عن تفسيرها فشكر الله لك وآثابك..
تحياتي لك..

شكر الله لكِ أختي الكريمة مشاعل متابعتك وبارك الله فيك على ردك الطيب المبارك ...
 
التفسير العقدي لجزء عم سورة الهمزة

التفسير العقدي لجزء عم سورة الهمزة

التفسير العقدي لجزء عم

سورة الهمزة

د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)


مقصد السورة:

هذه السورة لها مقصد عظيم: وهو بيان الصلة الوثيقة بين العقيدة، والسلوك؛ إذ أن الله - سبحانه وتعالى - يكشف حال الكافر، وطبيعته النفسية، وتأثيرها على سلوكه الشخصي المشين، الناتج عن عقيدته الكفرية بالبعث.


(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ):

(وَيْلٌ) كلمة وعيد، وتهديد. وقيل: إنها اسم وادٍ في جهنم.

(لِكُلِّ) هذا من ألفاظ العموم.

(هُمَزَةٍ) أي: كثير الهمز. و(لُمَزَةٍ) أي: كثير اللمز.

وكلاً من (هُمَزَةٍ) و(لُمَزَةٍ)، صفة لموصوف.

فمعنى (هُمَزَةٍ):

- قيل: هو المغتاب.

- وقيل: هو الطعان، أي: الذي يطعن في الناس، بعيبهم، وذمهم.

- وقيل: إن الهمز ما كان على سبيل المواجهة، يعني: وجها لوجه.

- وقيل: إن الهمز ما يكون باليد، إما بإشارة، أو بضرب، ودفع، وما أشبه.


ومعنى (لُمَزَةٍ):

- قيل - أيضا -: هو الطعان. وقيل: هو المغتاب. يعني: من قال إن (الهمزة) هو المغتاب، قال (اللمزة) الطعان. وبالعكس، من قال (اللمزة) الطعان قال (الهمزة) هو المغتاب، وكل هذا مروي عن السلف.

- كما قيل - أيضا -: إن (اللمزة) ما كان من خلف، بأن ينال منه بعد انصرافه، من خلفه.

- كما قيل - أيضا -: إن (اللمزة) ما يكون باللسان.


وهذه السورة نزلت في شخص معين؛ قيل: الأخنس بن شريق، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: بعض سادات قريش، لأنهم كانوا يهمزون، ويلمزون النبي - صلى الله عليه وسلم -، في مجالسهم، وإذا قابلوه. ولكنها عامة في كل كافر، اتصف بهذا الوصف.

ولا يزال المرء يجد من الكفار، بل ومن بعض الفساق، من تشوبه هذه الشائبة، فتجده ينال من أهل الطاعة، والإيمان، بالهمز، واللمز، والسخرية، والتنقص، في حضورهم، وفي غيبتهم، وربما تناوله بيده، وربما تناوله بلسانه. وقد وصف الله هذا المسلك الذميم، في سورة المطففين، بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) [المطففين : 29 - 33]

ومجموع ذلك يحكي صفة شخص، ذي أذية، بالغة، حسيةٍ، ومعنويةٍ، فهو يجابه الناس بالسوء من القول، ويهاجمهم بأقذع السباب. وإذا انصرفوا، أو انصرف عنهم، نال منهم، في غيبتهم. وربما استعمل يده، كما يستعمل لسانه، إما بإشارة ذات دلالة سيئة، أو بكلام بذيء، فلا يسلم من أذيته أحد، وهذه هي شخصية الكافر، الذي تمكن الشر من قلبه. ليس هذا فحسب، بل ذكر الله من أوصافه ما يلي:


(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ):

(جَمَعَ) هكذا قُرئت بتخفيف الميم، وقُرئت بالتشديد (جمَّع)، فهو قد كدس الأموال.

(مَالًا) أي: جميع أنواع المال، فيشمل: المال المضروب (النقدين)، والإبل، والبقر، والغنم، والأثاث، والعقار، وما شئت من أنواع المال.

(وَعَدَّدَهُ):

- إما أن يكون معناها مأخوذاً من العدِّ، أي الإحصاء.

- وإما أن يكون من الإعداد، أي أعده لحوادث الدهر.

فلا تجد الكافر إلا لاهثًا خلف الحياة الدنيا؛ لأنها غاية مراده، ومنتهى أمانيه، فلذلك يجرون خلفها، ولا يبحثون إلا عن شهواتهم، ومتعهم، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كما تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد:12].


(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ):

(يَحْسَبُ) أي: يظن.

(أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) جعله خالدا، لا يموت! هكذا خيل إليه.


(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)):

(كَلَّا) كلمة ردع، ومعناها: ليس الأمر كما ظن.

(لَيُنْبَذَنَّ) اللام: لام القسم، يعني: والله لَيُنْبَذَنَّ، أي: يطرحن، ويقذفن، وما أشبه. والنون: هي نون التوكيد المثقلة. واللام والنون يدلان على مزيد التأكيد.

(فِي الْحُطَمَةِ) الْحُطَمَةِ: اسم من أسماء النار، والمقصود: التي تحطم كل ما يلقى فيها. فكل ما ألقي فيها يعود حطيمًا.

وما أنسب هذا الوصف في هذا السياق!!؛ ففي حين أن هذا الهمزة، اللمزة، جمع مالاً، وعدده، وراكمه، وكثره، في الدنيا، حتى بدا وكأنه جبل، فإذا به في الآخرة يطرح هو، وما جمع، في الحطمة، فتحطم كل ما جمع، ويذهب هباء منثورًا.


(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) يعني: ما أعلمك ما الحطمة؟. وهذا السؤال للتهويل.

(نَارُ اللَّهِ) هذا جواب السؤال. وإضافة النار إلى الله، ليست إضافة تشريف، كبيت الله، وعبد الله، بل إضافة تعظيم، وتهويل.

(الْمُوقَدَةُ) أي: المسعرة. وأما حديث أبي هريرة، الذي رواه الترمذي، وابن ماجة: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت. فهي سوداء مظلمة) فهو ضعيف.

والنار، كما الجنة، مخلوقتان الآن، وباقيتان، لا تفنيان.

(الَّتِي تَطَّلِعُ) أي: تشرف.

(عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي: القلوب، فتحرقها، وتشويها، داخل الأضلاع، وتؤلمها أشد الإيلام.


(إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ): فسرها السلف بقولهم: مطبقة، فهم لا يستطيعون الخروج منها.

كما قال الله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:22]. وشعور السجين، أو الأسير، بالإغلاق، يضاعف حزنه، فلربما بقي الإنسان في الموضع الواحد، أيامًا طوالاً، وهو يشعر أنه لو شاء أن يخرج لخرج، فيهون عليه الأمر. وربما استمتع بالمكث! لكن لو أغلق عليه، ولو في بستان، لشعر بالضيق، والكرب، بسبب الحبس، فيجتمع عليه العذاب النفسي، والعذاب الحسي - والعياذ بالله.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) هكذا (عَمَدٍ) بفتح العين والميم، وقُرئت بضمهما (في عُمُد ممددة).

أي أن النار ممتدة، داخل هذه الأعمدة، كما تمد الخيام على الأعمدة. وهذا أمر غيبي، لا ندرك كيفيته بعقولنا، ولكن تصوره يشعر بالرهبة، والشدة، وطول العذاب، الذي ينال الهمزة اللمزة.



الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: تفنن الكافر في أذية المؤمن، أذية حسية، ومعنوية.

الفائدة الثانية: تعلق الكافر بمتاع الدنيا.

الفائدة الثالثة: اغترار الكافر بالمتاع الزائل، وخطأ ظنونه.

الفائدة الرابعة: الوعيد الماحق للكافر.

الفائدة الخامسة: شدة عذاب النار.

الفائدة السادسة: الارتباط الوثيق بين العقيدة، والسلوك.


واعلم أن للعقيدة أكبر الأثر في سلوك الإنسان، فإنك تجد الإنسان، غافلاً، لاهيًا، غليظًا، فظًا، فاجرًا، فإذا ما سكن الإيمان قلبه، أكسبه تهذيبًا في الطباع، وسماحة في الأخلاق، وكرمًا في المعاملة، ورحمة بالخلق، وتورعًا عن أذيتهم، ورقة، ولينًا، حتى إنه ليبكي على ما بدر منه في جاهليته الأولى.

وقد جاء في حديث أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ:

فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) [متفق عليه، واللفظ للبخاري:6512]

فانظر ما أثقل وطأة الكافر،حتى على الأرض! فكيف بساكنيها! الكل يتأذى من الكافر، الكل يلعن الكافر، حتى اللقمة يرفعها إلى فيه تلعنه، والشربة يرفعها إلى فيه تلعنه. فالإيمان رحمة، والكفر نقمة.

وإذا كان الارتباط بين العقيدة والسلوك، بهذه المكانة، فينبغي أن نفقه العقيدة لا بوصفها متون تحفظ، وتستشرح، فحسب، بل يقين في القلب، مستعلن باللسان، باعث للعمل في الجوارح والسلوك.
 
التفسير العقدي لجزء عم (سورة الهمزة)

التفسير العقدي لجزء عم (سورة الهمزة)

بسم الله الرحمن الرحيم

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نَارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)


مقصد السورة:

هذه السورة لها مقصد عظيم: وهو بيان الصلة الوثيقة بين العقيدة، والسلوك؛ إذ أن الله - سبحانه وتعالى - يكشف حال الكافر، وطبيعته النفسية، وتأثيرها على سلوكه الشخصي المشين، الناتج عن عقيدته الكفرية بالبعث.


(وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ):

(وَيْلٌ) كلمة وعيد، وتهديد. وقيل: إنها اسم وادٍ في جهنم.

(لِكُلِّ) هذا من ألفاظ العموم.

(هُمَزَةٍ) أي: كثير الهمز. و(لُمَزَةٍ) أي: كثير اللمز.

وكلاً من (هُمَزَةٍ) و(لُمَزَةٍ)، صفة لموصوف.

فمعنى (هُمَزَةٍ):

- قيل: هو المغتاب.

- وقيل: هو الطعان، أي: الذي يطعن في الناس، بعيبهم، وذمهم.

- وقيل: إن الهمز ما كان على سبيل المواجهة، يعني: وجها لوجه.

- وقيل: إن الهمز ما يكون باليد، إما بإشارة، أو بضرب، ودفع، وما أشبه.


ومعنى (لُمَزَةٍ):

- قيل - أيضا -: هو الطعان. وقيل: هو المغتاب. يعني: من قال إن (الهمزة) هو المغتاب، قال (اللمزة) الطعان. وبالعكس، من قال (اللمزة) الطعان قال (الهمزة) هو المغتاب، وكل هذا مروي عن السلف.

- كما قيل - أيضا -: إن (اللمزة) ما كان من خلف، بأن ينال منه بعد انصرافه، من خلفه.

- كما قيل - أيضا -: إن (اللمزة) ما يكون باللسان.


وهذه السورة نزلت في شخص معين؛ قيل: الأخنس بن شريق، وقيل: الوليد بن المغيرة، وقيل: بعض سادات قريش، لأنهم كانوا يهمزون، ويلمزون النبي - صلى الله عليه وسلم -، في مجالسهم، وإذا قابلوه. ولكنها عامة في كل كافر، اتصف بهذا الوصف.

ولا يزال المرء يجد من الكفار، بل ومن بعض الفساق، من تشوبه هذه الشائبة، فتجده ينال من أهل الطاعة، والإيمان، بالهمز، واللمز، والسخرية، والتنقص، في حضورهم، وفي غيبتهم، وربما تناوله بيده، وربما تناوله بلسانه. وقد وصف الله هذا المسلك الذميم، في سورة المطففين، بقوله: (إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كَانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ. وَإِذَا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغَامَزُونَ. وَإِذَا انْقَلَبُوا إِلَى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ. وَإِذَا رَأَوْهُمْ قَالُوا إِنَّ هَؤُلَاءِ لَضَالُّونَ) [المطففين : 29 - 33]

ومجموع ذلك يحكي صفة شخص، ذي أذية، بالغة، حسيةٍ، ومعنويةٍ، فهو يجابه الناس بالسوء من القول، ويهاجمهم بأقذع السباب. وإذا انصرفوا، أو انصرف عنهم، نال منهم، في غيبتهم. وربما استعمل يده، كما يستعمل لسانه، إما بإشارة ذات دلالة سيئة، أو بكلام بذيء، فلا يسلم من أذيته أحد، وهذه هي شخصية الكافر، الذي تمكن الشر من قلبه. ليس هذا فحسب، بل ذكر الله من أوصافه ما يلي:


(الَّذِي جَمَعَ مَالًا وَعَدَّدَهُ):

(جَمَعَ) هكذا قُرئت بتخفيف الميم، وقُرئت بالتشديد (جمَّع)، فهو قد كدس الأموال.

(مَالًا) أي: جميع أنواع المال، فيشمل: المال المضروب (النقدين)، والإبل، والبقر، والغنم، والأثاث، والعقار، وما شئت من أنواع المال.

(وَعَدَّدَهُ):

- إما أن يكون معناها مأخوذاً من العدِّ، أي الإحصاء.

- وإما أن يكون من الإعداد، أي أعده لحوادث الدهر.

فلا تجد الكافر إلا لاهثًا خلف الحياة الدنيا؛ لأنها غاية مراده، ومنتهى أمانيه، فلذلك يجرون خلفها، ولا يبحثون إلا عن شهواتهم، ومتعهم، كما قال تعالى: (وَالَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَيَأْكُلُونَ كما تَأْكُلُ الْأَنْعَامُ وَالنَّارُ مَثْوًى لَهُمْ) [محمد:12].


(يَحْسَبُ أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ):

(يَحْسَبُ) أي: يظن.

(أَنَّ مَالَهُ أَخْلَدَهُ) جعله خالدا، لا يموت! هكذا خيل إليه.


(كَلَّا لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ (5)):

(كَلَّا) كلمة ردع، ومعناها: ليس الأمر كما ظن.

(لَيُنْبَذَنَّ) اللام: لام القسم، يعني: والله لَيُنْبَذَنَّ، أي: يطرحن، ويقذفن، وما أشبه. والنون: هي نون التوكيد المثقلة. واللام والنون يدلان على مزيد التأكيد.

(فِي الْحُطَمَةِ) الْحُطَمَةِ: اسم من أسماء النار، والمقصود: التي تحطم كل ما يلقى فيها. فكل ما ألقي فيها يعود حطيمًا.

وما أنسب هذا الوصف في هذا السياق!!؛ ففي حين أن هذا الهمزة، اللمزة، جمع مالاً، وعدده، وراكمه، وكثره، في الدنيا، حتى بدا وكأنه جبل، فإذا به في الآخرة يطرح هو، وما جمع، في الحطمة، فتحطم كل ما جمع، ويذهب هباء منثورًا.


(وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْحُطَمَةُ) يعني: ما أعلمك ما الحطمة؟. وهذا السؤال للتهويل.

(نَارُ اللَّهِ) هذا جواب السؤال. وإضافة النار إلى الله، ليست إضافة تشريف، كبيت الله، وعبد الله، بل إضافة تعظيم، وتهويل.

(الْمُوقَدَةُ) أي: المسعرة. وأما حديث أبي هريرة، الذي رواه الترمذي، وابن ماجة: (أوقد على النار ألف سنة حتى احمرت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى ابيضت، ثم أوقد عليها ألف سنة حتى اسودت. فهي سوداء مظلمة) فهو ضعيف.

والنار، كما الجنة، مخلوقتان الآن، وباقيتان، لا تفنيان.

(الَّتِي تَطَّلِعُ) أي: تشرف.

(عَلَى الْأَفْئِدَةِ) أي: القلوب، فتحرقها، وتشويها، داخل الأضلاع، وتؤلمها أشد الإيلام.


(إِنَّهَا عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ): فسرها السلف بقولهم: مطبقة، فهم لا يستطيعون الخروج منها.

كما قال الله تعالى: (كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيهَا وَذُوقُوا عَذَابَ الْحَرِيقِ) [الحج:22]. وشعور السجين، أو الأسير، بالإغلاق، يضاعف حزنه، فلربما بقي الإنسان في الموضع الواحد، أيامًا طوالاً، وهو يشعر أنه لو شاء أن يخرج لخرج، فيهون عليه الأمر. وربما استمتع بالمكث! لكن لو أغلق عليه، ولو في بستان، لشعر بالضيق، والكرب، بسبب الحبس، فيجتمع عليه العذاب النفسي، والعذاب الحسي - والعياذ بالله.

(فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ) هكذا (عَمَدٍ) بفتح العين والميم، وقُرئت بضمهما (في عُمُد ممددة).

أي أن النار ممتدة، داخل هذه الأعمدة، كما تمد الخيام على الأعمدة. وهذا أمر غيبي، لا ندرك كيفيته بعقولنا، ولكن تصوره يشعر بالرهبة، والشدة، وطول العذاب، الذي ينال الهمزة اللمزة.



الفوائد المستنبطة

الفائدة الأولى: تفنن الكافر في أذية المؤمن، أذية حسية، ومعنوية.

الفائدة الثانية: تعلق الكافر بمتاع الدنيا.

الفائدة الثالثة: اغترار الكافر بالمتاع الزائل، وخطأ ظنونه.

الفائدة الرابعة: الوعيد الماحق للكافر.

الفائدة الخامسة: شدة عذاب النار.

الفائدة السادسة: الارتباط الوثيق بين العقيدة، والسلوك.


واعلم أن للعقيدة أكبر الأثر في سلوك الإنسان، فإنك تجد الإنسان، غافلاً، لاهيًا، غليظًا، فظًا، فاجرًا، فإذا ما سكن الإيمان قلبه، أكسبه تهذيبًا في الطباع، وسماحة في الأخلاق، وكرمًا في المعاملة، ورحمة بالخلق، وتورعًا عن أذيتهم، ورقة، ولينًا، حتى إنه ليبكي على ما بدر منه في جاهليته الأولى.

وقد جاء في حديث أَبِي قَتَادَةَ بْنِ رِبْعِيٍّ الْأَنْصَارِيِّ أَنَّهُ كَانَ يُحَدِّثُ أَنَّ رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: مُرَّ عَلَيْهِ بِجِنَازَةٍ:

فَقَالَ: مُسْتَرِيحٌ وَمُسْتَرَاحٌ مِنْهُ.

قَالُوا: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْمُسْتَرِيحُ وَالْمُسْتَرَاحُ مِنْهُ؟

قَالَ: الْعَبْدُ الْمُؤْمِنُ يَسْتَرِيحُ مِنْ نَصَبِ الدُّنْيَا وَأَذَاهَا إِلَى رَحْمَةِ اللَّهِ، وَالْعَبْدُ الْفَاجِرُ يَسْتَرِيحُ مِنْهُ الْعِبَادُ وَالْبِلَادُ وَالشَّجَرُ وَالدَّوَابُّ) [متفق عليه، واللفظ للبخاري:6512]

فانظر ما أثقل وطأة الكافر،حتى على الأرض! فكيف بساكنيها! الكل يتأذى من الكافر، الكل يلعن الكافر، حتى اللقمة يرفعها إلى فيه تلعنه، والشربة يرفعها إلى فيه تلعنه. فالإيمان رحمة، والكفر نقمة.

وإذا كان الارتباط بين العقيدة والسلوك، بهذه المكانة، فينبغي أن نفقه العقيدة لا بوصفها متون تحفظ، وتستشرح، فحسب، بل يقين في القلب، مستعلن باللسان، باعث للعمل في الجوارح والسلوك.
 
عودة
أعلى