محبة القرآن
New member
[align=center]
التفسير العقدي لجزء عم
مقدمة
/* بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي */
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله, فالهدى: هو العلم النافع. ودين الحق: هو العمل الصالح. وقد ضمّن الله تعالى ما أنزل على نبيّه من البينات، هذين الأمرين, فاحتوى كتاب الله عز وجل على كل ما يحتاجه الناس في أمر معاشهم، ومعادهم؛ من العقائد، والشرائع، والأخلاق، والآداب, فكان فيه غنية وكفاية.
وقد جعل الله تعالى كتابه آية خالدة، ومعجزة باهرة إلى يوم القيامة. وفي الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1), فهذا القرآن العظيم فيه الخير، والبركة، والصلاح، والفلاح، والنجاح، لهذه الأمة، ولجميع العالمين، إلى يوم القيامة.
وقد امتن الله تعالى على عباده المؤمنين بإنزال هذا الكتاب, وامتن على نبيّه بذلك وشرفه به فقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان/1], وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر/23], وأقسم الله تعالى به في غير ما موضع، في كتابه؛ تعظيماً لشأنه، وتفخيماً له, ولم ينزل الله تعالى كتابه لأجل أن يُترنم بذكره، ويُتغنى به، فحسب, وإن كان هذا مراداً مقصوداً, ولكن أنزله عز وجل لما هو أعظم من ذلك؛ لتدبره وتعقله, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/2], وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/2] , وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص/29], وقال عز وجل:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام/92]
ففي القرآن العظيم بركة في تلاوته؛ لما يحدثه في نفس تاليه من السكينة والطمأنينة؛ لأنه أعظم ذكر لله, وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد/28]
وكم من إنسان قلق، متوتر، فتح دفتي المِصْحَف، ورطّب لسانه بتلاوة آي الكتاب, فانقشعت عنه سحائب من الهموم، والغموم, وانجلت عن ناظريه الغشاوة، وعن أذنيه الوقَرْ، وعن قلبه الأكنة. وهو مبارك أيضاً فيما تضمّنه من العلوم النافعة, وأعظم ما فيه من العلوم: العلم بالله عز وجل. فلا سبيل لنا إلى العلم بالله تعالى، إلا فيما أودعه في كتابه, فقد تضمّن من أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلى، الشيء الكثير، مما لا يخفى, فيحصل للقلب من تدبر هذه المعاني الجليلة في أسماء الله وصفاته، وأفعاله, ما يقع به تعظيم الرب وخشيته ومحبته ورجائه وسائر ما يتنعم به القلب من العبادات القلبية الباطنة.
وأودع الله تعالى فيه أيضاً من الشرائع العادلة مما يحتاجه الناس في عباداتهم وفي معاملاتهم وفي معاشرتهم لأهليهم مالا يبقى معه إشكال, فلم يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا وترك لنا منه علماً, وهو مبارك أيضاً في موعظته, فإن في القرآن موعظة لا توجد في غيره, وفيه تأثير على القلوب والله أعلم بمن خلق لا يحصل إلا به, وربما تفنن الوعاظ والمربون بأنواع المواعظ والتأثيرات وربما كان تأثيرها كبيراً, لكنه آنِيّ, أما موعظة القرآن فإنها باقية وثابتة ومؤثرة, فأعظم ما عالج به الإنسان قلبه كتاب الله عز وجل؛ ولهذا عَتِبَ الله تعالى على المؤمنين في أول الإسلام ما أصابهم من فتور, فقال سبحانه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد/16]. فلابد أن يُحدث هذا القرآن خشية وخشوعاً في القلب, وكأن الله سبحانه وتعالى يحضُّهم ويُحرضهم على تحصيل هذا الأثر, ثم قال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد/16], فحذر الله تعالى من مشابهة أهل الكتاب، الذين جعلوا كتاب الله ظِهريّاً، ولم ينتفعوا به, فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم, فكتاب الله بين ظهرانيهم، لكنهم لا يرفعون به رأساً.
ثم أردف الله تعالى هذه الآية بقوله: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد/17], فلفت الله الأنظار إلى أن حاجة القلوب إلى موعظة القرآن، أعظم من حاجة الأرض الميتة إلى ماء السحاب, فلئن كان ماء السماء يُحيي الأرض بعد موتها، فيُنبت الزرع، ويدرُّ الضرع, فإن هذه القلوب أحوج إلى ما أنزل الله من كلامه، من الأرض الميتة إلى المطر, فإذا ما كان في قلبك مَوات، فأسقه بالقرآن العظيم. والقرآن العظيم مبارك في آثاره فإنه يُحدث آثاراً حميدة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الأمة بعمومها.
فالمرء إن اعتصم به، والتزم بهديه أصلح الله له حاله ورُزق الحياة الطيبة واطمأنت نفسه وهدأ باله وحصّل نعيم الدنيا المتمثل بلذة مناجاة الله تعالى.
والمجتمع إن التزم بتعاليمه، وحدوده، وُقي من الشرور، والآفات، وحُفظت الأسرة من الخلاف، والفرقة، والنزاع، ورُوعيت الحقوق، والذمم.
والأمة بمجموعها إن التزمت به حقق الله لها النصر والتمكين, قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج/41]، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/55]
فالقرآن العظيم هو عهد ما بيننا وبين الله عز وجل, إن نحن التزمنا به، وعظّمناه، وقدّمناه، وجعلناه إماماً لنا، اهتدينا، وإن كانت الأخرى، فليس وراء ذلك إلا الضلال، والخسار، في الدنيا والآخرة.
ولا شك أن تلاوة كتاب الله، فهماً، وتدبراً، من أولى ما يكون, فإنه لا يخفى أن العلم الذي كان بين أيدي الصحابة، رضوان الله عليهم، هو هذا العلم المنزل من السماء؛ (القرآن العظيم), ولم يكن بين أيديهم شيئاً من هذه الكتب المطولات، ولا الشروحات، ولا ما تمتلئ به رفوف المكتبات، وإنما كان أحدهم يُقبل على هذا الدين بكُليته, فيقرع سمعه القرآن، فيستحيل خلقاً جديداً, فما أن يسمع كلام الله عز وجل، حتى يستيقظ من غفلته، ويصحوا من غفوته، ويعلم سر خلقه، وإيجاده, فيعود خلقاً جديداً، يُنشئه الله نشأة أخرى. ولهذا صنع الله بأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الكرامة والخير والتمكين مالا يخفى قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران/164]. فكانوا في جاهلية جهلاء, وضلالة عمياء, فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة العربية، التي كان بعضها يأكل بعضاً، وينزو بعضها على بعض, ويقتتلون السنين الطوال، من أجل بيت شِعْر، أو شطره، أو لأجل بعير، أو مرعى، أو ماء، أو نحو ذلك, فجعل الله تعالى منهم أمة قوية متحابة, وفتح بهم القلوب، قبل أن يفتح بهم الحُصون. وفي سُنيات معدودة طبّق دين الله تعالى الأرض المعمورة, وكل هذا ببركة القرآن, تمثّلوه فرفعهم الله تعالى به, ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلها. ولذلك كان ينبغي لكل عاقل، لبيب، حازم، أريب، أن يتوجه إلى النبع الأول, النبع الصافي، ويدع السّواقي, يَبتدئ بما أنزل الله على نبيه من الكتاب والحكمة, فيَعمد إلى الكتاب والسنة، يستقي منهما. وليس هذا تقليلاً من العلوم الفرعية؛ فإن العلوم الفرعية بمنزلة الآلة، أو الضَّوء، الذي يكشف بعض مراد الله عز وجل, لكن على الإنسان أن يَعمد إلى النبع فيستقي منه, فإذا وجدت ماء جارياً وله فروع, فإن الكسول يُمكن أن يذهب إلى إحدى هذه الفروع الضحلة، والسواقي فيملئ منها إناءه، ولكن صاحب الهمة يقول: مالي آخذ من هذه السواقي التي فيها شوب، وكدر، وطين، مع الماء! بل أذهب إلى هذه العين المتفجرة، المتدفقة، الصافية، فأستقي منها.
فلأجل هذا، رأيت عقد دروس في تفسير القرآن العظيم, حتى نعيش في روضات أنيقات، من كلام الله عز وجل، الذي به صلاح القلوب، وصلاح الحياة كلها, ورأيت التركيز على التفسير العقدي, فإنه أساس هذه الأمة، وأساس صلاح القلب, واخترت لهذا جزء عم, آخر أجزاء القرآن العظيم. ويظهر في سور هذا الجزء أثر الاعتقاد فيما أنزله الله تعالى على عباده، في العهد المكي. فكل سور هذا الجزء نزل بمكة باستثناء سورتين، هما سورة البيّنة، وسورة النصر. وما سواهما، فكله مكي. ويظهر فيه ملامح، وخصائص السور المكية من التركيز على مسائل الاعتقاد، والتوحيد، وأصول الإيمان، وما أحوجنا في هذا الزمان وفي كل زمان إلى استحياء هذه المعاني وتقويتها في القلوب والنفوس.
وسأتناول هذه السور، بإذن الله تعالى، على الطريقة التالية:
أولاً: أبين مقاصد السورة, فإن الله سبحانه وتعالى ما جعلها سورة مسوّرة إلا ولها موضوع، أو موضوعات مترابطة.
ثانياً: أقوم بتجزئة هذه السورة، إن كانت طويلة، إلى أجزاء ذات رابط موضوعي, فكل طائفة من الآيات تكون متناسبة فيما بينها عند التأمل.
ثالثاً: أشرع في التفسير التحليلي لهذه المقاطع, ببيان مفرداتها وما قيل فيها, وتراكيبها وما يفتح الله تعالى من علم وخير.
رابعاً: أقوم باستنباط الفوائد العقدية، والإيمانية، والتربوية المميزة، من هذا المقطع. وعلى هذا النهج أسير بعون الله تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري برقم (4981) ؛ ومسلم برقم (152).[/align]
التفسير العقدي لجزء عم
مقدمة
/* بقلم / د. أحمد بن عبد الرحمن القاضي */
الحمد لله رب العالمين وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله محمد وعلى آله وصحبه أجمعين, أما بعد:
فإن الله سبحانه وتعالى بعث نبيّه محمداً صلى الله عليه وسلم بالهدى، ودين الحق، ليظهره على الدين كله, فالهدى: هو العلم النافع. ودين الحق: هو العمل الصالح. وقد ضمّن الله تعالى ما أنزل على نبيّه من البينات، هذين الأمرين, فاحتوى كتاب الله عز وجل على كل ما يحتاجه الناس في أمر معاشهم، ومعادهم؛ من العقائد، والشرائع، والأخلاق، والآداب, فكان فيه غنية وكفاية.
وقد جعل الله تعالى كتابه آية خالدة، ومعجزة باهرة إلى يوم القيامة. وفي الحديث الصحيح، أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (مَا مِنْ الْأَنْبِيَاءِ نَبِيٌّ إِلَّا أُعْطِيَ مِنْ الْآيَاتِ مَا مِثْلُهُ آمَنَ عَلَيْهِ الْبَشَرُ, وَإِنَّمَا كَانَ الَّذِي أُوتِيتُهُ وَحْيًا أَوْحَاهُ اللَّهُ إِلَيَّ, فَأَرْجُو أَنِّي أَكْثَرُهُمْ تَابِعًا يَوْمَ الْقِيَامَةِ)(1), فهذا القرآن العظيم فيه الخير، والبركة، والصلاح، والفلاح، والنجاح، لهذه الأمة، ولجميع العالمين، إلى يوم القيامة.
وقد امتن الله تعالى على عباده المؤمنين بإنزال هذا الكتاب, وامتن على نبيّه بذلك وشرفه به فقال سبحانه: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيرًا) [الفرقان/1], وقال تعالى:{اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتَابًا مُتَشَابِهًا مَثَانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَقُلُوبُهُمْ إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ ذَلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ} [الزمر/23], وأقسم الله تعالى به في غير ما موضع، في كتابه؛ تعظيماً لشأنه، وتفخيماً له, ولم ينزل الله تعالى كتابه لأجل أن يُترنم بذكره، ويُتغنى به، فحسب, وإن كان هذا مراداً مقصوداً, ولكن أنزله عز وجل لما هو أعظم من ذلك؛ لتدبره وتعقله, قال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/2], وقال تعالى: {إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ قُرْآَنًا عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [يوسف/2] , وقال سبحانه: {كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ مُبَارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آَيَاتِهِ وَلِيَتَذَكَّرَ أُولُو الْأَلْبَابِ} [ص/29], وقال عز وجل:{وَهَذَا كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ مُبَارَكٌ} [الأنعام/92]
ففي القرآن العظيم بركة في تلاوته؛ لما يحدثه في نفس تاليه من السكينة والطمأنينة؛ لأنه أعظم ذكر لله, وقد قال الله تعالى: {الَّذِينَ آَمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلَا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ} [الرعد/28]
وكم من إنسان قلق، متوتر، فتح دفتي المِصْحَف، ورطّب لسانه بتلاوة آي الكتاب, فانقشعت عنه سحائب من الهموم، والغموم, وانجلت عن ناظريه الغشاوة، وعن أذنيه الوقَرْ، وعن قلبه الأكنة. وهو مبارك أيضاً فيما تضمّنه من العلوم النافعة, وأعظم ما فيه من العلوم: العلم بالله عز وجل. فلا سبيل لنا إلى العلم بالله تعالى، إلا فيما أودعه في كتابه, فقد تضمّن من أسماء الله الحسنى، وصفاته العُلى، الشيء الكثير، مما لا يخفى, فيحصل للقلب من تدبر هذه المعاني الجليلة في أسماء الله وصفاته، وأفعاله, ما يقع به تعظيم الرب وخشيته ومحبته ورجائه وسائر ما يتنعم به القلب من العبادات القلبية الباطنة.
وأودع الله تعالى فيه أيضاً من الشرائع العادلة مما يحتاجه الناس في عباداتهم وفي معاملاتهم وفي معاشرتهم لأهليهم مالا يبقى معه إشكال, فلم يدع شاذَّةً ولا فاذَّةً إلا وترك لنا منه علماً, وهو مبارك أيضاً في موعظته, فإن في القرآن موعظة لا توجد في غيره, وفيه تأثير على القلوب والله أعلم بمن خلق لا يحصل إلا به, وربما تفنن الوعاظ والمربون بأنواع المواعظ والتأثيرات وربما كان تأثيرها كبيراً, لكنه آنِيّ, أما موعظة القرآن فإنها باقية وثابتة ومؤثرة, فأعظم ما عالج به الإنسان قلبه كتاب الله عز وجل؛ ولهذا عَتِبَ الله تعالى على المؤمنين في أول الإسلام ما أصابهم من فتور, فقال سبحانه: { أَلَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آَمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَمَا نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ} [الحديد/16]. فلابد أن يُحدث هذا القرآن خشية وخشوعاً في القلب, وكأن الله سبحانه وتعالى يحضُّهم ويُحرضهم على تحصيل هذا الأثر, ثم قال: {وَلَا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ} [الحديد/16], فحذر الله تعالى من مشابهة أهل الكتاب، الذين جعلوا كتاب الله ظِهريّاً، ولم ينتفعوا به, فطال عليهم الأمد فقست قلوبهم, فكتاب الله بين ظهرانيهم، لكنهم لا يرفعون به رأساً.
ثم أردف الله تعالى هذه الآية بقوله: { اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِي الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِهَا قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآَيَاتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ} [الحديد/17], فلفت الله الأنظار إلى أن حاجة القلوب إلى موعظة القرآن، أعظم من حاجة الأرض الميتة إلى ماء السحاب, فلئن كان ماء السماء يُحيي الأرض بعد موتها، فيُنبت الزرع، ويدرُّ الضرع, فإن هذه القلوب أحوج إلى ما أنزل الله من كلامه، من الأرض الميتة إلى المطر, فإذا ما كان في قلبك مَوات، فأسقه بالقرآن العظيم. والقرآن العظيم مبارك في آثاره فإنه يُحدث آثاراً حميدة في الحياة الدنيا، وفي الآخرة، على مستوى الأفراد، وعلى مستوى الجماعات، وعلى مستوى الأمة بعمومها.
فالمرء إن اعتصم به، والتزم بهديه أصلح الله له حاله ورُزق الحياة الطيبة واطمأنت نفسه وهدأ باله وحصّل نعيم الدنيا المتمثل بلذة مناجاة الله تعالى.
والمجتمع إن التزم بتعاليمه، وحدوده، وُقي من الشرور، والآفات، وحُفظت الأسرة من الخلاف، والفرقة، والنزاع، ورُوعيت الحقوق، والذمم.
والأمة بمجموعها إن التزمت به حقق الله لها النصر والتمكين, قال تعالى: {الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقَامُوا الصَّلَاةَ وَآَتَوُا الزَّكَاةَ وَأَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَنَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَلِلَّهِ عَاقِبَةُ الْأُمُورِ} [الحج/41]، وقال سبحانه: {وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آَمَنُوا مِنْكُمْ وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَلَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضَى لَهُمْ وَلَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْنًا يَعْبُدُونَنِي لَا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئًا وَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذَلِكَ فَأُولَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ} [النور/55]
فالقرآن العظيم هو عهد ما بيننا وبين الله عز وجل, إن نحن التزمنا به، وعظّمناه، وقدّمناه، وجعلناه إماماً لنا، اهتدينا، وإن كانت الأخرى، فليس وراء ذلك إلا الضلال، والخسار، في الدنيا والآخرة.
ولا شك أن تلاوة كتاب الله، فهماً، وتدبراً، من أولى ما يكون, فإنه لا يخفى أن العلم الذي كان بين أيدي الصحابة، رضوان الله عليهم، هو هذا العلم المنزل من السماء؛ (القرآن العظيم), ولم يكن بين أيديهم شيئاً من هذه الكتب المطولات، ولا الشروحات، ولا ما تمتلئ به رفوف المكتبات، وإنما كان أحدهم يُقبل على هذا الدين بكُليته, فيقرع سمعه القرآن، فيستحيل خلقاً جديداً, فما أن يسمع كلام الله عز وجل، حتى يستيقظ من غفلته، ويصحوا من غفوته، ويعلم سر خلقه، وإيجاده, فيعود خلقاً جديداً، يُنشئه الله نشأة أخرى. ولهذا صنع الله بأصحاب نبيه صلى الله عليه وسلم من الكرامة والخير والتمكين مالا يخفى قال تعالى: { لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آَيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران/164]. فكانوا في جاهلية جهلاء, وضلالة عمياء, فبعث الله نبيه صلى الله عليه وسلم في هذه الأمة العربية، التي كان بعضها يأكل بعضاً، وينزو بعضها على بعض, ويقتتلون السنين الطوال، من أجل بيت شِعْر، أو شطره، أو لأجل بعير، أو مرعى، أو ماء، أو نحو ذلك, فجعل الله تعالى منهم أمة قوية متحابة, وفتح بهم القلوب، قبل أن يفتح بهم الحُصون. وفي سُنيات معدودة طبّق دين الله تعالى الأرض المعمورة, وكل هذا ببركة القرآن, تمثّلوه فرفعهم الله تعالى به, ولن يُصلح آخر هذه الأمة إلا ما أصلح أوّلها. ولذلك كان ينبغي لكل عاقل، لبيب، حازم، أريب، أن يتوجه إلى النبع الأول, النبع الصافي، ويدع السّواقي, يَبتدئ بما أنزل الله على نبيه من الكتاب والحكمة, فيَعمد إلى الكتاب والسنة، يستقي منهما. وليس هذا تقليلاً من العلوم الفرعية؛ فإن العلوم الفرعية بمنزلة الآلة، أو الضَّوء، الذي يكشف بعض مراد الله عز وجل, لكن على الإنسان أن يَعمد إلى النبع فيستقي منه, فإذا وجدت ماء جارياً وله فروع, فإن الكسول يُمكن أن يذهب إلى إحدى هذه الفروع الضحلة، والسواقي فيملئ منها إناءه، ولكن صاحب الهمة يقول: مالي آخذ من هذه السواقي التي فيها شوب، وكدر، وطين، مع الماء! بل أذهب إلى هذه العين المتفجرة، المتدفقة، الصافية، فأستقي منها.
فلأجل هذا، رأيت عقد دروس في تفسير القرآن العظيم, حتى نعيش في روضات أنيقات، من كلام الله عز وجل، الذي به صلاح القلوب، وصلاح الحياة كلها, ورأيت التركيز على التفسير العقدي, فإنه أساس هذه الأمة، وأساس صلاح القلب, واخترت لهذا جزء عم, آخر أجزاء القرآن العظيم. ويظهر في سور هذا الجزء أثر الاعتقاد فيما أنزله الله تعالى على عباده، في العهد المكي. فكل سور هذا الجزء نزل بمكة باستثناء سورتين، هما سورة البيّنة، وسورة النصر. وما سواهما، فكله مكي. ويظهر فيه ملامح، وخصائص السور المكية من التركيز على مسائل الاعتقاد، والتوحيد، وأصول الإيمان، وما أحوجنا في هذا الزمان وفي كل زمان إلى استحياء هذه المعاني وتقويتها في القلوب والنفوس.
وسأتناول هذه السور، بإذن الله تعالى، على الطريقة التالية:
أولاً: أبين مقاصد السورة, فإن الله سبحانه وتعالى ما جعلها سورة مسوّرة إلا ولها موضوع، أو موضوعات مترابطة.
ثانياً: أقوم بتجزئة هذه السورة، إن كانت طويلة، إلى أجزاء ذات رابط موضوعي, فكل طائفة من الآيات تكون متناسبة فيما بينها عند التأمل.
ثالثاً: أشرع في التفسير التحليلي لهذه المقاطع, ببيان مفرداتها وما قيل فيها, وتراكيبها وما يفتح الله تعالى من علم وخير.
رابعاً: أقوم باستنباط الفوائد العقدية، والإيمانية، والتربوية المميزة، من هذا المقطع. وعلى هذا النهج أسير بعون الله تعالى.
--------------------------------------------------------------------------------
(1) أخرجه البخاري برقم (4981) ؛ ومسلم برقم (152).[/align]