التعليق على تفسير ابن جرير الطبري من المجلس الحادي عشر إلى المجلس الحادي والعشرين

إنضم
29 يناير 2012
المشاركات
45
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الحادي عشر: (10 - 4 - 1435)
التاريخ: 11 - 5 - 1435 الموافق 12/03/2014
عدد الزيارات: 199
اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1: 228 - 230].
قال الطبري رحمه الله تعالى:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2]، قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ: تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] هَذَا الْكِتَابُ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ وبإسناده، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] قَالَ: هُوَ هَذَا الْكِتَابُ ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: " {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] هَذَا الْكِتَابُ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي قَوْلِهِ: " {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] قَالَ: هَذَا الْكِتَابُ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَوْلُهُ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] هَذَا الْكِتَابُ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] هَذَا الْكِتَابُ " .
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ بِمَعْنَى هَذَا؟ وَهَذَا لَا شَكَّ إِشَارَةٌ إِلَى حَاضِرٍ مُعَايَنٌ، وَذَلِكَ إِشَارَةٌ إِلَى غَائِبٍ غَيْرِ حَاضِرٍ وَلَا مُعَايَنٍ؟ قِيلَ: جَازَ ذَلِكَ لِأَنَّ كُلَّ مَا تَقَضَّى وَقَرُبَ تَقَضِّيهِ مِنَ الْأَخْبَارِ فَهُوَ وَإِنْ صَارَ بِمَعْنَى غَيْرِ الْحَاضِرِ، فَكَالْحَاضِرِ عِنْدَ الْمُخَاطَبِ؛ وَذَلِكَ كَالرَّجُلِ يُحَدِّثُ الرَّجُلَ الْحَدِيثَ، فَيَقُولُ السَّامِعُ: إِنَّ ذَلِكَ وَاللَّهِ لَكُمَا قُلْتَ، وَهَذَا وَاللَّهِ كَمَا قُلْتَ، وَهُوَ وَاللَّهِ كَمَا ذَكَرْتَ. فَيُخْبِرُ عَنْهُ مَرَّةً بِمَعْنَى الْغَائِبِ إِذْ كَانَ قَدْ تَقَضَّى وَمَضَى، وَمَرَّةً بِمَعْنَى الْحَاضِرِ لِقُرْبِ جَوَابِهِ مِنْ كَلَامِ مُخْبِرِهِ كَأَنَّهُ غَيْرُ مُنْقَضٍ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ {الم} [البقرة: 1] الَّتِي ذَكَرْنَا تَصَرُّفَهَا فِي وُجُوهِهَا مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا وَصَفْنَا، قَالَ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ هَذَا الَّذِي ذَكَرْتُهُ وَبَيَّنْتُهُ لَكَ الْكِتَابُ. وَلِذَلِكَ حَسُنَ وَضْعُ ذَلِكَ فِي مَكَانِ هَذَا، لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْخَبَرِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: {الم} [البقرة: 1] مِنَ الْمَعَانِي بَعْدَ تَقَضِّي الْخَبَرُ عَنْهُ {الم} [البقرة: 1] ، فَصَارَ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مِنْ تَقَضِّيهِ كَالْحَاضِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَأُخْبِرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِانْقِضَائِهِ وَمَصِيرِ الْخَبَرِ عَنْهُ كَالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ. وَتَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ أَنَّهُ بِمَعْنَى هَذَا لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مِنِ انْقِضَائِهِ، فَكَانَ كَالِمُشَاهَدِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ بِهَذَا نَحْوَ الَّذِي وَصَفْنَا مِنَ الْكَلَامِ الْجَارِي بَيْنَ النَّاسِ فِي مُحَاوَرَاتِهِمْ، وَكَمَا قَالَ جَلَّ ذِكْرُهُ: {وَاذْكُرْ إِسْمَاعِيلَ وَالْيَسَعَ وَذَا الْكِفْلِ وَكُلٌّ مِنَ الْأَخْيَارِ هَذَا ذِكْرٌ} [ص: 49] فَهَذَا مَا فِي ذَلِكَ إِذَا عَنَى بِهَا هَذَا.)).

التعليق:
قوله: ((قَالَ عَامَّةُ الْمُفَسِّرِينَ))، هذا من مصطلحات الطبري - وإن لم تكن شائعة في استخدامه -، وذكر أربعة من السلف ممن قال بأن ذلك بمعنى هذا .
وذكر الاستشكال الذي مفاده، أن دلالة (هذا) غير دلالة (ذلك)، فذلك إشارة إلى غائب بعيد، وهذا إشارة إلى حاضر قريب .
وأشار إلى الجواب بقوله: ((وَلِذَلِكَ حَسُنَ وَضْعُ ذَلِكَ فِي مَكَانِ هَذَا، لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِهِ إِلَى الْخَبَرِ عَمَّا تَضَمَّنَهُ قَوْلُهُ: {الم} [البقرة: 1] مِنَ الْمَعَانِي بَعْدَ تَقَضِّي الْخَبَرُ عَنْهُ {الم} [البقرة: 1] ، فَصَارَ لِقُرْبِ الْخَبَرِ عَنْهُ مِنْ تَقَضِّيهِ كَالْحَاضِرِ الْمُشَارِ إِلَيْهِ، فَأُخْبِرَ عَنْهُ بِذَلِكَ لِانْقِضَائِهِ وَمَصِيرِ الْخَبَرِ عَنْهُ كَالْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ.)), فكأنه يقول: أنه قد روعي المخاطب، فإنه حاضر في ذهنه، فصار بذلك هذا وذلك سواء في هذا الموضع .
وهناك فرق بين التفسير والدلالات، فإنه ومع تفسير ذلك بمعنى هذا، إلا أنها لا تفقد دلالاتها، ولذلك تصلح للبحث المفرد في علم اللغة والنحو والبلاغة .
والتعبير بذلك إشارة إلى بعد منزلة الكتاب .
وقوله: ((فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] لِأَنَّهُ جَلَّ ذِكْرُهُ لَمَّا قَدَّمَ قَبْلَ ذَلِكَ الْكِتَابَ {الم} [البقرة: 1] الَّتِي ذَكَرْنَا تَصَرُّفَهَا فِي وُجُوهِهَا مِنَ الْمَعَانِي عَلَى مَا وَصَفْنَا.)).
وهنا سيني مسألة علمية في إعراب ذلك، مرتبطة بالمعنى .
وقد سلك الزمخشري مسلك الطبري في ربط (ذلك) بـ (الم)، لكنه انطلق من منطلق مختلف، فهو لا يتبنى كون (الم) لها معنى، وإنما يتبنى المدلول عليه، وهو التحدي والإعجاز، فبنى عليه .
[1: 230]
قال الطبري:
((وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُهُ جَلَّ ذِكْرُهُ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] أَنْ يَكُونَ مَعْنِيًّا بِهِ السُّوَرُ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ بِمَكَّةَ وَالْمَدِينَةِ، فَكَأَنَّهُ قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لِنَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: يَا مُحَمَّدُ اعْلَمْ أَنَّ مَا تَضَمَّنَتْهُ سُوَرُ الْكِتَابِ الَّتِي قَدْ أَنْزَلْتُهَا إِلَيْكَ هُوَ الْكِتَابُ الَّذِي لَا رَيْبَ فِيهِ. ثُمَّ تَرْجَمَهُ الْمُفَسِّرُونَ بِأَنَّ مَعْنَى ذَلِكَ: هَذَا الْكِتَابُ، إِذْ كَانَتْ تِلْكَ السُّوَرُ الَّتِي نَزَلَتْ قَبْلَ سُورَةِ الْبَقَرَةِ مِنْ جُمْلَةِ جَمِيعِ كِتَابِنَا هَذَا الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى نَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.)).

التعليق:

إذا كان هذا التوجيه فيه إشارة إلى أمر قد مضى، لا إلى شيء حاضر فلا إشكال في التعبير بذلك.
وقوله رحمه الله: (وقد ترجمه المفسرون)، وقوله:( ثم ترجمه المفسرون)، بيانٌ أن التفسير عبارة عن ترجمة من لغة إلى أخرى، أو من اللغة إلى نفسها .
قال رحمه الله:
((وَكَانَ التَّأْوِيلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِمَا قَالَهُ الْمُفَسِّرُونَ؛ لِأَنَّ ذَلِكَ أَظْهَرُ مَعَانِي قَوْلِهِمْ الَّذِي قَالُوهُ فِي ذَلِكَ. وَقَدْ وَجَّهَ مَعْنَى ذَلِكَ بَعْضُهُمْ إِلَى نَظِيرِ مَعْنَى بَيْتِ خُفَافِ بْنِ نُدْبَةَ السُّلَمِيِّ:
فَإِنْ تَكُ خَيْلِي قَدْ أُصِيبَ صَمِيمُهَا ... فَعَمْدًا عَلَى عَيْنٍ تَيَمَّمْتُ مَالِكَا
أَقُولُ لَهُ وَالرُّمْحُ يَأْطُرُ مَتْنَهُ ... تَأَمَّلْ خُفَافًا إِنَّنِي أَنَا ذَلِكَا
كَأَنَّهُ أَرَادَ: تَأَمَّلْنِي أَنَا ذَلِكَ. فَرَأَى أَنَّ {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] بِمَعْنَى هَذَا نَظِيرُ مَا أَظْهَرَ خُفَافٌ مِنَ اسْمِهِ عَلَى وَجْهِ الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ وَهُوَ مُخْبِرٌ عَنْ نَفْسِهِ، فَكَذَلِكَ أَظْهَرَ ذَلِكَ بِمَعْنَى الْخَبَرِ عَنِ الْغَائِبِ، وَالْمَعْنَى فِيهِ الْإِشَارَةُ إِلَى الْحَاضِرِ الْمَشَاهِدِ.
وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ لِمَا ذَكَرْنَا مِنَ الْعِلَلِ.)).

التعليق:

هذا القول يتفق مع القول الأول، لكنه يختلف في التوجيه اللغوي، فهذا جعله من باب التجريد.
تنبيه:

قال الطبري رحمه الله [1: 7]:
((وَنَحْنُ فِي شَرْحِ تَأْوِيلِهِ، وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِيهِ ـ: مُنْشِئُونَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا، وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَاخْتِلَافِهَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنْهُ، وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، بِأَوْجَزِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِيجَازِ فِي ذَلِكَ، وَأَخْصَرِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الِاخْتِصَارِ فِيهِ.)).

فهذا الذي معنا نموذج من نماذج منهج الطبري رحمه الله في كتابه، ومنهج الطبري في موضعين، الأول منهما مبين في الكلام السابق، والثاني: كلامه في وجوه تأويل القرآن.
قال الطبري:
((وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: {ذَلِكَ الْكِتَابُ} [البقرة: 2] يَعْنِي بِهِ التَّوْرَاةَ وَالْإِنْجِيلَ، وَإِذَا وُجِّهَ تَأْوِيلُ ذَلِكَ إِلَى هَذَا الْوَجْهِ فَلَا مُؤْنَةَ فِيهِ عَلَى مُتَأَوِّلِهِ كَذَلِكَ لِأَنَّ ذَلِكَ يَكُونُ حِينَئِذٍ إِخْبَارًا عَنْ غَائِبٍ عَلَى صِحَّةٍ)).

هنا سؤال، هل هذا القول معتبر عند الطبري أم لا ؟
الجواب:

1- عدم ذكره لمن قاله دليل على عدم اعتباريته .
2- أنه ذكره بعد أن انتهى من ترجيحه .
فهذه دلائل على ضعف هذا القول عنده، وهذا غالباً من منهجه في تضعيف القول، وهو أن يورده في آخر الأقوال ولا يذكر اسم قائله.
مسألة في قوله تعالى: {ذلك الكتاب}:
هل المراد كل الكتاب، أم السورة، أم المقطع من السورة، أم المراد ما نزل قبله ؟!
بعضهم أراد أن يطعن في القرآن من جهة أنه سماه كتابًا قبل أن يكتمل نزوله .
وهذا في حقيقته جهل بكلام العرب وتصرفهم في الكلام، فإن العرب تعبر عن الجزء بالكل، وتعبر عما سيأتي بما هو آت، فهو أسلوب جارٍ ومعروف عند العرب .
بل سمى الله القرآن كتابًا قبل أن تكتمل كتابته إشارة إلى أن مآله إلى أن يكون مكتوبًا، ففيه إخبار بالغيب .
فائدة: اختصاص القرآن باسم الكتاب، وإطلاقه عليه من باب العلمية = هو من باب الغلبة لاستحقاق القرآن له .
[1: 231 - 233]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لَا شَكَّ فِيهِ،
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] ، قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ ".
وبإسناده، عَنْ عَطَاءٍ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، قَالَ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لَا شَكَّ فِيهِ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لَا شَكَّ فِيهِ "
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] قَالَ: لَا شَكَّ فِيهِ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] يَقُولُ لَا شَكَّ فِيهِ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] يَقُولُ: لَا شَكَّ فِيهِ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَوْلُهُ: " {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] يَقُولُ: لَا شَكَّ فِيهِ " وَهُوَ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكِ: رَابَنِي الشَّيْءُ يُرِيبُنِي رَيْبًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ سَاعِدَةَ بْنِ جُؤَيَّةَ الْهُذَلِيِّ.
فَقَالُوا تَرَكْنَا الْحَيَّ قَدْ حَصِرُوا بِهِ ... فَلَا رَيْبَ أَنْ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ
وَيُرْوَى: حَصَرُوا، وَحَصِرُوا، وَالْفَتْحُ أَكْثَرُ، وَالْكَسْرُ جَائِزٌ. يَعْنِي بِقَوْلِهِ: حَصِرُوا بِهِ أَطَافُوا بِهِ، وَيَعْنِي بِقَوْلِهِ، {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لَا شَكَّ فِيهِ، وَبِقَوْلِهِ: أَنْ قَدْ كَانَ ثَمَّ لَحِيمُ يَعْنِي قَتِيلًا، يُقَالُ، قَدْ لُحِمَ إِذَا قُتِلَ.)).

التعليق:
ابتدأ الطبري رحمه الله تفسيره للآية بقوله: ((وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {لَا رَيْبَ فِيهِ} [البقرة: 2] لَا شَكَّ فِيهِ)). ثم استدل على قوله ذلك بأقوال الصحابة والتابعين .
ولم يقع بينهم خلاف في ذلك .
وأما ما حكاه بعضهم من التفريق بين الريب والشك، لا يعارض ما ذكر عن السلف، فهو من باب تقريب المعنى لا تحريره .
وتحرير المعنى، كل شك ريب، وليس كل ريب شكًا .
قال الطبري:
((وَالْهَاءُ الَّتِي فِي فِيهِ. عَائِدَةٌ عَلَى الْكِتَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: لَا شَكَّ فِي ذَلِكَ الْكِتَابِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ)).
وهناك اتفاق على عود الهاء على الكتاب .
ومعنى الكلام عند الطبري: لا ريب في أن الكتاب من عند الله تعالى .
وبعضهم قال لا ريب فيه، أي: ليس هناك مكان لوقوع الريب فيه .
وقيل: أي لا ترتابوا فيه، وفيه ضعف .
[1: 233 - 234]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {هُدًى} [البقرة: 2].
وبإسناده، عَنِ الشَّعْبِيِّ: " {هُدًى} [البقرة: 2] قَالَ، هُدًى مِنَ الضَّلَالَةِ ".
وبإسناده، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] يَقُولُ: نُورٌ لِلْمُتَّقِينَ " وَالْهُدَى فِي هَذَا الْمَوْضِعِ مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ هَدَيْتُ فُلَانًا الطَّرِيقَ إِذَا أَرْشَدْتُهُ إِلَيْهِ. وَدَلَلْتُهُ عَلَيْهِ، وَبَيَّنْتُهُ لَهُ، أَهَدِيهِ هُدًى وَهِدَايَةً. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَوَمَا كِتَابُ اللَّهِ نُورًا إِلَّا لِلْمُتَّقِينَ وَلَا رَشَادًا إِلَّا لِلْمُؤْمِنِينَ؟ قِيلَ: ذَلِكَ كَمَا وَصَفَهُ رَبُّنَا عَزَّ وَجَلَّ، وَلَوْ كَانَ نُورًا لِغَيْرِ الْمُتَّقِينَ، وَرَشَادًا لِغَيْرِ الْمُؤْمِنِينَ لَمْ يُخَصِّصِ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ الْمُتَّقِينَ بِأَنَّهُ لَهُمْ هُدًى، بَلْ كَانَ يَعُمُّ بِهِ جَمِيعَ الْمُنْذَرِينَ؛ وَلَكِنَّهُ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ، وَشِفَاءٌ لِمَا فِي صُدُورِ الْمُؤْمِنِينَ، وَوَقْرٌ فِي آذَانِ الْمُكَذِّيِينَ، وَعَمًى لِأَبْصَارِ الْجَاحِدِينَ. وَحُجَّةٌ لِلَّهِ بَالِغَةٌ عَلَى الْكَافِرِينَ؛ فَالْمُؤْمِنُ بِهِ مُهْتَدٍ، وَالْكَافِرُ بِهِ مَحْجُوجٌ.)).

التعليق:
لم يذكر الطبري القول الذي اختاره، وإنما ذكر أقوال السلف، ودل كلامه أن المقصود بالهدى المعنى الشرعي، الذي هو التوفيق للخير .
وتفسير السدي جعل الهدى هو النور وهو تقريب للمعنى، فإن النور أثر من آثار الهدى .
[1: 237]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2].
وبإسناده، عَنِ الْحَسَنِ، قَوْلُهُ: " {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قَالَ: اتَّقَوْا مَا حَرَّمَ عَلَيْهِمْ وَأَدَّوْا مَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] أَيِ الَّذِينَ يَحْذَرُونَ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ عُقُوبَتَهُ فِي تَرْكِ مَا يَعْرِفُونَ مِنَ الْهُدَى، وَيَرْجُونَ رَحْمَتَهُ بِالتَّصْدِيقِ بِمَا جَاءَ بِهِ ".
وبإسناده، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قَالَ: هُمُ الْمُؤْمِنُونَ ".
وبإسناده، أن أَبا بَكْر بْن عَيَّاشٍ، قَالَ: " سَأَلَنِي الْأَعْمَشُ عَنِ الْمُتَّقِينَ؟ قَالَ: فَأَجَبْتُهُ، فَقَالَ لِي: سُئِلَ عَنْهَا الْكَلْبِيُّ، فَسَأَلْتُهُ فَقَالَ: «الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبَائِرَ الْإِثْمِ» قَالَ: فَرَجَعْتُ إِلَى الْأَعْمَشِ، فَقَالَ: نَرَى أَنَّهُ كَذَلِكَ وَلَمْ يُنْكِرْهُ.
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: " {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] هُمْ مَنْ نَعَتَهُمْ وَوَصَفَهُمْ فَأَثْبَتَ صِفَتَهُمْ فَقَالَ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] قَالَ: الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَتَّقُونَ الشِّرْكَ وَيَعْمَلُونَ بِطَاعَتِي " وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] تَأْوِيلُ مَنْ وَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، فَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ وَاتَّقَوْهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ فَأَطَاعُوهُ بِأَدَائِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى فَلَمْ يَحْصُرْ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ عَلَى بَعْضِ مَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ. فَلَيْسَ لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ أَنْ يَحْصُرَ مَعْنَى ذَلِكَ عَلَى وَصْفِهِمْ بِشَيْءٍ مِنْ تَقْوَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ شَيْءِ إِلَّا بِحَجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا، لِأَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَةِ الْقَوْمِ لَوْ كَانَ مَحْصُورًا عَلَى خَاصٍّ مِنْ مَعَانِي التَّقْوَى دُونَ الْعَامِ مِنْهَا لَمْ يَدَعِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بَيَانَ ذَلِكَ لِعِبَادِهِ، إِمَّا فِي كِتَابِهِ، وَإِمَّا عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ؛ إِذْ لَمْ يَكُنْ فِي الْعَقْلِ دَلِيلٌ عَلَى اسْتِحَالَةِ وَصْفِهِمْ بِعُمُومِ التَّقْوَى. فَقَدْ تَبَيَّنَ إِذًا بِذَلِكَ فَسَادُ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ تَأْوِيلَ ذَلِكَ إِنَّمَا هُوَ: الَّذِينَ اتَّقَوُا الشِّرْكَ وَبَرَءُوا مِنَ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُ قَدْ يَكُونُ كَذَلِكَ وَهُوَ فَاسِقٌ غَيْرُ مُسْتَحِقٌّ أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُتَّقِينَ. إِلَّا أَنْ يَكُونَ عِنْدَ قَائِلِ هَذَا الْقَوْلِ مَعْنَى النِّفَاقِ رُكُوبَ الْفَوَاحِشِ الَّتِي حَرَّمَهَا اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ وَتَضْيِيعَ فَرَائِضِهِ الَّتِي فَرَضَهَا عَلَيْهِ، فَإِنَّ جَمَاعَةً مِنْ أَهْلِ الْعِلْمِ قَدْ كَانَتْ تُسَمِّي مَنْ كَانَ يَفْعَلُ ذَلِكَ مُنَافِقًا، فَيَكُونُ، وَإِنْ كَانَ مُخَالِفًا فِي تَسْمِيَتِهِ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ بِهَذَا الِاسْمِ، مُصِيبًا تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِلْمُتَّقِينَ .)).

التعليق:
النعوت التي ذكرها عن السلف نعوت عامة، وليست خاصة بنوع مما يتقى .
فائدة:

وقف الطبري رحمه في إسناد السدي، قال: ((وإن كنت في إسناده مرتابًا)).
فإن السدي لم يميز الأقوال، وقد ارتاب الطبري من هذه الجهة كما ذكر آل شاكر .
ولكنه يذكره ولا يعترض عليه طالما أنها سليمة المعنى لا إشكال فيها .
وذكر أولى التأويلات بقوله:
((وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {هُدًى لِلْمُتَّقِينَ} [البقرة: 2] تَأْوِيلُ مَنْ وَصَفَ الْقَوْمَ بِأَنَّهُمُ الَّذِينَ اتَّقَوُا اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي رُكُوبِ مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، فَتَجَنَّبُوا مَعَاصِيَهُ وَاتَّقَوْهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ مِنْ فَرَائِضِهِ فَأَطَاعُوهُ بِأَدَائِهَا. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى فَلَمْ يَحْصُرْ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ عَلَى بَعْضِ مَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ.)).

ثم نبه على مسائل مهمة في مساق حجته، فقال: ((وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِالتَّقْوَى فَلَمْ يَحْصُرْ تَقْوَاهُمْ إِيَّاهُ عَلَى بَعْضِ مَا هُوَ أَهْلٌ لَهُ مِنْهُمْ دُونَ بَعْضٍ.)) أي:
1- أنه لا يجعل أمر على سبيل الخصوص إلا أن يكون التخصيص في كتاب الله.
2- أو أن يخصه النبي .
3- أو أن يدل العقل على التخصيص .
وهنا مسألة مهمة، وهو العقل (الاجتهاد) وأثره في التفسير .
ولذا فإن الطبري رحمه الله في تفسيره يحتج بالمأثور، وكذلك بالعقل في تفسيره إذا لم يعارض ما سبق.
[1: 240 - 241]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] قَالَ: يُصَدِّقُونَ ".
وبإسناده، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] يُصَدِّقُونَ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ: " {يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 3] يَخْشَوْنَ ".
وبإسناده، عَنْ مَعْمَرٍ، قَالَ: قَالَ الزُّهْرِيُّ: " الْإِيمَانُ: الْعَمَلُ ".
وبإسناده، عَنْ أَبِي الْأَحْوَصِ، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ، قَالَ: "الْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ " وَمَعْنَى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ: التَّصْدِيقُ فَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ، وَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ مُؤْمِنًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] يَعْنِي: وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا. وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ. وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ وَأَشْبَهُ بِصِفَةِ الْقَوْمِ: أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ، قَوْلًا، وَاعْتِقَادًا، وَعَمَلًا، إِذْ كَانَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمْ يَحْصُرْهُمْ مِنْ مَعْنَى الْإِيمَانِ عَلَى مَعْنَى دُونَ مَعْنَى، بَلْ أَجْمَلَ وَصْفَهُمْ بِهِ مِنْ غَيْرِ خُصُوصِ شَيْءٍ مِنْ مَعَانِيهِ أَخْرَجَهُ مِنْ صِفَتِهِمْ بِخَبَرٍ وَلَا عَقْلٍ.)).

التعليق:

ذكر هنا ثلاثة أقوال عن السلف في تفسير الإيمان، وأنه بمعنى:
1- التصديق .
2- الخشية .
3- العمل .
فمن قال التصديق، فهي كلمة عامة، أما من قال الخشية فكأنه إشارة إلى عمل القلب، ومن قال إنه العمل فهو إشارة إلى عمل الجوارح .
وكأن في كلامه ردٌ على المرجئة الذين يزعمون أن الإيمان هو التصديق فقط .
تنبيه:
ذكر هنا - أيضًا - أن موجب التخصيص قد يكون خبرًا أو عقلًا .
[1: 241 - 242]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3].
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قَالَ: بِمَا جَاءَ بِهِ، يَعْنِي مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ: " {بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] أَمَّا الْغَيْبُ: فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَأَمْرِ النَّارِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي الْقُرْآنِ. لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ، يَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ، مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ ".
وبإسناده، عَنْ عَاصِمٍ، عَنْ زِرٍّ، قَالَ: " الْغَيْبُ: الْقُرْآنُ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] قَالَ: آمَنُوا بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ بَعْدَ الْمَوْتِ وَبِيَوْمِ الْقِيَامَةِ، وَكُلُّ هَذَا غَيْبٌ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] آمَنُوا بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ وَجَنَّتِهِ وَنَارِهِ وَلِقَائِهِ، وَآمَنُوا بِالْحَيَاةِ بَعْدَ الْمَوْتِ، فَهَذَا كُلُّهُ غَيْبٌ وَأَصْلُ الْغَيْبِ: كُلُّ مَا غَابَ عَنْكَ مِنْ شَيْءٍ، وَهُوَ مِنْ قَوْلِكَ: غَابَ فُلَانٌ يَغِيبُ غَيْبًا ".)).

التعليق:

ذكر هنا مجموعة من الأقاويل وكلها متقاربة في معنى الغيب، وهو أنه كل ما غاب عنك مما أخبر به القرآن .
فهذه التعبيرات كلها - مثال - للغيب فهو من باب التفسير بالمثال .
______________________________
(*) المادة الصوتية .
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري، المجلس الثاني عشر: (17 - 4 - 1435)
التاريخ: 11 - 5 - 1435 الموافق 12/03/2014
عدد الزيارات: 199

اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1: 242]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى. {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3].
... وَقَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي أَعْيَانِ الْقَوْمِ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ فِيهِمْ، وَفِي نَعْتِهِمْ وَصِفَتِهِمْ الَّتِي وَصَفَهُمْ بِهَا مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ، وَسَائِرِ الْمَعَانِي الَّتِي حَوَتْهَا الْآيَتَانِ مِنْ صِفَاتِهِمْ غَيْرِهِ. فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُمْ مُؤْمِنُو الْعَرَبِ خَاصَّةً، دُونَ غَيْرِهِمْ مِنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ. وَاسْتَدَلُّوا عَلَى صِحَّةِ قَوْلِهِمْ ذَلِكَ وَحَقِيقَةِ تَأْوِيلِهِمْ بِالْآيَةِ الَّتِي تَتْلُو هَاتَيْنِ الْآيَتَيْنِ، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] قَالُوا: فَلَمْ يَكُنْ لِلْعَرَبِ كِتَابٌ قَبْلَ الْكِتَابِ الَّذِي أَنْزَلَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَدِينُ بِتَصْدِيقِهِ وَالْإِقْرَارِ وَالْعَمَلِ بِهِ، وَإِنَّمَا كَانَ الْكِتَابُ لِأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ غَيْرَهَا. قَالُوا: فَلَمَّا قَصَّ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ نَبَأَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ نَبَأَ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ، عَلِمْنَا أَنَّ كُلَّ صِنْفٍ مِنْهُمْ غَيْرُ الصِّنْفِ الْآخَرِ، وَأَنَّ الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ نَوْعٌ غَيْرُ النَّوْعِ الْمُصَدِّقِ بِالْكِتَابَيْنِ اللَّذَيْنِ أَحَدُهُمَا مُنَزَّلٌ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَالْآخَرُ مِنْهُمَا عَلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ. قَالُوا: وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ صَحَّ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ تَأْوِيلَ قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] إِنَّمَا هُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا غَابَ عَنْهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْبَعْثِ، وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَمَلَائِكَتِهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَجَمِيعِ مَا كَانَتِ الْعَرَبُ لَا تَدِينُ بِهِ فِي جَاهِلَيَّتِهَا، بِمَا أَوْجَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَى عِبَادِهِ الدَّيْنُونَةَ بِهِ دُونَ غَيْرِهِمْ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمَّا: " {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] أَمَّا الْغَيْبُ: فَمَا غَابَ عَنِ الْعِبَادِ مِنْ أَمْرِ الْجَنَّةِ وَالنَّارِ، وَمَا ذَكَرَ اللَّهُ فِي الْقُرْآنِ. لَمْ يَكُنْ تَصْدِيقُهُمْ بِذَلِكَ مِنْ قِبَلِ أَصْلِ كِتَابٍ أَوْ عِلْمٍ كَانَ عِنْدَهُمْ. {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ".
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ نَزَلَتْ هَذِهِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ فِي مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ خَاصَّةً، لِإِيمَانِهِمْ بِالْقُرْآنِ عِنْدَ إِخْبَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ فِيهِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي كَانُوا يُخْفُونَهَا بَيْنَهُمْ وَيُسِرُّونَهَا، فَعَلِمُوا عِنْدَ إِظْهَارِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْهُمْ فِي تَنْزِيلِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، فَآمَنُوا بِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَصَدَّقُوا بِالْقُرْآنِ وَمَا فِيهِ مِنَ الْإِخْبَارِ عَنِ الْغُيُوبِ الَّتِي لَا عِلْمَ لَهُمْ بِهَا لَمَّا اسْتَقَرَّ عِنْدَهُمْ بِالْحُجَّةِ الَّتِي احْتَجَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِهَا عَلَيْهِمْ فِي كِتَابِهِ، مِنَ الْإِخْبَارِ فِيهِ عَمَّا كَانُوا يَكْتُمُونَهُ مِنْ ضَمَائِرِهِمْ؛ أَنَّ جَمِيعَ ذَلِكَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلِ الْآيَاتُ الْأَرْبَعُ مِنْ أَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ أُنْزِلَتْ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ بِوَصْفِ جَمِيعِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ ذَلِكَ صِفَتُهُمْ مِنَ الْعَرَبِ وَالْعَجَمِ وَأَهْلِ الْكِتَابَيْنِ وَسِوَاهُمْ، وَإِنَّمَا هَذِهِ صِفَةُ صِنْفٍ مِنَ النَّاسِ، وَالْمُؤْمِنُ بِمَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِهِ هُوَ الْمُؤْمِنُ بِالْغَيْبِ. قَالُوا: وَإِنَّمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِالْإِيمَانِ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ بَعْدَ تَقَضِّي وَصْفُهُ إِيَّاهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ؛ لِأَنَّ وَصْفَهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ كَانَ مَعْنِيًّا بِهِ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْبَعْثِ، وَسَائِرِ الْأُمُورِ الَّتِي كَلَّفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِالْإِيمَانِ بِهَا مِمَّا لَمْ يَرْوِهِ وَلَمْ يَأْتِ بَعْدُ مِمَّا هُوَ آتٍ، دُونَ الْإِخْبَارِ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُؤْمِنُونَ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ وَالْكُتُبِ. قَالُوا: فَلَمَّا كَانَ مَعْنَى قَوْلِهِ {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] غَيْرَ مَوْجُودٍ فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] كَانَتِ الْحَاجَةُ مِنَ الْعِبَادِ إِلَى مَعْرِفَةِ صِفَتِهِمْ بِذَلِكَ لِيُعَرِّفَهُمْ نَظِيرَ حَاجَتِهِمْ إِلَى مَعْرِفَتِهِمْ بِالصِّفَةِ الَّتِي وُصِفُوا بِهَا مِنْ إِيمَانِهِمْ بِالْغَيْبِ لِيَعْلَمُوا مَا يُرْضِي اللَّهَ مِنْ أَفْعَالِ عِبَادِهِ، وَيُحِبُّهُ مِنْ صِفَاتِهِمْ، فَيَكُونُوا بِهِ إِنْ وَفَّقَهُمْ لَهُ رَبُّهُمْ مُؤْمِنِينَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ .
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ وَآيَتَانِ فِي نَعْتِ الْكَافِرِينَ وَثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي الْمُنَافِقِينَ».
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: «أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ فَاتِحَةِ هَذِهِ السُّورَةِ، يَعْنِي سُورَةَ الْبَقَرَةِ، فِي الَّذِينَ آمَنُوا، وَآيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ» وَأَوْلَى الْقَوْلَيْنِ عِنْدِي بِالصَّوَابِ وَأَشْبَهُهُمَا بِتَأْوِيلِ الْكِتَابِ، الْقَوْلُ الْأَوَّلُ، وَهُوَ: أَنَّ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِالْإِيمَانِ بِالْغَيْبِ، وَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي الْآيَتَيْنِ الْأُوَلَتَيْنِ غَيْرُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِالْإِيمَانِ بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى مُحَمَّدٍ وَالَّذِي أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ؛ لِمَا ذَكَرْتُ مِنَ الْعِلَلِ قَبْلُ لِمَنْ قَالَ ذَلِكَ، وَمِمَّا يَدُلُّ أَيْضًا مَعَ ذَلِكَ عَلَى صِحَّةِ هَذَا الْقَوْلِ أَنَّهُ جِنْسَ، بَعْدَ وَصْفِ الْمُؤْمِنِينَ بِالصِّفَتَيْنِ اللَّتَيْنِ وَصَفَ، وَبَعْدَ تَصْنِيفِهِ إِلَى كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمَا عَلَى مَا صَنَّفَ الْكُفَّارَ، جِنْسَيْنِ، فَجَعَلَ أَحَدَهُمَا مَطْبُوعًا عَلَى قَلْبِهِ مَخْتُومًا عَلَيْهِ مَأْيُوسًا مِنْ إِيمَانِهِ، وَالْآخَرَ مُنَافِقًا يُرَائِي بِإِظْهَارِ الْإِيمَانِ فِي الظَّاهِرِ، وَيَسْتَسِرُّ النِّفَاقَ فِي الْبَاطِنِ، فَصَيَّرَ الْكُفَّارَ جِنْسَيْنِ كَمَا صَيَّرَ الْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ السُّورَةِ جِنْسَيْنِ. ثُمَّ عَرَّفَ عِبَادَهُ نَعْتَ كُلِّ صِنْفٍ مِنْهُمْ وَصِفَتِهِمْ وَمَا أَعَدَّ لِكُلِّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ مِنْ ثَوَابٍ أَوْ عِقَابٍ، وَذَمَّ أَهْلَ الذَّمِّ مِنْهُمْ وَشَكَرَ سَعْيَ أَهْلِ الطَّاعَةِ مِنْهُمْ)).
((وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ سَلْمَانَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ، أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بَعْدَ فَنَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا مِنْهُ عَمَّنْ جَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَهُمْ وَلَمَّا يَجِئْ بَعْدُ، لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَحَدٌ. وَإِنَّمَا قُلْنَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِمْ نَزَلَتْ. وَالتَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ.)).

التعليق:

الخلاف الذي ذكره الطبري في بيان المقصود من الآيات، وقد ذكر في ذلك ثلاثة أقوال؛
الأول والثاني: أن المراد بالآيات قوم مخصوصون، واختلفوا في تعيين هذا الخصوص.
والثالث أن الآيات عامة .
فأما الأول، فهو ما أورده عن ابن عباس وابن مسعود وجماعة، أن الآية الأولى في مؤمني العرب، وأن الآية الثانية في مؤمني أهل الكتاب .
وعلى القول الثاني: أن المراد مؤمني أهل الكتاب فقط ويساعد على هذا كون الآيات مدنية.
والعلة التي ذهب إليها الطبري في ترجيحه، كون العرب آمنوا بغيب ليس عندهم فيه إدراك قبل هذا، وأما الذين آمنوا بما أنزل إليك وما أنزل من قبلك، فالمراد به أهل الكتاب .
ثم ذكر علة أخرى سياقية، وهي أن الله ذكر الكفار على صنفين، وكذلك ذكر المؤمنين على صنفين؛ ولكن هذه العلة ليست قوية .
فالخطاب من قبيل العام المراد به الخصوص، لأن الاسم الموصول (الذين) عام، وجعله في طائفة من الناس نوع من التخصيص.
وأما على قول مجاهد والربيع فهو عام باق على عمومه .
هنا نظر آخر، وهو: هل يمنع الطبري أن يدخل غير من وصفهم بأن الآيات نزلت فيهم، في خطابهم؟.
بمعنى هل يصدق على العرب أن يكونوا آمنوا بما أنزل على محمد وبما أنزل قبله؟ من وصفهم بأن الآيات نزلت فيهم أن يدخلوا في خطابه ؟
الجواب: يصدق ذلك عليهم، ولا يمنع من دخولهم في الخطاب مع غيرهم .
والطبري هنا ينظر للنزول لا إلى التنزيل، والدليل على ذلك:
أن أسلوبه بشكل عام هو الأخذ بالعموم، وكونه يترك الأخذ بالعموم في هذا الموطن يشعر بهذا، وثم قرينة أخرى وهو قوله [1: 298]:
((وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.)).
ولاحظوا التعبير في كلامه السابق، قال: (نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ) فاعتبر هذا نزول، ثم قال بعدها: (وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتِهِمْ) وهذا تنزيل.
فعنده مسألتان: الأولى: من نزل فيه الخطاب (نزول).
الثانية: من يدخل في هذا الخطاب (تنزيل).
فهو ينظر للنزول وليس للتنزيل، ولذلك خالف غيره ممن ذهب للعموم كابن عطية.
وأقوال السلف لا تتعارض، والفرق فقط في طريقة التعميم، فمنهم من يذهب للتعميم مباشرة، وأن العبرة بعموم اللفظ، كمجاهد والربيع ، ومنهم من يرى أن اللفظ خاص؛ لكن يشمل من يتصف بهذه الصفة فيعمم من هذه الجهة. فالخلاف بينهم في طريقة التعميم فقط.
تنبيه:
1- في القول الثاني لم يذكر من قال به، وهذا محل بحث .
2- أنه اعتمد السند المذكور في سبب النزول، وهو من قبيل المنقول، وقد تكلم في هذا السند[SUP]([1])[/SUP]، فكيف رجح به ؟!
والجواب أن هذا من طريقة الطبري في التعامل مع الأسانيد .
3- قوله: أَرْبَعُ آيَاتٍ مِنْ سُورَةِ الْبَقَرَةِ فِي نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ.
هذا من قبيل اختلاف العلماء في العد .
[1: 247]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيُقِيمُونَ} [البقرة: 3] إِقَامَتُهَا: أَدَاؤُهَا بِحُدُودِهَا وَفُرُوضِهَا وَالْوَاجِبِ فِيهَا عَلَى مَا فُرِضَتْ عَلَيْهِ، كَمَا يُقَالُ: أَقَامَ الْقَوْمُ سُوقَهُمْ، إِذَا لَمْ يُعَطِّلُوهَا مِنَ الْبَيْعِ وَالشِّرَاءِ فِيهَا، وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
أَقَمْنَا لِأَهْلِ الْعِرَاقَيْنِ سُوقَ الضْ ... ضِرَابِ فَخَامُوا وَوَلَّوْا جَمِيعَا
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] قَالَ: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ بِفُرُوضِهِا ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [البقرة: 3] قَالَ: إِقَامَةُ الصَّلَاةِ: تَمَامُ الرُّكُوعِ وَالسُّجُودِ وَالتِّلَاوَةِ وَالْخُشُوعِ وَالْإِقْبَالِ عَلَيْهَا فِيهَا ".)).

التعليق:
الحديث هنا عن معنى الإقامة، وظاهر أن الإقامة غير تأدية الحركات، والذي يمتدح هو إقامة الصلاة، أي: كما يريدها الله عز وجل .
وقول الضحاك أن المراد: (الصلاة المفروضة) من قرائن ذلك اقترانها بالنفقة الواجبة، ويكون قوله من قبيل التمثيل، وإن كان المراد العموم.
[1: 248]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {الصَّلَاةَ} [البقرة: 3].
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، فِي قَوْلِهِ: " {الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلَاةَ} [المائدة: 55] يَعْنِي الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ " وَأَمَّا الصَّلَاةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ فَإِنَّهَا الدُّعَاءُ كَمَا قَالَ الْأَعْشَى:
لَهَا حَارِسٌ لَا يَبْرَحُ الدَّهْرَ بَيْتَهَا ... وَإِنْ ذُبِحَتْ صَلَّى عَلَيْهَا وَزَمْزَمَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: دَعَا لَهَا، وَكَقَوْلِ الْآخَرِ أَيْضًا:
وَقَابَلَهَا الرِّيحَ فِي دَنِّهَا ... وَصَلَّى عَلَى دَنِّهَا وَارْتَسَمَ
وَأَرَى أَنَّ الصَّلَاةَ الْمَفْرُوضَةَ سُمِّيَتْ صَلَاةً؛ لِأَنَّ الْمُصَلِّي مُتَعَرِّضٌ لِاسْتِنْجَاحِ طِلْبَتِهِ مِنْ ثَوَابِ اللَّهِ بِعَمَلِهِ مَعَ مَا يَسْأَلُ رَبَّهُ فِيهَا مِنْ حَاجَاتِهِ تَعَرُّضَ الدَّاعِي بِدُعَائِهِ رَبَّهُ اسْتِنْجَاحَ حَاجَاتِهِ وَسُؤْلِهِ.)).

التعليق:
لم يذكر الطبري إلا الوجه المشهور في اشتقاق لفظ الصلاة، وهي أنها مشتقة من الدعاء .
والصلاة سميت بذلك باعتبار أشمل ما فيها .
وهنا ملاحظة: أن الطبري رحمه الله كثيرًا بشعر الأعشى، وشعر الأعشى مليء بالشواهد المرتبطة بالألفاظ القرآنية.
[1: 249]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] اخْتَلَفَ الْمُفَسِّرُونَ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنَا بِهِ ابْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قَالَ: يُؤْتُونَ الزَّكَاةَ احْتِسَابًا بِهَا ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قَالَ: زَكَاةُ أَمْوَالِهِمْ ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ: " {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قَالَ: كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وَجَهْدِهِمْ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، مِمَّا يُذْكَرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتُ، هُنَّ الْمُثْبَتَاتُ النَّاسِخَاتُ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] هِيَ نَفَقَةُ الرَّجُلِ عَلَى أَهْلِهِ، وَهَذَا قَبْلَ أَنْ تَنْزِلَ الزَّكَاةُ " .
وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ وَأَحَقُّهَا بِصِفَةِ الْقَوْمِ أَنْ يَكُونُوا كَانُوا لِجَمِيعِ اللَّازِمِ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ، مُؤَدِّينَ زَكَاةً كَانَ ذَلِكَ أَوْ نَفَقَةَ مَنْ لَزِمَتْهُ نَفَقَتُهُ مِنْ أَهْلٍ وَعِيَالٍ وَغَيْرِهِمْ، مِمَّنْ تَجِبُ عَلَيْهِمْ نَفَقَتُهُ بِالْقَرَابَةِ وَالْمُلْكِ وَغَيْرِ ذَلِكَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّ وَصْفَهُمْ، إِذْ وَصَفَهُمْ بِالْإِنْفَاقِ مِمَّا رَزَقَهُمْ، فَمَدَحَهُمْ بِذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ، فَكَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ إِذْ لَمْ يُخَصِّصْ مَدْحَهُمْ وَوَصْفَهُمْ بِنَوْعٍ مِنَ النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا دُونَ نَوْعٍ بِخَبَرٍ وَلَا غَيْرِهِ أَنَّهُمْ مَوْصُوفُونَ بِجَمِيعِ مَعَانِي النَّفَقَاتِ الْمَحْمُودِ عَلَيْهَا صَاحِبُهَا مِنْ طَيِّبِ مَا رَزَقَهُمْ رَبُّهُمْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ وَأَمْلَاكِهِمْ، وَذَلِكَ الْحَلَالُ مِنْهُ الَّذِي لَمْ يَشُبْهُ حَرَامٌ.)).

التعليق:
حكى الطبري اختلاف أهل التأويل في معنى النفقة على أقوال:
1- أن المراد الزكاة المعروفة .
2- أن المراد نفقة الرجل على أهله .
ومال الطبري إلى العموم، وميله هنا إلى العموم دليل على أنه قصد في تفسر الصلاة النزول لا التنزيل .
وقد ذهب ابن عطية إلى عموم الآية، فقال:
((والآية تعمّ الجميع. وهذه الأقوال تمثيل لا اختلاف))[SUP]([2])[/SUP].
مسائل:

1- عَنِ الضَّحَّاكِ: " {وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ} [البقرة: 3] قَالَ: كَانَتِ النَّفَقَاتُ قُرُبَاتٍ يَتَقَرَّبُونَ بِهَا إِلَى اللَّهِ عَلَى قَدْرِ مَيْسُورِهِمْ وَجَهْدِهِمْ، حَتَّى نَزَلَتْ فَرَائِضُ الصَّدَقَاتِ سَبْعُ آيَاتٍ فِي سُورَةِ بَرَاءَةٍ، مِمَّا يُذْكَرُ فِيهِنَّ الصَّدَقَاتُ، هُنَّ الْمُثْبَتَاتُ النَّاسِخَاتُ ".
فالأمر بالإنفاق كان عامًا، كل ينفق قدر جهده، حتى نزلت آيات التوبة بتحديد أصناف الزكوات، ومن يعطاها، وهو ضرب من النسخ .
وبعضهم يسمي هذا تدرجًا في التشريع، والخلاف صوري، والحقيقة أنه هروب من مصطلح النسخ .
فائدة:

يقول الراغب:
((فالإنفاق من الرزق بالنظر العامي من المال كما تقدم.
وأما بالنظر الخاصي:
فقد يكون الإنفاق من جميع المعاون التي أتانا الله - عز وجل - من النعم الباطنة والظاهرة، كالعلم والقوة والجاه والمال))[SUP]([3])[/SUP].
وهنا سؤال، هل في الآية ما يشير إلى هذا النظر الخاصي ؟
والجواب: لو تأملنا في القرآن، فإن مساقات الإنفاق مساقات مالية، أما الذي ذكره الراغب فإنه من باب التفسير الإشاري، وهو من إطلاق اللفظ على عمومه الأعم؛ ومن باب القياس؛ لكنه منزوع السياق .
[1: 250]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] قَدْ مَضَى الْبَيَانُ عَنِ الْمَنْعُوتِينَ بِهَذَا النَّعْتِ، وَأَيُّ أَجْنَاسِ النَّاسِ هُمْ. غَيْرَ أَنَّا نَذْكُرُ مَا رُوِيَ فِي ذَلِكَ عَمَّنْ رُوِيَ عَنْهُ فِي تَأْوِيلِهِ قَوْلَ.
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ} [البقرة: 4] أَيْ يُصَدِّقُونَكَ بِمَا جِئْتَ بِهِ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ قَبْلِكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، لَا يُفَرِّقُونَ بَيْنَهُمْ وَلَا يَجْحَدُونَ مَا جَاءُوهُمْ بِهِ مِنْ عِنْدِ رَبِّهِمْ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] هَؤُلَاءِ الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ ".)).

سبق التعليق عليه .


(*) المادة الصوتية .
(1) قال: ((إِذْ كُنْتُ بِإِسْنَادِهِ مُرْتَابًا)).
(2) المحرر، (1: 85).
(3) تفسير الراغب: (1: 82).
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الثالث عشر: (24 - 4 - 1435)
التاريخ: 12 - 5 - 1435 الموافق 13/03/2014
عدد الزيارات: 230
اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
فهذا إكمال التعليق على الآيات من سورة البقرة.
[1: 251]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا الْآخِرَةُ، فَإِنَّهَا صِفَةٌ لِلدَّارِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَإِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوَانُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ} [العنكبوت: 64] وَإِنَّمَا وُصِفَتْ بِذَلِكَ لِمَصِيرِهَا آخِرَةً لِأَوْلَى كَانَتْ قَبْلَهَا كَمَا تَقُولُ لِلرَّجُلِ: أَنْعَمْتُ عَلَيْكَ مَرَّةً بَعْدَ أُخْرَى فَلَمْ تَشْكُرْ لِيَ الْأُولَى وَلَا الْآخِرَةَ. وَإِنَّمَا صَارَتِ الْآخِرَةُ آخِرَةً لِلْأُولَى، لَتَقَدُّمَ الْأُولَى أَمَامَهَا، فَكَذَلِكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَقَدُّمِ الدَّارِ الْأُولَى أَمَامَهَا، فَصَارَتِ التَّالِيَةُ لَهَا آخِرَةً. وَقَدْ يَجُوزُ أَنْ تَكُونَ سُمِّيَتْ آخِرَةً لِتَأَخُّرِهَا عَنِ الْخَلْقِ، كَمَا سُمِّيَتِ الدُّنْيَا دُنْيَا لِدُنُوِّهَا مِنَ الْخَلْقِ. وَأَمَّا الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهِ الْمُؤْمِنِينَ، بِمَا أَنْزَلَ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا أَنْزَلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ، مِنْ إِيقَانِهِمْ بِهِ مِنْ أَمْرِ الْآخِرَةِ، فَهُوَ إِيقَانُهُمْ بِمَا كَانَ الْمُشْرِكُونَ بِهِ جَاحِدِينَ، مِنَ الْبَعْثِ وَالنَّشْرِ وَالثَّوَابِ وَالْعِقَابِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، وَغَيْرِ ذَلِكَ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ لِخَلْقِهِ يَوْمَ الْقِيَامَةِكَمَا حَدَّثَنَا بِهِ، مُحَمَّدُ بْنُ حُمَيْدٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا سَلَمَةُ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، أَيْ لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ " وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا مِنْ نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ الْكُفَّارِ أَهْلَ الْكِتَابِ الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّهُمْ بِمَا جَاءَتْ بِهِ رُسُلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ الَّذِينَ كَانُوا قَبْلَ مُحَمَّدٍ صَلَوَاتُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَعَلَيْهِ مُصَدِّقُونَ وَهُمْ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مُكَذِّبُونَ، وَلِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ التَّنْزِيلِ جَاحِدُونَ، وَيَدَّعُونَ مَعَ جُحُودِهِمْ ذَلِكَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ وَأَنَّهُ لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى فَأَكْذَبَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ بِقَوْلِهِ: {الم ذَلِكَ الْكِتَابُ لَا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلَاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أَنْزَلَ إِلَيْكَ وَمَا أَنْزَلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 2] وَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عِبَادَهُ أَنَّ هَذَا الْكِتَابَ هُدًى لِأَهْلِ الْإِيمَانِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ الْمُصَدِّقِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنْ رُسُلِهِ مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى خَاصَّةً، دُونَ مَنْ كَذَّبَ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَادَّعَى أَنَّهُ مُصَدِّقٌ بِمَنْ قَبْلَ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ مِنَ الرُّسُلِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنَ الْكُتُبِ. ثُمَّ أَكَّدَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَمْرَ الْمُؤْمِنِينَ مِنَ الْعَرَبِ وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ الْمُصَدِّقِينَ بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَيْهِ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] فَأَخْبَرَ أَنَّهُمْ هُمْ أَهْلُ الْهُدَى وَالْفَلَاحِ خَاصَّةً دُونَ غَيْرِهِمْ، وَأَنَّ غَيْرَهُمْ هُمْ أَهْلُ الضَّلَالِ وَالْخَسَارِ.)).

التعليق:

ذكر الطبري علة تسمية الآخرة بهذا الاسم، وذكر وجهين:
1- الوجه الأول وهو الأشهر، أن الأولى تطلق على الدنيا، ومقابلها الآخرة .
ولم يقل الثانية للتنبيه على أنها آخر الحياتين .
2- الوجه الثاني: أن يكون الوصف بالآخرة لتأخرها عن الخلق، والدنيا لدنوها من الخلق .
كما ذكر رحمه الله معنى (وبالآخرة هم يوقنون)، وفسرها تفسيرًا جُمليًا، واليقين أعلى مراتب العلم، واليقين ينسب إليه ثلاثة إضافات:
1- علم اليقين، وهو الخبر عن ثقة .
2- عين اليقين، وهو حال المشاهدة .
3- حق اليقين، وهو حال المخالطة[SUP]([1])[/SUP] .
وعلى قدر اليقين في القلب يكون الإيمان، وبنقصه ينقص الإيمان .
قوله: ((كما حدثنا))، نوع من الاستدلال بكلام الصحابي على ما ذكره، وعمدة الطبري في الاستدلال الاعتماد على آثار الصحابة رضي الله عنهم .
وقول ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ} [البقرة: 4] أَيْ بِالْبَعْثِ وَالْقِيَامَةِ وَالْجَنَّةِ وَالنَّارِ وَالْحِسَابِ وَالْمِيزَانِ، أَيْ لَا هَؤُلَاءِ الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِمَا كَانَ قَبْلَكَ وَيَكْفُرُونَ بِمَا جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ "، وهذا الوصف ينطبق على اليهود، ولذلك فإن الطبري ذكر أن المقصود الأولي من الخطاب هو لليهود، ولهذا قال: (( وَهَذَا التَّأْوِيلُ مِنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَدْ صَرَّحَ عَنْ أَنَّ السُّورَةَ مِنْ أَوَّلِهَا وَإِنْ كَانَتِ الْآيَاتُ الَّتِي فِي أَوَّلِهَا مِنْ نَعْتِ الْمُؤْمِنِينَ تَعْرِيضٌ مِنَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِذَمِّ الْكُفَّارِ أَهْلَ الْكِتَابِ))، وهذا نوع من الاستنباطات الواردة عن الصحابة والتابعين .
فدخول غير أهل الكتاب في الخطاب من باب القياس .
فالخطاب الخاص، إذا صح أن يدخل فيه غير المقصود الأولي به، فدخوله من باب القياس لا من باب العموم .
[1: 254]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فَقَالَ بَعْضُهُمْ: عَنَى بِذَلِكَ أَهْلَ الصِّفَتَيْنِ الْمُتَقَدِّمَتَيْنِ، أَعْنِي الْمُؤْمِنِينَ بِالْغَيْبِ مِنَ الْعَرَبِ وَالْمُؤْمِنِينَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَإِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ، وَإِيَّاهُمْ جَمِيعًا وَصَفَ بِأَنَّهُمْ عَلَى هُدًى مِنْهُمْ وَأَنَّهُمْ هُمُ الْمُفْلِحُونَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ .
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " أَمَّا {الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] ، فَهُمُ الْمُؤْمِنُونَ مِنَ الْعَرَبِ، {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] : الْمُؤْمِنُونَ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ. ثُمَّ جَمَعَ الْفَرِيقَيْنِ فَقَالَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] ".
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ؛ وَهُمُ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ مِنَ الرُّسُلِ. وَقَالَ آخَرُونَ: بَلْ عَنَى بِذَلِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا أُنْزِلَ إِلَى مَنْ قَبْلَهُ، وَهُمْ مُؤْمِنُو أَهْلِ الْكِتَابِ الَّذِينَ صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَكَانُوا مُؤْمِنِينَ مِنْ قَبْلُ بِسَائِرِ الْأَنْبِيَاءِ وَالْكُتُبِ. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ الْآخَرِ، يَحْتَمِلُ أَنْ يَكُونَ: {وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ} [البقرة: 4] فِي مَحَلِّ خَفْضٍ، وَمَحَلِّ رَفْعٍ؛ فَأَمَّا الرَّفْعُ فِيهِ فَإِنَّهُ يَأْتِيهَا مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا مِنْ قِبَلِ الْعَطْفِ عَلَى مَا فِي {يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ} [البقرة: 3] مِنْ ذِكْرِ الَّذِينَ. وَالثَّانِي: أَنْ يَكُونَ خَبَرَ مُبْتَدَأٍ، وَيَكُونَ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] رَافِعَهَا. وَأَمَّا الْخَفْضُ فَعَلَى الْعَطْفِ عَلَى «الْمُتَّقِينَ» وَإِذَا كَانَتْ مَعْطُوفَةٌ عَلَى «الَّذِينَ» اتَّجَهَ لَهَا وَجْهَانِ مِنَ الْمَعْنَى، أَحَدُهُمَا: أَنْ تَكُونَ هِيَ وَ «الَّذِينَ» الْأُولَى مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ، وَذَلِكَ عَلَى تَأْوِيلِ مَنْ رَأَى أَنَّ الْآيَاتِ الْأَرْبَعَ بَعْدَ {الم} [البقرة: 1] نَزَلَتْ فِي صِنْفٍ وَاحِدٍ مِنْ أَصْنَافِ الْمُؤْمِنِينَ. وَالْوَجْهُ الثَّانِي: أَنْ تَكُونَ «الَّذِينَ» الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً فِي الْإِعْرَابِ عَلَى الْمُتَّقِينَ بِمَعْنَى الْخَفْضِ، وَهُمْ فِي الْمَعْنَى صِنْفٌ غَيْرُ الصِّنْفِ الْأَوَّلِ. وَذَلِكَ عَلَى مَذْهَبِ مَنْ رَأَى أَنَّ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْأُولَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بَعْدَ قَوْلِهِ {الم} [البقرة: 1] غَيْرُ الَّذِينَ نَزَلَتْ فِيهِمُ الْآيَتَانِ الْآخِرَتَانِ اللَّتَانِ تَلِيَانِ الْأُوَلَتَيْنِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ أَنْ تَكُونَ الَّذِينَ الثَّانِيَةُ مَرْفُوعَةً فِي هَذَا الْوَجْهِ بِمَعْنَى الِاسْتِئْنَافِ، إِذْ كَانَتْ مُبْتَدَأً بِهَا بَعْدَ تَمَامِ آيَةٍ وَانْقِضَاءِ قِصَّةٍ. وَقَدْ يَجُوزُ الرَّفْعُ فِيهَا أَيْضًا بِنِيَّةِ الِاسْتِئْنَافِ إِذْ كَانَتْ فِي مُبْتَدَأِ آيَةٍ وَإِنْ كَانَتْ مِنْ صِفَةِ الْمُتَّقِينَ. فَالرَّفْعُ إِذًا يَصِحُّ فِيهَا مِنْ أَرْبَعَةِ أَوْجُهٍ، وَالْخَفْضُ مِنْ وَجْهَيْنِ. وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ عِنْدِي بِقَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] مَا ذَكَرْتُ مِنْ قَوْلِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ، وَأَنْ تَكُونَ أُولَئِكَ إِشَارَةً إِلَى الْفَرِيقَيْنِ، أَعْنِي الْمُتَّقِينَ وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ، وَتَكُونَ أُولَئِكَ مَرْفُوعَةً بِالْعَائِدِ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] وَأَنْ تَكُونَ الَّذِينَ الثَّانِيَةُ مَعْطُوفَةً عَلَى مَا قَبْلُ مِنَ الْكَلَامِ عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّاهُ وَإِنَّمَا رَأَيْنَا أَنَّ ذَلِكَ أَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ، لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعَتَ الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمُ الْمَحْمُودِ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ؛ فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ، كَمَا غَيْرُ جَائِزٍ فِي عَدْلِهِ أَنْ يَتَسَاوَيَا فِيمَا يَسْتَحِقَّانِ بِهِ الْجَزَاءَ مِنَ الْأَعْمَالِ فَيَخُصَّ أَحَدَهُمَا بِالْجَزَاءِ دُونَ الْآخَرِ وَيَحْرِمَ الْآخَرَ جَزَاءَ عَمَلِهِ، فَكَذَلِكَ سَبِيلُ الثَّنَاءِ بِالْأَعْمَالِ؛ لِأَنَّ الثَّنَاءَ أَحَدُ أَقْسَامِ الْجَزَاءِ. وَأَمَّا مَعْنَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ بِتَسْدِيدِ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَتَوْفِيقِهِ لَهُمْ.
كَمَا حَدَّثَنِي وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ ".)).

التعليق:
من الملاحظ أن الطبري رحمه الله يبني الإعراب على المعنى، وهذه قاعدة مهمة، ويعبر عنها بقولهم: أن الإعراب فرع المعنى والأصل أن تفهم المعنى ثم تُعرب.
ولذا بنى الطبري رحمه الله أغلب الأعاريب على المعنى، وكان يختار الإعراب الذي يوافق قول السلف في المعنى، ويرد ما يخالف ذلك.
ثم اختار رحمه الله قولًا، وعلل له، والعلل التي ذكرها علل سياقية، وذلك:
((لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ نَعَتَ الْفَرِيقَيْنِ بِنَعْتِهِمُ الْمَحْمُودِ ثُمَّ أَثْنَى عَلَيْهِمْ؛ فَلَمْ يَكُنْ عَزَّ وَجَلَّ لِيَخُصَّ أَحَدَ الْفَرِيقَيْنِ بِالثَّنَاءِ مَعَ تَسَاوِيهِمَا فِيمَا اسْتَحَقَّا بِهِ الثَّنَاءَ مِنَ الصِّفَاتِ)).

فكأنه يقول إن الثناء موزع على الفريقين .
وقوله: (( الثناء أحد أقسام الجزاء)) فيه فائدة حسنة .
تنبيه:
قوله: ((فَإِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّهُمْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ وَبُرْهَانٍ وَاسْتِقَامَةٍ وَسَدَادٍ)).
هذا تفسيرٌ جملي، وهو معتمدٌ على قول ابْنِ عَبَّاسٍ: " {أُولَئِكَ عَلَى هُدًى مِنْ رَبِّهِمْ} [البقرة: 5] أَيْ عَلَى نُورٍ مِنْ رَبِّهِمْ، وَاسْتِقَامَةٍ عَلَى مَا جَاءَهُمْ ".
ويتضح من منهجه - رحمه الله- هنا:
- أنه يتخذ من تفاسير السلف المتعددة بعض المعاني ويذكرها.
- أن قوله:(( كما حدثني )) يعتبر من اختياره، وإن لم يذكره في التفسير الجملي.
- أن إضافته لمعنى، يدور حول المعاني التي يذكرها عن السلف.
[1: 256]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أَيْ أُولَئِكَ هُمُ الْمُنْجِحُونَ الْمُدْرِكُونَ مَا طَلَبُوا عِنْدَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِأَعْمَالِهِمْ وَإِيمَانِهِمْ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، مِنَ الْفَوْزِ بِالثَّوَابِ، وَالْخُلُودِ فِي الْجِنَانِ، وَالنَّجَاةِ مِمَّا أَعَدَّ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى لِأَعْدَائِهِ مِنَ الْعِقَابِ.
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا " وَمِنَ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ أَحَدَ مَعَانِي الْفَلَاحِ إِدْرَاكُ الطَّلْبَةِ وَالظَّفَرُ بِالْحَاجَةِ قَوْلُ لَبِيدِ بْنِ رَبِيعَةَ:
اعْقِلِي إِنْ كُنْتِ لَمَّا تَعْقِلِي ... وَلَقَدْ أَفْلَحَ مَنْ كَانَ عَقَلَ
يَعْنِي ظَفَرَ بِحَاجَتِهِ وَأَصَابَ خَيْرًا. وَمِنْهُ قَوْلُ الرَّاجِزِ:
عَدِمْتُ أُمًّا وَلَدَتْ رَبَاحَا ... جَاءَتْ بِهِ مُفَرْكَحًا فِرْكَاحَا
تَحْسَبُ أَنْ قَدْ وَلَدَتْ نَجَاحَا ... أَشْهَدُ لَا يَزِيدُهَا فَلَاحَا
يَعْنِي خَيْرًا وَقُرْبًا مِنْ حَاجَتِهَا. وَالْفَلَاحُ: مَصْدَرٌ مِنْ قَوْلِكَ: أَفْلَحَ فُلَانٌ يُفْلِحُ إِفْلَاحًا، وَفَلَاحًا، وَفَلَحًا. وَالْفَلَاحُ أَيْضًا الْبَقَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
نَحُلُّ بِلَادًا كُلَّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... وَنَرْجُو الْفَلَاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
يُرِيدُ الْبَقَاءَ. وَمِنْهُ أَيْضًا قَوْلُ عُبَيْدٍ:
أَفْلِحْ بِمَا شِئْتَ فَقَدْ يَبْلُغُ بِالضَّ ... عْفِ وَقَدْ يُخْدَعُ الْأَرِيبُ
يُرِيدُ: عِشْ وَابْقَ بِمَا شِئْتَ. وَكَذَلِكَ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
وَكُلُّ فَتًى سَتَشْعَبُهُ شَعُوبٌ ... وَإِنْ أَثْرَى وَإِنْ لَاقَى فَلَاحَا
أَيْ نَجَاحًا بِحَاجَتِهِ وَبَقَاءً.)).

التعليق:
يمضي الطبري رحمه الله في ذكر التفسير الإجمالي، ثم الاستشهاد بما ورد عن السلف .
وقد أضاف هنا الاستشهاد بالشعر، وهي إضافة مؤكدة لما يذكره من أقوال السلف، وليست مستقلة بذاتها.
وقول ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ} [البقرة: 5] أَيِ الَّذِينَ أَدْرَكُوا مَا طَلَبُوا وَنَجَوْا مِنْ شَرِّ مَا مِنْهُ هَرَبُوا ".
فهذا تعبير معنى، وليس تفسيرًا للفظ من جهة اللغة .
فالمفلح من مادة أفلح، وأصلها (فلح)، ومعناه: ظفر بما طلب .
فكلام ابن عباس فيه توسع عن معنى الفلاح، وقد ذكر الطبري المعنى الأول، وهو المراد بالآية، ثم استطرد في ذكر معنى آخر للفلاح وهو البقاء:
فقال:((وَالْفَلَاحُ أَيْضًا الْبَقَاءُ، وَمِنْهُ قَوْلُ لَبِيدٍ:
نَحُلُّ بِلَادًا كُلَّهَا حُلَّ قَبْلَنَا ... وَنَرْجُو الْفَلَاحَ بَعْدَ عَادٍ وَحِمْيَرِ
يُرِيدُ الْبَقَاءَ ..)) وهذا المعنى لا يصلح تفسيرًا للآية، وإنما هو استطراد منه - رحمه الله - في ذكر الشواهد الشعرية.
[1: 258]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرَهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِيمَنْ عَنَى بِهَذِهِ الْآيَةِ، وَفِيمَنْ نَزَلَتْ.
فَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَقُولُ، وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا قَدْ جَاءَنَا مِنْ قَبْلِكَ ".
وَكَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَرَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي الْيَهُودِ الَّذِينَ كَانُوا بِنَوَاحِي الْمَدِينَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ تَوْبِيخًا لَهُمْ فِي جُحُودِهِمْ نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَتَكْذِيبِهِمْ بِهِ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِهِ وَمَعْرِفَتِهِمْ بِأَنَّهُ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِلَيْهِمْ وَإِلَى النَّاسِ كَافَّةً.
وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: «أَنَّ صَدْرَ، سُورَةِ الْبَقَرَةِ إِلَى الْمِائَةِ مِنْهَا نَزَلَ فِي رِجَالٍ سَمَّاهُمْ بِأَعْيَانِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، وَمِنَ الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ. كَرِهْنَا تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ».)).

التعليق:
من منهج الطبري عند اختلاف أقوال السلف:
- مباشرة ذكر الاختلاف ( كما هو واقعٌ هنا).
- ذكر الرأي الذي اختاره، ثم ذكر بقية الأقوال بعد ذلك.
- له طرق أخرى.
وقول ابن عباس: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] أَيْ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ، وَإِنْ قَالُوا إِنَّا قَدْ آمَنَّا بِمَا قَدْ جَاءَنَا مِنْ قَبْلِكَ ". إشارة إلى اليهود.
قال الطبري:
((وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَوْلٌ آخَرُ،
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] قَالَ: كَانَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ يَحْرِصُ عَلَى أَنْ يُؤْمِنَ جَمِيعُ النَّاسِ، وَيُتَابِعُوهُ عَلَى الْهُدَى؛ فَأَخْبَرَهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ لَا يُؤْمِنُ إِلَّا مَنْ سَبَقَ مِنَ اللَّهِ السَّعَادَةُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ، وَلَا يَضِلُّ إِلَّا مَنْ سَبَقَ لَهُ مِنَ اللَّهِ الشَّقَاءُ فِي الذِّكْرِ الْأَوَّلِ ".
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حُدِّثْتُ بِهِ،
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: " آيَتَانِ فِي قَادَةِ الْأَحْزَابِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] إِلَى قَوْلِهِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] قَالَ: وَهُمُ الَّذِينَ ذَكَرَهُمُ اللَّهُ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَهَا وَبِئْسَ الْقَرَارُ} [إبراهيم: 29] قَالَ: فَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ " .
وَأَوْلَى هَذِهِ التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ تَأْوِيلُ ابْنِ عَبَّاسٍ الَّذِي ذَكَرَهُ مُحَمَّدُ بْنُ أَبِي مُحَمَّدٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ عَنْهُ؛ وَإِنْ كَانَ لِكُلِّ قَوْلٍ مِمَّا قَالَهُ الَّذِينَ ذَكَرْنَا قَوْلُهُمْ فِي ذَلِكَ مَذْهَبٌ.
فَأَمَّا مَذْهَبُ مَنْ تَأَوَّلَ فِي ذَلِكَ مَا قَالَهُ الرَّبِيعُ بْنُ أَنَسٍ، فَهُوَ أَنَّ اللَّهَ تَعَالَى ذِكْرُهُ لَمَّا أَخْبَرَ عَنْ قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ الْكُفْرِ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ، وَأَنَّ الْإِنْذَارَ غَيْرُ نَافِعِهِمْ، ثُمَّ كَانَ مِنَ الْكُفَّارِ مَنْ قَدْ نَفَعَهُ اللَّهُ بِإِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ لِإِيمَانِهِ بِاللَّهِ وَبِالنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ بَعْدَ نُزُولِ هَذِهِ السُّورَةِ؛ لَمْ يَجُزْ أَنْ تَكُونَ الْآيَةُ نَزَلَتْ إِلَّا فِي خَاصٍّ مِنَ الْكُفَّارِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ وَكَانَتْ قَادَةُ الْأَحْزَابِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ حَتَّى قَتَلَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، عَلِمَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.
وَأَمَّا عِلَّتُنَا فِي اخْتِيَارِنَا مَا اخْتَرْنَا مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ، فَهِيَ أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] عُقَيْبَ خَبَرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ، وَعُقَيْبِ نِعَتِهِمْ وَصِفَتِهِمْ وَثَنَائِهِ عَلَيْهِمْ بِإِيمَانِهِمْ بِهِ وَبِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ. فَأَوْلَى الْأُمُورِ بِحِكْمَةِ اللَّهِ أَنْ يُتْلَى ذَلِكَ الْخَبَرُ عَنْ كُفَّارِهِمْ وَنُعُوتِهِمْ وَذَمِّ أَسْبَابِهِمْ وَأَحْوَالِهِمْ، وَإِظْهَارِ شَتْمِهِمْ وَالْبَرَاءَةِ مِنْهُمْ؛ لِأَنَّ مُؤْمِنِيهِمْ وَمُشْرِكِيهِمْ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَحْوَالُهُ بِاخْتِلَافِ أَدْيَانِهِمْ، فَإِنَّ الْجِنْسَ يَجْمَعُ جَمِيعَهُمْ بِأَنَّهُمْ بَنُو إِسْرَائِيلَ وَإِنَّمَا احْتَجَّ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِأَوَّلِ هَذِهِ السُّورَةِ لِنَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مُشْرِكِي الْيَهُودِ مِنْ أَحْبَارِ بَنِي إِسْرَائِيلَ الَّذِينَ كَانُوا مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ مُنْكِرِينَ نُبُوَّتَهُ بِإِظْهَارِ نَبِيِّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى مَا كَانَتْ تُسِرُّهُ الْأَحْبَارُ مِنْهُمْ وَتَكْتُمُهُ فَيَجْهَلُهُ عُظْمُ الْيَهُودِ وَتَعْلَمُهُ الْأَحْبَارُ مِنْهُمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ الَّذِيَ أَطْلَعَهُ عَلَى عِلْمِ ذَلِكَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتَابَ عَلَى مُوسَى، إِذْ كَانَ ذَلِكَ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلَا قَوْمُهُ وَلَا عَشِيرَتُهُ يَعْلَمُونَهُ وَلَا يَعْرِفُونَهُ مِنْ قَبْلِ نُزُولِ الْفُرْقَانِ عَلَى مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَيُمْكِنُهُمُ ادِّعَاءُ اللَّبْسِ فِي أَمْرِهِ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ أَنَّهُ نَبِيٌّ، وَأَنَّ مَا جَاءَ بِهِ فَمِنْ عِنْدِ اللَّهِ. وَأَنَّى يُمْكِنُهُمُ ادِّعَاءُ اللَّبْسِ فِي صِدْقِ أُمِّيٍّ نَشَأَ بَيْنَ أُمِّيِّينَ لَا يَكْتُبُ، وَلَا يَقْرَأُ، وَلَا يَحْسِبُ، فَيُقَالُ قَرَأَ الْكُتُبَ فَعَلِمَ أَوْ حَسَبَ فَنَجَّمَ، وَانْبَعَثَ عَلَى أَخْبَارِ قُرَّاءٍ كَتَبَةٍ، قَدْ دَرَسُوا الْكُتُبَ وَرَأَسُوا الْأُمَمَ، يُخْبِرُهُمْ عَنْ مَسْتُورِ عُيُوبِهِمْ، وَمَصُونِ عُلُومِهِمْ، وَمَكْتُومِ أَخْبَارِهِمْ، وَخَفِيَّاتِ أُمُورِهِمُ الَّتِي جَهِلَهَا مَنْ هُوَ دُونَهُمْ مِنْ أَحْبَارِهِمْ؟ إِنَّ أَمْرَ مَنْ كَانَ كَذَلِكَ لَغَيْرُ مُشْكِلٍ، وَإِنَّ صِدْقَهُ وَالْحَمْدُ لِلَّهِ لَبَيِّنٌ. وَمِمَّا يُنْبِئُ عَنْ صِحَّةِ مَا قُلْنَا مِنْ أَنَّ الَّذِينَ عَنَى اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] هُمْ أَحْبَارُ الْيَهُودِ الَّذِينَ قُتِلُوا عَلَى الْكُفْرِ وَمَاتُوا عَلَيْهِ اقْتِصَاصَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبَأَهُمْ وَتَذْكِيرَهُ إِيَّاهُمْ مَا أَخَذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْعُهُودِ وَالْمَوَاثِيقِ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ بَعْدَ اقْتِصَاصِهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ مَا اقْتَصَّ مِنْ أَمْرِ الْمُنَافِقِينَ وَاعْتِرَاضِهِ بَيْنَ ذَلِكَ بِمَا اعْتَرَضَ بِهِ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ إِبْلِيسَ وَآدَمَ فِي قَوْلِهِ: {يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ} [البقرة: 40] الْآيَاتُ، وَاحْتِجَاجِهِ لِنَبِيِّهِ عَلَيْهِمْ بِمَا احْتَجَّ بِهِ عَلَيْهِمْ فِيهَا بَعْدَ جُحُودِهِمْ نُبُوَّتَهُ. فَإِذَا كَانَ الْخَبَرُ أَوَّلًا عَنْ مُؤْمِنِي أَهْلِ الْكِتَابِ وَآخِرًا عَنْ مُشْرِكِيهِمْ، فَأَوْلَى أَنْ يَكُونَ وَسَطًا عَنْهُ، إِذْ كَانَ الْكَلَامُ بَعْضُهُ لِبَعْضٍ تَبَعٌ، إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ بِعُدُولِ بَعْضِ ذَلِكَ عَمَّا ابْتُدِئَ بِهِ مِنْ مَعَانِيهِ، فَيَكُونَ مَعْرُوفًا حِينَئِذٍ انْصِرَافُهُ عَنْهُ.)).

التعليق:
نذكر بمنهج الطبري الذي قاله في المقدمة:
((وَنَحْنُ فِي شَرْحِ تَأْوِيلِهِ، وَبَيَانِ مَا فِيهِ مِنْ مَعَانِيهِ ـ: مُنْشِئُونَ - إِنْ شَاءَ اللَّهُ ذَلِكَ - كِتَابًا مُسْتَوْعِبًا لِكُلِّ مَا بِالنَّاسِ إِلَيْهِ الْحَاجَةُ مِنْ عِلْمِهِ جَامِعًا، وَمِنْ سَائِرِ الْكُتُبِ غَيْرِهِ فِي ذَلِكَ كَافِيًا، وَمُخْبِرُونَ فِي كُلِّ ذَلِكَ بِمَا انْتَهَى إِلَيْنَا مِنَ اتِّفَاقِ الْحُجَّةِ فِيمَا اتَّفَقَتْ عَلَيْهِ الْأُمَّةُ، وَاخْتِلَافِهَا فِيمَا اخْتَلَفَتْ فِيهِ مِنْهُ، وَمُبَيِّنُو عِلَلِ كُلِّ مَذْهَبٍ مِنْ مَذَاهِبِهِمْ، وَمُوَضِّحُو الصَّحِيحِ لَدَيْنَا مِنْ ذَلِكَ، بِأَوْجَزِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الْإِيجَازِ فِي ذَلِكَ، وَأَخْصَرِ مَا أَمْكَنَ مِنَ الِاخْتِصَارِ فِيهِ.))[SUP]([2])[/SUP].

وهنا مثال لتطبيق الطبري رحمه الله لهذا المنهج .
حيث ذكر قولين لابن عباس، ثم قولاً للربيع بن أنس، ثم ذكر أولى الأقوال عنده، ثم بيّنَ عِلة اختيار الربيع، ثم بيّنَ عِلة اختياره هو.
ولا نستطيع أن نقول إن الآية تشمل كل كافر، ولذلك قال الإمام ابن عطية رحمه الله:
((واختلف فيمن نزلت هذه الآية بعد الاتفاق على أنها غير عامة لوجود الكفار قد أسلموا بعدها.))[SUP]([3])[/SUP].
بعض المتأخرين ذكر أن الآية عامة، لكنها تنطبق عليهم حال كفرهم، وهذا التخريج لم يشر إليه السلف .
ابن عباس في رأيه الأول يرى أنهم قادة الكفر من اليهود، وفي القول الثاني عن الربيع بن أنس أنهم قادة الكفر في بدر، ولكن بعضهم دخل في الإسلام، ولذلك علله الطبري بأنه خاص بمن مات منهم على الكفر، فقال رحمه الله:
((وَكَانَتْ قَادَةُ الْأَحْزَابِ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ مِمَّنْ لَمْ يَنْفَعْهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ بِإِنْذَارِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ إِيَّاهُ حَتَّى قَتَلَهُمُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ بَدْرٍ، عَلِمَ أَنَّهُمْ مِمَّنْ عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الْآيَةِ.)).
فهم يدخلون لكنهم ليسوا داخلين بالقصد الأولي .
أما ترجيح الطبري فإنه مبني على قضية السياق، وهي قضية حافلة جدًا عند الإمام الطبري رحمه الله تعالى، ويتضح من منهجه هنا:
- ترجيحه بعلة السياق، والذي يراه هو من الاختيارات الأولية، بينما غيره لا يحتج بهذه القرينة، ويرى العموم.
[1: 262]
قال الطبري:
((وَأَمَّا مَعْنَى الْكُفْرِ فِي قَوْلِهِ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا} [البقرة: 6] فَإِنَّهُ الْجُحُودُ. وَذَلِكَ أَنَّ الْأَحْبَارَ مِنْ يَهُودِ الْمَدِينَةِ جَحَدُوا نُبُوَّةَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَسَتَرُوهُ عَنِ النَّاسِ وَكَتَمُوا أَمْرَهُ، وَهُمْ يَعْرِفُونَهُ كَمَا يَعْرِفُونَ أَبْنَاءَهُمْ وَأَصْلُ الْكُفْرِ عِنْدَ الْعَرَبِ تَغْطِيَةُ الشَّيْءِ وَلِذَلِكَ سَمُّوا اللَّيْلَ كَافِرًا لِتَغْطِيَةِ ظُلْمَتِهِ مَا لَبِسَتْهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَتَذَكَّرَا ثِقْلًا رَثِيدًا بَعْدَ مَا ... أَلْقَتْ ذُكَاءُ يَمِينِهَا فِي كَافِرِ
وَقَالَ لَبِيدُ بْنُ رَبِيعَةَ:
فِي لَيْلَةٍ كَفَرَ النُّجُومَ غَمَامُهَا
يَعْنِي غَطَّاهَا. فَكَذَلِكَ الْأَحْبَارُ مِنَ الْيَهُودِ غَطَّوْا أَمْرَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَكَتَمُوهُ النَّاسَ مَعَ عِلْمِهِمْ بِنُبُوَّتِهِ وُوُجُودِهِمْ صِفَتَهُ فِي كُتُبِهِمْ. فَقَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ} [البقرة: 159] وَهُمُ الَّذِينَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِيهِمْ: {إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6].)).

التعليق:

جعل الطبري الكفر هنا كفر الجحود، وقال أن المراد بالخطاب أحبار يهود، وقد نعى الله عليهم ذلك في كتابه .
وأصل مادة (كفر) كما قال من التغطية .
[1: 263]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] وَتَأْوِيلُ {سَوَاءٌ} [البقرة: 6] : مُعْتَدِلٌ، مَأْخُوذٌ مِنَ التَّسَاوِي، كَقَوْلِكَ: مُتَسَاوٍ هَذَانِ الْأَمْرَانِ عِنْدِي، وَهُمَا عِنْدِي سَوَاءٌ؛ أَيْ هُمَا مُتَعَادِلَانِ عِنْدِي. وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلَى سَوَاءٍ} [الأنفال: 58] يَعْنِي أَعْلِمْهُمْ وَآذِنْهُمْ بِالْحَرْبِ حَتَّى يَسْتَوِيَ عِلْمُكَ وَعِلْمُهُمْ بِمَا عَلَيْهِ كُلُّ فَرِيقٍ مِنْهُمْ لِلْفَرِيقِ الْآخَرِ. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ} [البقرة: 6] مُعْتَدِلٌ عِنْدَهُمْ أَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْكَ إِلَيْهِمُ الْإِنْذَارُ أَمْ تَرْكُ الْإِنْذَارِ لِأَنَّهُمْ كَانُوا لَا يُؤْمِنُونَ، وَقَدْ خَتَمْتُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ:
تُغِذُّ بِيَ الشَّهْبَاءُ نَحْوَ ابْنِ جَعْفَرٍ ... سَوَاءٌ عَلَيْهَا لَيْلُهَا وَنَهَارُهَا
يَعْنِي: بِذَلِكَ: مُعْتَدِلٌ عِنْدَهَا السَّيْرُ فِي اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، لِأَنَّهُ لَا فُتُورٌ فِيهِ. وَمِنْهُ قَوْلُ الْآخَرِ:
وَلَيْلٍ يَقُولُ الْمَرْءُ مِنْ ظُلُمَاتِهِ ... سَوَاءٌ صَحِيحَاتُ الْعُيُونِ وَعُورُهَا
لِأَنَّ الصَّحِيحَ لَا يُبْصِرُ فِيهِ إِلَّا بَصَرًا ضَعِيفًا مِنْ ظُلْمَتِهِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ الْكَلَامُ ظُهُورَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ خَبَرٌ؛ لِأَنَّهُ وَقَعَ مَوْقِعَ أَيِّ، كَمَا تَقُولُ: لَا نُبَالِي أَقُمْتَ أَمْ قَعَدْتَ، وَأَنْتَ مُخْبَرٌ لَا مُسْتَفْهِمٌ لِوُقُوعِ ذَلِكَ مَوْقِعَ أَيِّ، وَذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ إِذَا قُلْتَ ذَلِكَ: مَا نُبَالِي أَيُّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْكَ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِهِ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] لَمَّا كَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ: سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَيُّ هَذَيْنِ كَانَ مِنْكِ إِلَيْهِمْ، حَسُنَ فِي مَوْضِعِهِ مَعَ سَوَاءٍ: أَفَعَلْتَ أَمْ لَمْ تَفْعَلْ.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَزْعُمُ أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا دَخَلَ مَعَ سَوَاءٍ وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ إِذَا اسْتَفْهَمَ غَيْرَهُ فَقَالَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ مُسْتَثْبِتٌ صَاحِبَهُ أَيُّهُمَا عِنْدَهُ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْآخَرِ. فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ، أَشْبَهَ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ إِذْ أَشْبَهَهُ فِي التَّسْوِيَةِ، وَقَدْ بَيَّنَّا الصَّوَابَ فِي ذَلِكَ.
فَتَأْوِيلُ الْكَلَامِ إِذًا: مُعْتَدِلٌ يَا مُحَمَّدُ عَلَى هَؤُلَاءِ الَّذِينَ جَحَدُوا نُبُوَّتَكَ مِنْ أَحْبَارِ يَهُودِ الْمَدِينَةِ بَعْدَ عِلْمِهِمْ بِهَا، وَكَتَمُوا بَيَانَ أَمْرِكَ لِلنَّاسِ بِأَنَّكَ رَسُولِي إِلَى خَلْقِي، وَقَدْ أَخَذْتُ عَلَيْهِمُ الْعَهْدَ وَالْمِيثَاقَ أَنْ لَا يَكْتُمُوا ذَلِكَ وَأَنْ يُبَيِّنُوهُ لِلنَّاسِ وَيُخْبِرُوهُمْ أَنَّهُمْ يَجِدُونَ صِفَتَكَ فِي كُتُبِهِمْ؛ {أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] فَإِنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ وَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْحَقِّ وَلَا يُصَدِّقُونَ بِكَ وَبِمَا جِئْتَهُمْ بِهِ؛ لِمَا حَدَّثَنَا، وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 6] أَيْ أَنَّهُمْ قَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ مِنْ ذِكْرٍ وَجَحَدُوا مَا أُخِذَ عَلَيْهِمْ مِنَ الْمِيثَاقِ لَكَ؛ فَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكَ وَبِمَا عِنْدَهُمْ مِمَّا جَاءَهُمْ بِهِ غَيْرُكَ، فَكَيْفَ يَسْمَعُونَ مِنْكَ إِنْذَارًا وَتَحْذِيرًا وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا عِنْدَهُمْ مِنْ عِلْمِكَ ".)).

التعليق:

ذكر المعنى في قوله: (سواء)، أي: معتدل، أي أن تحذيرك وعدم تحذيرك سواء، احتج لمعنى (سواء) هنا، واستشهد بالشعر، فذكر شاهدين، الأول: قول عُبَيْدِ اللَّهِ بْنِ قَيْسِ الرُّقَيَّاتِ، والآخر: للأعشى.
وكأن من أصول الطبري، أنه إذا لم يجد أثرًا عن الصحابة والتابعين، فإنه ينتقل إلى الاحتجاج بالشواهد العربية.
وقوله: ((فَإِنَّهُ ظَهَرَ بِهِ الْكَلَامُ ظُهُورَ الِاسْتِفْهَامِ وَهُوَ خَبَرٌ)).
ظاهر أن هذا الاستفهام لا يراد منه الجواب، فصورته استفهامية، وحقيقته الخبر .
والإتيان بالاستفهام في موضع الخبر له أغراض بلاغية .
والقول الثاني ذكره عن بعض نحويي البصرة، وقال: أَنَّ حَرْفَ الِاسْتِفْهَامِ إِنَّمَا دَخَلَ مَعَ سَوَاءٍ وَلَيْسَ بِاسْتِفْهَامٍ، لِأَنَّ الْمُسْتَفْهِمَ إِذَا اسْتَفْهَمَ غَيْرَهُ فَقَالَ: أَزَيْدٌ عِنْدَكَ أَمْ عَمْرٌو؟ مُسْتَثْبِتٌ صَاحِبَهُ أَيُّهُمَا عِنْدَهُ، فَلَيْسَ أَحَدُهُمَا أَحَقَّ بِالِاسْتِفْهَامِ مِنَ الْآخَرِ.
فَلَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ} [البقرة: 6] بِمَعْنَى التَّسْوِيَةِ، أَشْبَهَ ذَلِكَ الِاسْتِفْهَامَ إِذْ أَشْبَهَهُ فِي التَّسْوِيَةِ.
لكن الطبري رحمه الله لم يقبل هذا التوجيه، والدليل أنه لم يقبله:
1- أنه قرره بعد اختياره بعبارة (وقد كان) .
2- ثم إنه قال (يزعم)، وهذه مشعرة بتضعيفه لذا القول .
3- ثم ختم القول بقوله، (وقد بينا الصواب) .
فدل على أن كلام البصري - وهو الأخفش - ضعيف عند الطبري رحمه الله .


(*) المادة الصوتية.
(1) قال الشيخ، من البحوث الجيدة (اليقين في القرآن الكريم).
(2) (1: 7).
(3) المحرر الوجيز: (1: 87).
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الرابع عشر: (2 - 5 - 1435)
التاريخ: 14 - 5 - 1435 الموافق 15/03/2014
عدد الزيارات: 231
اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1: 267]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] وَأَصْلُ الْخَتْمِ: الطَّبْعُ، وَالْخَاتَمُ: هُوَ الطَّابَعُ يُقَالُ مِنْهُ: خَتَمْتُ الْكِتَابَ، إِذَا طَبَعْتُهُ. فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ يُخْتَمُ عَلَى الْقُلُوبِ، وَإِنَّمَا الْخَتْمُ طَبْعٌ عَلَى الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ وَالْغُلْفِ قِيلَ: فَإِنَّ قُلُوبَ الْعِبَادِ أَوْعِيَةٌ لِمَا أُودِعَتْ مِنَ الْعُلًومِ وَظُرُوفٌ لِمَا جُعِلَ فِيهَا مِنَ الْمَعَارِفِ بِالْأُمُورِ، فَمَعْنَى الْخَتْمِ عَلَيْهَا وَعَلَى الْأَسْمَاعِ الَّتِي بِهَا تُدْرَكُ الْمَسْمُوعَاتُ، وَمِنْ قَبْلِهَا يُوصَلُ إِلَى مَعْرِفَةِ حَقَائِقِ الْأَنْبَاءِ عَنِ الْمُغِيبَاتِ، نَظِيرَ مَعْنَى الْخَتْمِ عَلَى سَائِرِ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ. فَإِنْ قَالَ: فَهَلْ لِذَلِكَ مِنْ صِفَةٍ تَصِفُهَا لَنَا فَنَفْهَمُهَا؟ أَهِيَ مِثْلُ الْخَتْمِ الَّذِي يُعْرَفُ لَمَّا ظَهَرَ لِلْأَبْصَارِ، أَمْ هِيَ بِخِلَافِ ذَلِكَ؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي صِفَةِ ذَلِكَ، وَسَنُخْبِرُ بِصِفَتِهِ بَعْدَ ذِكْرِنَا قَوْلَهُمْ.

وبإسناده، عَنِ الْأَعْمَشِ، قَالَ: " أَرَانَا مُجَاهِدٌ بِيَدِهِ فَقَالَ: كَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ الْقَلْبَ فِي مِثْلِ هَذَا، يَعْنِي الْكَفَّ، فَإِذَا أَذْنَبَ الْعَبْدُ ذَنْبًا ضُمَّ مِنْهُ، وَقَالَ بِأُصْبُعِهِ الْخِنْصَرِ هَكَذَا، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ، وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى، فَإِذَا أَذْنَبَ ضُمَّ، وَقَالَ بِأُصْبُعٍ أُخْرَى هَكَذَا، حَتَّى ضَمَّ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا. قَالَ: ثُمَّ يُطْبَعُ عَلَيْهِ بِطَابَعٍ. قَالَ مُجَاهِدٌ: وَكَانُوا يَرَوْنَ أَنَّ ذَلِكَ الرَّيْنُ ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الْقَلْبُ مِثْلُ الْكَفِّ، فَإِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا قَبَضَ أُصْبُعًا حَتَّى يَقْبِضَ أَصَابِعَهُ كُلَّهَا. وَكَانَ أَصْحَابُنَا يَرَوْنَ أَنَّهُ الرَّانُ».
وبإسناده، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: «نُبِّئْتُ أَنَّ الذُّنُوبَ عَلَى الْقَلْبِ تَحُفُّ بِهِ مِنْ نَوَاحِيهِ حَتَّى تَلْتَقِيَ عَلَيْهِ، فَالْتِقَاؤُهَا عَلَيْهِ الطَّبْعُ، وَالطَّبْعُ الْخَتْمُ» قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ: الْخَتْمُ خَتْمٌ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ.
وبإسناده، عَبْدُ اللَّهِ بْنُ كَثِيرٍ، أَنَّهُ سَمِعَ مُجَاهِدًا، يَقُولُ: «الرَّانُ أَيْسَرُ مِنَ الطَّبْعِ، وَالطَّبْعُ أَيْسَرُ مِنَ الْإِقْفَالِ، وَالْإِقْفَالُ أَشَدُّ ذَلِكَ كُلِّهِ» .
وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا لَأَصَمُّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ وَرَفَعَ نَفْسَهُ عَنْ تُفَهُّمِهِ تُكَبُّرًا. وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ.
وبإسناده، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنْ أَبِي هُرَيْرَةَ، قَالَ: قَالَ رَسُولُ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " إِنَّ الْمُؤْمِنَ إِذَا أَذْنَبَ ذَنْبًا كَانَتْ نُكْتَةٌ سَوْدَاءُ فِي قَلْبِهِ، فَإِنْ تَابَ وَنَزَعَ وَاسْتَغْفَرَ صُقِلَ قَلْبُهُ، فَإِنْ زَادَ زَادَتْ حَتَّى يُغَلَّفَ قَلْبُهُ؛ فَذَلِكَ الرَّانُ الَّذِي قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ} [المطففين: 14] " فَأَخْبَرَ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الذُّنُوبَ، إِذَا تَتَابَعَتْ عَلَى الْقُلُوبِ أَغْلَفَتْهَا، وَإِذَا أَغْلَفَتْهَا أَتَاهَا حِينَئِذٍ الْخَتْمُ مِنْ قِبَلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَالطَّبْعُ، فَلَا يَكُونُ لِلْإِيمَانِ إِلَيْهَا مَسْلَكٌ، وَلَا لِلْكُفْرِ مِنْهَا مُخَلِّصٌ. فَذَلِكَ هُوَ الطَّبْعُ وَالْخَتْمُ الَّذِي ذَكَرَهُ اللَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي قَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] نَظِيرُ الطَّبْعِ وَالْخَتْمِ عَلَى مَا تُدْرِكُهُ الْأَبْصَارُ مِنَ الْأَوْعِيَةِ وَالظُّرُوفِ الَّتِي لَا يُوصَلُ إِلَى مَا فِيهَا إِلَّا بِفَضِّ ذَلِكَ عَنْهَا ثُمَّ حِلِّهَا، فَكَذَلِكَ لَا يَصِلُّ الْإِيمَانُ إِلَى قُلُوبِ مِنْ وَصْفِ اللَّهِ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، إِلَّا بَعْدَ فَضِّهِ خَاتَمَهُ وَحِلِّهِ رِبَاطَهُ عَنْهَا.)).

التعليق:
قوله: ((وَأَصْلُ الْخَتْمِ: الطَّبْعُ، وَالْخَاتَمُ: هُوَ الطَّابَعُ يُقَالُ مِنْهُ: خَتَمْتُ الْكِتَابَ، إِذَا طَبَعْتُهُ.)).
مادة ختم وتفصيلها يأتي في قوله تعالى: {ختامه مسك}، ومادة ختم لها ثلاث معانٍ:
1- انتهاء الشيء، فيقال ختم الكتاب إذا انتهى منه .
2- الطبع .
3- والمعنى الثالث: الخلط .
والذي يعنينا هنا، هو الختم الذي بمعنى الطبع، ولذا فإن مادة (ختم) أوسع دلالة من مادة (طبع).
ولهذا فإن معنى الفراغ من الشيء يوجد في مادة (ختم) ولا يوجد في مادة (طبع) ، فكل طبع ختم، ولا عكس .
ودلالة الختم وهي: الانتهاء من الشيء، والطبع، كلاهما موجود في الآية، وتفسير الختم بالطبع تفسير للفظ بجزء من معناه .
كذلك دلالة الختم تشير إلى أن الطبع وقع للكل، بحيث لم يبق منه شيء لم يطبع. وتفسير مجاهد - والله أعلم - يشعر بفائدة التعبير بالختم هنا عن الطبع .
- وقد أشار الطبري رحمه الله إلى مسألة مهمة، وهي هل يكون الختم حقيقة أم لا ؟
وذهب رحمه الله أنه ختمٌ حقيقي، بينما ذهب المعتزلة وغيرهم إلى أنه مجازي ، وجعلوه مجازًا من جهتين:
1- من جهة نفسه .
2- من جهة إسناده إلى الله عزوجل .
ويلاحظ أن الطبري هنا قال:( قد اختلف أهل التأويل في صفة ذلك) ثم ذكر قول مجاهد، ثم قال: (وقال بعضهم) ولم يسمهم، ثم انتصر لقول مجاهد بحديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذلك بقوله: (( وَالْحَقُّ فِي ذَلِكَ عِنْدِي مَا صَحَّ بِنَظِيرِهِ الْخَبَرُ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ )). وكأنه بقوله هذا يشير إلى أن مجاهد اعتمد هذا الأثر الوارد ولم يخرج عنه، بخلاف أهل الاعتزال الذين قالوا بقولٍ محدثٍ، وهو كما ذكره الطبري - رحمه الله - عنهم، بقوله: ((وَقَالَ بَعْضُهُمْ: إِنَّمَا مَعْنَى قَوْلِهِ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ تَكَبُّرِهِمْ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الِاسْتِمَاعِ لِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْحَقِّ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا لَأَصَمُّ عَنْ هَذَا الْكَلَامِ، إِذَا امْتَنَعَ مِنْ سَمَاعِهِ وَرَفَعَ نَفْسَهُ عَنْ تُفَهُّمِهِ تُكَبُّرًا.)).
وهذا القول -كما هو واضح- فيه مخالفة للظاهر، وفرارٌ من إسناد الختم إلى الله تعالى، ولذا قال ابن كثير رحمه الله: ((وَهَذَا لَا يَصِحُّ؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَأَسْمَاعِهِمْ.))[SUP]([1])[/SUP].
وقد رد الطبري على أهل الاعتزال بعد ذلك، وقال بأنه ليس ثمة مجازٍ، وأن الختم واقعٌ على الحقيقة.
[1: 268]
قال الطبري:

((وَيُقَالُ لِقَائِلِي الْقَوْلِ الثَّانِي الزَّاعِمِينَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] هُوَ وَصْفُهُمْ بِالِاسْتِكْبَارِ وَالْإِعْرَاضِ عَنِ الَّذِي دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْحَقِّ تَكَبُّرًا: أَخْبِرُونَا عَنِ اسْتِكْبَارِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ وَإِعْرَاضِهِمْ عَنِ الْإِقْرَارِ بِمَا دُعُوا إِلَيْهِ مِنَ الْإِيمَانِ وَسَائِرِ الْمَعَانِي اللَّوَاحِقِ بِهِ، أَفِعْلٌ مِنْهُمْ، أَمْ فِعْلٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِهِمْ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ فِعْلٌ مِنْهُمْ وَذَلِكَ قَوْلُهُمْ، قِيلَ لَهُمْ: فَإِنَّ اللَّهَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى قَدْ أَخْبَرَ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَسَمْعِهِمْ، وَكَيْفَ يَجُوزُ أَنْ يَكُونَ إِعْرَاضُ الْكَافِرِ عَنِ الْإِيمَانِ وَتَكَبُّرُهُ عَنِ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَهُوَ فِعْلُهُ عِنْدَكُمْ خَتْمًا مِنَ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ، وَخَتْمُهُ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ فِعْلُ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ دُونَ فِعْلِ الْكَافِرِ؟ فَإِنْ زَعَمُوا أَنَّ ذَلِكَ جَائِزٌ أَنْ يَكُونَ كَذَلِكَ، لِأَنَّ تَكَبُّرَهُ وَإِعْرَاضَهُ كَانَا عَنْ خَتْمِ اللَّهِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ، فَلَمَّا كَانَ الْخَتْمُ سَبَبًا لِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُسَبِّبُهُ بِهِ؛ تَرَكُوا قَوْلَهُمْ، وَأَوْجَبُوا أَنَّ الْخَتْمَ مِنَ اللَّهِ عَلَى قُلُوبِ الْكُفَّارِ وَأَسْمَاعِهِمْ مَعْنَى غَيْرِ كُفْرِ الْكَافِرِ وَغَيْرِ تَكَبُّرِهِ وَإِعْرَاضِهِ عَنْ قَبُولِ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِهِ، وَذَلِكَ دُخُولٌ فِيمَا أَنْكَرُوهُ.)).

التعليق:

وكلام الطبري السابق فيه مناقشة للمعتزلة بالحجج العقلية.
ومناقشاته العقدية قليلة وظاهرة في أول تفسيره، ولو استمر بها في كتابه كله لطال.
ولو دُرس موضوع: الحجج العقلية العقدية عند الطبري سنجد أمثلة لا بأس بها، (وربما يكون قد دُرس).
ثم ذكر مسألة ذكرها الزمخشري - الذي نقلها من أصحابه -، فقال: ((فَلَمَّا كَانَ الْخَتْمُ سَبَبًا لِذَلِكَ جَازَ أَنْ يُسَمَّى مُسَبِّبُهُ بِهِ؛ تَرَكُوا قَوْلَهُمْ )) وذا أسلوبٌ معروفٌ في لغة العرب، وهو أنه إذا قارب الشيء شيءٌ آخر سُمي به؛ لكن لا يلزم الاطراد في هذا الأسلوب في كل مثال؛ لأنه قد يصرف عن الأخذ به ضابط من الضوابط كما هو واقعٌ هنا، وهو ما ناقشهم الطبري – رحمه الله- فيه، وذكر من خلال كلامه بعض الضوابط هنا:
- أن الأصل في الكلام هو الحقيقة.
- أن الله تعالى نسب الختم لنفسه.
ودراسة هذه الضوابط مهمٌ جدًا.
قال الطبري:
((وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الْأَدِلَّةِ عَلَى فَسَادِ قَوْلِ الْمُنْكِرِينَ تَكْلِيفَ مَا لَا يُطَاقُ إِلَّا بِمَعُونَةِ اللَّهِ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِ صِنْفٍ مِنْ كُفَّارِ عِبَادِهِ وَأَسْمَاعِهِمْ، ثُمَّ لَمْ يُسْقِطِ التَّكْلِيفَ عَنْهُمْ وَلَمْ يَضَعْ عَنْ أَحَدٍ مِنْهُمْ فَرَائِضَهُ وَلَمْ يَعْذِرُهُ فِي شَيْءٍ مِمَّا كَانَ مِنْهُ مِنْ خِلَافِ طَاعَتِهِ بِسَبَبِ مَا فَعَلَ بِهِ مِنَ الْخَتْمِ وَالطَّبْعِ عَلَى قَلْبِهِ وَسَمْعِهِ، بَلْ أَخْبَرَ أَنَّ لِجَمِيعِهِمْ مِنْهُ عَذَابًا عَظِيمًا عَلَى تَرْكِهِمْ طَاعَتَهُ فِيمَا أَمَرَهُمْ بِهِ وَنَهَاهُمْ عَنْهُ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ مَعَ حَتْمِهِ الْقَضَاءَ مَعَ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ لَا يُؤْمِنُونَ.)).

التعليق:

بعد أن أثبت - رحمه الله - أن المعنى في الآية واقعٌ على الحقيقة لا على المجاز، انتقل إلى الاستدلال بهذه الآية على جواز التكليف بما لا يُطاق؛ لأن الله تعالى ختم على قلوبهم، ولم يسقط عنهم التكليف.
والختم منه سبحانه لم يأت ابتداءً، وإنما جاء كنتيجة لإعراضهم واستمرارهم في الكفر. فالله تعالى لا يعاقب العبد ابتداءً ، وإنما يترك له الاختيار، فإن اختار طريقًا خطأً، ثم استغفر، تاب الله عليه، وإن تمادى عاقبه الله تعالى من جنس عمله، كما قال تعالى: (فلما زاغوا أزاغ الله قلوبهم)[SUP]([2])([3])[/SUP].
[1: 269]
قال الطبري:

((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] وَقَوْلُهُ: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] خَبَرُ مُبْتَدَأٍ بَعْدَ تَمَامِ الْخَبَرِ عَمَّا خَتَمَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَلَيْهِ مِنْ جَوَارِحِ الْكُفَّارِ الَّذِينَ مَضَتْ قِصَصُهُمْ، وَذَلِكَ أَنَّ {غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] مَرْفُوعَةٌ بِقَوْلِهِ: {وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ} [البقرة: 7] فَذَلِكَ دَلِيلٌ عَلَى أَنَّهُ خَبَرُ مُبْتَدَأٍ، وَأَنَّ قَوْلَهُ: {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ} [البقرة: 7] قَدْ تَنَاهَى عِنْدَ قَوْلِهِ: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وَذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَنَا لِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: اتِّفَاقُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَصْحِيحِهَا، وَانْفِرَادُ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَشُذُوذُهُ عَمَّا هُمْ عَلَى تَخْطِئَتِهِ مُجْمِعُونَ؛ وَكَفَى بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى تَخْطِئَةِ قِرَاءَتِهِ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا. وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَتْمَ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِهِ الْعُيُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَوْجُودٌ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ. وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23] ثُمَّ قَالَ: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] فَلَمْ يُدْخِلِ الْبَصَرَ فِي مَعْنَى الْخَتْمِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ. فَلَمْ يَجُزْ لَنَا وَلَا لِأَحَدٍ مِنَ النَّاسِ الْقِرَاءَةُ بِنَصْبِ الْغِشَاوَةِ لِمَا وَصَفْتُ مِنَ الْعِلَّتَيْنِ اللَّتَيْنِ ذَكَرْتُ، وَإِنْ كَانَ لِنَصْبِهَا مَخْرَجٌ مَعْرُوفٌ فِي الْعَرَبِيَّةِ.
وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وبإسناده، الْحُسَيْن بْن الْحَسَنِ، عَنْ أَبِيهِ، عَنْ جَدِّهِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وَالْغِشَاوَةُ عَلَى أَبْصَارِهِمْ ".)).

التعليق:

هنا ذكر - رحمه الله - مسألة الإعراب، ليبين مكان الوقف عنده، وهو عند قوله: {ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم} ثم يستأنف {وعلى أبصارهم} ثم تحدث عن معنى القراءة عنده، فقال:
((وَذَلِكَ هُوَ الْقِرَاءَةُ الصَّحِيحَةُ عِنْدَنَا لِمَعْنَيَيْنِ، أَحَدُهُمَا: اتِّفَاقُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَصْحِيحِهَا، وَانْفِرَادُ الْمُخَالِفِ لَهُمْ فِي ذَلِكَ وَشُذُوذُهُ عَمَّا هُمْ عَلَى تَخْطِئَتِهِ مُجْمِعُونَ؛ وَكَفَى بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى تَخْطِئَةِ قِرَاءَتِهِ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا.)).
ذكر هنا أن القراءة التي اختارها صحيحةٌ لمعنيين:
المعنى الأول: ((اتِّفَاقُ الْحُجَّةِ مِنَ الْقُرَّاءِ وَالْعُلَمَاءِ عَلَى الشَّهَادَةِ بِتَصْحِيحِهَا.)) أي أن اتفاق الحجة دليل على صحة هذه القراءة.>
المعنى الثاني: ((وَكَفَى بِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ عَلَى تَخْطِئَةِ قِرَاءَتِهِ شَاهِدًا عَلَى خَطَئِهَا )) أي أن شذوذ وانفراد المخالف لهم دليلٌ على تخطئتهم له، ولو لم ينصوا على ذلك، وهذا الاستدلال منه روائي لا درائي .
ثم قال: ((وَالثَّانِي: أَنَّ الْخَتْمَ غَيْرُ مَوْصُوفَةٍ بِهِ الْعُيُونُ فِي شَيْءٍ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ، وَلَا فِي خَبَرٍ عَنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَلَا مَوْجُودٌ فِي لُغَةِ أَحَدٍ مِنَ الْعَرَبِ.)).
فاستدل على صحة ما ذهب إليه بأن الختم لا توصف به العيون في المصادر الثلاثة التي ذكرها (الكتاب - السنة - اللغة).
كما استدل بالنظير القرآني على صحة ما ذهب إليه، فقال: ((وَقَدْ قَالَ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِي سُورَةٍ أُخْرَى: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ} [الجاثية: 23] ثُمَّ قَالَ: {وَجَعَلَ عَلَى بَصَرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] فَلَمْ يُدْخِلِ الْبَصَرَ فِي مَعْنَى الْخَتْمِ، وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْرُوفُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ.)).
ثم بعد أن استدل على صحة ما ذهب إليه، قال: (( وَبِمَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ، رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.))
فهل تأخيره لهذه الرواية، وتعبيره بلفظ: (رُوِيَ) إشعارٌ منه بضعف هذه الرواية؟ هذا محل بحث.
قال الطبري:
((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَمَا وَجْهُ مَخْرَجِ النَّصْبِ فِيهَا؟ قِيلَ لَهُ: إِنْ نَصَبَهَا بِإِضْمَارِ جَعَلَ كَأَنَّهُ قَالَ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً؛ ثُمَّ أَسْقَطَ جَعَلَ؛ إِذْ كَانَ فِي أَوَّلِ الْكَلَامِ مَا يَدُلُّ عَلَيْهِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ نَصَبُهَا عَلَى اتِّبَاعِهَا مَوْضِعَ السَّمْعِ إِذْ كَانَ مَوْضِعُهُ نَصْبًا، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ حَسَنًا إِعَادَةُ الْعَامِلِ فِيهِ عَلَى غِشَاوَةٍ وَلَكِنْ عَلَى إِتْبَاعِ الْكَلَامِ بَعْضَهُ بَعْضًا، كَمَا قَالَ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُخَلَّدُونَ بِأَكْوَابٍ وَأَبَارِيقَ} [الواقعة: 18] ثُمَّ قَالَ: {وَفَاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ وَلَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ وَحُورٍ عِينٍ} [الواقعة: 20] فَخَفَضَ اللَّحْمَ وَالْحُورَ عَلَى الْعَطْفِ بِهِ عَلَى الْفَاكِهَةِ إِتْبَاعًا لِآخِرِ الْكَلَامِ أَوَّلَهُ. وَمَعْلُومٌ أَنَّ اللَّحْمَ لَا يُطَافُ بِهِ وَلَا بِالْحُورِ، وَلَكِنَّ ذَلِكَ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ يَصِفُ فَرَسَهُ:
عَلَفْتُهَا تِبْنًا وَمَاءً بَارِدًا ... حَتَّى شَتَتْ هَمَّالَةً عَيْنَاهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْمَاءَ يُشْرَبُ وَلَا يُعْلَفُ بِهِ، وَلَكِنَّهُ نَصَبَ ذَلِكَ عَلَى مَا وَصَفْتُ قَبْلُ. وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
وَرَأَيْتُ زَوْجَكِ فِي الْوَغَى ... مُتَقَلِّدًا سَيْفًا وَرُمْحَا
وَكَانَ ابْنُ جُرَيْجٍ يَقُولُ فِي انْتِهَاءِ الْخَبَرِ عَنِ الْخَتْمِ إِلَى قَوْلِهِ: {وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] وَابْتِدَاءِ الْخَبَرِ بَعْدَهُ؛ بِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِيهِ، وَيَتَأَوَّلُ فِيهِ مِنْ كِتَابِ اللَّهِ: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ}.
ابْنُ جُرَيْجٍ، قَالَ: «الْخَتْمُ عَلَى الْقَلْبِ وَالسَّمْعِ، وَالْغِشَاوَةُ عَلَى الْبَصَرِ» قَالَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلَى قَلْبِكَ} وَقَالَ: {وَخَتَمَ عَلَى سَمْعِهِ وَقَلْبِهِ وَجَعَلَ عَلَى بَصْرِهِ غِشَاوَةً} [الجاثية: 23] وَالْغِشَاوَةُ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: الْغِطَاءُ وَمِنْهُ قَوْلُ الْحَارِثِ بْنِ خَالِدِ بْنِ الْعَاصِ:
تَبِعْتُكَ إِذْ عَيْنِي عَلَيْهَا غِشَاوَةٌ ... فَلَمَّا انْجَلَتْ قَطَّعْتُ نَفْسِي أَلُومُهَا
مِنْهُ يُقَالُ: تَغَشَّاهُ الْهَمُّ: إِذَا تَجَلَّلَهُ وَرَكِبَهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ نَابِغَةِ بَنِي ذُبْيَانَ:
هَلَّا سَأَلْتِ بَنِي ذُبْيَانَ مَا حَسَبِي ... إِذَا الدُّخَانُ تَغَشَّى الْأَشْمَطَ الْبَرِمَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: إِذَا تَجَلَّلَهُ وَخَالَطَهُ.)).

التعليق:

وما قاله ابن جريج يمكن أن يضاف إلى الحجج، والله أعلم .
قال الطبري:
((وَإِنَّمَا أَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ نَبِيَّهُ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَنِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِهِ مِنْ أَحْبَارِ الْيَهُودِ، أَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَطَبَعَ عَلَيْهَا فَلَا يَعْقِلُونَ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَوْعِظَةً وَعَظَهُمْ بِهَا فِيمَا آتَاهُمْ مِنْ عِلْمِ مَا عِنْدَهُمْ مِنْ كُتُبِهِ، وَفِيمَا حَدَّدَ فِي كِتَابِهِ الَّذِي أَوْحَاهُ وَأَنْزَلَهُ إِلَى نَبِيِّهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَعَلَى سَمْعِهِمْ فَلَا يَسْمَعُونَ مِنْ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ نَبِيِّ اللَّهِ تَحْذِيرًا وَلَا تَذْكِيرًا وَلَا حُجَّةً أَقَامَهَا عَلَيْهِمْ بِنُبُوَّتِهِ، فَيَتَذَكَّرُوا وَيَحْذَرُوا عِقَابَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ فِي تَكْذِيبِهِمْ إِيَّاهُ، مَعَ عِلْمِهِمْ بِصِدْقِهِ وَصِحَّةِ أَمْرِهِ؛ وَأَعْلَمَهُ مَعَ ذَلِكَ أَنَّ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً عَنْ أَنْ يُبْصِرُوا سَبِيلَ الْهُدَى فَيَعْلَمُوا قُبْحَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الضَّلَالَةِ وَالرَّدَى. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنْ جَمَاعَةٍ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ،
وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ} [البقرة: 7] أَيْ عَنِ الْهُدَى أَنْ يُصِيبُوهُ أَبَدًا بِغَيْرِ مَا كَذَّبُوكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ، حَتَّى يُؤْمِنُوا بِهِ، وَإِنْ آمَنُوا بِكُلِّ مَا كَانَ قَبْلَكَ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ} [البقرة: 7] يَقُولُ فَلَا يَعْقِلُونَ، وَلَا يَسْمَعُونَ وَيَقُولُ: وَجَعَلَ عَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةً، يَقُولُ: عَلَى أَعْيُنِهِمْ فَلَا يُبْصِرُونَ ".
وَأَمَّا آخَرُونَ فَإِنَّهُمْ كَانُوا يَتَأَوَّلُونَ أَنَّ الَّذِينَ أَخْبَرَ اللَّهُ عَنْهُمْ مِنَ الْكُفَّارِ أَنَّهُ فَعَلَ ذَلِكَ بِهِمْ هُمْ قَادَةُ الْأَحْزَابِ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ.
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: " هَاتَانِ الْآيَتَانِ إِلَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] هُمُ: {الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَةَ اللَّهِ كُفْرًا وَأَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دَارَ الْبَوَارِ} [إبراهيم: 28] وَهُمُ الَّذِينَ قُتِلُوا يَوْمَ بَدْرٍ فَلَمْ يَدْخُلْ مِنَ الْقَادَةِ أَحَدٌ فِي الْإِسْلَامِ إِلَّا رَجُلَانِ: أَبُو سُفْيَانَ بْنُ حَرْبٍ، وَالْحَكَمُ بْنُ أَبِي الْعَاصِ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، عَنِ الْحَسَنِ، قَالَ: «أَمَّا الْقَادَةُ فَلَيْسَ فِيهِمْ مُجِيبٌ، وَلَا نَاجٍ، وَلَا مُهْتَدٍ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى عَلَى أَوْلَى هَذَيْنِ التَّأْوِيلَيْنِ بِالصَّوَابِ فَكَرِهْنَا إِعَادَتَهُ».)).

التعليق:

رجع الطبري رحمه الله إلى بيان من نزل فيهم الخطاب، وقد ذهب إلى أنها نزلت في يهود .
وذكر أدلته، ثم ذكر قول الربيع والحسن أنها نزلت في قادة بدر، وظاهر من كلام الربيع الاستثناء، وأن الآية متحققة فيمن مات منهم على الكفر .
[1: 247]
قال الطبري:

((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ} [البقرة: 7] وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ عِنْدِي كَمَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَتَأَوَّلَهُ.
وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " وَلَهُمْ بِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنْ خِلَافِكَ عَذَابٌ عَظِيمٌ، قَالَ: فَهَذَا فِي الْأَحْبَارِ مِنْ يَهُودَ فِيمَا كَذَّبُوكَ بِهِ مِنَ الْحَقِّ الَّذِي جَاءَكَ مِنْ رَبِّكَ بَعْدَ مَعْرِفَتِهِمْ ".)).



(1) تفسير ابن كثير: (1: 174).
(2) ومنهم القاضي البيضاوي، في مناقشته للزمخشري - وهو قد اعتمد على كتابه وعلى كتاب الراغب- وحين تقارن بين تفسير الطبري وهذه الكتب تجد الفرق الواضح بينهم في تناول هذه المسائل.
(3) قال الإمام ابن كثير رحمه الله:
((وَقَدْ أَطْنَبَ الزَّمَخْشَرِيُّ فِي تَقْرِيرِ مَا رَدَّهُ ابْنُ جَرِيرٍ هَاهُنَا وَتَأَوَّلَ الْآيَةَ مِنْ خَمْسَةِ أَوْجُهٍ وَكُلُّهَا ضَعِيفَةٌ جَدًّا، وَمَا جَرَّأَهُ عَلَى ذَلِكَ إِلَّا اعْتِزَالُهُ؛ لِأَنَّ الْخَتْمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَمَنْعَهَا مِنْ وُصُولِ الْحَقِّ إِلَيْهَا قَبِيحٌ عِنْدَهُ -تَعَالَى اللَّهُ عَنْهُ فِي اعْتِقَادِهِ-وَلَوْ فُهِمَ قَوْلَهُ تَعَالَى: {فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ} وَقَوْلُهُ {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ مِنَ الْآيَاتِ الدَّالَّةِ عَلَى أَنَّهُ تَعَالَى إِنَّمَا خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَحَالَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ الْهُدَى جَزَاءً وِفَاقًا عَلَى تَمَادِيهِمْ فِي الْبَاطِلِ وَتَرْكِهِمُ الْحَقَّ، وَهَذَا عَدْلٌ مِنْهُ تَعَالَى حَسَنٌ وَلَيْسَ بِقَبِيحٍ، فَلَوْ أَحَاطَ عِلْمًا بِهَذَا لَمَا قَالَ مَا قَالَ، وَاللَّهُ أَعْلَمُ.)) تفسير ابن كثير: (1: 174).
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الخامس عشر: (9 - 5 - 1435)
التاريخ: 16 - 5 - 1435 الموافق 17/03/2014
عدد الزيارات: 289

اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1: 274]

قال الطبري رحمه الله:

((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: أَمَّا قَوْلُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ} [البقرة: 8] فَإِنَّ فِي النَّاسِ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا أَنْ يَكُونَ جَمْعًا لَا وَاحِدَ لَهُ مِنْ لَفْظِهِ، وَإِنَّمَا وَاحِدُهُ إِنْسَانٌ وَوَاحِدَتُهُ إِنْسَانَةٌ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ: أَنْ يَكُونَ أَصْلُهُ أُنَاسٌ أُسْقِطَتِ الْهَمْزَةُ مِنْهَا لِكَثْرَةِ الْكَلَامِ بِهَا، ثُمَّ دَخَلَتْهَا الْأَلِفُ وَاللَّامُ الْمُعَرَّفَتَانِ، فَأُدْغِمَتِ اللَّامُ الَّتِي دَخَلَتْ مَعَ الْأَلِفِ فِيهَا لِلتَّعْرِيفِ فِي النُّونِ، كَمَا قِيلَ فِي: {لَكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي} [الكهف: 38] عَلَى مَا قَدْ بَيَّنَّا فِي اسْمِ اللَّهِ الَّذِي هُوَ اللَّهُ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّاسَ لُغَةٌ غَيْرُ أُنَاسٍ، وَأَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تُصَغِّرُهُ نُوَيْسٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ لَوْ كَانَ أُنَاسٌ لَقِيلَ فِي التَّصْغِيرِ: أُنَيْسٌ، فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ. وَأَجْمَعَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ صِفَتُهُمْ.)).

التعليق:
ذكر الطبري –رحمه الله- وجه تصريف كلمة الناس، وهل هي جمعٌ لا واحد له من لفظه، أو أن يكون أصلها: الأناس، ثم أُسقطت الهمزةُ وصارت: الناس، من باب الإدغام.
وفي كتب اللغة ومعاني القرآن زيادة عما هنا .
ولم يشر الطبري إلى اختياره، ولكنه أشار إلى الرد على من جعل ناس أناس، وكأنه يميل إلى أن كلا القولين على الاحتمال .
ولو نظرنا إلى قوله، ((وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُهُمْ أَنَّ النَّاسَ لُغَةٌ غَيْرُ أُنَاسٍ، وَأَنَّهُ سَمِعَ الْعَرَبَ تُصَغِّرُهُ نُوَيْسٌ مِنَ النَّاسِ، وَأَنَّ الْأَصْلَ لَوْ كَانَ أُنَاسٌ لَقِيلَ فِي التَّصْغِيرِ: أُنَيْسٌ، فَرُدَّ إِلَى أَصْلِهِ.)).
فهذا فيه إشعار إلى أنه قولٌ؛ لكنه لا يرتضيه .
وقوله: ((وَأَجْمَعَ جَمِيعُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ))، فهذا نص منه على الإجماع، والإجماع عند الطبري على قسمين:
1- الإجماع المطلق، وهو اتفاق أهل التأويل جميعاً بلا خلاف، مثل نصه هنا .
2- الإجماع الذي يقع فيه مخالفة الواحد والاثنين، كقوله:( وأجمع أهل التأويل) ثم يذكر مخالفة الواحد والاثنين ولا يؤثر هذا في الإجماع عنده.
وقوله: ((عَلَى أَنَّ هَذِهِ الْآيَةَ نَزَلَتْ فِي قَوْمٍ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ، وَأَنَّ هَذِهِ الصِّفَةَ صِفَتُهُمْ.)).
أي أن المقصود الأولي عنده بالآية قوم معينين من أهل النفاق، وليس عموم المنافقين.
ثم ساق الروايات في ذلك:
قال الطبري:
((ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِأَسْمَائِهِمْ .

وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ " وَقَدْ سُمَيَّ فِي حَدِيثِ ابْنِ عَبَّاسٍ هَذَا أَسْمَاؤُهُمْ عَنْ أُبَيِّ بْنِ كَعْبٍ، غَيْرَ أَنِّي تَرَكْتُ تَسْمِيَتَهُمْ كَرَاهَةَ إِطَالَةِ الْكِتَابِ بِذِكْرِهِمْ.
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] حَتَّى بَلَغَ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] قَالَ: هَذِهِ فِي الْمُنَافِقِينَ ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ».
وبإسناده، عَنْ إِسْمَاعِيلَ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، وَعَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] هُمُ الْمُنَافِقُونَ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] إِلَى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النِّفَاقِ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] قَالَ: هَذَا الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ ".)).

التعليق:

وفي الآثار التي ذكرها الطبري- رحمه الله- عدة مسائل:
1- قول الطبري: ((ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ بِأَسْمَائِهِمْ )) فيه دليل على أنه لم يذكر جميع ما عنده من الرواية بل اكتفى بما ذكره.
2- أنها نزلت في قوم من أهل النفاق لا في جميع أهل النفاق، كما في أثر ابن عباس عن عكرمة أو عن سعيد بن جبير؛ قال: "يَعْنِي الْمُنَافِقِينَ مِنَ الْأَوْسِ وَالْخَزْرَجِ، وَمَنْ كَانَ عَلَى أَمْرِهِمْ " ثم سمى ابن عباس أسمائهم، فكأن المراد أنها نزلت في هؤلاء الأعيان أولاً.
3- باقي الآثار ليس فيها تعيين، وتدل على نفس المعنى الذي ذهب إليه الطبري رحمه الله.
4- حمل الطبري الروايات الأخرى على رواية ابن عباس، لا يعني عدم العموم عنده، بل مراده تعيين من قُصد بالآية أولاً.
وبعض كبار المتأخرين يستدرك عليه، ويظن أن الطبري يرى أنها خاصة في قومٍ من المنافقين دون غيرهم، وأنه خالف قاعدة العموم، وبخطئه من هذه الجهة.
5- قول مُجَاهِد : «هَذِهِ الْآيَةُ إِلَى ثَلَاثَ عَشْرَةَ فِي نَعْتِ الْمُنَافِقِينَ» فيه نظر موضوعي من حيث تقسيم الآيات، وعلى هذا لم يغفل المتقدمين عن النظر الموضوعي.
وهو مجال صالح للبحث، (النظر الموضوعي عند الصحابة والتابعين) .
[1: 277]
قال الطبري:

((وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ لَمَّا جَمَعَ لِرَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَمْرَهُ فِي دَارِ هِجْرَتِهِ وَاسْتَقَرَّ بِهَا قَرَارَهُ وَأَظْهَرَ اللَّهُ بِهَا كَلِمَتَهُ، وَفَشَا فِي دُورِ أَهْلِهَا الْإِسْلَامُ، وَقَهَرَ بِهَا الْمُسْلِمُونَ مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الشِّرْكِ مِنْ عَبْدَةِ الْأَوْثَانِ، وَذَلَّ بِهَا مَنْ فِيهَا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ؛ أَظْهَرَ أَحْبَارُ يَهُودِهَا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّه عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الضَّغَائِنَ وَأَبْدُوا لَهُ الْعَدَاوَةَ وَالشَّنْآنَ حَسَدًا وَبَغْيًا إِلَّا نَفَرًا مِنْهُمْ، هَدَاهُمُ اللَّهُ لِلْإِسْلَامِ فَأَسْلَمُوا، كَمَا قَالَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدَ مَا تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ} [البقرة: 109] وَطَابَقَهُمْ سِرًّا عَلَى مُعَادَاةِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ وَبَغْيِهِمُ الْغَوَائِلَ قَوْمٌ مِنْ أَرَاهِطِ الْأَنْصَارِ الَّذِينَ آوَوْا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَنَصَرُوهُ وَكَانُوا قَدْ عَتَوْا فِي شِرْكِهِمْ وَجَاهِلِيَّتِهِمْ قَدْ سُمُّوا لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ، كَرِهْنَا تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ.
وَظَاهَرُوهُمْ عَلَى ذَلِكَ فِي خِفَاءٍ غَيْرِ جِهَارٍ حَذَارَ الْقَتْلِ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَالسِّبَاءِ مِنْ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَصْحَابِهِ، وَرُكُونًا إِلَى الْيَهُودِ، لِمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الشِّرْكِ وَسُوءِ الْبَصِيرَةِ بِالْإِسْلَامِ. فَكَانُوا إِذَا لَقُوا رَسُولَ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ مِنْ أَصْحَابِهِ، قَالُوا لَهُمْ حَذَارًا عَلَى أَنْفُسِهِمْ: إِنَّا مُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِالْبَعْثِ، وَأَعْطُوهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ كَلِمَةَ الْحَقِّ لِيَدْرَءُوا عَنْ أَنْفُسِهِمْ حُكْمَ اللَّهِ فِيمَنِ اعْتَقَدَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الشِّرْكِ لَوْ أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنْ شِرْكِهِمْ، وَإِذَا لَقُوا إِخْوَانَهُمْ مِنَ الْيَهُودِ وَأَهْلِ الشِّرْكِ وَالتَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ فَخَلَوْا بِهِمْ، قَالُوا: {إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} فَإِيَّاهُمْ عَنَى جَلَّ ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] يَعْنِي بِقَوْلُهُ تَعَالَى خَبَرًا عَنْهُمْ: {آمَنَّا بِاللَّهِ} [البقرة: 8] : صَدَّقْنَا بِاللَّهِ. وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا.)).

التعليق:

قوله: ((وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ))، الذي يظهر أنه أراد تفسير كلام ابن جريج في تعريف النفاق، وذلك فِي قَوْلِهِ: " هَذَا الْمُنَافِقُ يُخَالِفُ قَوْلُهُ فِعْلَهُ وَسِرُّهُ عَلَانِيَتَهُ وَمَدْخَلُهُ مَخْرَجَهُ وَمَشْهَدُهُ مَغِيبَهُ ".)).
وعلة فشو النفاق في المدينة أشار ابن جرير أن مردها لقوة الإسلام وظهوره.
قول ابن جرير:(( وقَدْ سُمُّوا لَنَا بِأَسْمَائِهِمْ، كَرِهْنَا تَطْوِيلَ الْكِتَابِ بِذِكْرِ أَسْمَائِهِمْ وَأَنْسَابِهِمْ.)) فيه إشارة إلى ما يلي:
1- المنهج الذي كان يسلكه من ألف في السيرة، كالكلبي وابن إسحاق في ذكر الأسماء والأنساب.
2-أن عدم ذكر الطبري رحمه الله للأنساب والأسماء، بيان منه إلى أن ذكرها فضلة في المعاني، وأن المعنى واضح بدونها .
قال الطبري:
((وَقَوْلُهُ: {وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] يَعْنِي بِالْبَعْثِ يَوْمَ الْقِيَامَةِ. وَإِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمُ الْقِيَامَةِ الْيَوْمَ الْآخِرَ: لِأَنَّهُ آخِرُ يَوْمٍ، لَا يَوْمَ بَعْدَهُ سِوَاهُ.
فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ لَا يَكُونُ بَعْدَهُ يَوْمٌ، وَلَا انْقِطَاعَ لِلْآخِرَةِ، وَلَا فَنَاءَ، وَلَا زَوَالَ؟ قِيلَ: إِنَّ الْيَوْمَ عِنْدَ الْعَرَبِ إِنَّمَا سُمِّيَ يَوْمًا بِلَيْلَتِهِ الَّتِي قَبْلَهُ، فَإِذَا لَمْ يَتَقَدَّمِ النَّهَارَ لَيْلٌ لَمْ يُسَمَّ يَوْمًا، فَيَوْمُ الْقِيَامَةِ يَوْمٌ لَا لَيْلَ لَهُ بَعْدَهُ سِوَى اللَّيْلَةِ الَّتِي قَامَتْ فِي صَبِيحَتِهَا الْقِيَامَةُ، فَذَلِكَ الْيَوْمُ هُوَ آخِرُ الْأَيَّامِ، وَلِذَلِكَ سَمَّاهُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: الْيَوْمَ الْآخِرَ، وَنَعَتَهُ بِالْعَقِيمِ، وَوَصَفَهُ بِأَنَّهُ يَوْمٌ عَقِيمٌ لِأَنَّهُ لَا لَيْلَ بَعْدَهُ.)).

التعليق:

أشار الطبري إلى مصطلح العرب في اليوم، وأنه يبدأ من ليلته التي قبله .
[1: 279]
قال الطبري رحمه الله:

((وَأَمَّا تَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وَنَفْيُهُ عَنْهُمْ جَلَّ ذِكْرُهُ اسْمَ الْإِيمَانِ، وَقَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ قَدْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ؛ فَإِنَّ ذَلِكَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ تَكْذِيبٌ لَهُمْ فِيمَا أَخْبَرُوا عَنِ اعْتِقَادِهِمْ مِنَ الْإِيمَانِ وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، وَإِعْلَامٌ مِنْهُ نَبِيَّهُ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنَّ الَّذِيَ يُبْدُونَهُ لَهُ بِأَفْوَاهِهِمْ خِلَافَ مَا فِي ضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ، وَضِدُّ مَا فِي عَزَائِمِ نُفُوسِهِمْ.)).

التعليق:

أي: أنهم ادعوا الإيمان، وقد كذبهم الله - تعالى - في دعواهم، بقوله: {وما هم بمؤمنين}، لأن ما في قلوبهم يخالف ما ظهر على ألسنتهم .
وهذا المقام من مقامات دلالات صدق النبوة، ووجهه أن الله تعالى أخبر عن هؤلاء القوم، والواقع يشهد بوجودهم، ولم يكذبوا ذلك تكذيبًا صريحًا، وإنما عملوا بهذا النفاق، وهذا يُظهر أن هذا الكلام ليس من عند محمد، وإنما هو من عند الله تعالى .
وكذلك فإن الإخبار عما في الضمائر لا يكون إلا عن طريق الوحي[SUP]([1])[/SUP] .
[1: 279]
قال الطبري:
((وَفِي هَذِهِ الْآيَةُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى بُطُولِ مَا زَعَمَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَوْلِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرِهِ.)).

التعليق:
هذا مقام استدلال، واعتراض على الجهمية .
قد يقول قائل، أليس بين هذا الكلام وبين قوله: ((وَقَدْ دَلَّلْنَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الْإِيمَانِ التَّصْدِيقُ فِيمَا مَضَى قَبْلُ مِنْ كِتَابِنَا هَذَا.))، تعارضٌ ؟!
والجواب، أن التصديق عند الطبري رحمه الله قد فصله في قوله: ((وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ.)).
وقال: ((الْإِيمَانُ: التَّصْدِيقُ " وَمَعْنَى الْإِيمَانِ عِنْدَ الْعَرَبِ: التَّصْدِيقُ فَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ بِالشَّيْءِ قَوْلًا مُؤْمِنًا بِهِ، وَيُدْعَى الْمُصَدِّقُ قَوْلَهُ بِفِعْلِهِ مُؤْمِنًا. وَمِنْ ذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنَا وَلَوْ كُنَّا صَادِقِينَ} [يوسف: 17] يَعْنِي: وَمَا أَنْتَ بِمُصَدِّقٍ لَنَا فِي قَوْلِنَا. وَقَدْ تَدْخُلُ الْخَشْيَةُ لِلَّهِ فِي مَعْنَى الْإِيمَانِ الَّذِي هُوَ تَصْدِيقُ الْقَوْلِ بِالْعَمَلِ. وَالْإِيمَانُ كَلِمَةٌ جَامِعَةٌ لِلْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ، وَتَصْدِيقُ الْإِقْرَارِ بِالْفِعْلِ. وَإِذَا كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، فَالَّذِي هُوَ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ وَأَشْبَهُ بِصِفَةِ الْقَوْمِ: أَنْ يَكُونُوا مَوْصُوفِينَ بِالتَّصْدِيقِ بِالْغَيْبِ، قَوْلًا، وَاعْتِقَادًا، وَعَمَلًا.)).
وهنا فمن المهم جدًا جمع كلام العالم لمعرفة مراده، والله أعلم .
قال الطبري:
((وَفِي هَذِهِ الْآيَةُ دَلَالَةٌ وَاضِحَةٌ عَلَى بُطُولِ مَا زَعَمَتْهُ الْجَهْمِيَّةُ مِنْ أَنَّ الْإِيمَانَ هُوَ التَّصْدِيقُ بِالْقَوْلِ دُونَ سَائِرِ الْمَعَانِي غَيْرِهِ. وَقَدْ أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الَّذِينَ ذَكَرَهُمْ فِي كِتَابِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ أَنَّهُمْ قَالُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] ثُمَّ نَفَى عَنْهُمْ أَنْ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ، إِذْ كَانَ اعْتِقَادُهُمْ غَيْرَ مُصَدِّقٍ قِيلَهُمْ ذَلِكَ. وَقَوْلُهُ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] يَعْنِي بِمُصَدِّقِينَ فِيمَا يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ بِهِ مُصَدَّقُونَ.)).

التعليق:

هنا نفى الإيمان عمن لم يطابق عمله لقوله .
[1: 280]
قال الطبري:

((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى. {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَخِدَاعُ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَالْمُؤْمِنِينَ إِظْهَارُهُ بِلِسَانِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّصْدِيقِ خِلَافَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ لِيَدْرَأَ عَنْ نَفْسِهِ بِمَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ حُكْمَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، اللَّازِمَ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ حَالِهِ مِنَ التَّكْذِيبِ لَوْ لَمْ يُظْهِرْ بِلِسَانِهِ مَا أَظْهَرَ مِنَ التَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ، مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ، فَذَلِكَ خِدَاعُهُ رَبَّهُ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِاللَّهِ.)).

التعليق:

يشرح الطبري كيف يقع من المنافق الخداع ؟
فقولهم {آمنا بالله} هي مجرد خداع .
فإن قال قائل، لم لم يذكر مخادعتهم للرسول صلى الله عليه وسلم؟.
والجواب:

أن مخادعة الرسول صلى الله عليه وسلم داخلة بالتبعية في مخادعة الله، أو أنه سيدخل ضمن المؤمنين الذي يُخادعون من قبل هؤلاء .
قال الطبري:
((فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ يَكُونُ الْمُنَافِقُ لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ مُخَادِعًا وَهُوَ لَا يُظْهِرُ بِلِسَانِهِ خِلَافَ مَا هُوَ لَهُ مُعْتَقِدٌ إِلَّا تَقِيَّةً؟ قِيلَ: لَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ أَنْ تُسَمِّيَ مَنْ أَعْطَى بِلِسَانِهِ غَيْرَ الَّذِي هُوَ فِي ضَمِيرِهِ تَقِيَّةً لِيَنْجُوَ مِمَّا هُوَ لَهُ خَائِفٌ، فَنَجَا بِذَلِكَ مِمَّا خَافَهُ مُخَادِعًا لِمَنْ تَخَلَّصَ مِنْهُ بِالَّذِي أَظْهَرَ لَهُ مِنَ التَّقِيَّةِ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ سُمِّيَ مُخَادِعًا لِلَّهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِإِظْهَارِهِ مَا أَظْهَرَ بِلِسَانِهِ تَقِيَّةً مِمَّا تَخَلَّصَ بِهِ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَالْعَذَابِ الْعَاجِلِ، وَهُوَ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرَ مُسْتَبْطِنٌ، وَذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ وَإِنْ كَانَ خَدَّاعًا لِلْمُؤْمِنِينَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا فَهُوَ لِنَفْسِهِ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ خَادِعٌ؛ لِأَنَّهُ يُظْهِرُ لَهَا بِفِعْلِهِ ذَلِكَ بِهَا أَنَّهُ يُعْطِيهَا أُمْنِيَّتِهَا وَيَسْقِيهَا كَأْسَ سُرُورِهَا، وَهُوَ مُورِدُهَا بِهِ حِيَاضَ عَطَبِهَا، وَمُجْرِعُهَا بِهِ كَأْسَ عَذَابِهَا، وَمُذِيقُهَا مِنْ غَضَبِ اللَّهِ وَأَلِيمِ عِقَابِهِ مَا لَا قِبَلَ لَهَا بِهِ. فَذَلِكَ خَدِيعَتُهُ نَفْسَهُ ظَنًّا مِنْهُ مَعَ إِسَاءَتِهِ إِلَيْهَا فِي أَمْرِ مَعَادِهَا أَنَّهُ إِلَيْهَا مُحْسِنٌ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] إِعْلَامًا مِنْهُ عِبَادَهُ الْمُؤْمِنِينَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ فِي إِسْخَاطِهِمْ رَبَّهُمْ بِكُفْرِهِمْ وَشَكِّهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ غَيْرُ شَاعِرِينَ وَلَا دَارِينَ، وَلَكِنَّهُمْ عَلَى عَمْيَاءَ مِنْ أَمْرِهِمْ مُقِيمُونَ.
وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ كَانَ ابْنُ زَيْدٍ يَقُولُ وبإسناده، عن ابْن وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ عَبْدَ الرَّحْمَنِ بْنَ زَيْدٍ، عَنْ قَوْلِ اللَّهِ، جَلَّ ذِكْرُهُ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ، قَالَ: هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقُونَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا، أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ بِمَا أَظْهَرُوا ".)).

التعليق:

قوله: ((لَا تَمْتَنِعُ الْعَرَبُ))، هذا من أساليب الطبري رحمه الله .
وقوله: ((السباء)) أي: السبي .
وكلام الطبري السابق يشير لقاعدة قرآنية مهمة، وهي أن العبرة بتحقق النصر في المآل، وليست العبرة بالدنيا .
فالدار الآخرة متصلة بالدنيا، وليس هناك انفصال، ووقوع الانفصال عند البعض يورث الضعف والهزيمة النفسية.
ولذا فإن الميزان الصحيح أن ينظر الإنسان إلى العاقبة، وهذه النظرة تورث يقينًا في نصر الله لدينه، فحتى إن وقع الخداع لأهل الإيمان، وحتى لو لم ير المؤمن النصر في الدنيا فسيراه حتمًا - إن شاء الله- في الآخرة .
[1: 281]
قال الطبري رحمه الله:

((وَهَذِهِ الْآيَةُ مِنْ أَوْضَحِ الدَّلِيلِ عَلَى تَكْذِيبِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَوْلَ الزَّاعِمِينَ: إِنَّ اللَّهَ لَا يُعَذِّبُ مِنْ عِبَادِهِ إِلَّا مَنْ كَفَرَ بِهِ عِنَادًا، بَعْدَ عِلْمِهِ بِوَحْدَانِيَّتِهِ، وَبَعْدَ تَقَرُّرِ صِحَّةِ مَا عَانَدَ رَبَّهُ تَبَارَكَ وَتَعَالَى عَلَيْهِ مِنْ تَوْحِيدِهِ وَالْإِقْرَارِ بِكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عِنْدَهُ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنِ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ النِّفَاقِ وَخِدَاعِهِمْ إِيَّاهُ وَالْمُؤْمِنِينَ أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ مُبْطِلُونَ فِيمَا هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْبَاطِلِ مُقِيمُونَ، وَأَنَّهُمْ بِخِدَاعِهِمْ الَّذِي يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِهِ يُخَادِعُونَ رَبَّهُمْ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ مَخْدُوعُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ لَهُمْ عَذَابًا أَلِيمًا بِتَكْذِيبِهِمْ بِمَا كَانُوا يُكَذِّبُونَهُ مِنْ نُبُوَّةِ نَبِيِّهِ وَاعْتِقَادِ الْكُفْرِ بِهِ، وَبِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ فِي زَعْمِهِمْ أَنَّهُمْ مُؤْمِنُونَ، وَهُمْ عَلَى الْكُفْرِ مُصِرُّونَ.)).

التعليق:

يرد الطبري هنا على من زعم أن الله لا يعذب على الكفر إلا إذا كان عنادًا .
قال الطبري:
((فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: قَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْمُفَاعَلَةَ لَا تَكُونُ إِلَّا مِنْ فَاعِلِينَ، كَقَوْلِكَ: ضَارَبْتُ أَخَاكَ، وَجَالَسْتُ أَبَاكَ؛ إِذَا كَانَ كُلُّ وَاحِدٍ مُجَالِسَ صَاحِبِهِ وَمُضَارِبَهُ. فَأَمَّا إِذَا كَانَ الْفِعْلُ مِنْ أَحَدِهِمَا فَإِنَّمَا يُقَالُ: ضَرَبْتَ أَخَاكَ وَجَلَسْتَ إِلَى أَبِيكَ، فَمَنْ خَادَعَ الْمُنَافِقُ فَجَازَ أَنْ يُقَالَ فِيهِ: خَادَعَ اللَّهُ وَالْمُؤْمِنُونَ.
قِيلَ: قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ: إِنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ جَاءَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، أَعْنِي يُخَادِعُ بِصُورَةِ يُفَاعِلُ وَهُوَ بِمَعْنَى يَفْعَلُ فِي حُرُوفٍ أَمْثَالُهَا شَاذَّةٌ مِنْ مَنْطِقِ الْعَرَبِ، نَظِيرَ قَوْلِهِمْ: قَاتَلَكَ اللَّهُ، بِمَعْنَى قَتَلَكَ اللَّهُ. وَلَيْسَ الْقَوْلُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالَ، بَلْ ذَلِكَ مِنَ التَّفَاعُلِ الَّذِي لَا يَكُونُ إِلَّا مِنَ اثْنَيْنِ كَسَائِرِ مَا يُعْرَفُ مِنْ مَعْنَى يُفَاعِلُ وَمُفَاعِلٍ فِي كُلِّ كَلَامِ الْعَرَبِ، وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ يُخَادِعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِكَذِبِهِ بِلِسَانِهِ عَلَى مَا قَدْ تَقَدَّمَ وَصْفُهُ، وَاللَّهُ تَبَارَكَ اسْمُهُ خَادِعُهُ بِخُذْلَانِهِ عَنْ حُسْنِ الْبَصِيرَةِ بِمَا فِيهِ نَجَاةُ نَفْسِهِ فِي آجِلِ مَعَادِهِ، كَالَّذِي أَخْبَرَ فِي قَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] وَبِالْمَعْنَى الَّذِي أَخْبَرَ أَنَّهُ، فَاعِلٌ بِهِ فِي الْآخِرَةِ بِقَوْلِهِ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ} [الحديد: 13] الْآيَةُ، فَذَلِكَ نَظِيرُ سَائِرِ مَا يَأْتِي مِنْ مَعَانِي الْكَلَامِ بِفَاعِلٍ وَمُفَاعِلٌ.
وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: لَا تَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ إِلَّا مِنْ شَيْئَيْنِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا، فَقَدْ عَلِمُوا خِلَافَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِحُجَّةِ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ الْوَاقِعَةِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَعْرِفَتِهِ {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] قَالَ: وَقَدْ قَالَ بَعْضُهُمْ: {وَمَا يَخْدَعُونَ} [البقرة: 9] يَقُولُ: يَخْدَعُونَ أَنْفُسَهُمْ بِالتَّخْلِيَةِ بِهَا. وَقَدْ تَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ مِنْ وَاحِدٍ فِي أَشْيَاءَ كَثِيرَةٍ.)).

التعليق:

دلالة المخادعة من مادة فعل وهي تعني المشاركة بين اثنين، ومن حملها على: يفاعل بمعنى يفعل، هو أبو عبيدة، صاحب (مجاز القرآن)، وذلك في قوله: ((قَدْ قَالَ بَعْضُ الْمَنْسُوبِينَ إِلَى الْعِلْمِ بِلُغَاتِ الْعَرَبِ: إِنَّ ذَلِكَ حَرْفٌ جَاءَ بِهَذِهِ الصُّورَةِ، أَعْنِي يُخَادِعُ بِصُورَةِ يُفَاعِلُ وَهُوَ بِمَعْنَى يَفْعَلُ فِي حُرُوفٍ أَمْثَالُهَا شَاذَّةٌ مِنْ مَنْطِقِ الْعَرَبِ.)).
ووجود هذه الحروف الشاذة لا ينفى الأمر، إلا إذا نتفت الحقيقة تمامًا، والحقيقة عندنا أن المفاعلة تعني المشاركة بين اثنين.
وقد ذكر الطبري رحمه، أن مخادعة الله عزوجل لهم تقع على صورتين:
1- صورة الخذلان، أي: أن الله يعمي بصيرته فيبقى على نفاقه، وتكون عقوبة من الله .
2- أن يدخلوا في سلك المؤمنين يوم القيامة، ثم يضرب بينهم بسور له باب، وهي صورة من صور المخادعة التي تحصل لهم .
ومن فسر المخادعة هنا فقد فسر الصور التي تقع بها؛ ومن هنا يأتي سؤال، وهو: هل المخادعة تعتبر صفة نقص ؟!
والجواب: لا، فمقابلة المخادعة بمثلها كمال .
وقوله: ((وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ))، وهذا كلام الأخفش .
وقول الأخفش[SUP]([2])[/SUP]: ((وَقَدْ كَانَ بَعْضُ أَهْلِ النَّحْوِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ يَقُولُ: لَا تَكُونُ الْمُفَاعَلَةُ إِلَّا مِنْ شَيْئَيْنِ، وَلَكِنَّهُ إِنَّمَا قِيلَ: يُخَادِعُونَ اللَّهَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ بِظَنِّهِمْ أَنْ لَا يُعَاقَبُوا، فَقَدْ عَلِمُوا خِلَافَ ذَلِكَ فِي أَنْفُسِهِمْ بِحُجَّةِ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ الْوَاقِعَةِ عَلَى خَلْقِهِ بِمَعْرِفَتِهِ)).
كأنه يريد نفي المقابلة، وأن المخادعة تكون من المنافقين فقط، وهذا غير صواب والله أعلم .
[1: 283]
قال الطبري:

((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] إِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَوَلَيْسَ الْمُنَافِقُونَ قَدْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قِيلِ الْحَقِّ عَنْ أَنْفُسِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ حَتَّى سَلِمَتْ لَهُمْ دُنْيَاهُمْ وَإِنْ كَانُوا قَدْ كَانُوا مَخْدُوعِينَ فِي أَمْرِ آخِرَتِهِمْ؟ قِيلَ: خَطَأٌ أَنْ يُقَالَ إِنَّهُمْ خَدَعُوا الْمُؤْمِنِينَ؛ لِأَنَّا إِذَا قُلْنَا ذَلِكَ أَوْجَبْنَا لَهُمْ حَقِيقَةَ خَدْعَةٍ جَازَتْ لَهُمْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ، كَمَا أَنَّا لَوْ قُلْنَا: قَتَلَ فُلَانٌ فُلَانًا، أَوْجَبْنَا لَهُ حَقِيقَةَ قَتْلٍ كَانَ مِنْهُ لِفُلَانٍ. وَلَكِنَّا نَقُولُ: خَادَعَ الْمُنَافِقُونَ رَبَّهُمْ وَالْمُؤْمِنِينِ، وَلَمْ يَخْدَعُوهُمْ بَلْ خَدَعُوا أَنْفُسَهُمْ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ دُونَ غَيْرِهَا، نَظِيرَ مَا تَقُولُ فِي رَجُلٍ قَاتَلَ آخَرَ فَقَتَلَ نَفْسَهُ وَلَمْ يَقْتُلْ صَاحِبَهُ: قَاتَلَ فُلَانٌ فُلَانًا وَلَمْ يَقْتُلْ إِلَّا نَفْسَهُ، فَتُوجِبُ لَهُ مَقَاتَلَةَ صَاحِبِهِ، وَتَنْفِي عَنْهُ قَتْلَهُ صَاحِبَهُ، وَتُوجِبُ لَهُ قَتْلَ نَفْسِهِ. فَكَذَلِكَ تَقُولُ: خَادَعَ الْمُنَافِقُ رَبَّهُ وَالْمُؤْمِنِينِ، وَلَمْ يَخْدَعْ إِلَّا نَفْسَهُ، فَتُثْبِتْ مِنْهُ مُخَادَعَةَ رَبِّهِ وَالْمُؤْمِنِينِ، وَتَنْفِي عَنْهُ أَنْ يَكُونَ خَدَعَ غَيْرَ نَفْسِهِ؛ لِأَنَّ الْخَادِعَ هُوَ الَّذِي قَدْ صَحَّتْ لَهُ الْخَدِيعَةُ وَوَقَعَ مِنْهُ فِعْلُهَا. فَالْمُنَافِقُونَ لَمْ يَخْدَعُوا غَيْرَ أَنْفُسِهِمْ، لِأَنَّ مَا كَانَ لَهُمْ مِنْ مَالٍ وَأَهْلٍ فَلَمْ يَكُنِ الْمُسْلِمُونَ مَلَكُوهُ عَلَيْهِمْ فِي حَالِ خِدَاعِهِمْ إِيَّاهُ عَنْهُ بِنِفَاقِهِمْ وَلَا قَبْلَهَا فَيَسْتَنْقِذُوهُ بِخِدَاعِهِمْ مِنْهُمْ، وَإِنَّمَا دَافَعُوا عَنْهُ بِكَذِبِهِمْ وَإِظْهَارِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ غَيْرَ الَّذِي فِي ضَمَائِرِهِمْ، وَيْحَكُمُ اللَّهُ لَهُمْ فِي أَمْوَالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ فِي ظَاهِرِ أُمُورِهِمْ بِحُكْمِ مَا انْتَسَبُوا إِلَيْهِ مِنَ الْمِلَّةِ، وَاللَّهُ بِمَا يُخْفُونَ مِنْ أُمُورِهِمْ عَالِمٌ. وَإِنَّمَا الْخَادِعُ مَنْ خَتَلَ غَيْرَهُ عَنْ شَيْئِهِ، وَالْمَخْدُوعُ غَيْرُ عَالِمٍ بِمَوْضِعِ خَدِيعَةِ خَادِعِهِ. فَأَمَّا وَالْمُخَادَعُ عَارِفٌ بِخِدَاعِ صَاحِبِهِ إِيَّاهُ، وَغَيْرُ لَاحِقِهِ مِنْ خِدَاعِهِ إِيَّاهُ مَكْرُوهٌ، بَلْ إِنَّمَا يَتَجَافَى لِلظَّانِّ بِهِ أَنَّهُ لَهُ مُخَادِعٌ اسْتِدْرَاجًا لِيَبْلُغَ غَايَةً يَتَكَامَلُ لَهُ عَلَيْهِ الْحُجَّةُ لِلْعُقُوبَةِ الَّتِي هُوَ بِهَا مَوْقَعٌ عِنْدَ بُلُوغِهِ إِيَّاهَا. وَالْمُسْتَدْرَجُ غَيْرُ عَالِمٍ بِحَالِ نَفْسِهِ عِنْدَ مُسْتَدْرِجِهِ، وَلَا عَارِفٍ بِاطِّلَاعِهِ عَلَى ضَمِيرِهِ، وَأَنَّ إِمْهَالَ مُسْتَدْرِجِيهِ إِيَّاهُ تَرْكُهُ مُعَاقَبَتَهُ عَلَى جُرْمِهِ لِيَبْلُغَ الْمُخَاتِلُ الْمُخَادِعُ مِنَ اسْتِحْقَاقِهِ عُقُوبَةَ مُسْتَدْرِجِهِ بِكَثْرَةِ إِسَاءَتِهِ وَطُولِ عِصْيَانِهِ إِيَّاهُ وَكَثْرَةِ صَفْحِ الْمُسْتَدْرِجِ وَطُولِ عَفْوِهِ عَنْهُ أَقْصَى غَايَةٍ، فَإِنَّمَا هُوَ خَادِعٌ نَفْسَهُ لَا شَكَّ دُونَ مَنْ حَدَّثَتْهُ نَفْسُهُ أَنَّهُ لَهُ مُخَادِعٌ.
وَلِذَلِكَ نَفَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْمُنَافِقِ أَنْ يَكُونَ خَدَعَ غَيْرَ نَفْسِهِ، إِذْ كَانَتِ الصِّفَةُ الَّتِي وَصَفْنَا صِفَتَهُ. وَإِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ خِدَاعِ الْمُنَافِقِ رَبَّهُ وَأَهْلَ الْإِيمَانِ بِهِ، وَأَنَّهُ غَيْرُ سَائِرٍ بِخِدَاعِهِ ذَلِكَ إِلَى خَدِيعَةٍ صَحِيحَةٍ إِلَّا لِنَفْسِهِ دُونَ غَيْرِهَا لِمَا يُوَرِّطُهَا بِفِعْلِهِ مِنَ الْهَلَاكِ وَالْعَطَبِ، فَالْوَاجِبُ إِذًا أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] دُونَ: وَمَا يُخَادِعُونَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْمُخَادِعِ غَيْرُ مُوجِبٍ تَثْبِيتَ خَدِيعَةٍ عَلَى صِحَّةٍ، وَلَفْظُ خَادِعٍ مُوجِبٌ تَثْبِيتَ خَدِيعَةٍ عَلَى صِحَّةٍ. وَلَا شَكَّ أَنَّ الْمُنَافِقَ قَدْ أَوْجَبَ خَدِيعَةَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ بِمَا رَكِبَ مِنْ خِدَاعِهِ رَبَّهُ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِنِفَاقِهِ، فَلِذَلِكَ وَجَبَتِ الصِّحَّةُ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] وَمِنَ الدَّلَالَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا يَخْدَعُونَ} [البقرة: 9] أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (وَمَا يُخَادِعُونَ) أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ، فَمُحَالٌ أَنْ يَنْفِيَ عَنْهُمْ مَا قَدْ أَثْبَتَ أَنَّهُمْ قَدْ فَعَلُوهُ، لِأَنَّ ذَلِكَ تَضَادٌّ فِي الْمَعْنَى، وَذَلِكَ غَيْرُ جَائِزٍ مِنَ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ.)).

التعليق:

ما ذكره الطبري من أن المؤمنين لا تقع عليهم مخادعة حقيقية، ليس بصحيح إذ الواقع يشهد بخلاف ذلك .
أما أنها لا تقع على الله عزوجل فذلك قطعي .
قوله: ((فَالْوَاجِبُ إِذًا أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] دُونَ: وَمَا يُخَادِعُونَ)).
هذا نوع من التفضيل بين القرائتين، والمتقدمون كانوا يُعملون هذا النوع من التفاضل .
والطبري رحمه الله يفرق بين ثلاث قضايا:
1- الأحرف السبعة، وهي عنده نوع من الترادف. وإذا لم يوجد ترادف فالذي بين يدينا حرف واحد. والقراءة عنده بمعزل عن الأحرف.
2- القرآن الموجود بين الدفتين .
3- كيفية قراءة القرآن .
والطبري - رحمه الله - يفرق بين القراءات والقرآن، ولا يرى بأن القراءات متواترة، ولذا تعامله معها كتعامله مع الحديث، فيفضل بينها، ويصحح قراءة على قراءة، فالمسألة عنده أسانيد وحجج.
وفي مواضع من تفسيره كان الطبري يتكلم في مرتبة الاحتجاج في القراءات وأيهما يقدم؛ وهنا تحدث عن صحة القراءة عنده، فقال: ((أَنْ يَكُونَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] دُونَ: وَمَا يُخَادِعُونَ، لِأَنَّ لَفْظَ الْمُخَادِعِ غَيْرُ مُوجِبٍ تَثْبِيتَ خَدِيعَةٍ عَلَى صِحَّةٍ، وَلَفْظُ خَادِعٍ مُوجِبٌ تَثْبِيتَ خَدِيعَةٍ عَلَى صِحَّةٍ...)) وكلامه مبني على الدراية لا الرواية، بدلالتين:
الأولى: قوله :(( فَلِذَلِكَ وَجَبَتِ الصِّحَّةُ لِقِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] ))
الثانية: قوله:(( وَمِنَ الدَّلَالَةِ أَيْضًا عَلَى أَنَّ قِرَاءَةَ مَنْ قَرَأَ: {وَمَا يَخْدَعُونَ} [البقرة: 9] أَوْلَى بِالصِّحَّةِ مِنْ قِرَاءَةِ مَنْ قَرَأَ: (وَمَا يُخَادِعُونَ) أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ أَخْبَرَ عَنْهُمْ أَنَّهُمْ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي أَوَّلِ الْآيَةِ..)). ونقول أن كلامه صحيح لو كان المخَادع به جهته واحدة، فيقع التضاد حينئذ؛ لكن المثبت شيء والمنفي شيء آخر.
ولا شك أن النتيجة التي وصل إليها غير مقبولة؛ لكن يعتذر عنه - رحمه الله- أنه لم يخرج عن علماء عصره والمتقدمين عليه.
[1: 285]
قال الطبري:

((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] وَمَا يَدْرُونَ، يُقَالُ: مَا شَعَرَ فُلَانٌ بِهَذَا الْأَمْرِ، وَهُوَ لَا يَشْعُرُ بِهِ إِذَا لَمْ يَدْرِ وَلَمْ يَعْلَمْ شَعْرًا وَشُعُورًا، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
عَقُّوا بِسَهْمٍ وَلَمْ يَشْعُرْ بِهِ أَحَدٌ ... ثُمَّ اسْتَفَاءُوا وَقَالُوا حَبَّذَا الْوَضَحُ
يَعْنِي بِقَوْلِهِ: لَمْ يَشْعُرْ بِهِ: لَمْ يَدْرِ بِهِ أَحَدٌ وَلَمْ يَعْلَمْ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَنَّهُمْ لَا يَشْعُرُونَ بِأَنَّ اللَّهَ خَادِعُهُمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ وَاسْتِدْرَاجِهِ إِيَّاهُمُ الَّذِي هُوَ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِبْلَاغٌ إِلَيْهِمْ فِي الْحُجَّةِ وَالْمَعْذِرَةِ، وَمِنْهُمْ لِأَنْفُسِهِمْ خَدِيعَةٌ، وَلَهَا فِي الْآجِلِ مَضَرَّةٌ. كَالَّذِي حَدَّثَنِي يُونُسُ بْنُ عَبْدِ الْأَعْلَى، قَالَ: أَخْبَرَنَا ابْنُ وَهْبٍ، قَالَ: سَأَلْتُ ابْنَ زَيْدٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] قَالَ: «مَا يَشْعُرُونَ أَنَّهُمْ ضَرُّوا أَنْفُسَهُمْ بِمَا أَسَرُّوا مِنَ الْكُفْرِ وَالنِّفَاقِ» وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا} [المجادلة: 6] قَالَ: «هُمُ الْمُنَافِقُونَ» حَتَّى بَلَغَ {وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ} [المجادلة: 18] قَدْ كَانَ الْإِيمَانُ يَنْفَعُهُمْ عِنْدَكُمْ ".)).



(1) يقول الشيخ: من البحوث الجيدة، البحث عن (إظهار ما في الضمائر)، ودلالته على صدق النبوة .
(2) وهو ينتسب للقدرية، أما أبو عبيدة - ومن خلال كتابه- يظهر أنه وقع فيما وقع من باب التنزيه العقلي، وبعض أهل اللغة من المتقدمين أحيانًا قد يقع في التأويل من دون اعتناقه لبدعة تحمله على ذلك .
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري، المجلس السادس عشر: (16 - 5 - 1435)
التاريخ: 19 - 6 - 1435 الموافق 19/04/2014
عدد الزيارات: 157

اعتنى به: عمرو الشرقاوي​
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1/ 286]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللهُ مَرَضًا وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] وَأَصْلُ الْمَرَضِ: السَّقَمُ، ثُمَّ يُقَالُ ذَلِكَ فِي الْأَجْسَادِ وَالْأَدْيَانِ فَأَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ فِيَ قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ مَرَضًا. وَإِنَّمَا عَنَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخَبَرِهِ عَنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمُ الْخَبَرَ عَنْ مَرَضِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنْ مَرَضِ الْقَلْبِ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ مَرَضُ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ، وَالْكِنَايَةُ عَنْ تَصْرِيحِ الْخَبَرِ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ؛ كَمَا قَالَ عُمَرُ بْنُ لَجَأٍ:
وَسَبَّحَتِ الْمَدِينَةُ لَا تَلُمْهَا ... رَأَتْ قَمَرًا بِسُوقِهِمُ نَهَارَا
يُرِيدُ وَسَبَّحَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ. فَاسْتَغْنَى بِمَعْرِفَةِ السَّامِعِينَ خَبَرَهُ بِالْخَبَرِ عَنِ الْمَدِينَةِ عَنِ الْخَبَرِ عَنْ أَهْلِهَا. وَمِثْلُهُ قَوْلُ عَنْتَرَةَ الْعَبْسِيِّ:
هَلَّا سَأَلْتِ الْخَيْلَ يَا ابْنَةَ مَالِكِ ... إِنْ كُنْتِ جَاهِلَةً بِمَا لَمْ تَعْلَمِي
يُرِيدُ: هَلَّا سَأَلْتِ أَصْحَابَ الْخَيْلِ؟ وَمِنْهُ قَوْلُهُمْ: يَا خَيْلَ اللَّهِ ارْكَبِي، يُرَادُ: يَا أَصْحَابَ خَيْلِ اللَّهِ ارْكَبُوا. وَالشَّوَاهِدُ عَلَى ذَلِكَ أَكْثَرُ مِنْ أَنْ يُحْصِيَهَا كِتَابٌ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ. فَكَذَلِكَ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] إِنَّمَا يَعْنِي فِي اعْتِقَادِ قُلُوبِهِمُ الَّذِي يَعْتَقِدُونَهُ فِي الدِّينِ وَالتَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مَرَضٌ وَسَقَمُ. فَاجْتَزَأَ بِدَلَالَةِ الْخَبَرِ عَنْ قُلُوبِهِمْ عَلَى مَعْنَاهُ عَنْ تَصْرِيحِ الْخَبَرِ عَنِ اعْتِقَادِهِمْ. وَالْمَرَضُ الَّذِي ذَكَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي اعْتِقَادِ قُلُوبِهِمُ الَّذِي وَصَفْنَاهُ هُوَ شَكُّهُمْ فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَتَحَيُّرِهِمْ فِيهِ، فَلَا هُمْ بِهِ مُوقِنُونَ إِيقَانَ إِيمَانٍ، وَلَا هُمْ لَهُ مُنْكَرُونَ إِنْكَارَ إِشْرَاكٍ؛ وَلَكِنَّهُمْ كَمَا وَصَفَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ مُذَبْذَبُونَ بَيْنَ ذَلِكَ لَا إِلَى هَؤُلَاءِ وَلَا إِلَى هَؤُلَاءِ، كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ تَمَرَّضَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ يُضَعِّفُ الْعَزْمَ وَلَا يُصَحِّحُ الرَّوِيَّةَ فِيهِ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ تَظَاهَرَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.
وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ إِسْحَاقَ، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] أَيْ شَكٌّ ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الْمَرَضُ: النِّفَاقُ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] يَقُولُ: فِي قُلُوبِهِمْ شَكٌّ ".
وبإسناده، عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ فِي قَوْلِهِ: " {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] قَالَ: هَذَا مَرَضٌ فِي الدِّينِ وَلَيْسَ مَرَضًا فِي الْأَجْسَادِ. قَالَ: هُمُ الْمُنَافِقُونَ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، فِي قَوْلِهِ: " {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] قَالَ: فِي قُلُوبِهِمْ رِيبَةٌ وَشَكٌّ فِي أَمْرِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] قَالَ: هَؤُلَاءِ أَهْلُ النِّفَاقِ، وَالْمَرَضُ الَّذِي فِي قُلُوبِهِمُ الشَّكُّ فِي أَمْرِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ ".
وبإسناده، عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْنِ زَيْدٍ: " {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] حَتَّى بَلَغَ: {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] قَالَ: الْمَرَضُ: الشَّكُّ الَّذِي دَخَلَهُمْ فِي الْإِسْلَامِ ".)).

التعليق:
ذكر الإمام رحمه الله أن أصل المرض: السقم، وذكر أن المرض بمعنى: ضعف العزم، وكأن المرض نوعٌ من الضعف، وهذا صحيح فإن الرجل يكون قويًا فإذا مرض ضَعُف، وهناك تلازم في هذا الأمر، ولهذا قال الطبري: ((كَمَا يُقَالُ: فُلَانٌ تَمَرَّضَ فِي هَذَا الْأَمْرِ، أَيْ يُضَعِّفُ الْعَزْمَ وَلَا يُصَحِّحُ الرَّوِيَّةَ فِيهِ)).
والسقم يطلق على الأجساد والقلوب، والحديث هنا عن المرض المرتبط بالأرواح .
فالله تعالى يتكلم عن قلوب المنافقين من جهة ما يخالجها من الشك والريبة، وليس المراد القلوب التي يحيا بها الإنسان .
وقد جعلها الطبري رحمه الله من باب الكناية - عنده -، وهو ما يسمى عند غيره بمجاز الحذف، وذلك في قوله: (( وَإِنَّمَا عَنَى تَبَارَكَ وَتَعَالَى بِخَبَرِهِ عَنْ مَرَضِ قُلُوبِهِمُ الْخَبَرَ عَنْ مَرَضِ مَا فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الِاعْتِقَادِ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا بِالْخَبَرِ عَنْ مَرَضِ الْقَلْبِ أَنَّهُ مَعْنِيٌّ بِهِ مَرَضُ مَا هُمْ مُعْتَقِدُوهُ مِنَ الِاعْتِقَادِ اسْتَغْنَى بِالْخَبَرِ عَنِ الْقَلْبِ بِذَلِكَ، وَالْكِنَايَةُ عَنْ تَصْرِيحِ الْخَبَرِ عَنْ ضَمَائِرِهِمْ وَاعْتِقَادَاتِهِمْ)) ثم ذكر شواهد على ذلك .
فكأنه يقول: في قلوبهم من الاعتقاد مرض، وهذا يخالف ظاهر اللفظ، ولا مانع من أن يجعل المرض في القلب، أو أن يقال أن القلب هو المريض، وهذا سائغ في اللغة والسياق، وقد استدرك بعض المفسرين على الطبري في هذا، كابن عرفة الورغمي رحمه الله في رواية الأُبِّي .
وحينما نحمل القرآن على أسلوب عربي فلا يلزم أن يكون هذا الحمل صحيحًا .
وليس الخلاف مع الطبري في صحة الأسلوب، وإنما في انطباق الأسلوب على الآية .
ولذا فلو قلنا مباشرة بأن القلوب مريضة، سيكون أبلغ وأقوى في الخطاب .
قوله: ((وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ تَظَاهَرَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ.)).
سبق في بداية تفسيره التفريق بين التفسير والتأويل، وذلك في قوله: (( اللهم فوفقنا لإصابة صواب القول في محكمه ومتشابهه.... وتأويل آيه، وتفسير مشكله..)). وغالب عباراته: (( وبمثل الذي قلنا من التأويل في ذلك ... والقول في تأويل قوله تعالى..)) وهنا قال: ((وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ تَظَاهَرَ الْقَوْلُ فِي تَفْسِيرِهِ مِنَ الْمُفَسِّرِينَ )).
وهذا مشعر بأن التفسير والتأويل عنده بمعنىً، فهو مجرد تغيير عبارة؛ لكن الأغلب عنده استخدام مصطلح التأويل.
وأما التفسير الذي نقله عن السلف، فالمعاني التي ذكروها أغلبها يدور على تفسير المرض بالشك، وهذا يدل عليه قوله تعالى: { إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدَادُوا كُفْرًا لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَلَا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا (137)} [سورة: النساء].
فمن عبر عن المرض بالنفاق، فهو صحيح، ومن عبر عنه بالشك فهو صحيح، فالمرض هو اعتلال صحة القلب بأمر ما، فالشك نوع من المرض، والنفاق نوع من المرض، وإن كان النفاق هو المعنى الأغلب الذي يذكر في هذا المقام؛ لأن النفاق أنواع، والمنافقين يفترقون وليسوا كلهم على وجه واحد في النفاق، ولهذا عدد الله تعالى أصنافهم في سورة التوبة؛ لكن هناك تقاطعات مشتركة بينهم كبغض الدين.
ومن لم يفهم هذا سيقع عنده إشكال في تفسير المثلين كما سيأتي.
ونخلص من هذا : أن المعاني التي جاءت عن السلف هي تعبير عن جزء من معنى المرض الذي في قلوب المنافقين.
[1/ 289]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] قَدْ دَلَّلْنَا آنِفًا عَلَى أَنَّ تَأْوِيلَ الْمَرَضِ الَّذِي وَصَفَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهُ فِي قُلُوبِ الْمُنَافِقِينَ: هُوَ الشَّكُّ فِي اعْتِقَادَاتِ قُلُوبِهِمْ وَأَدْيَانِهِمْ وَمَا هُمْ عَلَيْهِ، فِي أَمْرِ مُحَمَّدٍ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ، مُقِيمُونَ. فَالْمَرَضُ الَّذِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ أَنَّهُ زَادَهُمْ عَلَى مَرَضِهِمْ هُوَ نَظِيرُ مَا كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ مِنَ الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ قَبْلَ الزِّيَادَةِ، فَزَادَهُمُ اللَّهُ بِمَا أَحْدَثَ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ الَّتِي لَمْ يَكُنْ فَرَضَهَا قَبْلَ الزِّيَادَةِ الَّتِي زَادَهَا الْمُنَافِقِينَ، مِنَ الشَّكِّ وَالْحِيرَةِ إِذْ شَكُّوا وَارْتَابُوا فِي الَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنْ ذَلِكَ، إِلَى الْمَرَضِ وَالشَّكِّ الَّذِي كَانَ فِي قُلُوبِهِمْ فِي السَّالِفِ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ الَّتِي كَانَ فَرَضَهَا قَبْلَ ذَلِكَ، كَمَا زَادَ الْمُؤْمِنِينَ بِهِ إِلَى إِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ قَبْلَ ذَلِكَ بِالَّذِي أَحْدَثَ لَهُمْ مِنَ الْفَرَائِضِ وَالْحُدُودِ إِذْ آمَنُوا بِهِ، إِلَى إِيمَانِهِمْ بِالسَّالِفِ مِنْ حُدُودِهِ وَفَرَائِضِهِ إِيمَانًا. كَالَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125] فَالزِّيَادَةِ الَّتِي زِيدَهَا الْمُنَافِقُونَ مِنَ الرَّجَاسَةِ إِلَى رَجَاسَتِهِمْ هُوَ مَا وَصَفْنَا، وَالزِّيَادَةُ الَّتِي زِيدَهَا الْمُؤْمِنُونَ إِلَى إِيمَانِهِمْ هُوَ مَا بَيَّنَّا، وَذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ.
ذِكْرُ بَعْضِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ:
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] قَالَ: شَكًّا ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ، مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] يَقُولُ: فَزَادَهُمُ اللَّهُ رِيبَةً وَشَكًّا ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: " {فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] يَقُولُ: فَزَادَهُمُ اللَّهُ رِيبَةً وَشَكًّا فِي أَمْرِ اللَّهِ ".
وبإسناده، عن ابْنِ وَهْبٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضًا} [البقرة: 10] قَالَ: زَادَهُمْ رِجْسًا. وَقَرَأَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ} [التوبة: 124] {وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ} [التوبة: 125] قَالَ: شَرًّا إِلَى شَرِّهِمْ، وَضَلَالَةً إِلَى ضَلَالَتِهِمْ ".)).

التعليق:
ذكر الطبري في الاستدلال، قوله: ((كَالَّذِي قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي تَنْزِيلِهِ: {وَإِذَا مَا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زَادَتْهُ هَذِهِ إِيمَانًا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزَادَتْهُمْ إِيمَانًا وَهُمْ يَسْتَبْشِرُونَ وَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَتْهُمْ رِجْسًا إِلَى رِجْسِهِمْ وَمَاتُوا وَهُمْ كَافِرُونَ} [التوبة: 125])).
فكأن الآيات التي أنزلت لم تزد المنافقين إلا رجسًا، وربط الآيتين في هذا المقام ربط نفيس، للتنبيه على أن هذا مما عاقبهم الله به .
وقوله: ((وَذَلِكَ هُوَ التَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ.))، من الإجماع المطلق عنده .
فائدة:
من دقائق موضوعات القرآن، ما يتعلق بالقلب وأعماله، ومعرفة الدقائق المتعلقة به، والتي لا يمكن أن يقولها بشر، وأن هذا من دلائل صدق القرآن.
[1/ 291]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ} [البقرة: 10] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْأَلِيمُ: هُوَ الْمُوجِعُ، وَمَعْنَاهُ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ، فَصَرَفَ مُؤْلِمٍ إِلَى أَلِيمٍ كَمَا يُقَالُ: ضَرْبٌ وَجِيعٌ بِمَعْنَى مُوجِعٌ، وَاللَّهُ بَدِيعُ السَّمَوَاتِ وَالْأَرْضِ بِمَعْنَى مُبْدِعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ عَمْرِو بْنِ مَعْدِي كَرِبَ الزُّبَيْدِيِّ:
أَمِنْ رَيْحَانَةَ الدَّاعِي السَّمِيعُ ... يُؤَرِّقُنِي وَأَصْحَابِي هُجُوعُ
بِمَعْنَى الْمُسْمِعِ. وَمِنْهُ قَوْلُ ذِي الرُّمَّةِ:
وَيَرْفَعُ مِنْ صُدُورِ شَمَرْدَلَاتٍ ... يَصُدُّ وُجُوهَهَا وَهَجٌ أَلِيمُ
وَيُرْوَى يَصُكُّ، وَإِنَّمَا الْأَلِيمُ صِفَةٌ لِلْعَذَابِ، كَأَنَّهُ قَالَ: وَلَهُمْ عَذَابٌ مُؤْلِمٌ. وَهُوَ مَأْخُوذٌ مِنَ الْأَلَمِ، وَالْأَلَمُ: الْوَجَعُ.
كَمَا حَدَّثَنِي الْمُثَنَّى، قَالَ: حَدَّثَنَا إِسْحَاقُ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَبْدُ اللَّهِ بْنُ أَبِي جَعْفَرٍ، عَنْ أَبِيهِ، عَنِ الرَّبِيعِ، قَالَ: " الْأَلِيمُ: الْمُوجِعُ ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، قَالَ: «الْأَلِيمُ، الْمُوجِعُ».
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، " فِي قَوْلِهِ {أَلِيمٌ} [البقرة: 10] قَالَ: هُوَ الْعَذَابُ الْمُوجِعُ وَكُلُّ شَيْءٍ فِي الْقُرْآنِ مِنَ الْأَلِيمِ فَهُوَ الْمُوجِعُ ".)).

التعليق:
ذكر هنا أقوال السلف بعد ذكر المعنى اللغوي، ويظهر أنه من باب الاعتماد على المصدرين: اللغة وكلام السلف، وهذا يفعله الطبري إذا كان المعنى اللغوي هو المراد، وذلك حين يكون في الآية أكثر من احتمال لغوي، ويتجه كلام السلف لأحدى المحتملات اللغوية، فإذا بين المعاني اختار المعنى الذي ذكره السلف.
وفي هذا الموطن ليس هناك خلاف، ولذا فهو يحكي إجماعاً، ويمكن حكاية الإجماع هنا أن الأليم هنا بمعنى الموجع، إذ لم يرد فيه خلاف .
[1/ 293]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] اخْتَلَفَتِ الْقِرَاءَةُ فِي قِرَاءَةِ ذَلِكَ، فَقَرَأَهُ بَعْضُهُمْ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] مُخَفَّفَةَ الذَّالِ مَفْتُوحَةَ الْيَاءِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُعْظَمِ أَهْلِ الْكُوفَةِ. وَقَرَأَهُ آخَرُونَ: (يُكَذِّبُونَ) بِضَمِّ الْيَاءِ وَتَشْدِيدِ الذَّالِ، وَهِيَ قِرَاءَةُ مُعْظَمِ أَهْلِ الْمَدِينَةِ وَالْحِجَازِ وَالْبَصْرَةِ وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ لِلْمُنَافِقِينَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّ الْكَذِبَ لَوْلَا التَّكْذِيبُ لَا يُوجِبُ لِأَحَدٍ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَذَابِ، فَكَيْفَ بِالْأَلِيمِ مِنْهُ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالُوا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْبَأَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي أَوَّلِ النَّبَأِ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ بِدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ وَإِظْهَارِهِمْ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِدَاعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ مَعَ اسْتِسْرَارِهِمُ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ {وَمَا يَخْدَعُونَ} [البقرة: 9] بِصَنِيعِهِمْ ذَلِكَ {إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] دُونَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ {وَمَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 9] بِمَوْضِعِ خَدِيعَتِهِمْ أَنْفُسَهُمْ وَاسْتِدْرَاجِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ إِيَّاهُمْ بِإِمْلَائِهِ لَهُمْ {فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ} [البقرة: 10] أَيْ نِفَاقٌ وَرِيبَةٌ، وَاللَّهُ زَائِدُهُمْ شَكًّا وَرِيبَةً بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ بِقَوْلِهِمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] وَهُمْ فِي قِيلِهِمْ ذَلِكَ كَذَبَةٌ لِاسْتِسْرَارِهِمُ الشَّكَّ وَالْمَرَضَ فِي اعْتِقَادَاتِ قُلُوبِهِمْ. فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، فَأَوْلَى فِي حِكْمَةِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ أَنْ يَكُونَ الْوَعِيدُ مِنْهُ لَهُمْ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ الْخَبَرَ عَنْهُمْ مِنْ قَبِيحِ أَفْعَالِهِمْ وَذَمِيمِ أَخْلَاقِهِمْ، دُونَ مَا لَمْ يَجْرِ لَهُ ذِكْرٌ مِنْ أَفْعَالِهِمْ؛ إِذْ كَانَ سَائِرُ آيَاتِ تَنْزِيلِهِ بِذَلِكَ نَزَلَ. وَهُوَ أَنْ يَفْتَتِحَ ذِكْرَ مَحَاسِنِ أَفْعَالِ قَوْمٍ ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ ذِكْرَهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ، وَيَفْتَتِحُ ذِكْرَ مَسَاوِئِ أَفْعَالِ آخَرِينَ ثُمَّ يَخْتِمُ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا ابْتَدَأَ بِهِ ذِكْرَهُ مِنْ أَفْعَالِهِمْ. فَكَذَلِكَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقَوْلِ فِي الْآيَاتِ الَّتِي افْتَتَحَ فِيهَا ذِكْرَ بَعْضِ مَسَاوِئِ أَفْعَالِ الْمُنَافِقِينَ أَنْ يَخْتِمَ ذَلِكَ بِالْوَعِيدِ عَلَى مَا افْتَتَحَ بِهِ ذِكْرَهُ مِنْ قَبَائِحِ أَفْعَالِهِمْ، فَهَذَا مَعَ دَلَالَةِ الْآيَةِ الْأُخْرَى عَلَى صِحَّةِ مَا قُلْنَا وَشَهَادَتِهَا بِأَنَّ الْوَاجِبَ مِنَ الْقِرَاءَةِ مَا اخْتَرْنَا، وَأَنَّ الصَّوَابَ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا تَأَوَّلْنَا مِنْ أَنَّ وَعِيدَ اللَّهِ الْمُنَافِقِينَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى الْكَذِبِ الْجَامِعِ مَعْنَى الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، وَذَلِكَ قَوْلُ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ سَاءَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ} [المنافقون: 1] وَالْآيَةُ الْأُخْرَى فِي الْمُجَادَلَةِ: {اتَّخَذُوا أَيْمَانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذَابٌ مُهِينٌ} [المجادلة: 16] فَأَخْبَرَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ، بِقِيلِهِمْ مَا قَالُوا لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، مَعَ اعْتِقَادِهِمْ فِيهِ مَا هُمْ مُعْتَقِدُونَ، كَاذِبُونَ. ثُمَّ أَخْبَرَ تَعَالَى ذِكْرُهُ أَنَّ الْعَذَابَ الْمُهِينَ لَهُمْ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ. وَلَوْ كَانَ الصَّحِيحُ مِنَ الْقِرَاءَةِ عَلَى مَا قَرَأَهُ الْقَارِئُونَ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] لَكَانَتِ الْقِرَاءَةُ فِي السُّورَةِ الْأُخْرَى: وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَمُكَذِّبُونَ، لِيَكُونَ الْوَعِيدُ لَهُمُ الَّذِي هُوَ عُقَيْبُ ذَلِكَ وَعِيدًا عَلَى التَّكْذِيبِ، لَا عَلَى الْكَذِبِ. وَفِي إِجْمَاعِ الْمُسْلِمِينَ عَلَى أَنَّ الصَّوَابَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي قَوْلِهِ: {وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ} [المنافقون: 1] بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ إِيعَادَ اللَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى فِيهِ الْمُنَافِقِينَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ عَلَى ذَلِكَ مِنْ كَذِبِهِمْ، أَوْضَحُ الدَّلَالَةِ عَلَى أَنَّ الصَّحِيحَ مِنَ الْقِرَاءَةِ فِي سُورَةِ الْبَقَرَةِ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] بِمَعْنَى الْكَذِبِ، وَأَنَّ الْوَعِيدَ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ لِلْمُنَافِقِينَ فِيهَا عَلَى الْكَذِبِ حَقٌّ، لَا عَلَى التَّكْذِيبِ الَّذِي لَمْ يَجْزِ لَهُ ذِكْرٌ نَظِيرَ الَّذِي فِي سُورَةِ الْمُنَافِقِينَ سَوَاءٌ. وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ أَنَّ مَا مِنْ قَوْلِ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] اسْمٌ لِلْمَصْدَرِ، كَمَا أَنَّ أَنَّ وَالْفِعْلَ اسْمَانِ لِلْمَصْدَرِ فِي قَوْلِكَ: أُحِبُّ أَنْ تَأْتِيَنِيَ، وَأَنَّ الْمَعْنَى إِنَّمَا هُوَ بِكَذِبِهِمْ وَتَكْذِيبِهِمْ. قَالَ: وَأَدْخَلَ كَانَ لِيُخْبِرَ أَنَّهُ كَانَ فِيمَا مَضَى، كَمَا يُقَالُ: مَا أَحْسَنَ مَا كَانَ عَبْدُ اللَّهِ. فَأَنْتَ تَعْجَبُ مِنْ عَبْدِ اللَّهِ لَا مِنْ كَوْنِهِ، وَإِنَّمَا وَقَعَ التَّعَجُّبِ فِي اللَّفْظِ عَلَى كَوْنِهِ. وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ يُنْكِرُ ذَلِكَ مِنْ قَوْلِهِ وَيَسْتَخْطِئُهُ وَيَقُولُ: إِنَّمَا أُلْغِيَتْ كَانَ فِي التَّعَجُّبِ لِأَنَّ الْفِعْلَ قَدْ تَقَدَّمَهَا، فَكَأَنَّهُ قَالَ: حَسَنًا كَانَ زَيْدٌ، وَحَسَنٌ كَانَ زَيْدٌ يُبْطِلُ كَانَ، وَيَعْمَلُ مَعَ الْأَسْمَاءِ وَالصِّفَاتِ الَّتِي بِأَلْفَاظِ الْأَسْمَاءِ إِذَا جَاءَتْ قَبْلَ كَانَ وَوَقَعَتْ كَانَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ الْأَسْمَاءِ. وَأَمَّا الْعِلَّةُ فِي إِبْطَالِهَا إِذَا أُبْطِلَتِ فِي هَذِهِ الْحَالِ فَشَبَهُ الصِّفَاتِ وَالْأَسْمَاءِ بِفَعَلَ وَيَفْعَلُ اللَّتَيْنِ لَا يَظْهَرُ عَمَلُ كَانَ فِيهِمَا، أَلَا تَرَى أَنَّكَ تَقُولُ: يَقُومُ كَانَ زَيْدٌ، وَلَا يَظْهَرُ عَمَلُ كَانَ فِي يَقُومُ، وَكَذَلِكَ قَامَ كَانَ زَيْدٌ. فَلِذَلِكَ أَبْطَلَ عَمَلَهَا مَعَ فَاعِلٍ تَمْثِيلًا بِفَعَلَ وَيَفْعَلُ، وَأُعْمِلَتْ مَعَ فَاعِلٍ أَحْيَانًا لِأَنَّهُ اسْمٌ كَمَا تَعْمَلُ فِي الْأَسْمَاءِ. فَأَمَّا إِذَا تَقَدَّمَتْ كَانَ الْأَسْمَاءَ وَالْأَفْعَالَ وَكَانَ الِاسْمُ وَالْفِعْلُ بَعْدَهَا، فَخَطَأٌ عِنْدَهُ أَنْ تَكُونَ كَانَ مُبْطَلَةٌ؛ فَلِذَلِكَ أَحَالَ قَوْلَ الْبَصْرِيِّ الَّذِي حَكَيْنَاهُ، وَتَأَوَّلَ قَوْلَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ} [البقرة: 10] أَنَّهُ بِمَعْنَى: الَّذِي يَكْذِبُونَهُ.)).

التعليق:
نسب الطبري القراءات إلى الأمصار، وهو هنا لا يتكلم عن السبعة ولا العشرة، وإنما عن أكثر من ذلك، وهذه الجهة روائية؛ حيث أثبت الرواية، ثم انتقل إلى التعليل لها .
وقوله: ((وَكَأَنَّ الَّذِينَ قَرَءُوا ذَلِكَ بِتَشْدِيدِ الذَّالِ وَضَمِّ الْيَاءِ رَأَوْا أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا أَوْجَبَ لِلْمُنَافِقِينَ الْعَذَابَ الْأَلِيمَ بِتَكْذِيبِهِمْ نَبِيَّهُمْ مُحَمَّدًا صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَأَنَّ الْكَذِبَ لَوْلَا التَّكْذِيبُ لَا يُوجِبُ لِأَحَدٍ الْيَسِيرَ مِنَ الْعَذَابِ، فَكَيْفَ بِالْأَلِيمِ مِنْهُ؟ وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالُوا)).
وهذه طريقة مسلوكة وهي ذكر ما قد يكون حجة لمن قرأ بهذه القراءة .
ثم اعترض على ذلك، فقال:
((وَلَيْسَ الْأَمْرُ فِي ذَلِكَ عِنْدِي كَالَّذِي قَالُوا؛ وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ عَزَّ وَجَلَّ أَنْبَأَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ فِي أَوَّلِ النَّبَأِ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ السُّورَةِ بِأَنَّهُمْ يَكْذِبُونَ بِدَعْوَاهُمُ الْإِيمَانَ وَإِظْهَارِهِمْ ذَلِكَ بِأَلْسِنَتِهِمْ خِدَاعًا لِلَّهِ عَزَّ وَجَلَّ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا} [البقرة: 9] بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ مَعَ اسْتِسْرَارِهِمُ الشَّكَّ وَالرِّيبَةَ ....)).

{وما يخدعون} [البقرة: 9] بصنيعهم ذلك {إلا أنفسهم} [البقرة: 9] دون رسول الله صلى الله عليه وسلم والمؤمنين {وما يشعرون} [البقرة: 9] بموضع خديعتهم أنفسهم واستدراج الله عز وجل إياهم بإملائه لهم {في قلوبهم مرض} [البقرة: 10] أي نفاق وريبة، والله زائدهم شكا وريبة بما كانوا يكذبون الله ورسوله والمؤمنين بقولهم بألسنتهم: {آمنا بالله وباليوم الآخر} [البقرة: 8] وهم في قيلهم ذلك كذبة لاستسرارهم الشك والمرض في اعتقادات قلوبهم. في أمر الله وأمر رسوله صلى الله عليه وسلم، فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم، دون ما لم يجر له ذكر من أفعالهم؛ إذ كان سائر آيات تنزيله بذلك نزل. وهو أن يفتتح ذكر محاسن أفعال قوم ثم يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من أفعالهم، ويفتتح ذكر مساوئ أفعال آخرين ثم يختم ذلك بالوعيد على ما ابتدأ به ذكره من أفعالهم. فكذلك الصحيح من القول في الآيات التي افتتح فيها ذكر بعض مساوئ أفعال المنافقين أن يختم ذلك بالوعيد على ما افتتح به ذكره من قبائح أفعالهم )).
عضد اعتراضه بحجتين: الأولى : السياق، وذلك في قوله: ((فأولى في حكمة الله جل جلاله أن يكون الوعيد منه لهم على ما افتتح به الخبر عنهم من قبيح أفعالهم وذميم أخلاقهم..)).
وأول خبر عنهم أنهم قالوا آمنا، وهم لا يؤمنون، لذا فالعقاب لهم سيكون على كذبهم.
فكأنه يقول: لكي يتناسق كلام الله تعالى عنهم من أوله إلى هذا الموطن- وذلك بكون الحديث عن كذبهم في الاعتقاد وكذبهم في التعامل- ثم يأتي بيان الله تعالى بعد هذا بأن عقوبته لهم بسبب كذبهم.
(( فهذا مع دلالة الآية الأخرى على صحة ما قلنا وشهادتها بأن الواجب من القراءة ما اخترنا، وأن الصواب من التأويل ما تأولنا من أن وعيد الله المنافقين في هذه الآية العذاب الأليم على الكذب الجامع معنى الشك والتكذيب، وذلك قول الله تبارك وتعالى: {إذا جاءك المنافقون قالوا نشهد إنك لرسول الله والله يعلم إنك لرسوله والله يشهد إن المنافقين لكاذبون اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله إنهم ساء ما كانوا يعملون} [المنافقون: 1] والآية الأخرى في المجادلة: {اتخذوا أيمانهم جنة فصدوا عن سبيل الله فلهم عذاب مهين} [المجادلة: 16] فأخبر جل ثناؤه أن المنافقين، بقيلهم ما قالوا لرسول الله صلى الله عليه وسلم، مع اعتقادهم فيه ما هم معتقدون، كاذبون. ثم أخبر تعالى ذكره أن العذاب المهين لهم على ذلك من كذبهم. ولو كان الصحيح من القراءة على ما قرأه القارئون في سورة البقرة: {ولهم عذاب أليم بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] لكانت القراءة في السورة الأخرى: والله يشهد إن المنافقين لمكذبون، ليكون الوعيد لهم الذي هو عقيب ذلك وعيدا على التكذيب، لا على الكذب.)).
ذكر هنا الحجة الثانية، وهي: النظائر القرآنية.
وهنا مسألة مهمة، وهي أنه لا يلزم إذا وجد ما يُظن أنه نظير = أن يكون الاحتجاج به قاطعًا للخلاف .
((وفي إجماع المسلمين على أن الصواب من القراءة في قوله: {والله يشهد إن المنافقين لكاذبون} [المنافقون: 1] بمعنى الكذب، وأن إيعاد الله تبارك وتعالى فيه المنافقين العذاب الأليم على ذلك من كذبهم، أوضح الدلالة على أن الصحيح من القراءة في سورة البقرة: {بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] بمعنى الكذب، وأن الوعيد من الله تعالى ذكره للمنافقين فيها على الكذب حق، لا على التكذيب الذي لم يجز له ذكر نظير الذي في سورة المنافقين سواء)).
والإجماع الذي ذكره صحيح في الاحتجاج به على الآية الأخرى؛ لكن الإشكال في جعل هذه الآية كتلك، فكلا الآيتين لها مساقٌ مختلف، وسيأتي أنه لا يمنع اجتماع القرآءتين معاً.
(( وقد زعم بعض نحويي البصرة أن ما من قول الله تبارك اسمه: {بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] اسم للمصدر، كما أن أن والفعل اسمان للمصدر في قولك: أحب أن تأتيني، وأن المعنى إنما هو بكذبهم وتكذيبهم. قال: وأدخل كان ليخبر أنه كان فيما مضى، كما يقال: ما أحسن ما كان عبد الله. فأنت تعجب من عبد الله لا من كونه، وإنما وقع التعجب في اللفظ على كونه. وكان بعض نحويي الكوفة ينكر ذلك من قوله ويستخطئه ويقول: إنما ألغيت كان في التعجب لأن الفعل قد تقدمها، فكأنه قال: حسنا كان زيد، وحسن كان زيد يبطل كان، ويعمل مع الأسماء والصفات التي بألفاظ الأسماء إذا جاءت قبل كان ووقعت كان بينها وبين الأسماء. وأما العلة في إبطالها إذا أبطلت في هذه الحال فشبه الصفات والأسماء بفعل ويفعل اللتين لا يظهر عمل كان فيهما، ألا ترى أنك تقول: يقوم كان زيد، ولا يظهر عمل كان في يقوم، وكذلك قام كان زيد. فلذلك أبطل عملها مع فاعل تمثيلا بفعل ويفعل، وأعملت مع فاعل أحيانا لأنه اسم كما تعمل في الأسماء. فأما إذا تقدمت كان الأسماء والأفعال وكان الاسم والفعل بعدها، فخطأ عنده أن تكون كان مبطلة؛ فلذلك أحال قول البصري الذي حكيناه، وتأول قول الله عز وجل: {بما كانوا يكذبون} [البقرة: 10] أنه بمعنى: الذي يكذبونه. )).
قوله: ((وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ)) هو الأخفش في معانيه.
أما الكوفي فلم أظفر به، وفائدة هذه المعلومات معرفة مصادر المؤلف، وهي مفيدة في الحكم على التأليف قوة وضعفًا .
وقد ذكر الطبري رأيه، واختار قراءة {يَكْذِبُون}، ثم أخر الكلام على النحو على عادته.
مسألة:
القراءة التي اعترض عليها الطبري هي قراءة نافع وابن كثير وأبي عامر وأبي عمرو من السبعة، فهي بالنسبة لنا، قراءة متواترة، بل هي قراءة الأكثر .
واعترض عليها مع أنه ذكر أنها قراءة عُظم أهل المدينة والحجاز والبصرة .
وهذا يعطينا دلالة واضحة أن الطبري لم يحكم على القراءات بالتواتر أو عدم التواتر، وذلك:
1- أنه لو حكم عليها بالتواتر لما اعترض عليها .
2- أن الاحتجاج للقراءة على نوعين:
أ- احتجاج لإثبات صحة القراءة .
ب- احتجاج لاختيار القراءة، وهو مبني على سابقه .
وغالب ما في كتب علل القراءات من النوع الثاني، كالكشف والبيان، للداني، أو الحجة أو غيرها من الكتب .
وهو هنا، يحتج للصحة والثبوت، وهذا مشعر بأن هناك مدخلًا للاجتهاد في القراءات، وهذه الطريقة هي منهجية المتقدمين، وليس هو الوحيد فيها، بل هذا موجود عند أبي عبيد القاسم بن سلام، وغيره، بل لا يستغرب أن يكون الطبري قد أخذه من أبي عبيد .
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس السابع عشر: (30 - 5 - 1435)
التاريخ: 19 - 6 - 1435 الموافق 19/04/2014
عدد الزيارات: 135

اعتنى به: عمرو الشرقاوي​
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1/ 296]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ هَذِهِ الْآيَةِ، فَرُوِيَ عَنْ سَلْمَانَ الْفَارِسِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: لَمْ يَجِئْ هَؤُلَاءِ بَعْدُ.
وبإسناده، عَنْ عَبَّادِ بْنِ عَبْدِ اللَّهِ، عَنْ سَلْمَانَ، قَالَ: " مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ الَّذِينَ {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] ".
وبإسناده، عَنْ زَيْدِ بْنِ وَهْبٍ وَغَيْرِهِ، عَنْ سَلْمَانَ " أَنَّهُ قَالَ فِي هَذِهِ الْآيَةِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] قَالَ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ ".
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] هُمُ الْمُنَافِقُونَ. أَمَّا {لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 11] فَإِنَّ الْفَسَادَ هُوَ الْكُفْرُ وَالْعَمَلُ بِالْمَعْصِيَةِ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ: " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 11] يَقُولُ: لَا تَعْصُوا فِي الْأَرْضِ. قَالَ: فَكَانَ فَسَادُهُمْ عَلَى أَنْفُسِهِمْ ذَلِكَ مَعْصِيَةَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ، لِأَنَّ مَنْ عَصَى اللَّهَ فِي الْأَرْضِ أَوْ أَمَرَ بِمَعْصِيَتِهِ فَقَدْ أَفْسَدَ فِي الْأَرْضِ، لِأَنَّ إِصْلَاحَ الْأَرْضِ وَالسَّمَاءِ بِالطَّاعَةِ " وَأَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ تَأْوِيلُ مَنْ قَالَ: إِنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَبَارَكَ اسْمُهُ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] نَزَلَتْ فِي الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ كَانُوا عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ. وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ سَلْمَانَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ، أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بَعْدَ فَنَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ خَبَرًا مِنْهُ عَمَّنْ جَاءَ مِنْهُمْ بَعْدَهُمْ وَلَمَّا يَجِئْ بَعْدُ، لَا أَنَّهُ عَنَى أَنَّهُ لَمْ يَمْضِ مِمَّنْ هَذِهِ صِفَتُهُ أَحَدٌ.
وَإِنَّمَا قُلْنَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِمْ نَزَلَتْ. وَالتَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ.)).

التعليق:
ذكر الطبري رحمه الله أن أهل التأويل اختلفوا على قولين:
1- أن هذا لم يأت تأويله بعدُ، وهذا قول سلمان .
2- ما رواه عن جماعة، وهو إسناد السدي المشهور، أنهم فسروا الفساد بأنه الكفر والعمل بالمعصية، وعن الربيع أنه قال: لا تعصوا، ومساق حديث هؤلاء أن الآية نازلة في المنافقين.
فالطبري رحمه الله اعتمد في قوله بأنها نزلت في أهل النفاق على ما ذكر في الآيات السابقة، وما سيذكر لاحقًا .
- وترجيح الطبري فيه مسائل:
1- أنه نص على أن هذه الآية نزلت في المنافقين الذين كانوا على عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم .
وقال بعدها: ((وَإِنْ كَانَ مَعْنِيًّا بِهَا كُلُّ مَنْ كَانَ بِمِثْلِ صِفَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُمْ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ.)).
وهذه مهارة التفسير، فقد ذكر من عُني بالخطاب أولًا، ثم بين التعميم وذلك بإدخال غيرهم معهم ممن هو في صفتهم، فانطلق من الخصوص إلى العموم .
- قول سلمان رضي الله عنه، ((مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ))، ليس فيه إشكال، فهو رضي الله عنه لا يتكلم عن المعنى، بل قوله يدل على أن المعنى معلوم عنده، وإنما قصد ما بعد المعنى، ومن المقصود بهذه الآية، وهل جاءوا أم لا ؟
وكلام الطبري في توجيه كلام سلمان رضي الله عنه نفيس، وهو: ((وَقَدْ يَحْتَمِلُ قَوْلُ سَلْمَانَ عِنْدَ تِلَاوَةِ هَذِهِ الْآيَةِ: مَا جَاءَ هَؤُلَاءِ بَعْدُ، أَنْ يَكُونَ قَالَهُ بَعْدَ فَنَاءِ الَّذِينَ كَانُوا بِهَذِهِ الصِّفَةِ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ))، فكأنه لا يوجد من تنطبق عليه الآية في عهد سلمان، وإنما سيأتي من سيكون على مثل صفته وشاكلته، وسلمان رضي الله عنه له في موطن آخر {ويل للمطففين} استنباط لطيف، حيث ذكر حديث الذي ينقص من صلاته، ثم قال: قد علمتم ما قال الله في المطففين.
ومعلوم أن الآية نزلت في التطفيف في التجارة؛ ولكن سلمان أدخل التطفيف في الصلاة فيها.
وهذه من باب التفسير بالقياس، وهو موجود في تفسير السلف.
- وقد عرج الطبري على مسألة مهمة، وهي قوله: ((وَإِنَّمَا قُلْنَا أَوْلَى التَّأْوِيلَيْنِ بِالْآيَةِ مَا ذَكَرْنَا، لِإِجْمَاعِ الْحُجَّةِ مِنْ أَهْلِ التَّأْوِيلِ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ صِفَةُ مَنْ كَانَ بَيْنَ ظَهْرَانَيْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ عَلَى عَهْدِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْمُنَافِقِينَ، وَأَنَّ هَذِهِ الْآيَاتِ فِيهِمْ نَزَلَتْ. وَالتَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ.)).
وقد ذكر الطبري الإجماع بما ظهر لديه من مجموع الروايات.
وقوله: ((وَالتَّأْوِيلُ الْمُجْمَعُ عَلَيْهِ أَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْقُرْآنِ مِنْ قَوْلٍ لَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ مِنْ أَصْلٍ وَلَا نَظِيرٍ.)).
قاعدة حسنة، وكأنه يقول أن التأويل الآخر - وهو قول سلمان، ولكن لم يسمه من باب الأدب -، ليس له أصل ولا نظر، والأصل إما أن يكون من كتاب أو سنة، والنظير أي في القرآن .
وهنا ننبه أن ابن جرير رحمه الله يستخدم العقل، بخلاف من قال: إنه اعتمد على الأثر فقط!، والصحيح أن عمدته الأثر، لكن العقل لم يكن غائبًا عن تفسيره .
[1/ 299]
قال الطبري:
((وَالْإِفْسَادُ فِي الْأَرْضِ: الْعَمَلُ فِيهَا بِمَا نَهَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُ، وَتَضْيِيعُ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِحِفْظِهِ. فَذَلِكَ جُمْلَةُ الْإِفْسَادِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي كِتَابِهِ مُخْبِرًا عَنْ قِيلِ مَلَائِكَتِهِ: {قَالُوا أَتَجْعَلُ فِيهَا مَنْ يُفْسِدِ فِيهَا وَيَسْفِكُ الدِّمَاءَ} [البقرة: 30] يَعْنُونَ بِذَلِكَ: أَتَجْعَلُ فِي الْأَرْضِ مَنْ يَعْصِيكَ وَيُخَالِفُ أَمْرَكَ؟ فَكَذَلِكَ صِفَةُ أَهْلِ النِّفَاقِ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بِمَعْصِيَتِهِمْ فِيهَا رَبَّهُمْ، وَرُكُوبِهِمْ فِيهَا مَا نَهَاهُمْ عَنْ رُكُوبِهِ، وَتَضْيِيعِهِمْ فَرَائِضَهُ وَشَكِّهِمْ فِي دِينِ اللَّهِ الَّذِي لَا يُقْبَلُ مِنْ أَحَدٍ عَمَلًا إِلَّا بِالتَّصْدِيقِ بِهِ وَالْإِيقَانِ بِحَقِّيَّتِهِ، وَكَذِبِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ بِدَعْوَاهُمْ غَيْرَ مَا هُمْ عَلَيْهِ مُقِيمُونَ مِنَ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ وَبُمَظَاهَرَتِهِمْ أَهْلَ التَّكْذِيبِ بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ عَلَى أَوْلِيَاءِ اللَّهِ إِذَا وَجَدُوا إِلَى ذَلِكَ سَبِيلًا فَذَلِكَ إِفْسَادُ الْمُنَافِقِينَ فِي أَرْضِ اللَّهِ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ بِفِعْلِهِمْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ فِيهَا. فَلَمْ يُسْقِطِ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْهُمْ عُقُوبَتَهُ، وَلَا خَفَّفَ عَنْهُمْ أَلِيمَ مَا أَعَدَّ مِنْ عِقَابِهِ لِأَهْلِ مَعْصِيَتِهِ بِحُسْبَانِهِمْ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ مُصْلِحُونَ، بَلْ أَوْجَبَ لَهُمُ الدَّرْكَ الْأَسْفَلَ مِنْ نَارِهِ وَالْأَلِيمَ مِنْ عَذَابِهِ وَالْعَارَ الْعَاجِلَ بِسَبِّ اللَّهِ إِيَّاهُمْ وَشَتْمِهِ لَهُمْ، فَقَالَ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] وَذَلِكَ مِنْ حُكْمِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ أَدَلُّ الدَّلِيلِ عَلَى تَكْذِيبِهِ تَعَالَى قَوْلَ الْقَائِلِينَ: إِنَّ عُقُوبَاتِ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا الْمُعَانِدُ رَبَّهُ فِيمَا لَزِمَهُ مِنْ حُقُوقِهِ وَفُرُوضِهِ بَعْدَ عِلْمِهِ وَثُبُوتِ الْحُجَّةِ عَلَيْهِ بِمَعْرِفَتِهِ بِلُزُومِ ذَلِكَ إِيَّاهُ.)).

التعليق:
هذا الأسلوب، وهو الإطالة والاستيعاب بالشرح، وهذا قليل عند الطبري، وهو في بداية التفسير أكثر منه فيما يليه.
والإفساد على نوعين:
1- أن يكون المنافق عالمًا بإفساده .
2- أو أن يقع الفساد منه بسبب نفاقه، وهو يظن أنه مصلح .
وهذا النوع الثاني هو الذي أشار إليهم الطبري .
[1/ 299]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11].
وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ كَالَّذِي قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ.
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " قَوْلُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ} [البقرة: 11] أَيْ قَالُوا: إِنَّمَا نُرِيدُ الْإِصْلَاحَ بَيْنَ الْفَرِيقَيْنِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَأَهْلِ الْكِتَابِ " .
وَخَالَفَهُ فِي ذَلِكَ غَيْرُهُ.
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ} [البقرة: 11] قَالَ: إِذَا رَكِبُوا مَعْصِيَةَ اللَّهِ، فَقِيلَ لَهُمْ: لَا تَفْعَلُوا كَذَا وَكَذَا، قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ عَلَى الْهُدَى مُصْلِحُونَ ".
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَأَيُّ الْأَمْرَيْنِ كَانَ مِنْهُمْ فِي ذَلِكَ، أَعْنِي فِي دَعْوَاهُمْ أَنَّهُمْ مُصْلِحُونَ، فَهُمْ لَا شَكَّ أَنَّهُمْ كَانُوا يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ فِيمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ مُصْلِحُونَ. فَسَوَاءٌ بَيْنَ الْيَهُودِ وَالْمُسْلِمِينَ كَانَتْ دَعْوَاهُمُ الْإِصْلَاحَ أَوْ فِي أَدْيَانِهِمْ، وَفِيمَا رَكِبُوا مِنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ، وَكَذِبِهِمُ الْمُؤْمِنِينَ فِيمَا أَظْهَرُوا لَهُمْ مِنَ الْقَوْلِ وَهُمْ لِغَيْرِ مَا أَظْهَرُوا مُسْتَبْطِنُونَ، لِأَنَّهُمْ كَانُوا فِي جَمِيعِ ذَلِكَ مِنْ أَمْرِهِمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ مُحْسِنِينَ، وَهُمْ عِنْدَ اللَّهِ مُسِيئُونَ، وَلِأَمْرِ اللَّهِ مُخَالِفُونَ؛ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ كَانَ فَرَضَ عَلَيْهِمْ عَدَاوَةَ الْيَهُودِ وَحَرْبَهُمْ مَعَ الْمُسْلِمِينِ، وَأَلْزَمَهُمُ التَّصْدِيقَ بِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَالَّذِي أَلْزَمُ مِنْ ذَلِكَ الْمُؤْمِنِينَ، فَكَانَ لِقَاؤُهُمُ الْيَهُودَ عَلَى وَجْهِ الْوَلَايَةِ مِنْهُمْ لَهُمْ، وَشَكِّهِمْ فِي نُبُوَّةِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِيمَا جَاءَ بِهِ أَنَّهُ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أَعْظَمُ الْفَسَادِ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ كَانَ عِنْدَهُمْ إِصْلَاحًا وَهُدًى: فِي أَدْيَانِهِمْ، أَوْ فِيمَا بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ وَالْيَهُودِ، فَقَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهِمْ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] دُونَ الَّذِينَ يَنْهَوْنَهُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ عَنِ الْإِفْسَادِ فِي الْأَرْضِ {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12].)).

التعليق:
ذكر الطبري، أن الآية فيها قولين:
1- قول ابن عباس .
2- قول مجاهد .
وقد ذكر الطبري أن القولين محتملين .
فعندنا صور من الإفساد ودعوى الإصلاح، وما ذكره ابن عباس صورة من الصور، وما ذكره مجاهد، صورة أخرى .
وفي هذا فائدة لطيفة، وهي أنه إذا ورد في تفسير الآية عدة صور، ولم تكن تلك الصور متناقضة، فإن حمل الآية عليها أولى إذا لم يوجد مانع من الحمل .
[1/ 301]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] وَهَذَا الْقَوْلُ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ تَكْذِيبٌ لِلْمُنَافِقِينَ فِي دَعْوَاهُمْ إِذَا أُمِرُوا بِطَاعَةِ اللَّهِ فِيمَا أَمَرَهُمُ اللَّهُ بِهِ، وَنُهُوا عَنْ مَعْصِيَةِ اللَّهِ فِيمَا نَهَاهُمُ اللَّهُ عَنْهُ. قَالُوا: إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ لَا مُفْسِدُونَ، وَنَحْنُ عَلَى رَشَدٍ وَهُدًى فِيمَا أَنْكَرْتُمُوهُ عَلَيْنَا دُونَكُمْ لَا ضَالُّونَ. فَكَذَّبَهُمُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ فِي ذَلِكَ مِنْ قِيلِهِمْ، فَقَالَ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ} [البقرة: 12] الْمُخَالِفُونَ أَمْرَ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ، الْمُتَعَدُّونَ حُدُودَهُ الرَّاكِبُونَ مَعْصِيَتَهُ، التَّارِكُونَ فَرَوْضَهُ وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ وَلَا يَدْرُونَ أَنَّهُمْ كَذَلِكَ، لَا الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالْقِسْطِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَيَنْهَوْنَهُمْ عَنْ مَعَاصِي اللَّهِ فِي أَرْضِهِ مِنَ الْمُسْلِمِينَ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] يَعْنِي: وَإِذَا قِيلَ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ وَنَعَتَهُمْ بِأَنَّهُمْ يَقُولُونَ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] صَدَّقُوا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا صَدَّقَ بِهِ النَّاسُ. وَيَعْنِي بِالنَّاسِ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ آمَنُوا بِمُحَمَّدٍ وَنُبُوَّتِهِ وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] يَقُولُ: وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ صَدِّقُوا كَمَا صَدَّقَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ، قُولُوا: إِنَّهُ نَبِيٌّ وَرَسُولٌ، وَإِنَّ مَا أُنْزِلَ عَلَيْهِ حَقٌّ، وَصَدِّقُوا بِالْآخِرَةِ، وَأَنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ " وَإِنَّمَا أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِي النَّاسِ وَهُمْ بَعْضُ النَّاسِ لَا جَمِيعَهُمْ؛ لِأَنَّهُمْ كَانُوا مَعْرُوفِينَ عِنْدَ الَّذِينَ خُوطِبُوا بِهَذِهِ الْآيَةِ بِأَعْيَانِهِمْ. وَإِنَّمَا مَعْنَاهُ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ الَّذِينَ تَعْرِفُونَهُمْ مِنْ أَهْلِ الْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَلِذَلِكَ أُدْخِلَتِ الْأَلْفُ وَاللَّامُ فِيهِ كَمَا أُدْخِلَتَا فِي قَوْلِهِ: {الَّذِينَ قَالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ} [آل عمران: 173] لِأَنَّهُ أُشِيرَ بِدُخُولِهَا إِلَى نَاسٍ مَعْرُوفِينَ عِنْدَ مَنْ خُوطِبَ بِذَلِكَ.)).

التعليق:
في قوله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13].
نبه الطبري رحمه الله أن الناس هنا عام أريد به الخصوص، وهذا من تطبيقات العام الذي أريد به الخصوص، وهو من دقائق التفسير، فإذا كانت الآية لا تحتمل العموم اللفظي، وأردت أن تدخل في الآية من ينطبق عليه المعنى، فإنه يكون من باب القياس، وليس من باب عموم اللفظ.
ونلاحظ هنا أن ابن جرير ربط معاني الآيات بعضها ببعض، ليثبت أن سياق الآيات من الآية (8) إلى هذا الموضع لا يزال مستمرًا، ، وهذا نوع من العناية بالسياق، وهو واقع عند الطبري باطراد، ومن منهجه رحمه الله تعالى.
وقوله: ((كَمَا حَدَّثَنَا أَبُو كُرَيْبٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا عُثْمَانُ بْنُ سَعِيدٍ، عَنْ بِشْرِ بْنِ عَمَّارٍ، عَنْ أَبِي رَوْقٍ، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ))، رواية الضحاك عن ابن عباس رواية كتاب، وهي منقطعة، ومع هذا ذكرها الطبري كمستند؛ لأن المعنى فيها لا إشكال فيه، ومتوافق مع سياق الآية.
وأسلوب الطبري هنا يعطينا تنبيه مهم جداً، وهو أن ضعف الرواية لا يعني تركها بالكلية، بل يستفاد منها ما لم يظهر فيها إشكال أو نكارة، وهو منهج المفسرين والمحدثين .
[1/ 302]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالسُّفَهَاءُ جَمْعُ سَفِيهٍ، كَالْعُلَمَاءِ جَمْعُ عَلِيمٍ، وَالْحُكَمَاءِ جَمْعُ حَكِيمٍ وَالسَّفِيهُ: الْجَاهِلُ الضَّعِيفُ الرَّأْيِ، الْقَلِيلُ الْمَعْرِفَةِ بِمَوَاضِعِ الْمَنَافِعِ وَالْمَضَارِّ وَلِذَلِكَ سَمَّى اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ النِّسَاءَ وَالصِّبْيَانَ سُفَهَاءَ، فَقَالَ تَعَالَى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5] فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لِضَعْفِ آرَائِهِمْ، وَقِلَّةِ مَعْرِفَتِهِمْ بِمَوَاضِعِ الْمَصَالِحِ وَالْمَضَارِّ الَّتِي تُصْرَفُ إِلَيْهَا الْأَمْوَالُ. وَإِنَّمَا عَنَى الْمُنَافِقُونَ بِقِيلِهِمْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ، إِذْ دُعُوا إِلَى التَّصْدِيقِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَالْإِقْرَارِ بِالْبَعْثِ، فَقَالَ لَهُمْ: آمِنُوا كَمَا آمَنَ أَصْحَابُ مُحَمَّدٍ وَأَتْبَاعُهُ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِهِ أَهْلُ الْإِيمَانِ وَالْيَقِينِ وَالتَّصْدِيقِ بِاللَّهِ وَبِمَا افْتَرَضَ عَلَيْهِمْ عَلَى لِسَانِ رَسُولِهِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَفِي كِتَابِهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ، فَقَالُوا إِجَابَةً لِقَائِلِ ذَلِكَ لَهُمْ: أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ أَهْلُ الْجَهْلِ وَنُصَدِّقُ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ كَمَا صَدَّقَ بِهِ هَؤُلَاءِ الَّذِينَ لَا عُقُولُ لَهُمْ وَلَا أَفْهَامَ .
كَالَّذِي حَدَّثَنِي مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرُو بْنُ حَمَّادٍ، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، قَالُوا: " {أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] يَعْنُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وبإسناده، عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدِ بْنِ أَسْلَمَ، " فِي قَوْلِهِ: {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] قَالَ: هَذَا قَوْلُ الْمُنَافِقِينِ، يُرِيدُونَ أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] يَقُولُونَ: أَنَقُولُ كَمَا تَقُولُ السُّفَهَاءُ؟ يَعْنُونَ أَصْحَابَ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، لِخِلَافِهِمْ لِدِينِهِمْ".)).

التعليق:
هذا القول الذي قاله هؤلاء يحتمل أمرين:
1- أن يكونوا قد قالوه أمام أهل الإيمان، فهذا مما يظهر ما يبطنونه من نفاق .
2- أو أن يقولوه بينهم وبين أنفسهم .
ذكر الطبري المعنى اللغوي للفظ: السفهاء، ثم عرّفَ السفيه، ثم ذكر نوع من أنواع السفهاء في القرآن.
-لاحظ قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، وهنا قال:{أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] وهذا نوع من أنواع النظائر القرآنية.
وليس مراد المنافقين في السفهاء ما ورد في قوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ ..}وإنما قصدهم المؤمنون الضعفاء الذين آمنوا بمحمد صلى الله عليه وسلم.
وإيمان الضعفاء بالرسل هو من سنته تعالى في الرسل، ولذلك استدل بذلك هرقل على صحة نبوة الرسول صلى الله عليه وسلم.
وتفسيره لقوله تعالى: {وَلَا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِيَامًا} [النساء: 5]، بقوله: ((فَقَالَ عَامَّةُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ: هُمُ النِّسَاءُ وَالصِّبْيَانُ لِضَعْفِ آرَائِهِمْ)) من باب الفوائد وتفسير الشيء بغير مظنته ومكانه.
ثم عضد رأيه بالآثار، وقدم إسناد السدي، ومع ارتيابه في الإسناد، إلا أنه تعامل معه وقدمه .
وما فعله السدي (ت 128) - على ما ذكره الشيخ أحمد شاكر- نوع من أنواع صور حذف الإسناد، وكذا ما فعله مقاتل بن سليمان؛ لأنه انتخب من رواية أكثر من ثلاثين رجل.
وإذا انتقلنا إلى طبقة أخرى بعده، مثل ابن أبي حاتم في تفسيره، نجد أنه حذف الإسناد، وقد نبه على هذا في مقدمته، أنه سيذكر أصح الأسانيد عنده، ثم يذكر من وافقه بدون إسناد.
فلو تتبعنا مسألة حذف الإسناد سنجد أنه قام بها جهابذة العلماء، وبالتالي فهي ليست مشكلة في التفسير، وقلما إسناد علقه البخاري -كمثل كتاب التفسير في صحيحه- إلا ونجده موصولا عند غيره، وكذلك الأمر مع ابن أبي حاتم.
- من اللطائف: أن عادة الطبري جعل رواية عبدالرحمن بن زيد آخر رواية، وقد قدمها في هذا الموطن.
[1/ 304]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ تَعَالَى عَنِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ تَقَدَّمَ نَعْتُهُ لَهُمْ وَوَصْفُهُ إِيَّاهُمْ بِمَا وَصَفَهُمْ بِهِ مِنَ الشَّكِّ وَالتَّكْذِيبِ، أَنَّهُمْ هُمُ الْجُهَّالُ فِي أَدْيَانِهِمْ، الضُّعَفَاءُ الْآرَاءِ فِي اعْتِقَادَاتِهِمْ وَاخْتِيَارَاتِهِمُ الَّتِي اخْتَارُوهَا لِأَنْفُسِهِمْ مِنَ الشَّكِّ وَالرِّيَبِ فِي أَمْرِ اللَّهِ وَأَمْرِ رَسُولِهِ وَأَمْرِ نُبُوَّتِهِ، وَفِيمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، وَأَمْرِ الْبَعْثِ، لِإِسَاءَتِهِمْ إِلَى أَنْفُسِهِمْ بِمَا أَتَوْا مِنْ ذَلِكَ، وَهُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ إِلَيْهَا يُحْسِنُونَ. وَذَلِكَ هُوَ عَيْنُ السَّفَهِ، لِأَنَّ السَّفِيهَ إِنَّمَا يُفْسِدُ مِنْ حَيْثِ يَرَى أَنَّهُ يَصْلُحُ وَيُضَيِّعُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يَحْفَظُ. فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ يَعْصِي رَبَّهُ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُطِيعُهُ، وَيَكْفُرُ بِهِ مِنْ حَيْثُ يَرَى أَنَّهُ يُؤْمِنُ بِهِ، وَيُسِيءُ إِلَى نَفْسِهِ مِنْ حَيْثُ يَحْسِبُ أَنَّهُ يُحْسِنُ إِلَيْهَا، كَمَا وَصَفَهُمْ بِهِ رَبُّنَا جَلَّ ذِكْرُهُ فَقَالَ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] وَقَالَ: أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ دُونَ الْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَبِرَسُولِهِ وَثَوَابِهِ وَعِقَابِهِ، وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ. وَكَذَلِكَ كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ يَتَأَوَّلُ هَذِهِ الْآيَةَ.
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ} [البقرة: 13] يَقُولُ: الْجُهَّالُ {وَلَكِنْ لَا يَعْلَمُونَ} [البقرة: 13] يَقُولُ: وَلَكِنْ لَا يَعْقِلُونَ " وَأَمَّا وَجْهُ دُخُولِ الْأَلْفِ وَاللَّامِ فِي السُّفَهَاءِ فَشَبِيهٌ بِوَجْهِ دُخُولِهِمَا فِي النَّاسِ فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ} [البقرة: 13] وَقَدْ بَيَّنَّا الْعِلَّةَ فِي دُخُولِهِمَا هُنَالِكَ، وَالْعِلَّةُ فِي دُخُولِهِمَا فِي السُّفَهَاءِ نَظِيرَتُهَا فِي دُخُولِهِمَا فِي النَّاسِ هُنَالِكَ سَوَاءٌ. وَالدَّلَالَةُ الَّتِي تَدُلُّ عَلَيْهِ هَذِهِ الْآيَةُ مِنْ خَطَأِ قَوْلِ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْعُقُوبَةَ مِنَ اللَّهِ لَا يَسْتَحِقُّهَا إِلَّا الْمُعَانِدُ رَبَّهُ مَعَ عِلْمِهِ بِصِحَّةِ مَا عَانَدَهُ فِيهِ نَظِيرُ دَلَالَةِ الْآيَاتِ الْأُخَرِ الَّتِي قَدْ تَقَدَّمَ ذِكْرُنَا تَأْوِيلَهَا فِي قَوْلِهِ: {وَلَكِنْ لَا يَشْعُرُونَ} [البقرة: 12] وَنَظَائِرُ ذَلِكَ.)).

التعليق:
وهنا فائدة، وهي أن الله تولى الرد على شبه المنافقين، وهذا بحث جيد، ((الأمور التي تولى الرد عليها رب العالمين تعالى)) .
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري، المجلس الثامن عشر: (7 - 6 - 1435)
التاريخ: 19 - 6 - 1435 الموافق 19/04/2014
عدد الزيارات: 296

اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِخِدَاعِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وَأَنَّهُمْ بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا. وَكَذَلِكَ أَخْبَرَ عَنْهُمْ فِي هَذِهِ الْآيَةِ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ لِلْمُؤْمِنِينَ الْمُصَدِّقِينَ بِاللَّهِ وَكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ بِأَلْسِنَتِهِمْ: آمَنَّا وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ، خِدَاعًا عَنْ دِمَائِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ وَذَرَارِيِّهِمْ، وَدَرْءًا لَهُمْ عَنْهَا، وَأَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ وَأَهْلِ الْعُتُوِّ وَالشَّرِّ وَالْخَبَثِ مِنْهُمْ وَمِنْ سَائِرِ أَهْلِ الشِّرْكِ الَّذِينَ هُمْ عَلَى مِثْلِ الَّذِي هُمْ عَلَيْهِ مِنَ الْكُفْرِ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ. وَقَدْ دَلَّلْنَا فِيمَا مَضَى مِنْ كِتَابِنَا عَلَى أَنَّ شَيَاطِينَ كُلِّ شَيْءٍ مَرَدَتُهُ، قَالُوا لَهُمْ: {إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] أَيْ إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ، وَظُهَرَاؤُكُمْ عَلَى مَنْ خَالَفَكُمْ فِيهِ، وَأَوْلِيَاؤُكُمْ دُونَ أَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ بِاللَّهِ وَبِكِتَابِهِ وَرَسُولِهِ وَأَصْحَابِهِ .
كَالَّذِي حَدَّثَنَا وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] قَالَ: كَانَ رِجَالٌ مِنَ الْيَهُودِ إِذَا لَقُوا أَصْحَابَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَوْ بَعْضَهُمْ، قَالُوا: إِنَّا عَلَى دِينِكُمْ، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى أَصْحَابِهِمْ وَهُمْ شَيَاطِينُهُمْ {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] قَالَ: إِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ مِنْ يَهُودَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَهُمْ بِالتَّكْذِيبِ، وَخِلَافِ مَا جَاءَ بِهِ الرَّسُولُ {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ} [البقرة: 14] أَيْ إِنَّا عَلَى مِثْلِ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ الْهَمْدَانِيِّ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] أَمَّا شَيَاطِينُهُمْ، فَهُمْ رُءُوسُهُمْ فِي الْكُفْرِ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] أَيْ رُؤَسَائِهِمْ وَقَادَتِهِمْ فِي الشَّرِّ، قَالُوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، " فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] قَالَ الْمُشْرِكُونَ ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ " فِي قَوْلِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] قَالَ: إِذَا خَلَا الْمُنَافِقُونَ إِلَى أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْكُفَّارِ ".
وبإسناده، عَنْ عَبْدِ اللَّهِ بْنِ أَبِي نَجِيحٍ، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] قَالَ: أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ: " {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] قَالَ إِخْوَانُهُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ، {قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} ".
وبإسناده، قَالَ ابْنُ جُرَيْجٍ " فِي قَوْلِهِ: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] قَالَ: إِذَا أَصَابَ الْمُؤْمِنِينَ رَخَاءٌ، قَالُوا إِنَّا نَحْنُ مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ إِخْوَانُكُمْ، وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمُ اسْتَهْزَءُوا بِالْمُؤْمِنِينَ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ مُجَاهِدٌ: " {شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] : أَصْحَابِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ ".)).

التعليق:
في هذا الذي ذكره أبو جعفر فوائد:
1- ما ذكره في الوجوه والنظائر، وهو قوله: ((وَهَذِهِ الْآيَةُ نَظِيرُ الْآيَةِ الْأُخْرَى الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِيهَا عَنِ الْمُنَافِقِينَ بِخِدَاعِهِمُ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَالْمُؤْمِنِينَ، فَقَالَ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] ثُمَّ أَكْذَبَهُمْ تَعَالَى ذِكْرُهُ بِقَوْلِهِ: {وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] وَأَنَّهُمْ بِقِيلِهِمْ ذَلِكَ يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا.)).
ووجه كونها نظيرًا، أن المعنى واحدٌ فيهما، وهي بهذا داخلة في باب النظائر في المعاني .
وهي التي يسميها بعضهم، تفسير القرآن بالقرآن، والأولى أن تكون مستقلة، وأن يكون التفسير ما فيه بيان عن معنى، أما عند اتفاق المعنى فإدخالها في باب النظائر أولى.
2- الشيطان، وصف يطلق على كل عات متمرد من الجن والإنس، وقد صار علمًا بالغلبة على إبليس .
3- ذكر أن الشياطين، هم الرؤساء والكبراء:
- في الرواية الأولى: أنهم من اليهود .
- والروايات الأخرى لم تعين اليهود .
وبما أن الآية هنا في المنافقين صريحة، فإن قوله تعالى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَا بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ قَالُوا أَتُحَدِّثُونَهُمْ بِمَا فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَفَلَا تَعْقِلُونَ}[البقرة: 76]، وسياق الآية صريح في كونها في اليهود، والآيات تشعر بأن النفاق وجِدَ عند بعض اليهود.
ويحتمل أن يكون الشياطين من اليهود، أو من كبار المنافقين، كعبدالله بن أبي بن سلول .
4- وهنا قد عبروا عن الإيمان بالجملة الفعلية، وهي دالة على أن إيمانهم إيمان عابر، بينما عبروا عن الكفر بالجملة الاسمية المؤكدة التي تدل على الثبوت والاستمرار .
[1/ 309]
قال الطبري:
((فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَرَأَيْتُ قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] فَكَيْفَ قِيلَ {: خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] ؟ وَلَمْ يُقَلْ خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ "؟ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَارِيَ بَيْنَ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ خَلَوْتُ بِفُلَانٍ أَكْثَرُ وَأَفْشَى مِنْ خَلَوْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ الْبَيَانِ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ، فَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَقُولُ: يُقَالَ خَلَوْتُ إِلَى فُلَانٍ، إِذَا أُرِيدَ بِهِ: خَلَوْتُ إِلَيْهِ فِي حَاجَةٍ خَاصَّةٍ؛ لَا يَحْتَمِلُ إِذَا قِيلَ كَذَلِكَ إِلَّا الْخَلَاءَ إِلَيْهِ فِي قَضَاءِ الْحَاجَةِ. فَأَمَّا إِذَا قِيلَ: خَلَوْتُ بِهِ احْتَمَلَ مَعْنَيَيْنِ: أَحَدُهُمَا الْخَلَاءُ بِهِ فِي الْحَاجَةَ، وَالْآخَرُ: فِي السُّخْرِيَةِ بِهِ، فَعَلَى هَذَا الْقَوْلِ {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] لَا شَكَّ أَفْصَحُ مِنْهُ لَوْ قِيلَ: وَإِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ لِمَا فِي قَوْلِ الْقَائِلِ: إِذَا خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ مِنَ الْتِبَاسِ الْمَعْنَى عَلَى سَامِعِيهِ الَّذِي هُوَ مُنْتَفٍ عَنْ قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] فَهَذَا أَحَدُ الْأَقْوَالِ. وَالْقَوْلُ الْآخَرُ أَنْ تُوَجِّهَ مَعْنَى قَوْلِهِ: {وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] أَيْ إِذَا خَلَوْا مَعَ شَيَاطِينِهِمْ، إِذْ كَانَتْ حُرُوفُ الصِّفَاتِ يُعَاقِبُ بَعْضُهَا بَعْضًا كَمَا قَالَ اللَّهُ مُخْبِرًا عَنْ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أَنَّهُ قَالَ لِلْحَوَارِيِّينَ: {مَنْ أَنْصَارِي إِلَى اللَّهِ} [آل عمران: 52] يُرِيدُ مَعَ اللَّهِ، وَكَمَا تُوضَعُ عَلَى فِي مَوْضِعِ مِنْ وَفِي وَعَنْ وَالْبَاءِ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
إِذَا رَضِيَتْ عَلَيَّ بَنُو قُشَيْرٍ ... لَعَمْرُ اللَّهِ أَعْجَبَنِي رِضَاهَا
بِمَعْنَى عَنِّي. وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] وَإِذَا صَرَفُوا خَلَاءَهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ؛ فَيَزْعُمُ أَنَّ الْجَالِبَ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ: مِنَ انْصِرَافِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ خَالِينَ بِهِمْ، لَا قَوْلُهُ خَلَوْا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِ إِلَى غَيْرُهَا لِتَغَيُّرِ الْكَلَامِ بِدُخُولِ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ مَكَانَهَا. وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْوِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَلِإِلَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَتْ مِنَ الْكَلَامِ حُكْمٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ سَلْبُهَا مَعَانِيهَا فِي أَمَاكِنِهَا.)).

فائدة: أسلوب المحاورة، (فإن قال قائل..، أو: فإن قيل) من أساليب الطبري في تفسيره، وإن كان استخدامه له قليلاً، وهذا الأسلوب يكثر عند بعض المفسرين دون بعض، وممن استخدمه أبو عيسى علي بن عيسى الرُمانيّ في تفسيره: الجامع لعلم القرآن، وقد حققت أجزاء منه، - الدكتور عمر حمدان حصل على مجموعة من النسخ له- وممن استخدم هذا الأسلوب: الزمخشري في تفسيره، ولو عملت موازنة بين تفسيره وتفسير الرُمانيّ فحسن؛ لمعرفة مدى استفادة الزمخشري منه، خصوصاً كونهما صريحين في الاعتزال.
قوله: (( فَكَيْفَ قِيلَ :{خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] ؟ وَلَمْ يُقَلْ خَلَوْا بِشَيَاطِينِهِمْ "؟ فَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْجَارِيَ بَيْنَ النَّاسِ فِي كَلَامِهِمْ خَلَوْتُ بِفُلَانٍ أَكْثَرُ وَأَفْشَى مِنْ خَلَوْتُ إِلَى فُلَانٍ، وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ الْبَيَانِ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ فِي ذَلِكَ أَهْلُ الْعِلْمِ بِلُغَةِ الْعَرَبِ)).
هذا الأسلوب استخدمه العلماء، وهو: السؤال لِمَ عُبِرَ في كلام الله بكذا؟.وموازنة هذا الإسلوب بإسلوب آخر في العربية.
وأسلوب الموازنة على طريقتين:
- إما أن نوازن بين كلام الله تعالى، وبين كلام البشر، لمعرفة الفرق الشاسع بين كلام الخالق والمخلوق -كما هو الفرق بين الخالق والمخلوق-.
- الأمر الآخر أنه قد يكون هناك أسلوب في العربية أفشى مما ذكر في القرآن، فذكر أسلوب غيره في القرآن يكون له مقصد في الكلام، وأحد المقاصد ما ذكره الإمام وهي قضية: بلاغة القرآن، وذلك في قوله: ( وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ الْبَيَانِ). وهذا أسلوب تعبيري متقدم من الطبري في البلاغة.
وكلام الله هو في أعلى درجات البلاغة ولا يقاربه شيء، فكيف يأتي فيه: {خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ} [البقرة: 14] ؟
وقد ذكر أن التعبير على احتمالين:
1- أنه قد عدل إلى (خلوا إلى)، لئلا يفهم المعنى الآخر .
2- أنه من باب تناوب حروف الصفات (أي: حروف الجر).
والأسلوب الذي ذكره بقوله: ((وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي أَهْلِ الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَتَأَوَّلُ أَنَّ ذَلِكَ بِمَعْنَى: {وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا} [البقرة: 14] وَإِذَا صَرَفُوا خَلَاءَهُمْ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ؛ فَيَزْعُمُ أَنَّ الْجَالِبَ إِلَى الْمَعْنَى الَّذِي دَلَّ عَلَيْهِ الْكَلَامُ: مِنَ انْصِرَافِ الْمُنَافِقِينَ عَنْ لِقَاءِ الْمُؤْمِنِينَ إِلَى شَيَاطِينِهِمْ خَالِينَ بِهِمْ، لَا قَوْلُهُ خَلَوْا. وَعَلَى هَذَا التَّأْوِيلِ لَا يَصْلُحُ فِي مَوْضِعِ إِلَى غَيْرُهَا لِتَغَيُّرِ الْكَلَامِ بِدُخُولِ غَيْرِهَا مِنَ الْحُرُوفِ مَكَانَهَا. ))، هو ما يسمى بالتضمين[SUP]([1])[/SUP] .
وما هو موجود هنا، خلاف ما ذكره ابن تيمية من جعله التضمين مذهب البصريين، وتعاقب الحروف مذهب الكوفيين .
والنظر التاريخي لهذه المسألة مهم جداً، وقد رجح الطبري هنا مذهب التضمين، وفي مواضع أخرى رجح تعاقب الحروف، مما يشعر أن مسألة التضمين وتعاقب الحروف فيها تنازع شديد جداً؛ لكن بلا شك أن التضمين أبلغ؛ لأن فيه زيادة معنى.
وقد ذكر علة الترجيح بكلامٍ منه متينٌ ووجيزٌ، فقال: ((وَهَذَا الْقَوْلُ عِنْدِي أَوْلَى بِالصَّوَابِ، لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْوِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. وَلِإِلَى فِي كُلِّ مَوْضِعٍ دَخَلَتْ مِنَ الْكَلَامِ حُكْمٌ وَغَيْرُ جَائِزٍ سَلْبُهَا مَعَانِيهَا فِي أَمَاكِنِهَا.)).
والمقصود أنه جعل: (إلى) بمعناها المعروف وهو: انتهاء الغاية.
ولذا فالأولى أن يضمن معنى خلا: انصرف، أو: ذهب، فالذي ذكره يتناسب مع الفعل المذكور: خلوا، ومع حرف الجر المذكور.
إذاً قاعدة التضمين: أن يدخل الفعلُ على حرفٍ يظهر عدم مناسبته له، فيتخير من الأفعال أو مايشبهها ما يتناسب مع الفعل من جهة، ومع الحرف من جهة أخرى.
أمثلة على ذلك:
أ- قوله تعالى: {من أنصاري إلى الله} العلماء لهم أكثر من تقدير، منها: من أنصاري ضامين إلى الله. ( من ضم كذا إلى كذا).
ب- قوله: { لقد ظلمك بسؤال نعجتك إلى نعاجه} تقدير الحرف، أي: بسؤال نعجتك مع نعاجه.
وتقدير الفعل: لقد ظلمك بسؤاله ضم نعجتك إلى نعاجه.
فكأن السؤال ضمن معنى الضم، والضم يتناسب مع السؤال من جهة، ويتناسب مع الحرف من جهة أخرى.
وتقدير الحرف واضح وسهل؛ لكن تقدير الفعل يحتاج لدقة في إيجاد الفعل الذي يربط بين الحرف المذكور والفعل المذكور.
ج- قوله تعالى:{عيناً يشرب بها عباد الله} أو: {عيناً يشرب بها المقربون} وليس من السائد في الكلام أن تقول: شربت بالعين، ولو قلتها ستنتقد؛ لكن نحن أمام أفصح كلام، وهو كلام الباري سبحانه وتعالى، فلما تستخدم هذه به، إما أن نقول: بتعاقب الحروف، أي : عيناً يشرب منها، أو نقول: إنها قد ضمنت معنى: يروى، أو: يتلذذ، أي: عيناً يشرب (فيتلذذ) بها، أو (فيروى) بها المقربون.
فيكون فعل: يتلذذ، أو: يروى، مناسباً للحرف من جهة، ومناسباً للفعل من جهة أخرى.
طيب أيهما أبلغ، ولماذا؟.
الطبري حينما قال: ( وَمِنْ قَوْلِكَ: إِنَّ الْقُرْآنَ أَفْصَحُ الْبَيَانِ) جعل هذا من فصاحة القرآن.
ولو تأملنا طرائق البلاغيين في النظر إلى الكلام، في تعاقب الحروف: إدعاء أن حرفاً في مكان حرف آخر، وهذه الحجة- بأن الحرف لا يتناسب مع الفعل المذكور-، ليست بحجة كافية عند الطبري، ولذا قال: (( لِأَنَّ لِكُلِّ حَرْفٍ مِنْ حُرُوفِ الْمَعَانِي وَجْهًا هُوَ بِهِ أَوْلَى مِنْ غَيْرِهِ، فَلَا يَصْلُحُ تَحْوِيلُ ذَلِكَ عَنْهُ إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا.)).
فكونها لم تتناسق في نظر أحد ما، ليس بحجة، والمتأول أن معنى: خلوا إلى شياطينهم، أي: خلوا مع شياطينهم، يقع عليه سؤال، وهو: لماذا يترك البليغ، الكلام الظاهر الواضح، إلى كلام يحتاج إلى تأويل؟.
[1/ 311]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ. فَمَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا: وَإِذَا انْصَرَفَ الْمُنَافِقُونَ خَالِينَ إِلَى مَرَدَتِهِمْ مِنَ الْمُنَافِقِينَ وَالْمُشْرِكِينَ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَنْ مَا أَنْتُمْ عَلَيْهِ مِنَ التَّكْذِيبِ بِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ وَمُعَادَاتِهِ وَمُعَادَاةِ أَتْبَاعِهِ، إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فِي قِيلِنَا لَهُمْ إِذَا لَقِينَاهُمْ {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8].
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " قَالُوا: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} سَاخِرُونَ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: « {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أَيْ إِنَّمَا نَحْنُ نَسْتَهْزِئُ بِالْقَوْمِ وَنَلْعَبُ بِهِمْ».
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: « {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} إِنَّمَا نَسْتَهْزِئُ بِهَؤُلَاءِ الْقَوْمِ وَنَسْخَرُ بِهِمْ».
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ: « {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} أَيْ نَسْتَهْزِئُ بِأَصْحَابِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ».)).

التعليق:
وقوله: ((أَجْمَعَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ جَمِيعًا لَا خِلَافَ بَيْنَهُمْ، عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ} إِنَّمَا نَحْنُ سَاخِرُونَ.))، الذي يظهر أن هناك شيئًا لم يذكره الطبري إذ نقل الإجماع هنا مستغرب.
[1/ 312]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتُلِفَ فِي صِفَةِ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ الَّذِي ذَكَرَ أَنَّهُ فَاعِلُهُ بِالْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ. فَقَالَ بَعْضُهُمُ: اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ كَالَّذِي أَخْبَرَنَا تَبَارَكُ اسْمُهُ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِي قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُوَرٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى} [الحديد: 14] الْآيَةُ، وَكَالَّذِي أَخْبَرَنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِالْكُفَّارِ بِقَوْلِهِ: {وَلَا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّمَا نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا} [آل عمران: 178] فَهَذَا وَمَا أَشْبَهَهُ مِنَ اسْتِهْزَاءِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ وَسُخْرِيَتِهِ وَمَكْرِهِ وَخَدِيعَتِهِ لِلْمُنَافِقِينَ وَأَهْلِ الشِّرْكِ بِهِ، عِنْدَ قَائِلِي هَذَا الْقَوْلِ وَمُتَأَوِّلِي هَذَا التَّأْوِيلِ.
وَقَالَ آخَرُونَ: بَلِ اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ: تَوْبِيخُهُ إِيَّاهُمْ وَلَوْمُهُ لَهُمْ عَلَى مَا رَكِبُوا مِنْ مَعَاصِي اللَّهِ وَالْكُفْرِ بِهِ، كَمَا يُقَالُ: إِنَّ فُلَانًا لَيَهْزَأُ مِنْهُ الْيَوْمَ وَيَسْخَرُ مِنْهُ؛ يُرَادُ بِهِ تَوْبِيخُ النَّاسِ إِيَّاهُ وَلَوْمُهُمْ لَهُ، أَوْ إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ وَتَدْمِيرُهُ بِهِمْ، كَمَا قَالَ عَبِيدُ بْنُ الْأَبْرَصِ:
سَائِلْ بِنَا حُجْرَ ابْنَ أُمِّ قَطَّامِ إِذْ ... ظَلَّتْ بِهِ السُّمْرُ النَّوَاهِلُ تَلْعَبُ
فَزَعَمُوا أَنَّ السُّمْرَ وَهِيَ الْقَنَا لَا لَعِبٌ مِنْهَا، وَلَكِنَّهَا لَمَّا قَتَلَتْهُمْ وَشَرَّدَتْهُمْ جَعَلَ ذَلِكَ مِنْ فِعْلِهَا لَعِبًا بِمَنْ فَعَلَتْ ذَلِكَ بِهِ؛ قَالُوا: فَكَذَلِكَ اسْتِهْزَاءُ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِمَنِ اسْتَهْزَأَ بِهِ مِنْ أَهْلِ النِّفَاقِ وَالْكُفْرِ بِهِ، إِمَّا إِهْلَاكُهُ إِيَّاهُمْ وَتَدْمِيرُهُ بِهِمْ وَإِمَّا إِمْلَاؤُهُ لَهُمْ لِيَأْخُذَهُمْ فِي حَالِ أَمِنْهُمْ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ بَغْتَةً، أَوْ تَوْبِيخِهِ لَهُمْ وَلِأَئِمَّتِهِ إِيَّاهُمْ قَالُوا: وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْمَكْرِ مِنْهُ وَالْخَدِيعَةِ وَالسُّخْرِيَةِ. وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ} [البقرة: 9] عَلَى الْجَوَّابِ، كَقَوْلِ الرَّجُلِ لِمَنْ كَانَ يَخْدَعُهُ إِذَا ظَفَرَ بِهِ: أَنَا الَّذِي خَدَعْتُكَ وَلَمْ تَكُنْ مِنْهُ خَدِيعَةٌ وَلَكِنْ قَالَ ذَلِكَ إِذْ صَارَ الْأَمْرُ إِلَيْهِ. قَالُوا: وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ} [آل عمران: 54] وَاللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ عَلَى الْجَوَابِ، وَاللَّهُ لَا يَكُونُ مِنْهُ الْمَكْرُ وَلَا الْهُزْءُ. وَالْمَعْنَى: أَنَّ الْمَكْرَ وَالْهُزْءُ حَاقَ بِهِمْ.
وَقَالَ آخَرُونَ: قَوْلُهُ: {إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} وَقَوْلُهُ: {يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ} [النساء: 142] وَقَوْلُهُ: {فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ} [التوبة: 79] وَ {نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ} [التوبة: 67] وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ، إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ أَنَّهُ مُجَازِيهِمْ جَزَاءَ الِاسْتِهْزَاءِ، وَمُعَاقِبُهُمْ عُقُوبَةَ الْخِدَاعِ. فَأَخْرَجَ خَبَرَهُ عَنْ جَزَائِهِ إِيَّاهُمْ وَعِقَابِهِ لَهُمْ مَخْرَجَ خَبَرِهِ عَنْ فِعْلِهِمُ الَّذِي عَلَيْهِ اسْتَحَقُّوا الْعِقَابَ فِي اللَّفْظِ وَإِنِ اخْتَلَفَ الْمَعْنَيَانِ، كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا} [الشورى: 40] وَمَعْلُومٌ أَنَّ الْأُولَىَ مِنْ صَاحِبِهَا سَيِّئَةٌ إِذْ كَانَتْ مِنْهُ لِلَّهِ تَبَارَكَ وَتَعَالَى مَعْصِيَةً، وَأَنَّ الْأُخْرَى عَدْلٌ لِأَنَّهَا مِنَ اللَّهِ جَزَاءٌ لِلْعَاصِي عَلَى الْمَعْصِيَةِ. فَهُمَا وَإِنِ اتَّفَقَ لَفْظَاهُمَا مُخْتَلِفَا الْمَعْنَى. وَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {فَمَنِ اعْتَدَى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ} [البقرة: 194] فَالْعُدْوَانُ الْأَوَّلُ ظُلْمٌ، وَالثَّانِي جَزَاءٌ لَا ظُلْمٌ، بَلْ هُوَ عَدْلٌ؛ لِأَنَّهُ عُقُوبَةٌ لِلظَّالِمِ عَلَى ظُلْمِهِ وَإِنْ وَافَقَ لَفْظُهُ لَفْظَ الْأَوَّلِ. وَإِلَى هَذَا الْمَعْنَى وَجَّهُوا كُلَّ مَا فِي الْقُرْآنِ مِنْ نَظَائِرِ ذَلِكَ مِمَّا هُوَ خَبَرٌ عَنْ مَكْرِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ بِقَوْمٍ، وَمَا أَشْبَهَ ذَلِكَ.
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ مَعْنَى ذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ وَعَزَّ أَخْبَرَ عَنِ الْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ إِذَا خَلَوْا إِلَى مَرَدَتِهِمْ قَالُوا: إِنَّا مَعَكُمْ عَلَى دِينِكُمْ فِي تَكْذِيبِ مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَمَا جَاءَ بِهِ، وَإِنَّمَا نَحْنُ بِمَا نُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ قَوْلِنَا لَهُمْ صَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ عَلَيْهِ الصَّلَاةُ وَالسَّلَامُ وَمَا جَاءَ بِهِ مُسْتَهْزِئُونَ. يَعْنُونَ: إِنَّا نُظْهِرُ لَهُمْ مَا هُوَ عِنْدَنَا بَاطِلٌ لَا حَقٌّ وَلَا هُدًى. قَالُوا: وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى مِنْ مَعَانِي الِاسْتِهْزَاءِ. فَأَخْبَرَ اللَّهُ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ فَيُظْهِرُ لَهُمْ مِنْ أَحْكَامِهِ فِي الدُّنْيَا خِلَافَ الَّذِي لَهُمْ عِنْدَهُ فِي الْآخِرَةِ، كَمَا أَظْهَرُوا لِلنَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَالْمُؤْمِنِينَ فِي الدِّينِ مَا هُمْ عَلَى خِلَافِهِ فِي سَرَائِرِهِمْ.)).

التعليق:
فقد ذكر الاختلاف في معنى الاستهزاء، وقد جعلها رحمه الله في باب الصفات، ثم ذكر الخلاف في معناه .
القول الأول: اسْتِهْزَاؤُهُ بِهِمْ كَالَّذِي أَخْبَرَنَا تَبَارَكُ اسْمُهُ أَنَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ، وهذا الاستهزاء من باب المقابلة[SUP]([2])[/SUP] .
والقول الأول مشعر بأنه داخل في معنى الاستهزاء .
أما القول الثاني: وهو تفسير الاستهزاء باللوم، والتوبيخ .
وهذه الأشياء ليست هي الاستهزاء، وهذا من قبيل التأويل، وزعموا أن هذا من قبيل المجاز .
والقول الثالث: ذكر أنه ليس هناك استهزاء أصلًا، وهذا من باب أن اللفظ لا حقيقة له، وهذا لا يوجد في القرآن .
أما القول الرابع: فهو من باب ما عبر عنه بالمشاكلة، وهذا فيه تفريغ لمعنى الاستهزاء من باب مقابلة كلمة بكلمة، كقوله تعالى: { وجزاء سيئة سيئة مثلها} فالرد على السيئة بمثلها، هل يكون سيئة في الحقيقة؟ الجواب: لا، لذا جعلوها من باب المشاكلة، والطبري سيعترض على هذا، لأنه نوع من الهروب في إثبات هذه الصفة لله على حقيقتها..
والقول الأخير: فيه مشابهة للقول الأول .
وقد ذكر ترجيحه بقوله:
((وَالصَّوَابُ فِي ذَلِكَ مِنَ الْقَوْلِ وَالتَّأْوِيلِ عِنْدَنَا، أَنَّ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ فِي كَلَامِ الْعَرَبِ: إِظْهَارُ الْمُسْتَهْزِئِ لِلْمُسْتَهْزَإِ بِهِ مِنَ الْقَوْلِ وَالْفِعْلِ مَا يُرْضِيهِ وَيُوَافِقُهُ ظَاهِرًا، وَهُوَ بِذَلِكَ مِنْ قِيلِهِ وَفِعْلِهِ بِهِ مُوَرِّثُهُ مَسَاءَةً بَاطِنًا، وَكَذَلِكَ مَعْنَى الْخِدَاعِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ كَذَلِكَ، وَكَانَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ جَعَلَ لِأَهْلِ النِّفَاقِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْأَحْكَامِ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَبِرَسُولِهِ وَبِمَا جَاءَ بِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْمُدْخِلِ لَهُمْ فِي عِدَادِ مَنْ يَشْمَلُهُ اسْمُ الْإِسْلَامِ وَإِنْ كَانُوا لِغَيْرِ ذَلِكَ مُسْتَبْطِنِينَ مِنْ أَحْكَامِ الْمُسْلِمِينَ الْمُصَدِّقِينَ إِقْرَارَهُمْ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِذَلِكَ بِضَمَائِرِ قُلُوبِهِمْ وَصَحَائِحِ عَزَائِمِهِمْ وَحَمِيدِ أَفْعَالِهِمُ الْمُحَقِّقَةِ لَهُمْ صِحَّةَ إِيمَانِهِمْ، مَعَ عِلْمِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ بِكَذِبِهِمْ، وَاطِّلَاعِهِ عَلَى خُبْثِ اعْتِقَادِهِمْ وَشَكِّهِمْ فِيمَا ادَّعَوْا بِأَلْسِنَتِهِمْ أَنَّهُمْ مُصَدِّقُونَ حَتَّى ظَنُّوا فِي الْآخِرَةِ إِذْ حُشِرُوا فِي عِدَادِ مَنْ كَانُوا فِي عِدَادِهِمْ فِي الدُّنْيَا أَنَّهُمْ وَارِدُونَ مَوْرِدَهُمْ وَدَاخِلُونَ مُدْخَلَهَمُ، وَاللَّهُ جَلَّ جَلَالُهُ مَعَ إِظْهَارِهِ مَا قَدْ أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأَحْكَامِ الْمُلْحِقَتَهُمْ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا وَآجِلِ الْآخِرَةِ إِلَى حَالِ تَمْيِيزِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ وَتَفْرِيقِهِ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ؛ مُعِدٌّ لَهُمْ مِنْ أَلِيمِ عِقَابِهِ وَنَكَالِ عَذَابِهِ مَا أَعَدَّ مِنْهُ لِأَعْدَى أَعْدَائِهِ وَأَشَرِّ عِبَادِهِ، حَتَّى مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَ أَوْلِيَائِهِ فَأَلْحَقَهُمْ مِنْ طَبَقَاتِ جَحِيمِهِ بِالدَّرْكِ الْأَسْفَلِ. كَانَ مَعْلُومًا أَنَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِذَلِكَ مِنْ فِعْلِهِ بِهِمْ، وَإِنْ كَانَ جَزَاءً لَهُمْ عَلَى أَفْعَالِهِمْ وَعَدْلًا مَا فَعَلَ مِنْ ذَلِكَ بِهِمْ لِاسْتِحْقَاقِهِمْ إِيَّاهُ مِنْهُ بِعِصْيَانِهِمْ لَهُ كَانَ بِهِمْ بِمَا أَظْهَرَ لَهُمْ مِنَ الْأُمُورِ الَّتِي أَظْهَرَهَا لَهُمْ مِنْ إِلْحَاقِهِ أَحْكَامَهُمْ فِي الدُّنْيَا بِأَحْكَامِ أَوْلِيَائِهِ وَهُمْ لَهُ أَعْدَاءٌ، وَحَشْرِهِ إِيَّاهُمْ فِي الْآخِرَةِ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَهُمْ بِهِ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ إِلَى أَنْ مَيَّزَ بَيْنَهُمْ وَبَيْنَهُمْ، مُسْتَهْزِئًا وَسَاخِرًا وَلَهُمْ خَادِعًا وَبِهِمْ مَاكِرًا. إِذْ كَانَ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَالسُّخْرِيَةِ وَالْمَكْرِ وَالْخَدِيعَةِ مَا وَصَفْنَا قَبْلُ، دُونَ أَنْ يَكُونَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي حَالٍ فِيهَا الْمُسْتَهْزِئُ بِصَاحِبِهِ لَهُ ظَالِمٌ أَوْ عَلَيْهِ فِيهَا غَيْرُ عَادِلٍ، بَلْ ذَلِكَ مَعْنَاهُ فِي كُلِّ أَحْوَالِهِ إِذَا وُجِدَتِ الصِّفَاتُ الَّتِي قَدَّمْنَا ذِكْرَهَا فِي مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ وَمَا أَشْبَهَهُ مِنْ نَظَائِرِهِ.)).

التعليق:
وقد استطرد الطبري رحمه الله، وهو قليل في كتابه، لإشكال في هذا الموضوع .
قال:
((وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِيهِ رُوِيَ الْخَبَرُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ.
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] قَالَ: يَسْخَرُ بِهِمْ لِلنِّقْمَةِ مِنْهُمْ " .
وَأَمَّا الَّذِينَ زَعَمُوا أَنَّ قَوْلَ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] إِنَّمَا هُوَ عَلَى وَجْهِ الْجَوَابِ، وَأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ اسْتِهْزَاءٌ وَلَا مَكْرٌ وَلَا خَدِيعَةٌ؛ فَنَافُونَ عَلَى اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَا قَدْ أَثْبَتَهُ اللَّهُ عَزَّ وَجَلَّ لِنَفْسِهِ وَأَوْجَبَهُ لَهَا. وَسَوَاءٌ قَالَ قَائِلٌ: لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ذِكْرُهُ اسْتِهْزَاءٌ وَلَا مَكْرٌ وَلَا خَدِيعَةٌ وَلَا سُخْرِيَةٌ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ يَسْتَهْزِئُ وَيَسْخَرُ وَيَمْكُرُ بِهِ، أَوْ قَالَ: لَمْ يَخْسِفِ اللَّهُ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِ مِنَ الْأُمَمِ، وَلَمْ يُغْرِقْ مَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُ مِنْهُمْ.
وَيُقَالُ لِقَائِلِ ذَلِكَ: إِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَنَا أَنَّهُ مَكَرَ بِقَوْمٍ مَضَوْا قَبْلَنَا لَمْ نَرَهُمْ، وَأَخْبَرَ عَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ خَسَفَ بِهِمْ، وَعَنْ آخَرِينَ أَنَّهُ أَغْرَقَهُمْ، فَصَدَّقْنَا اللَّهُ تَعَالَى ذِكْرُهُ فِيمَا أَخْبَرَنَا بِهِ مِنْ ذَلِكَ، وَلَمْ نُفَرِّقْ بَيْنَ شَيْءٍ مِنْهُ، فَمَا بُرْهَانُكَ عَلَى تَفْرِيقِكَ مَا فَرَّقْتَ بَيْنَهُ بِزَعْمِكَ أَنَّهُ قَدْ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِمَنْ أَخْبَرَ أَنَّهُ أَغْرَقَ وَخَسَفَ بِهِ، وَلَمْ يَمْكُرْ بِهِ أَخْبَرَ أَنَّهُ قَدْ مَكَرَ بِهِ؟ ثُمَّ نَعْكِسُ الْقَوْلَ عَلَيْهِ فِي ذَلِكَ فَلَنْ يَقُولَ فِي أَحَدِهِمَا شَيْئًا إِلَّا أُلْزِمَ فِي الْآخَرِ مِثْلَهُ.)).

وهذا احتجاج عقلي عقدي، وهو يرد عليهم بالظاهر، وأنه يلزم إثبات معنى الاستهزاء، كما يثبت الغرق والخسف ... إلخ .
قال: ((فَإِنْ لَجَأَ إِلَى أَنْ يَقُولَ إِنَّ الِاسْتِهْزَاءَ عَبَثٌ وَلَعِبٌ، وَذَلِكَ عَنِ اللَّهِ عَزَّ وَجَلَّ مَنْفِيٌّ. قِيلَ لَهُ: إِنْ كَانَ الْأَمْرُ عِنْدَكَ عَلَى مَا وَصَفْتَ مِنْ مَعْنَى الِاسْتِهْزَاءِ، أَفَلَسْتَ تَقُولُ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وَسَخَرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَمَكَرَ اللَّهُ بِهِمْ، وَإِنْ لَمْ يَكُنْ مِنَ اللَّهِ عِنْدَكَ هُزْءٌ وَلَا سُخْرِيَةٌ؟ فَإِنْ قَالَ: لَا، كَذَّبَ بِالْقُرْآنِ وَخَرَجَ عَنْ مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، وَإِنْ قَالَ: بَلَى، قِيلَ لَهُ: أَفَتَقُولُ مِنَ الْوَجْهِ الَّذِي قُلْتَ: {اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ} [البقرة: 15] وَسَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ؛ يَلْعَبُ اللَّهُ بِهِمْ وَيَعْبَثُ، وَلَا لَعِبَ مِنَ اللَّهِ وَلَا عَبَثٌ؟ فَإِنْ قَالَ: نَعَمْ، وَصَفَ اللَّهَ بِمَا قَدْ أَجْمَعَ الْمُسْلِمُونَ عَلَى نَفْيِهِ عَنْهُ وَعَلَى تَخْطِئَةِ وَاصِفِهِ بِهِ، وَأَضَافَ إِلَيْهِ مَا قَدْ قَامَتِ الْحُجَّةُ مِنَ الْعُقُولِ عَلَى ضَلَالِ مُضِيفِهِ إِلَيْهِ. وَإِنْ قَالَ: لَا أَقُولُ يَلْعَبُ اللَّهُ بِهِ وَلَا يَعْبَثُ، وَقَدْ أَقُولُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَسْخَرُ مِنْهُمْ؛ قِيلَ: فَقَدْ فَرَّقْتَ بَيْنَ مَعْنَى اللَّعِبِ، وَالْعَبَثِ، وَالْهُزْءِ، وَالسُّخْرِيَةِ، وَالْمَكْرِ، وَالْخَدِيعَةِ. وَمِنَ الْوَجْهِ الَّذِي جَازَ قِيلَ هَذَا وَلَمْ يَجُزْ قِيلَ هَذَا افْتَرَقَ مَعْنَيَاهُمَا، فَعُلِمَ أَنَّ لِكُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمَا مَعْنًى غَيْرَ مَعْنَى الْآخَرِ. وَلِلْكَلَامِ فِي هَذَا النَّوْعِ مَوْضِعٌ غَيْرُ هَذَا كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِاسْتِقْصَائِهِ، وَفِيمَا ذَكَرْنَا كِفَايَةٌ لِمَنْ وُفِّقَ لِفَهْمِهِ.)).
لازال كلامه في الاحتجاج العقدي، وفيه دقة واستطراد منه - رحمه الله- في الأقوال التي تنفي وقوع الاستهزاء منه سبحانه وتعالى.
ويرد هنا على من قال إن الاستهزاء عبث ولعب، والمناقشة منه خلاصتها التفريق بين السخرية والاستهزاء، والعبث واللعب؛ لأن الخلط يقع في عدم التفريق بينهما.
[1/ 318]
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15].
فَقَالَ بَعْضُهُمْ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ، مُوسَى بْنُ هَارُونَ، قَالَ: حَدَّثَنَا عَمْرٌو، قَالَ: حَدَّثَنَا أَسْبَاطٌ، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] يُمْلِي لَهُمْ ".
وَقَالَ آخَرُونَ بِمَا حَدَّثَنِي بِهِ الْمُثَنَّى بْنُ إِبْرَاهِيمَ، قَالَ: حَدَّثَنَا سُوَيْدُ بْنُ نَصْرٍ، عَنِ ابْنِ الْمُبَارَكِ، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قِرَاءَةً عَنْ مُجَاهِدٍ: " {يَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] قَالَ: يَزِيدُهُمْ " وَكَانَ بَعْضُ نَحْوِيِّي الْبَصْرَةِ يَتَأَوَّلُ ذَلِكَ أَنَّهُ بِمَعْنَى: يَمُدُّ لَهُمْ، وَيَزْعُمُ أَنَّ ذَلِكَ نَظِيرُ قَوْلِ الْعَرَبِ: الْغُلَامُ يَلْعَبُ الْكِعَابَ، يُرَادُ بِهِ يَلْعَبُ بِالْكِعَابِ. قَالَ: وَذَلِكَ أَنَّهُمْ قَدْ يَقُولُونَ قَدْ مَدَدْتُ لَهُ وَأَمْدَدْتُ لَهُ فِي غَيْرِ هَذَا الْمَعْنَى، وَهُوَ قَوْلُ اللَّهِ: {وَأَمْدَدْنَاهُمْ} [الطور: 22] وَهَذَا مِنْ أَمْدَدْنَاهُمْ، قَالَ: وَيُقَالُ قَدْ مَدَّ الْبَحْرُ فَهُوَ مَادٌّ، وَأَمَدَّ الْجُرْحُ فَهُوَ مُمِدٌّ. وَحُكِيَ عَنْ يُونُسَ الْجَرْمِيِّ أَنَّهُ كَانَ يَقُولُ: مَا كَانَ مِنَ الشَّرِّ فَهُوَ مَدَدْتُ، وَمَا كَانَ مِنَ الْخَيْرِ فَهُوَ أَمْدَدْتُ. ثُمَّ قَالَ: وَهُوَ كَمَا فَسَّرْتُ لَكَ إِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ تَرَكْتَهُ فَهُوَ مَدَدْتَ لَهُ، وَإِذَا أَرَدْتَ أَنَّكَ أَعْطَيْتَهُ قُلْتَ: أَمْدَدْتُ.
وَأَمَّا بَعْضُ نَحْوِيِّي الْكُوفَةِ فَإِنَّهُ كَانَ يَقُولُ: كُلُّ زِيَادَةٍ حَدَثَتْ فِي الشَّيْءِ مِنْ نَفْسِهِ فَهُوَ مَدَدْتُ بِغَيْرِ أَلِفٍ، كَمَا تَقُولُ: مَدَّ النَّهَرُ، وَمَدُّهُ نَهْرُ آخَرُ غَيْرُهُ: إِذَا اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ مِنْهُ. وَكُلُّ زِيَادَةٍ أُحْدِثَتْ فِي الشَّيْءِ مِنْ غَيْرِهِ فَهُوَ بِأَلِفٍ، كَقَوْلِكَ: أَمَدَّ الْجُرْحُ، لِأَنَّ الْمِدَّةَ مِنْ غَيْرِ الْجُرْحِ، وَأَمْدَدْتُ الْجَيْشَ بِمَدَدٍ. وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَزِيدُهُمْ، عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ وَالتَّرْكِ لَهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ، كَمَا وَصَفَ رَبُّنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110] يَعْنِي نَذَرُهُمْ وَنَتْرُكُهُمْ فِيهِ وَنُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدَادُوا إِثْمًا إِلَى إِثْمِهِمْ. وَلَا وَجْهَ لِقَوْلِ مَنْ قَالَ ذَلِكَ بِمَعْنَى يَمُدُّ لَهُمْ لِأَنَّهُ لَا تَدَافُعَ بَيْنَ الْعَرَبِ وَأَهْلِ الْمَعْرِفَةِ بَلَغْتُهَا أَنْ يَسْتَجِيزُوا قَوْلَ الْقَائِلِ: مَدَّ النَّهَرَ نَهَرٌ آخَرُ، بِمَعْنَى: اتَّصَلَ بِهِ فَصَارَ زَائِدًا مَاءُ الْمُتَّصَلِ بِهِ بِمَاءِ الْمُتَّصِلِ مِنْ غَيْرِ تَأَوُّلٍ مِنْهُمْ، ذَلِكَ أَنَّ مَعْنَاهُ مَدَّ النَّهَرَ نَهَرٌ آخَرُ، فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15].)).

التعليق:
فِي قَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ} ذكر تأويلان:
1- خبر السدي المشهور، بمعنى: يملي لهم .
2- والقول الثاني: يزيدهم .
وهذا التفسير فيه أنه مدهم في الأعمار، وهناك ارتباط بين مد الطغيان، ومد العمر .
ولذلك هو في ترجيحه جمع بين القولين فقال: ((وَأَوْلَى هَذِهِ الْأَقْوَالِ بِالصَّوَابِ فِي قَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ} [البقرة: 15] أَنْ يَكُونَ بِمَعْنَى يَزِيدُهُمْ، عَلَى وَجْهِ الْإِمْلَاءِ وَالتَّرْكِ لَهُمْ فِي عُتُوِّهِمْ وَتَمَرُّدِهِمْ)) وهذا من دقائق فهم الطبري لعبارات السلف .
قوله في ترجيحه:(( كَمَا وَصَفَ رَبُّنَا أَنَّهُ فَعَلَ بِنُظَرَائِهِمْ فِي قَوْلِهِ: {وَنُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَأَبْصَارَهُمْ كَمَا لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَنَذَرُهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [الأنعام: 110])).
يمدهم = نذرهم، وهذا من باب النظائر، فآية الأنعام نظير آية البقرة.
طيب لو قال قائل: أليس في مدِّ الله لهؤلاء في طغيانهم ظلم؟
الجواب: لا؛ لأن هذا من باب الجزاء.
[1/ 320]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالطُّغْيَانُ الْفُعْلَانُ، مِنْ قَوْلِكَ: طَغَى فُلَانٌ يَطْغَى طُغْيَانًا إِذَا تَجَاوَزَ فِي الْأَمْرِ حَدَّهُ فَبَغَى وَمِنْهُ قَوْلُ اللَّهِ: {كَلَّا إِنَّ الْإِنْسَانَ لَيَطْغَى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنَى} [العلق: 7] أَيْ يَتَجَاوَزُ حَدَّهُ. وَمِنْهُ قَوْلُ أُمَيَّةَ بْنِ أَبِي الصَّلْتِ:
وَدَعَا اللَّهَ دَعْوَةً لَاتَ هَنَّا ... بَعْدَ طُغْيَانِهِ فَظَلَّ مُشِيرَا
وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيَذَرُهُمْ يَبْغُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ حَيَارَى يَتَرَدَّدُونَ.
كَمَا حُدِّثْتُ وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، فِي قَوْلِهِ: " {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ: فِي كُفْرِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] فِي كُفْرِهِمْ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: " {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] أَيْ فِي ضَلَالَتِهِمْ يَعْمَهُونَ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ: " {فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] فِي ضَلَالَتِهِمْ ".
وبإسناده، قَالَ: قَالَ ابْنُ زَيْدٍ " فِي قَوْلِهِ: {فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] قَالَ: طُغْيَانُهُمْ، كُفْرُهُمْ وَضَلَالَتُهُمْ.)).

التعليق:
بدأ الطبري رحمه الله في تحليل اللفظة من جهة اللغة.
وأما معناه في الآية، فقال: ((وَإِنَّمَا عَنَى اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ بِقَوْلِهِ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ} [البقرة: 15] أَنَّهُ يُمْلِي لَهُمْ وَيَذَرُهُمْ يَبْغُونَ فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمْ حَيَارَى يَتَرَدَّدُونَ)).
أي: يكون في وسط الكفر حائر لا يهتدي.
ثم استند على آثار السلف في المعنى الذي ذكره .
وعبارات السلف، (الطغيان: الكفر، أو: الضلال) كلها صحيح، ومن باب التعبير عن اللفظ بمعان متقاربة .
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْعَمَهُ نَفْسُهُ: الضَّلَالُ، يُقَالُ مِنْهُ: عَمَهَ فُلَانٌ يَعْمَهُ عَمَهَانًا وَعُمُوهًا: إِذَا ضَلَّ وَمِنْهُ قَوْلُ رُؤْبَةَ بْنِ الْعَجَّاجِ يَصِفُ مُضِلَّةً مِنَ الْمَهَامِهِ:
وَمُخْفِقٌ مِنْ لُهْلُهٍ وَلُهْلُهِ ... مِنْ مَهْمَهٍ يَجْتَبْنَهُ فِي مَهْمَهِ
أَعْمَى الْهُدَى بِالْجَاهِلِينَ الْعُمَّهِ
وَالْعَمَهُ: جَمْعُ عَامِهٍ، وَهُمُ الَّذِينَ يَضِلُّونَ فِيهِ فَيَتَحَيَّرُونَ. فَمَعْنَى قَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] فِي ضَلَالِهِمْ وَكُفْرِهِمُ الَّذِي قَدْ غَمَرَهُمْ دَنَسُهُ وَعَلَاهُمْ رِجْسُهُ، يَتَرَدَّدُونَ حَيَارَى ضُلَّالًا لَا يَجِدُونَ إِلَى الْمَخْرَجِ مِنْهُ سَبِيلًا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا، فَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا، فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا. وَبِنَحْوِ مَا قُلْنَا فِي الْعَمَهِ جَاءَ تَأْوِيلُ الْمُتَأَوِّلِينَ.
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] يَتَمَادَوْنَ فِي كُفْرِهِمْ ".
وبإسناده، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ: يَتَمَادَوْنَ ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " فِي قَوْلِهِ {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ جُرَيْجٍ، قَالَ: قَالَ ابْنُ عَبَّاسٍ: " {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] الْمُتَلَدِّدُ ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ: " {يَعْمَهُونَ} [البقرة: 15] قَالَ: يَتَرَدَّدُونَ ".)).

التعليق:
المهمه: الصحراء.
المتلدد، هو الذي يلتفت يمينًا، ويسارًا .
وقد ذكر الطبري سبب ضلالهم، بقوله، ((لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَخَتَمَ عَلَيْهَا، فَأَعْمَى أَبْصَارَهُمْ عَنِ الْهُدَى وَأَغْشَاهَا، فَلَا يُبْصِرُونَ رُشْدًا وَلَا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا.)).
وكلامه فيه تنبيه على أن السياق ما زال مستمرًا، في أولئك الذين ابتدأ قوله فيهم: {ومن الناس من يقول آمنا بالله وباليوم الآخر وما هم بمؤمنين- ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم وعلى أبصارهم غشاوة ولهم عذاب عظيم} وأن سبب هذه الغشاوة هو الختم على قلوبهم.

(1) تنبيه، ذكر الشيخ أن من أكثر من اعتنى بالتضمين من المفسرين، الإمام الطاهر بن عاشور رحمه الله .
(2) الأولى أن يعبر بالتقييد، فيقال: أنها ذكرت في سياق مقيد، فلا هي صفة مطلقة كالعلم، ولا هي كما يقال؛ مقابلة !
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري، المجلس التاسع عشر: (21 - 6 - 1435)
التاريخ: 4 - 7 - 1435 الموافق 03/05/2014
عدد الزيارات: 0
اعتنى به: عمرو الشرقاوي
[1/ 324]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: إِنْ قَالَ قَائِلٌ: وَكَيْفَ اشْتَرَى هَؤُلَاءِ الْقَوْمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَإِنَّمَا كَانُوا مُنَافِقِينَ لَمْ يَتَقَدَّمْ نِفَاقَهُمْ إِيمَانٌ فَيُقَالُ فِيهِمْ بَاعُوا هَدَاهُمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ بِضَلَالَتِهِمْ حَتَّى اسْتَبْدَلُوهَا مِنْهُ؟ وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ مَعْنَى الشِّرَاءِ الْمَفْهُومِ اعْتِيَاضُ شَيْءٍ بِبَذْلِ شَيْءٍ مَكَانَهُ عِوَضًا مِنْهُ، وَالْمُنَافِقُونَ الَّذِينَ وَصَفَهُمُ اللَّهُ بِهَذِهِ الصِّفَةِ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ عَلَى هُدًى فَيَتْرُكُوهُ وَيَعْتَاضُوا مِنْهُ كُفْرًا وَنِفَاقًا؟ قِيلَ: قَدِ اخْتَلَفَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي مَعْنَى ذَلِكَ، فَنَذْكُرُ مَا قَالُوا فِيهِ، ثُمَّ نُبَيِّنُ الصَّحِيحَ مِنَ التَّأْوِيلِ فِي ذَلِكَ إِنْ شَاءَ اللَّهُ.
وبإسناده، عَنْ مُحَمَّدِ بْنِ أَبِي مُحَمَّدٍ، مَوْلَى زَيْدِ بْنِ ثَابِتٍ، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرُوا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] أَيِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] يَقُولُ أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: " {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، " فِي قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ".
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى، وَجَّهُوا مَعْنَى الشِّرَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَخْذُ الْمُشْتَرِي مَكَانَ الثَّمَنِ الْمُشْتَرَى بِهِ، فَقَالُوا: كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ قَدْ أَخْذَا مَكَانَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا شِرَاءً لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ اللَّذَيْنِ أَخَذَاهُمَا بِتَرْكِهِمَا مَا تَرَكَا مِنَ الْهُدَى، وَكَانَ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَاهُ هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي جَعَلَاهُ عِوَضًا مِنَ الضَّلَالَةِ الَّتِي أَخَذَاهَا. وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اشْتَرَوْا} [البقرة: 16] : اسْتَحَبُّوا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَ الْكُفَّارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَنَسَبَهُمْ إِلَى اسْتِحْبَابِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى الْهُدَى، فَقَالَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17] صَرَفُوا قَوْلَهُ: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] إِلَى ذَلِكَ وَقَالُوا: قَدْ تَدْخُلُ الْبَاءُ مَكَانَ عَلَى، وَعَلَى مَكَانَ الْبَاءِ، كَمَا يُقَالُ: مَرَرْتُ بِفُلَانٍ وَمَرَرْتُ عَلَى فُلَانٍ بِمَعْنَى وَاحِدٍ، وَكَقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطَارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ} [آل عمران: 75] أَيْ: عَلَى قِنْطَارٍ. فَكَانَ تَأْوِيلُ الْآيَةِ عَلَى مَعْنَى هَؤُلَاءِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ اخْتَارُوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى. وَأَرَاهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {اشْتَرَوْا} [البقرة: 16] إِلَى مَعْنَى اخْتَارُوا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، وَاشْتَرَيْتُهُ يَعْنُونَ اخْتَرْتُهُ عَلَيْهِ. وَمِنَ الِاشْتِرَاءِ قَوْلُ أَعْشَى بَنِي ثَعْلَبَةَ:
فَقَدْ أُخْرِجُ الْكَاعِبَ الْمُشْتَرَاةَ مِنْ خِدْرِهَا وَأُشِيعُ الْقِمَارَا
يَعْنِي بِالْمُشْتَرَاةِ: الْمُخْتَارَةَ. وَقَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي الِاشْتِرَاءِ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ:
يَذُبُّ الْقَصَايَا عَنْ شَرَاةٍ كَأَنَّهَا ... جَمَاهِيرُ تَحْتَ الْمُدْجِنَاتِ الْهَوَاضِبِ
يَعْنِي بِالشَّرَاةِ: الْمُخْتَارَةَ. وَقَالَ آخَرُ فِي مِثْلِ ذَلِكَ:
إِنَّ الشَّرَاةَ رُوقَةُ الْأَمْوَالِ ... وَحَزْرَةُ الْقَلْبِ خِيَارُ الْمَالِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا وَإِنْ كَانَ وَجْهًا مِنَ التَّأْوِيلِ فَلَسْتُ لَهُ بِمُخْتَارٍ لِأَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَالَ {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] فَدَلَّ بِذَلِكَ عَلَى أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] مَعْنَى الشِّرَاءِ الَّذِي يَتَعَارَفُهُ النَّاسُ مِنِ اسْتِبْدَالِ شَيْءٍ مَكَانَ شَيْءٍ وَأَخْذِ عِوَضٍ عَلَى عِوَضٍ.
وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَفَرُوا، فَإِنَّهُ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفُوا بِهِ الْقَوْمَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْكُفْرَ عِوَضًا مِنَ الْهُدَى. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ مَعَانِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَلَكِنَّ دَلَائِلَ أَوَّلِ الْآيَاتِ فِي نُعُوتِهِمْ إِلَى آخِرِهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ اسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ، أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ فِي نِعَتِهِمْ إِلَى أَنْ أَتَى عَلَى صِفَتِهِمْ إِنَّمَا وَصَفَهُمْ بِإِظْهَارِ الْكَذِبِ بِأَلْسِنَتِهِمْ بِدَعْوَاهُمُ التَّصْدِيقَ بِنَبِيِّنَا مُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَبِمَا جَاءَ بِهِ، خِدَاعًا لِلَّهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَاسْتِهْزَاءً فِي نُفُوسِهِمْ بِالْمُؤْمِنِينَ، وَهُمْ لِغَيْرِ مَا كَانُوا يُظْهِرُونَ مُسْتَبْطِنُونَ، لِقَوْلِ اللَّهِ جَلَّ جَلَالُهُ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] ثُمَّ اقْتَصَّ قَصَصَهُمْ إِلَى قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] فَأَيْنَ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّهُمْ كَانُوا مُؤْمِنِينَ فَكَفَرُوا؟ .
فَإِنْ كَانَ قَائِلُ هَذِهِ الْمَقَالَةِ ظَنَّ أَنَّ قَوْلَهُ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] هُوَ الدَّلِيلُ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ قَدْ كَانُوا عَلَى الْإِيمَانِ فَانْتَقَلُوا عَنْهُ إِلَى الْكُفْرِ، فَلِذَلِكَ قِيلَ لَهُمُ: اشْتَرَوْا؛ فَإِنَّ ذَلِكَ تَأْوِيلٌ غَيْرُ مُسَلَّمٍ لَهُ، إِذْ كَانَ الِاشْتِرَاءُ عِنْدَ مُخَالِفِيهِ قَدْ يَكُونُ أَخْذَ شَيْءٍ بِتَرْكِ آخَرَ غَيْرِهِ، وَقَدْ يَكُونُ بِمَعْنَى الِاخْتِيَارِ وَبِغَيْرِ ذَلِكَ مِنَ الْمَعَانِي. وَالْكَلِمَةُ إِذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ صَرْفُ مَعْنَاهَا إِلَى بَعْضِ وُجُوهِهَا دُونَ بَعْضٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ تَأْوِيلِهِمَا قَوْلَهُ: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى. وَذَلِكَ أَنَّ كُلَّ كَافِرٍ بِاللَّهِ فَإِنَّهُ مُسْتَبْدِلٌ بِالْإِيمَانِ كُفْرًا بِاكْتِسَابِهِ الْكُفْرَ الَّذِي وُجِدَ مِنْهُ بَدَلًا مِنَ الْإِيمَانِ الَّذِي أُمِرَ بِهِ. أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ فِيمَنْ اكْتَسَبَ كُفْرًا بِهِ مَكَانَ الْإِيمَانِ بِهِ وَبِرَسُولِهِ: {وَمَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ} [البقرة: 108] وَذَلِكَ هُوَ مَعْنَى الشِّرَاءِ، لِأَنَّ كُلَّ مُشْتَرٍ شَيْئًا فَإِنَّمَا يَسْتَبْدِلُ مَكَانَ الَّذِي يُؤْخَذُ مِنْهُ مِنَ الْبَدَلِ آخَرَ بَدَلًا مِنْهُ، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ اسْتَبْدَلَا بِالْهُدَى الضَّلَالَةَ وَالنِّفَاقَ، فَأَضَلَّهُمَا اللَّهُ وَسَلَبَهُمَا نُورَ الْهُدَى فَتَرَكَ جَمِيعَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ.)).

التعليق:

جرى الطبري رحمه على غير عادته في مناقشة الأقوال، حيث بدأ بسؤال، ثم ذكر اختلاف أهل التأويل، بدون أن يترجم لكل قول .
والمعنيان الواردان في الشراء:
1- الشراء المعروف، وهو اعْتِيَاضُ شَيْءٍ بِبَذْلِ شَيْءٍ مَكَانَهُ عِوَضًا مِنْهُ .
2- أو بمعنى: الاختيار .
والمعنى الأول أشهر .
والسياق هنا يتكلم عن قوم منافقين لم يدخل الإيمان قلوبهم .
وذكر الأقاويل:
الأول: ما روي عن ابن عباس: أنه الكفر بالإيمان.
والثاني: وحديث السدي المعروف، أخذو الضلالة وتركوا الهدى .
والثالث: عن قتادة، اسْتَحَبُّوا الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى .
الرابع: قول مجاهد: آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا .
وقد وجه الطبري القول الأول بقوله: ((فَكَأَنَّ الَّذِينَ قَالُوا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ: أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى، وَجَّهُوا مَعْنَى الشِّرَاءِ إِلَى أَنَّهُ أَخْذُ الْمُشْتَرِي مَكَانَ الثَّمَنِ الْمُشْتَرَى بِهِ، فَقَالُوا: كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ وَالْكَافِرُ قَدْ أَخْذَا مَكَانَ الْإِيمَانِ الْكُفْرَ، فَكَانَ ذَلِكَ مِنْهُمَا شِرَاءً لِلْكُفْرِ وَالضَّلَالَةِ اللَّذَيْنِ أَخَذَاهُمَا بِتَرْكِهِمَا مَا تَرَكَا مِنَ الْهُدَى، وَكَانَ الْهُدَى الَّذِي تَرَكَاهُ هُوَ الثَّمَنُ الَّذِي جَعَلَاهُ عِوَضًا مِنَ الضَّلَالَةِ الَّتِي أَخَذَاهَا.)).
أي أنهم اختاروا الضلالة على الهدى، فكانوا كمن اشترى هذا وترك هذا.
وكذلك وجه القول الثاني، بقوله: ((وَأَمَّا الَّذِينَ تَأَوَّلُوا أَنَّ مَعْنَى قَوْلِهِ: {اشْتَرَوْا} [البقرة: 16] : اسْتَحَبُّوا، فَإِنَّهُمْ لَمَّا وَجَدُوا اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ قَدْ وَصَفَ الْكُفَّارَ فِي مَوْضِعٍ آخَرَ فَنَسَبَهُمْ إِلَى اسْتِحْبَابِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى الْهُدَى، فَقَالَ: {وَأَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْنَاهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمَى عَلَى الْهُدَى} [فصلت: 17])).
والملاحظ أن الطبري إنما احتج لقتادة بهذا، مع أن قتادة لم يذكرها، وهذا معروف عند أهل العلم، وهو الاحتجاج للقول بما يمكن .
والطبري وجهه على تناوب الحروف، فجعل الباء مكان (على) أي: اشتروا الكفر على الإيمان.
وأما قوله: ((وَأَرَاهُمْ وَجَّهُوا مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {اشْتَرَوْا} [البقرة: 16] إِلَى مَعْنَى اخْتَارُوا، لِأَنَّ الْعَرَبَ تَقُولُ: اشْتَرَيْتُ كَذَا عَلَى كَذَا، وَاشْتَرَيْتُهُ يَعْنُونَ اخْتَرْتُهُ عَلَيْهِ.)).
ورد أبو جعفر هذا التأويل، بما اشتهر عند العرب، من أن الاشتراء هو أخذ شيء وترك شيء.
وأما قول مجاهد فقال عنه: ((وَأَمَّا الَّذِينَ قَالُوا: إِنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ وَكَفَرُوا، فَإِنَّهُ لَا مُؤْنَةَ عَلَيْهِمْ لَوْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفُوا بِهِ الْقَوْمَ، لِأَنَّ الْأَمْرَ إِذَا كَانَ كَذَلِكَ فَقَدْ تَرَكُوا الْإِيمَانَ، وَاسْتَبْدَلُوا بِهِ الْكُفْرَ عِوَضًا مِنَ الْهُدَى. وَذَلِكَ هُوَ الْمَعْنَى الْمَفْهُومُ مِنْ مَعَانِي الشِّرَاءِ وَالْبَيْعِ، وَلَكِنَّ دَلَائِلَ أَوَّلِ الْآيَاتِ فِي نُعُوتِهِمْ إِلَى آخِرِهَا دَالَّةٌ عَلَى أَنَّ الْقَوْمَ لَمْ يَكُونُوا قَطُّ اسْتَضَاءُوا بِنُورِ الْإِيمَانِ وَلَا دَخَلُوا فِي مِلَّةِ الْإِسْلَامِ)).
فقد احتج الطبري على هذا التأويل بالسياق .
وذكر الطبري قاعدة مهمة جدًا، وهي قوله: ((وَالْكَلِمَةُ إِذَا احْتَمَلَتْ وُجُوهًا لَمْ يَكُنْ لِأَحَدٍ صَرْفُ مَعْنَاهَا إِلَى بَعْضِ وُجُوهِهَا دُونَ بَعْضٍ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا.)).
ثم ذكر اختياره بقوله: ((وَالَّذِي هُوَ أَوْلَى عِنْدِي بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ وَابْنِ مَسْعُودٍ مِنْ تَأْوِيلِهِمَا قَوْلَهُ: {اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى} [البقرة: 16] أَخَذُوا الضَّلَالَةَ وَتَرَكُوا الْهُدَى.)).
والحجة عند الطبري في اختياره هي:
1- المعروف من لغة العرب .
2- السياق .
مسألة:
والرواية التي اعتمد الطبري على الاحتجاج بها، هي رواية عكرمة أو سعيد ابن جبير، وخبر السدي المشهور، ويمكننا القول: أنه عند اختياره اعتمد على الرواية، وما ينصرها من السياق ولغة العرب، أما في الرد والاعتراض على الأقوال الأخرى فاعتمد على المعروف من لغة العرب والسياق .
وقد قال الطبري [1/ 375]: ((وَقَدْ ذَكَرْنَا الْخَبَرَ الَّذِي رُوِيَ عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ وَابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّهُمَا كَانَا يَقُولَانِ: إِنَّ الْمُنَافِقِينَ كَانُوا إِذَا حَضَرُوا مَجْلِسَ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَدْخَلُوا أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ فَرَقًا مِنْ كَلَامِ رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ أَنْ يَنْزِلَ فِيهِمْ شَيْءٌ، أَوْ يُذْكَرُوا بِشَيْءٍ فَيُقْتَلُوا. فَإِنْ كَانَ ذَلِكَ صَرِيحًا، وَلَسْتُ أَعْلَمُهُ صَحِيحًا، إِذْ كُنْتُ بِإِسْنَادِهِ مُرْتَابًا؛ فَإِنَّ الْقَوْلَ الَّذِي رُوِيَ عَنْهُمَا هُوَ الْقَوْلُ وَإِنْ يَكُنْ غَيْرَ صَحِيحٍ، فَأَوْلَى بِتَأْوِيلِ الْآيَةِ مَا قُلْنَا.)).
فقد اعترض الطبري في هذا الموضع فقط على هذا الإسناد، وقد قال العلامة أحمد شاكر، ((وقد ذكر الخبر عن ابن مسعود وابن عباس بهذا الإسناد: "فإن كان ذلك صحيحًا، ولست أعلمه صحيحًا، إذ كان بإسناده مرتابًا. . . . ". ولم يبين علة ارتيابه في إسناده، وهو مع ارتيابه قد أكثر من الرواية به. ولكنه لم يجعلها حجة قط.)).
وفي كلام الشيخ شاكر نظرٌ، وهو بحاجة إلى بحث واستقراء.
والظاهر أن السدي أورد الأسانيد في أول كتابه، ثم ساق التفسير بلا نسبة القول لقائله.
والموطن الذي معنا يبين أن الطبري رحمه الله قد اعتمد على هذا الإسناد .
ويمكن بحث إسناد السدي من خلال تفسير الطبري، بالآتي:

1- تتبع الإسناد من خلال التفسير .
2- جمع كلام الطبري عليه .
3- اعتماد الطبري عليه وحده في التفسير .
4- دخوله ضمن ما اعترض عليه في التفسير .
5- دخوله ضمن ما رجحه في التفسير .
6- اختياره من أقوال للسلف مخالفة له .
[1/ 330]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقِينَ بِشِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى خَسِرُوا وَلَمْ يَرْبَحُوا، لِأَنَّ الرَّابِحَ مِنَ التُّجَّارِ الْمُسْتَبْدِلُ مِنْ سِلْعَتِهِ الْمَمْلُوكَةِ عَلَيْهِ بَدَلًا هُوَ أَنْفَسُ مِنْ سِلْعَتِهِ أَوْ أَفْضَلُ مِنْ ثَمَنِهَا الَّذِي يَبْتَاعُهَا بِهِ. فَأَمَّا الْمُسْتَبْدِلُ مِنْ سِلْعَتِهِ بَدَلًا دُونَهَا وَدُونَ الثَّمَنِ الَّذِي يَبْتَاعُهَا بِهِ فَهُوَ الْخَاسِرُ فِي تِجَارَتِهِ لَا شَكَّ. فَكَذَلِكَ الْكَافِرُ وَالْمُنَافِقُ لِأَنَّهُمَا اخْتَارَا الْحِيرَةَ وَالْعَمَى عَلَى الرَّشَادِ وَالْهُدَى وَالْخَوْفِ وَالرُّعْبِ عَلَى الْحِفْظِ وَالْأَمْنِ، فَاسْتَبْدَلَا فِي الْعَاجِلِ بِالرَّشَادِ الْحِيرَةَ، وَبِالْهُدَى الضَّلَالَةَ، وَبِالْحِفْظِ الْخَوْفَ، وَبِالْأَمْنِ الرُّعْبَ؛ مَعَ مَا قَدْ أَعَدَّ لَهُمَا فِي الْآجِلِ مِنْ أَلِيمِ الْعِقَابِ وَشَدِيدِ الْعَذَابِ، فَخَابَا وَخَسِرَا، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ.
وَبِنَحْوِ الَّذِي قُلْنَا فِي ذَلِكَ: كَانَ قَتَادَةُ يَقُولُ ....: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] قَدْ وَاللَّهِ رَأَيْتُمُوهُمْ خَرَجُوا مِنَ الْهُدَى إِلَى الضَّلَالَةِ، وَمِنَ الْجَمَاعَةِ إِلَى الْفُرْقَةِ، وَمِنَ الْأَمْنِ إِلَى الْخَوْفِ، وَمِنَ السُّنَّةِ إِلَى الْبِدْعَةِ ".)).

التعليق:

ينتبه هنا إلى أن الطبري رحمه الله ذكر قول قتادة فقط واختاره، مع أنه اعترض عليه فيما سبق، والعلة أن قول قتادة هنا لا يتعارض مع قول ابن عباس الذي اختاره الطبري هناك .
قال الطبري:
((قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ قَائِلٌ: فَمَا وَجْهُ قَوْلِهِ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] وَهَلِ التِّجَارَةُ مِمَّا تَرْبَحُ أَوْ تَنْقُصُ فَيُقَالُ رَبِحَتْ أَوْ وُضِعَتْ؟ قِيلَ: إِنَّ وَجْهَ ذَلِكَ عَلَى غَيْرِ مَا ظَنَنْتَ؛ وَإِنَّمَا مَعْنَى ذَلِكَ: فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ لَا فِيمَا اشْتَرَوْا وَلَا فِيمَا شَرَوْا. وَلَكِنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ خَاطَبَ بِكِتَابِهِ عَرَبًا فَسَلَكَ فِي خِطَابِهِ إِيَّاهُمْ وَبَيَانِهِ لَهُمْ مَسْلَكَ خِطَابِ بَعْضِهِمْ بَعْضًا وَبَيَانِهِمُ الْمُسْتَعْمَلِ بَيْنَهُمْ. فَلَمَّا كَانَ فَصِيحًا لَدَيْهِمْ قَوْلُ الْقَائِلِ لِآخَرَ: خَابَ سَعْيُكَ وَنَامَ لَيْلُكَ، وَخَسِرَ بَيْعُكَ، وَنَحْوُ ذَلِكَ مِنَ الْكَلَامِ الَّذِي لَا يَخْفَى عَلَى سَامِعِهِ مَا يُرِيدُ قَائِلُهُ؛ خَاطَبَهُمْ بِالَّذِي هُوَ فِي مَنْطِقِهِمْ مِنَ الْكَلَامِ فَقَالَ: {فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ} [البقرة: 16] إِذْ كَانَ مَعْقُولًا عِنْدَهُمْ أَنَّ الرِّبْحَ إِنَّمَا هُوَ فِي التِّجَارَةِ كَمَا النَّوْمُ فِي اللَّيْلِ، فَاكْتَفَى بِفَهْمِ الْمُخَاطَبِينَ بِمَعْنَى ذَلِكَ عَنْ أَنْ يُقَالَ: فَمَا رَبِحُوا فِي تِجَارَتِهِمْ، وَإِنْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَاهُ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَشَرُّ الْمَنَايَا مَيِّتٌ وَسْطَ أَهْلِهِ ... كَهَلْكِ الْفَتَاةِ أَسْلَمَ الْحَيَّ حَاضِرُهْ
يَعْنِي بِذَلِكَ: وَشَرُّ الْمَنَايَا مَنِيَّةُ مَيِّتٍ وَسْطَ أَهْلِهِ؛ فَاكْتَفَى بِفَهْمِ سَامِعِ قِيلِهِ مُرَادَهُ مِنْ ذَلِكَ عَنْ إِظْهَارِ مَا تَرَكَ إِظْهَارَهُ وَكَمَا قَالَ رُؤْبَةُ بْنُ الْعَجَّاجِ:
حَارِثُ قَدْ فَرَّجْتَ عَنِّي هَمِّي ... فَنَامَ لِيَلِي وَتَجَلَّى غَمِّي
فَوَصَفَ بِالنَّوْمِ اللَّيْلَ، وَمَعْنَاهُ أَنَّهُ هُوَ الَّذِي نَامَ. وَكَمَا قَالَ جَرِيرُ بْنُ الْخَطَفِيِّ:
وَأَعْوَرَ مِنْ نَبْهَانَ أَمَّا نَهَارُهُ ... فَأَعْمَى وَأَمَّا لَيْلُهُ فَبَصِيرُ
فَأَضَافَ الْعَمَى وَالْإِبْصَارَ إِلَى اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ، وَمُرَادُهُ وَصْفُ النَّبْهَانِيِّ بِذَلِكَ)).

التعليق:

وهذا الأسلوب الذي تكلم عنه الطبري هو ما يسميه المتأخرون بالمجاز، ولكن: لا يصح نسبة الطبري إلى القول بالمجاز، ونسبته إليه ليس بدقيق .
والحذر كل الحذر من تطبيق قواعد المتأخرين على كلام المتقدمين كالطبري وغيره .
[1/ 332]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] يَعْنِي بِقَوْلِهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] مَا كَانُوا رُشَدَاءَ فِي اخْتِيَارِهِمُ الضَّلَالَةَ عَلَى الْهُدَى، وَاسْتِبْدَالِهِمُ الْكُفْرَ بِالْإِيمَانِ، وَاشْتِرَائِهُمُ النِّفَاقَ بِالتَّصْدِيقِ وَالْإِقْرَارِ .
الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: وَكَيْفَ قِيلَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ الْهَاءَ وَالْمِيمَ مِنْ قَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ} [البقرة: 17] كِنَايَةُ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ أَوِ الرِّجَالِ وَالنِّسَاءِ. وَالَّذِي دَلَالَةٌ عَلَى وَاحِدٍ مِنَ الذُّكُورِ؟ فَكَيْفَ جَعَلَ الْخَبَرَ عَنْ وَاحِدٍ مَثَلًا لِجَمَاعَةٍ؟ وَهَلَّا قِيلَ: مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا نَارًا، وَإِنْ جَازَ عِنْدَكَ أَنْ تُمَثِّلَ الْجَمَاعَةَ بِالْوَاحِدِ فَتُجِيزُ لِقَائِلِ رَأْيِ جَمَاعَةٍ مِنَ الرِّجَالِ فَأَعْجَبَتْهُ صُوَرُهُمْ وَتَمَامُ خَلْقِهِمْ وَأَجْسَامِهِمْ أَنْ يَقُولَ: كَأَنَّ هَؤُلَاءِ، أَوْ كَأَنَّ أَجْسَامَ هَؤُلَاءِ، نَخْلَةٌ. قِيلَ: أَمَّا فِي الْمَوْضِعِ الَّذِي مَثَّلَ رَبُّنَا جَلَّ ثَنَاؤُهُ جَمَاعَةً مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْوَاحِدِ الَّذِي جَعَلَهُ لِأَفْعَالِهِمْ مَثَلًا فَجَائِزٌ حَسَنٌ، وَفِي نَظَائِرِهِ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ فِي نَظِيرِ ذَلِكَ: {تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ} [الأحزاب: 19] يَعْنِي كَدَوَرَانِ عَيْنِ الَّذِي يُغْشَى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ، وَكَقَوْلِهِ: {مَا خَلْقُكُمْ وَلَا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ وَاحِدَةٍ} [لقمان: 28] بِمَعْنَى إِلَّا كَبَعْثِ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ. وَأَمَّا فِي تَمْثِيلِ أَجْسَامِ الْجَمَاعَةِ مِنَ الرِّجَالِ فِي طُولٍ وَتَمَامِ الْخَلْقِ بِالْوَاحِدَةِ مِنَ النَّخِيلِ، فَغَيْرُ جَائِزٍ وَلَا فِي نَظَائِرِهِ لِفَرْقٍ بَيْنَهُمَا. فَأَمَّا تَمْثِيلُ الْجَمَاعَةِ مِنَ الْمُنَافِقِينَ بِالْمُسْتَوْقِدِ الْوَاحِدِ، فَإِنَّمَا جَازَ لِأَنَّ الْمُرَادَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مِثْلِ الْمُنَافِقِينَ الْخَبَرُ عَنْ مِثْلِ اسْتِضَاءَتِهِمْ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ مِنَ اعْتِقَادَاتِهِمُ الرَّدِيئَةِ، وَخَلْطِهِمْ نِفَاقَهُمُ الْبَاطِنَ بِالْإِقْرَارِ بِالْإِيمَانِ الظَّاهِرِ. وَالِاسْتِضَاءَةِ وَإِنِ اخْتَلَفَتْ أَشْخَاصُ أَهْلِهَا مَعْنَى وَاحِدٌ لَا مَعَانٍ مُخْتَلِفَةٌ. فَالْمَثَلُ لَهَا فِي مَعْنَى الْمَثَلِ لِلشَّخْصِ الْوَاحِدِ مِنَ الْأَشْيَاءِ الْمُخْتَلِفَةِ الْأَشْخَاصِ. وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنَ الْإِقْرَارِ بِاللَّهِ وَبِمُحَمَّدٍ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ قَوْلًا وَهُمْ بِهِ مُكَذِّبُونَ اعْتِقَادًا، كَمَثَلِ اسْتِضَاءَةِ الْمُوقِدِ نَارًا. ثُمَّ أَسْقَطَ ذِكْرَ الِاسْتِضَاءَةِ وَأُضِيفَ الْمَثَلُ إِلَيْهِمْ، كَمَا قَالَ نَابِغَةُ بَنِي جَعْدَةَ:
وَكَيْفَ تُوَاصِلُ مَنْ أَصْبَحَتْ ... خِلَالَتُهُ كَأَبِي مَرْحَبِ
يُرِيدُ كَخَلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ، فَأَسْقَطَ خِلَالَةً، إِذْ كَانَ فِيمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ دَلَالَةٌ لِسَامِعِيهِ عَلَى مَا حُذِفَ مِنْهُ. فَكَذَلِكَ الْقَوْلُ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا عِنْدَ سَامِعِيهِ بِمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ أَنَّ الْمَثَلَ إِنَّمَا ضُرِبَ لِاسْتِضَاءَةِ الْقَوْمِ بِالْإِقْرَارِدُونَ أَعْيَانِ أَجْسَامِهِمْ حَسُنَ حَذْفُ ذِكْرِ الِاسْتِضَاءَةِ وَإِضَافَةُ الْمَثَلِ إِلَى أَهْلِهِ. وَالْمَقْصُودُ بِالْمَثَلِ مَا ذَكَرْنَا، فَلَمَّا وَصَفْنَا جَازَ وَحَسُنَ قَوْلُهُ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وَيُشَبَّهُ مَثَلُ الْجَمَاعَةِ فِي اللَّفْظِ بِالْوَاحِدِ، إِذْ كَانَ الْمُرَادُ بِالْمَثَلِ الْوَاحِدَ فِي الْمَعْنَى. وَأَمَّا إِذَا أُرِيدَ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ مِنْ أَعْيَانِ بَنِي آدَمَ أَوْ أَعْيَانِ ذَوِي الصُّوَرِ وَالْأَجْسَامِ بِشَيْءٍ، فَالصَّوَابُ مِنَ الْكَلَامِ تَشْبِيهُ الْجَمَاعَةِ بِالْجَمَاعَةِ وَالْوَاحِدِ بِالْوَاحِدِ، لِأَنَّ عَيْنَ كُلِّ وَاحِدٍ مِنْهُمْ غَيْرُ أَعْيَانِ الْآخَرِينَ. وَلِذَلِكَ مِنَ الْمَعْنَى افْتَرَقَ الْقَوْلُ فِي تَشْبِيهِ الْأَفْعَالِ وَالْأَسْمَاءِ، فَجَازَ تَشْبِيهُ أَفْعَالِ الْجَمَاعَةِ مِنَ النَّاسِ وَغَيْرِهِمْ إِذَا كَانَتْ بِمَعْنَى وَاحِدٍ بِفِعْلِ الْوَاحِدِ، ثُمَّ حَذْفُ أَسْمَاءَ الْأَفْعَالِ، وَإِضَافَةُ الْمَثَلِ وَالتَّشْبِيهُ إِلَى الَّذِينَ لَهُمُ الْفِعْلُ، فَيُقَالُ: مَا أَفْعَالُكُمْ إِلَّا كَفِعْلِ الْكَلْبِ، ثُمَّ يُحْذَفُ فَيُقَالُ: مَا أَفْعَالُكُمْ إِلَّا كَالْكَلْبِ أَوْ كَالْكِلَابِ، وَأَنْتَ تَعْنِي: إِلَّا كَفِعْلِ الْكَلْبِ، وَإِلَّا كَفِعْلِ الْكِلَابِ. وَلَمْ يَجُزْ أَنْ تَقُولَ: مَا هُمْ إِلَّا نَخْلَةً، وَأَنْتُ تُرِيدُ تَشْبِيهَ أَجْسَامِهِمْ بِالنَّخْلِ فِي الطُّولِ وَالتَّمَامِ. وَأَمَّا قَوْلُهُ: {اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] فَإِنَّهُ فِي تَأْوِيلِ أَوَقَدْ كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
وَدَاعٍ دَعَا يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى النَّدَى ... فَلَمْ يَسْتَجِبْهُ عِنْدَ ذَاكَ مُجِيبُ
يُرِيدُ: فَلَمْ يُجِبْهُ. فَكَانَ مَعْنَى الْكَلَامِ إِذًا مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ، فِي إِظْهَارِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنْ قَوْلِهِمْ: {آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ} [البقرة: 8] وَصَدَّقْنَا بِمُحَمَّدٍ، وَبِمَا جَاءَ بِهِ، وَهُمْ لِلْكُفْرِ مُسْتَبْطِنُونَ، فِيمَا اللَّهُ فَاعِلٌ بِهِمْ، مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ مُوقِدِ نَارٍ بِنَارِهِ حَتَّى أَضَاءَتْ لَهُ النَّارُ مَا حَوْلَهُ، يَعْنِي مَا حَوْلَ الْمُسْتَوْقِدِ.)).

التعليق:

هذا المثل، هو أول مثل يرد في القرآن، ويسمى بالمثل الناري، والمثل الذي بعده يسمى بالمثل المائي .
هذا المثل أورد الطبري فيه إشكالًا من جهة أسلوب العرب، وهو كيف أعاد الواحد على الجماعة .
وقد لخص الطبري أن المعنى: مثل استضاءتهم، وللبلاغيين توجيه آخر .
وقد قعد الطبري قاعدة مهمة، وهي: ((يُرِيدُ كَخَلَالَةِ أَبِي مَرْحَبٍ، فَأَسْقَطَ خِلَالَةً، إِذْ كَانَ فِيمَا أَظْهَرَ مِنَ الْكَلَامِ دَلَالَةٌ لِسَامِعِيهِ عَلَى مَا حُذِفَ مِنْهُ.))، فالعرب تختصر إذا وجدت دلالة على المحذوف، وإلا لما وقع اختصار؛ لكن لو تنازع المحذوف أكثر من دلالة فهنا يحتاج للترجيح، مثل قوله تعالى: {والنازعات غرقا} إذ قلنا أن الموصوف محذوف، فما المقصود بالنازعات؟ هل هي الملائكة، أم الأنفس، أم النجوم؟ فهنا لا يوجد دلالة في الكلام.
فيمكن أن نقول أنه إذا لم يكن هناك دلالة فالأصل عدم الحذف، وإذا وجدت فيجوز الحذف ويكون ذلك من باب البلاغة، وإذا وجد ما مقامه حذفه، دل على أن ذكره مرادٌ، مثل قوله تعالى:{والله لا يهدي القوم الفاسقين}، لم يقل: والله لا يهديهم، بل أظهرهم، فلما أظهر في مقام الإضمار، دل على أراد أن يعلق الأمر بالحكم، أي أنهم لم يفعلوا هذا إلا لفسقهم، وليعمم الحكم في أن الله لا يهدي أي فاسق.
فصار فيها التعليل بسبب الحكم الوارد عليهم.
وصار فيها تعميم في أن الله لم يهدهم لأنهم فسقوا، وكذلك لا يهدي غيرهم لفسقهم من طريق آخر.
قال الطبري:
((وَقَدْ زَعَمَ بَعْضُ أَهْلِ الْعَرَبِيَّةِ مِنْ أَهْلِ الْبَصْرَةِ أَنَّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] بِمَعْنَى الَّذِينَ كَمَا قَالَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ وَصَدَّقَ بِهِ أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] وَكَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَإِنَّ الَّذِي حَانَتْ بِفَلْجٍ دِمَاؤُهُمْ ... هُمُ الْقَوْمُ كُلُّ الْقَوْمِ يَا أُمَّ خَالِدِ
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالْقَوْلُ الْأَوَّلُ هُوَ الْقَوْلُ لِمَا وَصَفْنَا مِنَ الْعِلَّةِ، وَقَدْ أَغْفَلَ قَائِلُ ذَلِكَ فَرْقَ مَا بَيْنَ الَّذِي فِي الْآيَتَيْنِ وَفِي الْبَيْتِ، لِأَنَّ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {وَالَّذِي جَاءَ بِالصِّدْقِ} [الزمر: 33] قَدْ جَاءَتِ الدَّلَالَةُ عَلَى أَنَّ مَعْنَاهَا الْجَمْعَ، وَهُوَ قَوْلِهِ: {أُولَئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ} [الزمر: 33] وَكَذَلِكَ الَّذِي فِي الْبَيْتِ، وَهُوَ قَوْلُهُ: دِمَاؤُهُمْ. وَلَيْسَتْ هَذِهِ الدَّلَالَةُ فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] فَذَلِكَ فَرْقُ مَا بَيْنَ الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] وَسَائِرُ شَوَاهِدِهِ الَّتِي اسْتُشْهِدَ بِهَا عَلَى أَنَّ مَعْنَى الَّذِي فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] بِمَعْنَى الْجَمَاعَةِ، وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ نَقْلُ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَغْلَبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا.)).

التعليق:

هنا مسألتان:
1- ما يمكن أن نسميه، (نظائر الأسلوب)، فزعم الأخفش أن القرآن نظير ما في الشعر، وقد اعترض على ذلك الطبري بأن الأساليب مختلفة .
وهنا مسألة، وهي الخطأ في الاستدلال ببعض أساليب العرب في معاني كتاب الله، والتي لا تكون مطابقة لبعض المعاني في كتاب الله .
مثال: {رب المشرقين ورب المغربين} هل يعد ذلك من باب التغليب؟ الجواب: لا؛ لكن {ورب المشارق} يحتمل التغليب ويحتمل الحذف.
2- استخدم الطبري قاعدة مهمة، وهي قوله: ((وَغَيْرُ جَائِزٍ لِأَحَدٍ نَقْلُ الْكَلِمَةِ الَّتِي هِيَ الْأَغْلَبُ فِي اسْتِعْمَالِ الْعَرَبِ عَلَى مَعْنَى إِلَى غَيْرِهِ إِلَّا بِحُجَّةٍ يَجِبُ التَّسْلِيمُ لَهَا.)).
هذه طريقة الطبري في عرض القواعد التفسيرية، ولا اعتراض عليها؛ لكن هاهنا مسألتان:
المسألة الأولى: أن سكب القواعد التفسيرية يحتاج لضبط، وغالب من كتب في قواعد الترجيح في التفسير ينقصهم ضبط الصياغة .
وهناك كتاب مهم جداً ناقش قضية صياغة وسكب القواعد عموما، أنصح بقراءته، وقد استفدت منه كثيراً، وهو كتاب: القواعد الفقهية، المبادئ المقومات ...، للدكتور: يعقوب الباحسين.
المسألة الثانية: أن تسمية القواعد: قرائن، أو وجوه ترجيح، أو غير ذلك، لا يؤثر على قضية صياغة القواعد.
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس العشرون: (28 - 6 - 1435)
التاريخ: 6 - 7 - 1435 الموافق 05/05/2014
عدد الزيارات: 0
اعتنى به: عمرو الشرقاوي​
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1/ 336]
قال الطبري:

((ثُمَّ اخْتَلَفَتْ أَهْلُ التَّأْوِيلِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ، فَرُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ فِيهِ أَقْوَالٌ،
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ، أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلًا فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] أَيْ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَيَقُولُونَ بِهِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقٍّ ".
وَالْآخَرُ: وبإسناده، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ فَيُنَاكِحُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءُهُ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، يَقُومُ فِي عَذَابٍ.
وَالثَّالِثُ: وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] زَعَمَ أَنَّ أُنَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَافَقُوا فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَأَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ لَهُ مَا حَوْلَهُ مِنْ قَذًى أَوْ أَذًى، فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ نَارُهُ فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ، فَصَارَ لَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. وَأَمَّا النُّورُ فَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ نِفَاقَهُمْ ".
وَالْآخَرُ: وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَوْلُهُ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] إِلَى: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] ضَرَبَهُ اللَّهُ مَثَلًا لِلْمُنَافِقِ، وَقَوْلُهُ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] قَالَ: أَمَّا النُّورُ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ. وَأَمَّا الظُّلْمَةُ: فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ، يَتَكَلَّمُونَ بِهِ وَهُمْ قَوْمٌ كَانُوا عَلَى هُدًى ثُمَّ نُزِعَ مِنْهُمْ فَعَتَوْا بَعْدَ ذَلِكَ ".
وَقَالَ آخَرُونَ: وبإسناده، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] وَإِنَّ الْمُنَافِقَ تَكَلَّمَ بِلَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ فَأَضَاءَتْ لَهُ فِي الدُّنْيَا فَنَاكَحَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَغَازَى بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَوَارَثَ بِهَا الْمُسْلِمِينَ وَحَقَنَ بِهَا دَمَهُ وَمَالَهُ. فَلَمَّا كَانَ عِنْدَ الْمَوْتِ سُلِبَهَا الْمُنَافِقُ لِأَنَّهُ لَمْ يَكُنْ لَهَا أَصْلٌ فِي قَلْبِهِ وَلَا حَقِيقَةٌ فِي عِلْمِهِ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] هِيَ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ أَضَاءَتْ لَهُمْ فَأَكَلُوا بِهَا وَشَرِبُوا وَأَمِنُوا فِي الدُّنْيَا وَنَكَحُوا النِّسَاءَ وَحَقَنُوا بِهَا دِمَاءَهُمْ حَتَّى إِذَا مَاتُوا ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ".
وبإسناده، عَنِ الضَّحَّاكِ بْنِ مُزَاحِمٍ، قَوْلُهُ: " {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] قَالَ: أَمَّا النُّورُ فَهُوَ إِيمَانُهُمُ الَّذِي يَتَكَلَّمُونَ بِهِ؛ وَأَمَّا الظُّلُمَاتُ، فَهِيَ ضَلَالَتُهُمْ وَكُفْرُهُمْ ".
وَقَالَ آخَرُونَ: وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، فِي قَوْلِ اللَّهِ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] قَالَ: أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ: فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى؛ وَذَهَابُ نُورِهِمْ: إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَةِ ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] أَمَّا إِضَاءَةُ النَّارِ: فَإِقْبَالُهُمْ إِلَى الْمُؤْمِنِينَ وَالْهُدَى؛ وَذَهَابُ نُورِهِمْ: إِقْبَالُهُمْ إِلَى الْكَافِرِينَ وَالضَّلَالَةِ ".
وبإسناده، عَنِ الرَّبِيعِ بْنِ أَنَسٍ، قَالَ: " ضَرَبَ مَثَلَ أَهْلِ النِّفَاقِ فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] قَالَ: إِنَّمَا ضَوْءُ النَّارِ وَنُورُهَا مَا أَوْقَدَتْهَا، فَإِذَا خَمَدَتْ ذَهَبَ نُورُهَا، كَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كُلَّمَا تَكَلَّمَ بِكَلِمَةِ الْإِخْلَاصِ أَضَاءَ لَهُ، فَإِذَا شَكَّ وَقَعَ فِي الظُّلْمَةِ ".
وبإسناده، عن عَبْد الرَّحْمَنِ بْن زَيْدٍ، " فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ. قَالَ: هَذِهِ صِفَةُ الْمُنَافِقِينَ، كَانُوا قَدْ آمَنُوا حَتَّى أَضَاءَ الْإِيمَانُ فِي قُلُوبِهِمْ كَمَا أَضَاءَتِ النَّارُ لِهَؤُلَاءِ الَّذِينَ اسْتَوْقَدُوا ثُمَّ كَفَرُوا، فَذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ، فَانْتَزَعَهُ كَمَا ذَهَبَ بِضَوْءِ هَذِهِ النَّارِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ ".
وَأَوْلَى التَّأْوِيلَاتِ بِالْآيَةِ مَا قَالَهُ قَتَادَةُ وَالضَّحَّاكُ، وَمَا رَوَاهُ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَلْحَةَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ. وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ وَقَصَّ قَصَصَهُمْ مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ بِقَوْلِهِ: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [البقرة: 8] لَا الْمُعْلِنِينَ بِالْكُفْرِ الْمُجَاهِدِينَ بِالشِّرْكِ. وَلَوْ كَانَ الْمَثَلُ لِمَنْ آمَنَ إِيمَانًا صَحِيحًا ثُمَّ أَعْلَنَ بِالْكُفْرِ إِعْلَانًا صَحِيحًا عَلَى مَا ظَنَّ الْمُتَأَوِّلُ قَوْلَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] أَنَّ ضَوْءَ النَّارِ مَثَلٌ لِإِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانَ مِنْهُمْ عِنْدَهُ عَلَى صِحَّةٍ، وَأَنَّ ذَهَابَ نُورِهِ مَثَلٌ لِارْتِدَادِهِمْ وَإِعْلَانِهِمُ الْكُفْرَ عَلَى صِحَّةٍ؛ لَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ مِنَ الْقَوْمِ خِدَاعٌ وَلَا اسْتِهْزَاءٌ عِنْدَ أَنْفُسِهِمْ وَلَا نِفَاقٌ، وَأَنَّى يَكُونُ خِدَاعٌ وَنِفَاقٌ مِمَّنْ لَمْ يُبْدِ لَكَ قَوْلًا وَلَا فِعْلًا إِلَّا مَا أَوْجَبَ لَكَ الْعِلْمَ بِحَالِهِ الَّتِي هُوَ لَكَ عَلَيْهَا، وَبِعَزِيمَةِ نَفْسِهِ الَّتِي هُوَ مُقِيمٌ عَلَيْهَا؟ إِنَّ هَذَا بِغَيْرِ شَكٍّ مِنَ النِّفَاقِ بَعِيدٌ وَمِنَ الْخِدَاعِ بَرِيءٌ، فَإِنْ كَانَ الْقَوْمُ لَمْ تَكُنْ لَهُمْ إِلَّا حَالَتَانِ: حَالُ إِيمَانٍ ظَاهِرٍ وَحَالُ كُفْرٍ ظَاهِرٍ، فَقَدْ سَقَطَ عَنِ الْقَوْمِ اسْمُ النِّفَاقِ؛ لِأَنَّهُمْ فِي حَالِ إِيمَانِهِمُ الصَّحِيحِ كَانُوا مُؤْمِنِينَ، وَفِي حَالِ كُفْرِهِمُ الصَّحِيحِ كَانُوا كَافِرِينَ، وَلَا حَالَةَ هُنَاكَ ثَالِثَةٌ كَانُوا بِهَا مُنَافِقِينَ، وَفِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِصِفَةِ النِّفَاقِ مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ ارْتَدُّوا إِلَى الْكُفْرِ فَأَقَامُوا عَلَيْهِ، إِلَّا أَنْ يَكُونَ قَائِلُ ذَلِكَ أَرَادَ أَنَّهُمُ انْتَقَلُوا مِنْ إِيمَانِهِمُ الَّذِي كَانُوا عَلَيْهِ إِلَى الْكُفْرِ الَّذِي هُوَ نِفَاقٌ، وَذَلِكَ قَوْلٌ إِنْ قَالَهُ لَمْ تُدْرَكْ صِحَّتُهُ إِلَّا بِخَبَرٍ مُسْتَفِيضٍ أَوْ بِبَعْضِ الْمَعَانِي الْمُوجِبَةِ صِحَّتَهُ. فَأَمَّا فِي ظَاهِرِ الْكِتَابِ، فَلَا دَلَالَةَ عَلَى صِحَّتِهِ لِاحْتِمَالِهِ مِنَ التَّأْوِيلِ مَا هُوَ أَوْلَى بِهِ مِنْهُ. فَإِذَا كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا فِي ذَلِكَ، فَأَوْلَى تَأْوِيلَاتِ الْآيَةِ بِالْآيَةِ مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِمَا أَظْهَرُوا بِأَلْسِنَتِهِمْ لِرَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ مِنَ الْإِقْرَارِ بِهِ، وَقَوْلِهِمْ لَهُ وَلِلْمُؤْمِنِينَ: آمَنَّا بِاللَّهِ وَكُتُبِهِ وَرُسُلِهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ، حَتَّى حُكِمَ لَهُمْ بِذَلِكَ فِي عَاجِلِ الدُّنْيَا بِحُكْمِ الْمُسْلِمِينَ فِي حَقْنِ الدِّمَاءِ وَالْأَمْوَالِ وَالْأَمْنِ عَلَى الذُّرِّيَّةِ مِنَ السِّبَاءِ، وَفِي الْمُنَاكَحَةِ وَالْمُوَارَثَةِ؛ كَمَثَلِ اسْتِضَاءَةِ الْمُوقِدِ النَّارَ بِالنَّارِ، حَتَّى إِذَا ارْتَفَقَ بِضِيَائِهَا وَأَبْصَرَ مَا حَوْلَهُ مُسْتَضِيئًا بِنُورِهِ مِنَ الظُّلْمَةِ، خَمَدَتِ النَّارُ وَانْطَفَأَتْ، فَذَهَبَ نُورُهُ، وَعَادَ الْمُسْتَضِيءُ بِهِ فِي ظُلْمَةٍ وَحِيرَةٍ.
وَذَلِكَ أَنَّ الْمُنَافِقَ لَمْ يَزَلْ مُسْتَضِيئًا بِضَوْءِ الْقَوْلِ الَّذِي دَافِعَ عَنْهُ فِي حَيَاتِهِ الْقَتْلَ وَالسِّبَاءَ مَعَ اسْتِبْطَانِهِ مَا كَانَ مُسْتَوْجِبًا بِهِ الْقَتْلَ وَسَلْبَ الْمَالِ لَوْ أَظْهَرَهُ بِلِسَانِهِ، تُخَيِّلُ إِلَيْهِ بِذَلِكَ نَفْسُهُ أَنَّهُ بِاللَّهِ وَرَسُولِهِ وَالْمُؤْمِنِينَ مُسْتَهْزِئٌ مُخَادِعٌ، حَتَّى سَوَّلَتْ لَهُ نَفْسُهُ، إِذْ وَرَدَ عَلَى رَبِّهِ فِي الْآخِرَةِ، أَنَّهُ نَاجٍ مِنْهُ بِمِثْلِ الَّذِي نَجَا بِهِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَذِبِ وَالنِّفَاقِ. أَوَمَا تَسْمَعُ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ يَقُولُ إِذْ نَعَتَهُمْ ثُمَّ أَخْبَرَهُمْ عِنْدَ وُرُودِهِمْ عَلَيْهِ: {يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَمَا يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ أَلَا إِنَّهُمْ هُمُ الْكَاذِبُونَ} [المجادلة: 18] ظَنًّا مِنَ الْقَوْمِ أَنَّ نَجَاتَهُمْ مِنْ عَذَابِ اللَّهِ فِي الْآخِرَةِ فِي مِثْلِ الَّذِي كَانَ بِهِ نَجَاتُهُمْ مِنَ الْقَتْلِ وَالسِّبَاءِ وَسَلْبِ الْمَالِ فِي الدُّنْيَا مِنَ الْكَذِبِ وَالْإِفْكِ وَأَنَّ خِدَاعَهُمْ نَافِعُهُمْ هُنَالِكَ نَفْعَهُ إِيَّاهُمْ فِي الدُّنْيَا. حَتَّى عَايَنُوا مِنْ أَمْرِ اللَّهِ مَا أَيْقَنُوا بِهِ أَنَّهُمْ كَانُوا مِنْ ظُنُونِهِمْ فِي غُرُورٍ وَضَلَالٍ، وَاسْتِهْزَاءٍ بِأَنْفُسِهِمْ وَخِدَاعٍ، إِذْ أَطْفَأَ اللَّهُ نُورَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فَاسْتَنْظَرُوا الْمُؤْمِنِينَ لِيَقْتَبِسُوا مِنْ نُورِهِمْ، فَقِيلَ لَهُمُ: ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا وَاصْلَوْا سَعِيرًا. فَذَلِكَ حِينَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، كَمَا انْطَفَأَتْ نَارُ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ بَعْدَ إِضَاءَتِهَا لَهُ، فَبَقِيَ فِي ظُلْمَتِهِ حَيْرَانَ تَائِهًا؛ يَقُولُ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُوَرٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ يُنَادُونَهُمْ أَلَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قَالُوا بَلَى وَلَكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَتَرَبَّصْتُمْ وَارْتَبْتُمْ وَغَرَّتْكُمُ الْأَمَانِيُّ حَتَّى جَاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَغَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ فَالْيَوْمَ لَا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَلَا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْوَاكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلَاكُمْ وَبِئْسَ الْمَصِيرُ} [الحديد: 14] .
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] خَمَدَتْ وَانْطَفَأَتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، فَمَا دَلَالَتُكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ؟ قِيلَ: قَدْ قُلْنَا إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْإِيجَازَ وَالِاخْتِصَارَ إِذَا كَانَ فِيمَا نَطَقَتْ بِهِ الدَّلَالَةُ الْكَافِيَةُ عَلَى مَا حَذَفَتْ وَتَرَكَتْ، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَمْ غَيٌّ، فَحَذَفَ ذِكْرَ أَمْ غَيٌّ، إِذْ كَانَ فِيمَا نَطَقَ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا. وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي نَعْتِ حِمْيَرَ:
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أَوْ حِينَ نَصَّبَتْ ... لَهُ مِنْ خَذَا آذَانِهَا وَهُوَ جَانِحُ
يَعْنِي: أَوْ حِينَ أَقْبَلَ اللَّيْلُ. فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] لَمَّا كَانَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] دَلَالَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ كَافِيَةٌ مِنْ ذِكْرِهِ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ طَلَبَ الْإِيجَازِ. وَكَذَلِكَ حَذَفَ مَا حَذَفَ وَاخْتِصَارُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُ، نَظِيرُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مِثْلِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ بَعْدَ الضِّيَاءِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ، كَمَا ذَهَبَ ضَوْءُ نَارِ هَذَا الْمُسْتَوْقِدِ بِانْطِفَاءِ نَارِهِ وَخُمُودِهَا فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] عَائِدَةٌ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ} [البقرة: 17].)).

التعليق:

ذكرنا في الدرس الماضي أن هذا أول مثل يقابلنا في القرآن، وبعض العلماء يسميه (المثل الناري).
ويحسن أن ننتبه إلى مسألة مهمة، وهي أن المثل لا يخرج عن الألفاظ العامة في القرآن، فحينما نريد أن نفسر المثل، فيمكننا تفسيره بشيء من المثال.
وينبه أيضًا إلى أن أهل النفاق يشتركون في استبطان الكفر، لكن أحوالهم مختلفة، وهذا يسهل علينا النظر في أقوال المفسرين .
فأسباب النفاق متعددة من الشبهات والشهوات، فليست هناك صورة واحدة للنفاق .
بمعنى: أن كلام السلف من باب اختلاف التنوع في الصور التي تدخل في النفاق، كدخول الأمثلة في اللفظ العام .
وهذه الفكرة تحل لنا إشكالًا كبيرًا في التعامل مع أمثال القرآن .
فالأمثلة على نوعين:

1- ما يمكن انطباقه على أكثر من وجه .
2- ما لا يمكن انطباقه إلا على وجه واحد .
ومهمة المفسر أن ينظر في انطباق الصورة المذكورة على المثل أو عدم انطباقها .
وقد مال الطبري رحمه الله تعالى، وأطال في تقرير هذا .
وللعلماء لهم في تنزيله على المنافقين أقوال:
1- القول الأول: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " ضَرَبَ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ مَثَلًا فَقَالَ: {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] أَيْ يُبْصِرُونَ الْحَقَّ وَيَقُولُونَ بِهِ، حَتَّى إِذَا خَرَجُوا بِهِ مِنْ ظُلْمَةِ الْكُفْرِ أَطْفَئُوهُ بِكُفْرِهِمْ وَنِفَاقِهِمْ فِيهِ فَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتِ الْكُفْرِ فَهُمْ لَا يُبْصِرُونَ هُدًى وَلَا يَسْتَقِيمُونَ عَلَى حَقٍّ ".
فالذي ذكره ابن عباس صورة من صور النفاق، والمثل ينطبق عليها .
2- القول الثاني: عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] إِلَى آخِرِ الْآيَةِ هَذَا مَثَلٌ ضَرَبَهُ اللَّهُ لِلْمُنَافِقِينَ أَنَّهُمْ كَانُوا يَعْتَزُّونَ بِالْإِسْلَامِ فَيُنَاكِحُهُمُ الْمُسْلِمُونَ وَيُوَارِثُونَهُمْ وَيُقَاسِمُونَهُمُ الْفَيْءَ، فَلَمَّا مَاتُوا سَلَبَهُمُ اللَّهُ ذَلِكَ الْعِزَّ كَمَا سَلَبَ صَاحِبَ النَّارِ ضَوْءُهُ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ، يَقُومُ فِي عَذَابٍ ".
وهذا كالسابق، لكنه قد جعل الآية كالأجزاء، قسم منها في الدنيا، وقسم يحصل في الآخرة، أما الأول: فجعلها كلها في الدنيا .
3- والقول الثالث: عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] زَعَمَ أَنَّ أُنَاسًا دَخَلُوا فِي الْإِسْلَامِ مَقْدِمَ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ الْمَدِينَةَ، ثُمَّ إِنَّهُمْ نَافَقُوا فَكَانَ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ رَجُلٍ كَانَ فِي ظُلْمَةٍ فَأَوْقَدَ نَارًا فَأَضَاءَتْ لَهُ مَا حَوْلَهُ مِنْ قَذًى أَوْ أَذًى، فَأَبْصَرَهُ حَتَّى عَرَفَ مَا يَتَّقِي، فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ طُفِئَتْ نَارُهُ فَأَقْبَلَ لَا يَدْرِي مَا يَتَّقِي مِنْ أَذًى، فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُ كَانَ فِي ظُلْمَةِ الشِّرْكِ فَأَسْلَمَ فَعَرَفَ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَالْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. فَبَيْنَا هُوَ كَذَلِكَ إِذْ كَفَرَ، فَصَارَ لَا يَعْرِفُ الْحَلَالَ مِنَ الْحَرَامِ، وَلَا الْخَيْرَ مِنَ الشَّرِّ. وَأَمَّا النُّورُ فَالْإِيمَانُ بِمَا جَاءَ بِهِ مُحَمَّدٌ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ، وَكَانَتِ الظُّلْمَةُ نِفَاقَهُمْ ".
فهؤلاء استبطنوا الكفر كذلك، والمثل ينطبق على هذه الصورة أيضًا ."
وكذلك الأقوال الأخرى، عن ابن عباس، وقتادة، والضحاك، ومجاهد، والربيع، وابن زيد .
واختار الطبري رحمه الله ما قاله قتادة والضحاك، وما رواه علي بن أبي طلحة عن ابن عباس، فاختار من الأوجه المذكورة وجهان، وصنيعه هذا يقتضي أنه يرى أن المثل منطبق على أكثر من صورة.
وعلة هذا الاختيار، ذكره بقوله: ((وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِنَّمَا ضَرَبَ هَذَا الْمَثَلَ لِلْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ وَصَفَ صِفَتَهُمْ وَقَصَّ قَصَصَهُمْ مِنْ لَدُنِ ابْتَدَأَ بِذِكْرِهِمْ)).
والطبري اعتمد على سياق الآيات ككل[SUP]([1])[/SUP]، ورجح أن هؤلاءلم يدخل الإيمان قلوبهم، لتناسق نظرته للآيات.
وقال في رده على قول مجاهد: ((لا المعلنين بالكفر المجاهدين بالشرك. ولو كان المثل لمن آمن إيمانا صحيحا ثم أعلن بالكفر إعلانا صحيحا على ما ظن المتأول قول الله جل ثناؤه {كمثل الذي استوقد نارا فلما أضاءت ما حوله ذهب الله بنورهم وتركهم في ظلمات لا يبصرون} [البقرة: 17] أن ضوء النار مثل لإيمانهم الذي كان منهم عنده على صحة، وأن ذهاب نوره مثل لارتدادهم وإعلانهم الكفر على صحة؛ لم يكن هنالك من القوم خداع ولا استهزاء عند أنفسهم ولا نفاق، وأنى يكون خداع ونفاق ممن لم يبد لك قولا ولا فعلا إلا ما أوجب لك العلم بحاله التي هو لك عليها، وبعزيمة نفسه التي هو مقيم عليها؟ إن هذا بغير شك من النفاق بعيد.)).
فهو يرى أن المثل في قوم لم يؤمنوا قط، بل أبطنوا الكفر وأظهروا الإسلام.
وقد اعترض ابن كثير على الطبري فقال: ((وَزَعَمَ ابْنُ جَرِيرٍ أَنَّ الْمَضْرُوبَ لَهُمُ الْمَثَلُ هَاهُنَا لَمْ يُؤْمِنُوا فِي وَقْتٍ مِنَ الْأَوْقَاتِ، وَاحْتَجَّ بِقَوْلِهِ تَعَالَى: {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ} [الْبَقَرَةِ: 8] .
وَالصَّوَابُ: أَنَّ هَذَا إِخْبَارٌ عَنْهُمْ فِي حَالِ نِفَاقِهِمْ وَكُفْرِهِمْ، وَهَذَا لَا يَنْفِي أَنَّهُ كَانَ حَصَلَ لَهُمْ إِيمَانٌ قَبْلَ ذَلِكَ، ثُمَّ سُلبوه وَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ، وَلَمْ يَسْتَحْضِرِ ابْنُ جَرِيرٍ، رَحِمَهُ اللَّهُ، هذه الآية هاهنا وهي قَوْلُهُ تَعَالَى: {ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لَا يَفْقَهُونَ} [الْمُنَافِقُونَ: 3] ؛ فَلِهَذَا وَجَّهَ ابْنُ جَرِيرٍ هَذَا الْمَثَلَ بِأَنَّهُمُ استضاؤوا بِمَا أَظْهَرُوهُ مِنْ كَلِمَةِ الْإِيمَانِ، أَيْ فِي الدُّنْيَا، ثُمَّ أَعْقَبَهُمْ ظُلُمَاتٌ يَوْمَ الْقِيَامَةِ.))[SUP]([2])[/SUP].
وكلام ابن كثير متوجه .
ولكن، لو اخترنا مذهب ابن جرير فإنه لا يمنع من دخول الصورة الثانية، ونقول: إن التفسير هو ما ذكره ابن جرير، أما تنزيل صور أخرى على الآية فإنه من باب التنزيل (الاستنباط والقياس) لا من باب التفسير .
وهذه فكرة دقيقة لا ينتبه إليها كثيراً، وممن وجدته ينبه على هذه الطريقة هو الإمام ابن عطية رحمه الله، ولعل الطبري رحمه الله يقول بها لكنه لا ينبه عليها، وإنما يدلل على ما يرجح بدون أن يبطل الأقوال الأخرى، وهو وإن لم يصرح بهذه القاعدة، إلا أنه يعمل بها.
مثال على ذلك قوله تعالى:{ومن أظلم ممن منع مساجد الله} هذه الآية وردت في سياق أهل الكتاب، لكن بعض السلف فسرها أنها في العرب، واعترض ابن جرير على ذلك، بحجة أن العرب لم يجر لهم ذكرٌ في الآية.
ولم يكن مراده رحمه الله الاعتراض على صحة هذا القول وأنه باطل، بل مقصده أنها نزلت في سياق الكلام على أهل الكتاب فلا يجوز أن تترك إلى غيرهم إلا لدليل.
وهو وقف عند هذا؛ ولكن نحن إذا أكملنا الطريق نستطيع أن نقول إنها نزلت في أهل الكتاب، ويدخل فيها كذلك كل من عمل عملهم من العرب وغيرهم، وهذا من باب الاستنباط والقياس.
وقوله: ((وَفِي وَصْفِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ إِيَّاهُمْ بِصِفَةِ النِّفَاقِ مَا يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ الْقَوْلَ غَيْرُ الْقَوْلِ الَّذِي زَعَمَهُ مَنْ زَعَمَ أَنَّ الْقَوْمَ كَانُوا مُؤْمِنِينَ ثُمَّ ارْتَدُّوا إِلَى الْكُفْرِ فَأَقَامُوا عَلَيْهِ))، فيه نظر، إذ قولهم ذلك أنهم يستبطنون الكفر، ولو أنهم أظهروه لصاروا مرتدين .
[1/ 344]
قال الطبري:

((فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: إِنَّكَ ذَكَرْتَ أَنَّ مَعْنَى قَوْلِ اللَّهِ تَعَالَى ذِكْرُهُ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] خَمَدَتْ وَانْطَفَأَتْ، وَلَيْسَ ذَلِكَ بِمَوْجُودٍ فِي الْقُرْآنِ، فَمَا دَلَالَتُكَ عَلَى أَنَّ ذَلِكَ مَعْنَاهُ؟ قِيلَ: قَدْ قُلْنَا إِنَّ مِنْ شَأْنِ الْعَرَبِ الْإِيجَازَ وَالِاخْتِصَارَ إِذَا كَانَ فِيمَا نَطَقَتْ بِهِ الدَّلَالَةُ الْكَافِيَةُ عَلَى مَا حَذَفَتْ وَتَرَكَتْ، كَمَا قَالَ أَبُو ذُؤَيْبٍ الْهُذَلِيُّ:
عَصَيْتُ إِلَيْهَا الْقَلْبَ إِنِّي لِأَمْرِهَا ... سَمِيعٌ فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا
يَعْنِي بِذَلِكَ: فَمَا أَدْرِي أَرُشْدٌ طِلَابُهَا أَمْ غَيٌّ، فَحَذَفَ ذِكْرَ أَمْ غَيٌّ، إِذْ كَانَ فِيمَا نَطَقَ بِهِ الدَّلَالَةُ عَلَيْهَا. وَكَمَا قَالَ ذُو الرُّمَّةِ فِي نَعْتِ حَمِير:
فَلَمَّا لَبِسْنَ اللَّيْلَ أَوْ حِينَ نَصَّبَتْ ... لَهُ مِنْ خَذَا آذَانِهَا وَهُوَ جَانِحُ
يَعْنِي: أَوْ حِينَ أَقْبَلَ اللَّيْلُ. فِي نَظَائِرَ لِذَلِكَ كَثِيرَةٍ كَرِهْنَا إِطَالَةَ الْكِتَابِ بِذِكْرِهَا. فَكَذَلِكَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ} [البقرة: 17] لَمَّا كَانَ فِيهِ وَفِيمَا بَعْدَهُ مِنْ قَوْلِهِ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] دَلَالَةٌ عَلَى الْمَتْرُوكِ كَافِيَةٌ مِنْ ذِكْرِهِ اخْتَصَرَ الْكَلَامَ طَلَبَ الْإِيجَازِ. وَكَذَلِكَ حَذَفَ مَا حَذَفَ وَاخْتِصَارُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مَثَلِ الْمُنَافِقِينَ بَعْدَهُ، نَظِيرُ مَا اخْتَصَرَ مِنَ الْخَبَرِ عَنْ مِثْلِ الْمُسْتَوْقِدِ النَّارَ؛ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: فَكَذَلِكَ الْمُنَافِقُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ بَعْدَ الضِّيَاءِ الَّذِي كَانُوا فِيهِ فِي الدُّنْيَا بِمَا كَانُوا يُظْهِرُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ مِنَ الْإِقْرَارِ بِالْإِسْلَامِ وَهُمْ لِغَيْرِهِ مُسْتَبْطِنُونَ، كَمَا ذَهَبَ ضَوْءُ نَارِ هَذَا الْمُسْتَوْقِدِ بِانْطِفَاءِ نَارِهِ وَخُمُودِهَا فَبَقِيَ فِي ظُلْمَةٍ لَا يُبْصِرُ، وَالْهَاءُ وَالْمِيمُ فِي قَوْلِهِ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ} [البقرة: 17] عَائِدَةٌ عَلَى الْهَاءِ وَالْمِيمِ فِي قَوْلِهِ: {مَثَلُهُمْ} [البقرة: 17].)).

التعليق:

ذكر الطبري أن جواب {فلما أضاءت} محذوف، واحتج بأن العرب تختصر ما دل عليه الكلام، وقد اعترض على هذا القول ابن عطية وقال:(وهذا القول غير قوي)[SUP]([3])[/SUP]، ونصر قول الطبري الزمخشري، وانتقد قول الزمخشري أبو حيان في البحر[SUP]([4])[/SUP]، فقال:
((وَقَوْلُهُ: مَعَ أَمْنِ الْإِلْبَاسِ، وَهَذَا أَيْضًا غَيْرُ مُسَلَّمٍ، وَأَيُّ أَمْنِ إِلْبَاسٍ فِي هَذَا وَلَا شَيْءَ يَدُلُّ عَلَى الْمَحْذُوفِ؟ بَلِ الَّذِي يَقْتَضِيهِ تَرْتِيبُ الْكَلَامِ وَصِحَّتُهُ وَوَضْعُهُ مَوَاضِعَهُ أَنْ يَكُونَ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ هُوَ الْجَوَابُ، فَإِذَا جَعَلْتَ غَيْرَهُ الْجَوَابَ مَعَ قُوَّةِ تَرَتُّبِ ذَهَابِ اللَّهِ بِنُورِهِمْ عَلَى الْإِضَاءَةِ، كَانَ ذَلِكَ مِنْ بَابِ اللُّغْزِ، إِذْ تَرَكْتَ شَيْئًا يُبَادَرُ إِلَى الْفَهْمِ وَأَضْمَرْتَ شَيْئًا يَحْتَاجُ فِي تَقْدِيرِهِ إِلَى وَحْيٍ يُسْفِرُ عَنْهُ، إِذْ لَا يَدُلُّ عَلَى حَذْفِهِ اللَّفْظَ مَعَ وُجُودِ تَرْكِيبِ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ.
وَلَمْ يَكْتَفِ الزَّمَخْشَرِيُّ بِأَنْ جَوَّزَ حَذْفُ هَذَا الْجَوَابِ حَتَّى ادَّعَى أَنَّ الْحَذْفَ أَوْلَى، قَالَ: وَكَانَ الْحَذْفُ أَوْلَى مِنَ الْإِثْبَاتِ، لِمَا فِيهِ مِنَ الْوَجَازَةِ مَعَ الْإِعْرَابِ عَنِ الصِّفَةِ الَّتِي حَصَلَ عَلَيْهَا الْمُسْتَوْقِدُ بِمَا هُوَ أَبْلَغُ لِلَّفْظِ فِي أَدَاءِ الْمَعْنَى، كَأَنَّهُ قِيلَ: فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ خُمِدَتْ، فَبَقُوا خَابِطِينَ فِي ظَلَامٍ، مُتَحَيِّرِينَ مُتَحَسِّرِينَ عَلَى فَوْتِ الضَّوْءِ، خَائِبِينَ بَعْدَ الْكَدْحِ فِي إِحْيَاءِ النَّارِ، انْتَهَى. وَهَذَا الَّذِي ذَكَرَهُ نَوْعٌ مِنَ الْخَطَابَةِ لَا طائل تحتها، لأنه كان يُمْكِنُ لَهُ ذَلِكَ لَوْ لَمْ يَكُنْ يَلِي قَوْلَهُ: فَلَمَّا أَضاءَتْ مَا حَوْلَهُ، قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ. وَأَمَّا مَا فِي كَلَامِهِ بَعْدَ تَقْدِيرِ خُمِدَتْ إِلَى آخِرِهِ، فَهُوَ مِمَّا يُحَمِّلُ اللَّفْظَ مَا لَا يَحْتَمِلُهُ، وَيُقَدِّرُ تَقَادِيرَ وَجُمَلًا مَحْذُوفَةً لَمْ يَدُلَّ عَلَيْهَا الْكَلَامُ، وَذَلِكَ عَادَتُهُ فِي غَيْرِ مَا كَلَامٍ فِي مُعْظَمِ تَفْسِيرِهِ، وَلَا يَنْبَغِي أَنْ يُفَسَّرَ كَلَامُ اللَّهِ بِغَيْرِ مَا يَحْتَمِلُهُ، وَلَا أَنْ يُزَادَ فِيهِ، بَلْ يَكُونُ الشَّرْحُ طِبْقَ الْمَشْرُوحِ مِنْ غَيْرِ زِيَادَةٍ عَلَيْهِ وَلَا نقص منه.)).
وهذا الاعتراض متين، وهذه الآية مما يصلح للبحث المفرد لتعدد الجوانب فيها.
وكلام أبي حيان أولى من كلام الطبري والزمخشري، وكلام أبي حيان وغيره منسوب إلى جمهور المفسرين، والقاعدة أن الأمر إذا دار بين التقدير وعدمه، فيقدم عدم التقدير، وكما ذكر أبو حيان أن الكلام مستقيم بغير حذف .
وهنا يظهر اختلاف الإعراب باختلاف المعنى .
فائدة:

أبو حيان رحمه الله، كان يتحامل على الزمخشري، وقد كان أبو حيان قد دخل إلى كتاب الزمخشري من باب النقد .
وهذا قد لاحظته على بعض المشايخ الفضلاء في تدريسه لتفسير الجلالين فيستدرك على ما لا وجه في استدراكه عليه.
ولذا لا ينبغي علينا القراءة بعين النقد فقط، وإنما بعين الحرص على الاستفادة والنقد معاً، حتى يكون لدينا أخلاق الكبار من العدل والإنصاف في تعاملنا حتى مع المخالفين.

(1) نبه الشيخ على أهمية الرجوع إلى السياق فيما رجحه الطبري، وأنه ينبغي على الباحث أن يتنبه إلى ذلك .
(2) تفسير ابن كثير: (1/ 187).
(3) المحرر الوجيز (1/ 100).
(4) البحر المحيط: (1/ 129).
 
وفقكم الله ونفع بكم، ولو ألحقتم بهذه المجموعة آخر درس في هذه الدورة والذي أقيم البارحة إلى حين الاستئناف في شهر ذي القعدة بحول الله.
 
التعليق على تفسير ابن جرير الطبري المجلس الحادي والعشرون: (6 - 7 - 1435)
التاريخ: 13 - 7 - 1435 الموافق 12/05/2014


اعتنى به: عمرو الشرقاوي
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعد:
[1/ 345]
قال الطبري رحمه الله:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَإِذْ كَانَ تَأْوِيلُ قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ} [البقرة: 17] هُوَ مَا وَصَفْنَا مِنْ أَنَّ ذَلِكَ خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَمَّا هُوَ فَاعِلٌ بِالْمُنَافِقِينَ فِي الْآخِرَةِ، عِنْدَ هَتْكِ أَسْتَارِهِمْ، وَإِظْهَارِهِ فَضَائِحَ أَسْرَارِهِمْ، وَسَلْبِهِ ضِيَاءَ أَنْوَارِهِمْ مِنْ تَرْكِهِمْ فِي ظُلَمِ أَهْوَالِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ يَتَرَدَّدُونَ، وَفِي حَنَادِسِهَا لَا يُبْصِرُونَ؛ فَبَيَّنَ أَنَّ قَوْلَهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] مِنَ الْمُؤَخَّرِ الَّذِي مَعْنَاهُ التَّقْدِيمُ، وَأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ: أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ، صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ؛ مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لَا يُبْصِرُونَ، أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ. وَإِذْ كَانَ ذَلِكَ مَعْنَى الْكَلَامِ، فَمَعْلُومٌ أَنَّ قَوْلَهُ: {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] يَأْتِيهِ الرَّفْعُ مِنْ وَجْهَيْنِ، وَالنَّصْبُ مِنْ وَجْهَيْنِ. فَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ الرَّفْعِ، فَعَلَى الِاسْتِئْنَافِ لِمَا فِيهِ مِنَ الذَّمِّ، وَقَدْ تَفْعَلُ الْعَرَبُ ذَلِكَ فِي الْمَدْحِ وَالذَّمِّ، فَتَنْصِبُ وَتَرْفَعُ وَإِنْ كَانَ خَبَرًا عَنْ مَعْرِفَةٍ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
لَا يَبْعَدَنْ قَوْمِي الَّذِينَ هُمُ ... سُمُّ الْعُدَاةِ وَآفَةُ الْجُزْرِ
النَّازِلِينَ بِكُلِّ مُعْتَرَكٍ ... وَالطَّيِّبِينَ مَعَاقِدَ الْأُزُرِ
فَيُرْوَى: النَّازِلُونَ وَالنَّازِلِينَ؛ وَكَذَلِكَ الطَّيِّبُونَ وَالطَّيِّبِينَ، عَلَى مَا وَصَفْتُ مِنَ الْمَدْحِ. وَالْوَجْهُ الْآخَرُ عَلَى نِيَّةِ التَّكْرِيرِ مِنْ أُولَئِكَ، فَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ حِينَئِذٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] أُولَئِكَ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] . وَأَمَّا أَحَدُ وَجْهَيِ النَّصْبِ، فَأَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِمَّا فِي مُهْتَدِينَ، مِنْ ذِكْرِ أُولَئِكَ، لِأَنَّ الَّذِي فِيهِ مِنْ ذِكْرِهِمْ مَعْرِفَةٌ، وَالصُّمُّ نَكِرَةٌ. وَالْآخَرُ أَنْ يَكُونَ قَطْعًا مِنَ الَّذِينَ، لِأَنَّ الَّذِينَ مَعْرِفَةٌ وَالصُّمُّ نَكِرَةٌ. وَقَدْ يَجُوزُ النَّصْبُ فِيهِ أَيْضًا عَلَى وَجْهِ الذَّمِّ فَيَكُونُ ذَلِكَ وَجْهًا مِنَ النَّصْبِ ثَالِثًا. فَأَمَّا عَلَى تَأْوِيلِ مَا رُوِّينَا عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ مِنْ غَيْرِ وَجْهٍ رِوَايَةَ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ عَنْهُ، فَإِنَّهُ لَا يَجُوزُ فِيهِ الرَّفْعُ إِلَّا مِنْ وَجْهٍ وَاحِدٍ وَهُوَ الِاسْتِئْنَافُ.
وَأَمَّا النَّصْبُ فَقَدْ يَجُوزُ فِيهِ مِنْ وَجْهَيْنِ: أَحَدُهُمَا الذَّمُّ، وَالْآخَرُ الْقَطْعُ مِنَ الْهَاءِ وَالْمِيمِ اللَّتَيْنِ فِي {وَتَرَكَهُمْ} [البقرة: 17] أَوْ مِنْ ذِكْرِهِمْ فِي لَا يُبْصِرُونَ. وَقَدْ بَيَّنَّا الْقَوْلَ الَّذِي هُوَ أَوْلَى بِالصَّوَابِ فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ. وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ الرَّفْعُ دُونَ النَّصْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ خِلَافُ رُسُومِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا قُرِئَ نَصْبًا كَانَتْ قِرَاءَةً مُخَالِفَةً رَسْمَ مَصَاحِفِهِمْ. قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَهَذَا خَبَرٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنِ الْمُنَافِقِينَ، أَنَّهُمْ بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، لَمْ يَكُونُوا لِلْهُدَى وَالْحَقِّ مُهْتَدِينَ، بَلْ هُمْ صُمٌّ عَنْهُمَا فَلَا يَسْمَعُونَهُمَا لِغَلَبَةِ خُذْلَانِ اللَّهِ عَلَيْهِمْ، بُكْمٌ عَنِ الْقِيلِ بِهِمَا، فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِمَا، وَالْبُكْمُ: الْخُرْسُ، وَهُوَ جَمْعُ أَبْكَمَ عُمْيٌ عَنْ أَنْ يُبْصِرُوهُمَا فَيَعْقِلُوهُمَا؛ لِأَنَّ اللَّهَ قَدْ طَبَعَ عَلَى قُلُوبِهِمْ بِنِفَاقِهِمْ فَلَا يَهْتَدُونَ. وَبِمِثْلِ مَا قُلْنَا فِي ذَلِكَ قَالَ عُلَمَاءُ أَهْلِ التَّأْوِيلِ.
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] عَنِ الْخَيْرِ ".
وبإسناده، عَنْ عَلِيِّ بْنِ أَبِي طَلْحَةَ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] يَقُولُ: لَا يَسْمَعُونَ الْهُدَى، وَلَا يُبْصِرُونَهَ وَلَا يَعْقِلُونَهَ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {بُكْمٌ} [البقرة: 18] هُمُ الْخُرْسُ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، قَوْلُهُ: " {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ} [البقرة: 18] صُمٌّ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَسْمَعُونَهُ، عُمْيٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يُبْصِرُونَهُ، بُكْمٌ عَنِ الْحَقِّ فَلَا يَنْطِقُونَ بِهِ ".)).

التعليق:

في الآية مسائل:
1- ذكر الله أن منافذ العلم الثلاثة توقفت عند هؤلاء المنافقين .
2- جعل الطبري رحمه الله ذهاب نور الآخرة في الآخرة، وجعله هذا يقول بأنه من المؤخر الذي معناه التقديم، ولهذا ربط قوله تعالى: {صم بكم عمي}، بقوله: {أولئك الذين اشتروا الضلالة بالهدى فما ربحت تجارتهم وما كانوا مؤمنين}.
((فَيَكُونُ الْمَعْنِيُّ حِينَئِذٍ: {أُولَئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى فَمَا رَبِحَتْ تِجَارَتُهُمْ وَمَا كَانُوا مُهْتَدِينَ} [البقرة: 16] أُولَئِكَ {صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] .)).
والطبري في مثل هذا يعترض على غيره، إذ ليس في الكلام ما يدل على ما ذهب إليه إلا ما تأوله من أن ذلك في الآخرة، ولو جعل الكلام في الدنيا لاستقام ولما احتجنا إلى مثل هذا التقديم والتأخير .
3- وقد بنى الطبري الإعراب على المعنى في الآية، ففيه استنباط الإعراب من كلام المفسر .
4- قوله: ((وَالْقِرَاءَةُ الَّتِي هِيَ الْقِرَاءَةُ الرَّفْعُ دُونَ النَّصْبِ لِأَنَّهُ لَيْسَ لِأَحَدٍ خِلَافُ رُسُومِ مَصَاحِفِ الْمُسْلِمِينَ، وَإِذَا قُرِئَ نَصْبًا كَانَتْ قِرَاءَةً مُخَالِفَةً رَسْمَ مَصَاحِفِهِمْ.)).
وهذا ضابط مهم، فإن الآية رسمت على الرفع لا النصب، والقراءة المعتبرة على الرفع[SUP]([1])[/SUP] .
[1/ 348]
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَقَوْلُهُ: {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] إِخْبَارٌ مِنَ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ عَنْ هَؤُلَاءِ الْمُنَافِقِينَ الَّذِينَ نَعَتَهُمُ اللَّهُ بِاشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى، وَصَمَمِهِمْ عَنْ سَمَاعِ الْخَيْرِ وَالْحَقِّ، وَبَكَمِهِمْ عَنِ الْقِيلِ بِهِمَا، وَعَمَاهُمْ عَنْ إِبْصَارِهِمَا؛ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْإِقْلَاعِ عَنْ ضَلَالَتِهِمْ، وَلَا يَتُوبُونَ إِلَى الْإِنَابَةِ مِنْ نِفَاقِهِمْ، فَآيَسَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْ يُبْصِرَ هَؤُلَاءِ رُشْدًا، وَيَقُولُوا حَقًّا، أَوْ يَسْمَعُوا دَاعِيًا إِلَى الْهُدَى، أَوْ أَنْ يَذْكُرُوا فَيَتُوبُوا مِنْ ضَلَالَتِهِمْ، كَمَا آيَسَ مِنْ تَوْبَةِ قَادَةِ كُفَّارِ أَهْلِ الْكِتَابِ وَالْمُشْرِكِينَ وَأَحْبَارِهِمُ الَّذِينَ وَصَفَهُمْ بِأَنَّهُ قَدْ خَتَمَ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَغَشَّى عَلَى أَبْصَارِهِمْ. وَبِمِثْلِ الَّذِي قُلْنَا فِي تَأْوِيلِ ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
وبإسناده، عَنْ سَعِيدٍ، عَنْ قَتَادَةَ: " {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] أَيْ لَا يَتُوبُونَ وَلَا يَذْكُرُونَ ".
وبإسناده، عَنِ السُّدِّيِّ، فِي خَبَرٍ ذَكَرَهُ، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، وَعَنْ أَبِي صَالِحٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، وَعَنْ مُرَّةَ، عَنِ ابْنِ مَسْعُودٍ، وَعَنْ نَاسٍ مِنْ أَصْحَابِ النَّبِيِّ صَلَّى اللهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ: " {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] إِلَى الْإِسْلَامِ ".
وَقَدْ رُوِيَ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ قَوْلٌ يُخَالِفُ مَعْنَاهُ مَعْنَى هَذَا الْخَبَرِ،
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ أَوْ عَنْ سَعِيدِ بْنِ جُبَيْرٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ: " {فَهُمْ لَا يَرْجِعُونَ} [البقرة: 18] أَيْ فَلَا يَرْجِعُونَ إِلَى الْهُدَى وَلَا إِلَى خَيْرٍ، فَلَا يُصِيبُونَ نَجَاةَ مَا كَانُوا عَلَى مَا هُمْ عَلَيْهِ " وَهَذَا تَأْوِيلٌ ظَاهِرُ التِّلَاوَةِ بِخِلَافِهِ، وَذَلِكَ أَنَّ اللَّهَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَخْبَرَ عَنِ الْقَوْمِ أَنَّهُمْ لَا يَرْجِعُونَ عَنِ اشْتِرَائِهِمُ الضَّلَالَةَ بِالْهُدَى إِلَى ابْتِغَاءِ الْهُدَى وَإِبْصَارِ الْحَقِّ مِنْ غَيْرِ حَصْرٍ مِنْهُ جَلَّ ذِكْرُهُ ذَلِكَ مِنْ حَالِهِمْ إِلَى وَقْتٍ دُونَ وَقْتٍ وَحَالٍ دُونَ حَالٍ. وَهَذَا الْخَبَرُ الَّذِي ذَكَرْنَاهُ عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ يُنْبِئُ عَنْ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ صِفَتِهِمْ مَحْصُورٌ عَلَى وَقْتٍ وَهُوَ مَا كَانُوا عَلَى أَمْرِهِمْ مُقِيمِينَ، وَأَنَّ لَهُمُ السَّبِيلَ إِلَى الرُّجُوعِ عَنْهُ. وَذَلِكَ مِنَ التَّأْوِيلِ دَعْوَى بَاطِلَةٌ لَا دَلَالَةَ عَلَيْهَا مِنْ ظَاهِرٍ وَلَا مِنْ خَبَرٍ تَقُومُ بِمِثْلِهِ الْحُجَّةُ فَيُسَلِّمَ لَهَا.)).

التعليق:

يتجه الطبري في تفسيره إلى معنى أنهم لا يرجعون أبدًا، والرواية التي أوردها عن ابن عباس بصيغة التضعيف، واستدرك عليها، وقد جعلها مغياة بغاية، أي: أنهم لا يرجعون ما داموا على ما هم عليه من الضلالة، فإن رجعوا تاب الله عليهم .
وقد وجد في القرآن من جنس هذا الخطاب، كسورة الكافرون، فالمخاطب بهذه السورة كفار مكة، ونجد أن بعضهم أصرَّ على الكفر ومات عليه، وبعضهم هداه الله وأسلم.
إذاً من يخاطب بهذه الآية هو من تقوم الحجة عليه ويموت كافراً.
قال ابن عطية فيما يشبه الاستدراك على الطبري: ((قال بعض المفسرين قوله تعالى: {فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ} إخبار منه تعالى أنهم لا يؤمنون بوجه.
قال القاضي أبو محمد: وإنما كان يصح هذا أن لو كانت الآية في معينين، وقال غيره: معناه فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ ما داموا على الحال التي وصفهم بها، وهذا هو الصحيح، لأن الآية لم تعين، وكلهم معرض للرجوع مدعو إليه.)).
وكلام ابن عطية أقرب، والله أعلم .
ورأي الطبري : أنهم لا يرجعون أبداً، معناه ممكنٌ إذا بنيناه على رأيه سابقا في مسألة المؤخر الذي معناه التقديم، فيكون المعنى العام عنده: أن الله ذهب بنورهم في الآخرة، وأن الآية هنا جاءت في قومٍ قد ماتوا على النفاق.
[1/ 350]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرِ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ} [البقرة: 20] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَالصَّيِّبُ الْفَيْعِلُ، مِنْ قَوْلِكَ: صَابَ الْمَطَرُ يَصُوبُ صَوْبًا: إِذَا انْحَدَرَ وَنَزَلَ، كَمَا قَالَ الشَّاعِرُ:
فَلَسْتُ لِإِنْسِيٍّ وَلَكِنْ لِمَلَأَكٍ ... تَنْزِلُ مِنْ جَوِّ السَّمَاءِ يَصُوبُ
وَكَمَا قَالَ عَلْقَمَةُ بْنُ عَبَدَةَ:
كَأَنَّهُمْ صَابَ عَلَيْهِمْ سَحَابَةٌ ... صَوَاعِقُهَا لِطَيْرِهِنَّ دَبِيبُ
فَلَا تَعْدِلِي بَيْنِي وَبَيْنَ مُغَمَّرِ ... سُقِيتِ رَوَايَا الْمُزْنِ حِينَ تَصُوبُ
يَعْنِي: حِينَ تَنْحَدِرُ. وَهُوَ فِي الْأَصْلِ: صَيْوِبٌ، وَلَكِنَّ الْوَاوَ لَمَّا سَبَقَتْهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ صُيِّرَتَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً، كَمَا قِيلَ: سَيِّدٌ مِنْ سَادَ يَسُودُ، وَجَيِّدٌ مِنْ جَادَ يَجُودُ. وَكَذَلِكَ تَفْعَلُ الْعَرَبُ بِالْوَاوِ إِذَا كَانَتْ مُتَحَرِّكَةً وَقَبْلَهَا يَاءٌ سَاكِنَةٌ تُصَيِّرُهُمَا جَمِيعًا يَاءً مُشَدَّدَةً.
وَبِمَا قُلْنَا مِنَ الْقَوْلِ فِي ذَلِكَ قَالَ أَهْلُ التَّأْوِيلِ.
عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، " فِي قَوْلِهِ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] قَالَ: الْقَطْرُ ".
....
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: وَتَأْوِيلُ ذَلِكَ: مَثَلُ اسْتِضَاءَةِ الْمُنَافِقِينَ بِضَوْءِ إِقْرَارِهِمْ بِالْإِسْلَامِ مَعَ اسْتِسْرَارِهِمُ الْكُفْرَ، مَثَلُ إِضَاءَةِ مُوقِدِ النَّارِ بِضَوْءِ نَارِهِ عَلَى مَا وَصَفَ جَلَّ ثَنَاؤُهُ مِنْ صِفَتِهِ، أَوْ كَمَثَلِ مَطَرٍ مُظْلِمٍ وَدَقُهُ تَحَدَّرَ مِنَ السَّمَاءِ تَحْمِلُهُ مُزْنَةٌ ظَلْمَاءُ فِي لَيْلَةٍ مُظْلِمَةٍ، وَذَلِكَ هُوَ الظُّلُمَاتُ الَّتِي أَخْبَرَ اللَّهُ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنَّهَا فِيهِ.
فَإِنْ قَالَ لَنَا قَائِلٌ: أَخْبِرْنَا عَنْ هَذَيْنِ الْمَثَلَيْنِ، أَهُمَا مَثَلَانِ لِلْمُنَافِقِينَ أَوْ أَحَدُهُمَا؟ فَإِنْ يَكُونَا مَثَلَيْنِ لِلْمُنَافِقِينَ فَكَيْفَ قِيلَ: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] وَأَوْ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكِّ فِي الْكَلَامِ، وَلَمْ يَقُلْ: وَكَصَيِّبٍ، بِالْوَاوِ الَّتِي تُلْحِقُ الْمَثَلَ الثَّانِي بِالْمَثَلِ الْأَوَّلِ؟ أَوْ يَكُونُ مَثَلُ الْقَوْمِ أَحَدُهُمَا، فَمَا وَجْهُ ذِكْرِ الْآخَرِ بِأَوْ، وَقَدْ عَلِمْتَ أَنَّ أَوْ إِذَا كَانَتْ فِي الْكَلَامِ فَإِنَّمَا تَدْخُلُ فِيهِ عَلَى وَجْهِ الشَّكِّ مِنَ الْمُخْبِرِ فِيمَا أَخْبَرَ عَنْهُ، كَقَوْلِ الْقَائِلِ: لَقِيَنِي أَخُوكَ أَوْ أَبُوكَ، وَإِنَّمَا لَقِيَهُ أَحَدُهُمَا، وَلَكِنَّهُ جَهِلَ عَيْنَ الَّذِي لَقِيَهُ مِنْهُمَا، مَعَ عِلْمِهِ أَنَّ أَحَدَهُمَا قَدْ لَقِيَهُ؛ وَغَيْرُ جَائِزٍ فِي اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ أَنْ يُضَافَ إِلَيْهِ الشَّكُّ فِي شَيْءٍ أَوْ عُزُوبُ عِلْمِ شَيْءٍ عَنْهُ فِيمَا أَخْبَرَ أَوْ تَرَكَ الْخَبَرَ عَنْهُ.
قِيلَ لَهُ: إِنَّ الْأَمْرَ فِي ذَلِكَ بِخِلَافِ الَّذِي ذَهَبْتَ إِلَيْهِ، وَأَوْ وَإِنْ كَانَتْ فِي بَعْضِ الْكَلَامِ تَأْتِي بِمَعْنَى الشَّكِّ، فَإِنَّهَا قَدْ تَأْتِي دَالَّةً عَلَى مِثْلِ مَا تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ إِمَّا بِسَابِقٍ مِنَ الْكَلَامِ قَبْلَهَا، وَإِمَّا بِمَا يَأْتِي بَعْدَهَا كَقَوْلِ تَوْبَةَ بْنِ الْحُمَيِّرِ:
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيْلَى بِأَنِّي فَاجِرٌ ... لِنَفْسِي تُقَاهَا أَوْ عَلَيْهَا فُجُورُهَا
وَمَعْلُومٌ أَنَّ ذَلِكَ مِنْ تَوْبَةَ عَلَى غَيْرِ وَجْهِ الشَّكِّ فِيمَا قَالَ، وَلَكِنْ لَمَّا كَانَتْ أَوْ فِي هَذَا الْمَوْضِعِ دَالَّةً عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ لَوْ كَانَتْ مَكَانَهَا، وَضَعَهَا مَوْضِعَهَا. وَكَذَلِكَ قَوْلُ جَرِيرٍ:
جَاءَ الْخِلَافَةَ أَوْ كَانَتْ لَهُ قَدَرًا ... كَمَا أَتَى رَبَّهُ مُوسَى عَلَى قَدَرِ
وَكَمَا قَالَ الْآخَرُ:
فَلَوْ كَانَ الْبُكَاءُ يَرُدُّ شَيْئًا ... بَكَيْتُ عَلَى جُبَيْرٍ أَوْ عَنَاقِ
عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيَا جَمِيعًا ... لِشَأْنِهِمَا بِحُزْنٍ وَاشْتِيَاقِ
فَقَدْ دَلَّ بِقَوْلِهِ: عَلَى الْمَرْأَيْنِ إِذْ مَضَيَا جَمِيعًا، أَنَّ بُكَاءَهُ الَّذِي أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَهُ لَمْ يُرِدْ أَنْ يَقْصِدَ بِهِ أَحَدَهُمَا دُونَ الْآخَرِ، بَلْ أَرَادَ أَنْ يَبْكِيَهُمَا جَمِيعًا. فَكَذَلِكَ ذَلِكَ فِي قَوْلِ اللَّهِ جَلَّ ثَنَاؤُهُ: {أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ} [البقرة: 19] لَمَّا كَانَ مَعْلُومًا أَنَّ أَوْ دَالَّةٌ فِي ذَلِكَ عَلَى مِثْلِ الَّذِي كَانَتْ تَدُلُّ عَلَيْهِ الْوَاوُ، وَلَوْ كَانَتْ مَكَانَهَا كَانَ سَوَاءً نَطَقَ فِيهِ بِأَوْ أَوْ بِالْوَاوِ. وَكَذَلِكَ وَجْهُ حَذْفِ الْمِثْلِ مِنْ قَوْلِهِ: {أَوْ كَصَيِّبٍ} [البقرة: 19] لَمَّا كَانَ قَوْلُهُ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] دَالًّا عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: كَمَثَلِ صَيِّبٍ، حَذَفَ الْمِثْلَ وَاكْتَفَى بِدَلَالَةِ مَا مَضَى مِنَ الْكَلَامِ فِي قَوْلِهِ: {كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَارًا} [البقرة: 17] عَلَى أَنَّ مَعْنَاهُ: أَوْ كَمَثَلِ صَيِّبٍ، مِنْ إِعَادَةِ ذِكْرِ الْمِثْلِ طَلَبُ الْإِيجَازِ وَالِاخْتِصَارِ)).

التعليق:
أطال الطبري في تحليل لفظة (أو)، واختار أن تكون بمعنى الواو، وعلق ابن عطية، فقال: ((أَوْ للتخيير، معناه مثلوهم بهذا أو بهذا، لا على الاقتصار على أحد الأمرين، وقوله: أَوْ كَصَيِّبٍ معطوف على كَمَثَلِ الَّذِي. وقال الطبري: أَوْ بمعنى الواو.
قال القاضي أبو محمد: وهذه عجمة))[SUP]([2])[/SUP].
وقال السمين: ((في «أو» خمسة أقوال، أظهرهُا: أنها للتفصيلِ بمعنى أنَّ الناظرينَ في حالِ هؤلاء منهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بحال المستوقدِ الذي هذه صفتُهُ، ومنهم مَنْ يُشَبِّهُهُمْ بأصحاب صَيِّبٍ هذه صفتُه.))[SUP]([3])[/SUP].
وأثر المسألة أن الوصفين متطابقان، لكن اختلفت طريقتهما، فالمتحدث عنه في المثلين واحد .
والذي اختاره ابن عطية يؤول إلى ما اختاره الطبري في نهاية الأمر .
[1/ 356]
قال الطبري:
((الْقَوْلُ فِي تَأْوِيلِ قَوْلِهِ تَعَالَى: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا} [البقرة: 20] قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَأَمَّا الظُّلُمَاتُ فَجَمْعٌ، واَحِدُهَا ظُلْمَةٌ؛ وَأَمَّا الرَّعْدُ فَإِنَّ أَهْلَ الْعِلْمِ اخْتَلَفُوا فِيهِ؛ فَقَالَ بَعْضُهُمْ: هُوَ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ.
ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ، وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: «الرَّعْدُ مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِصَوْتِهِ».
وبإسناده، عَنْ أَبِي صَالِحٍ، قَالَا: «الرَّعْدُ مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ يُسَبِّحُ».
وبإسناده، عَنْ شَهْرِ بْنِ حَوْشَبٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ مُوَكَّلٌ بِالسَّحَابِ، يَسُوقُهُ كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الْإِبِلَ، يُسَبِّحُ كُلَّمَا خَالَفَتْ سَحَابَةٌ سَحَابَةً صَاحَ بِهَا، فَإِذَا اشْتَدَّ غَضَبُهُ طَارَتِ النَّارُ مِنْ فِيهِ فَهِيَ الصَّوَاعِقُ الَّتِي رَأَيْتُمْ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ مِنَ الْمَلَائِكَةِ اسْمُهُ الرَّعْدُ، وَهُوَ الَّذِي تَسْمَعُونَ صَوْتَهُ ".
وبإسناده، عَنْ أَبِي مَالِكٍ، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ بِالتَّسْبِيحِ وَالتَّكْبِيرِ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: اسْمُ مَلَكٍ، وَصَوْتُهُ هَذَا تَسْبِيحُهُ، فَإِذَا اشْتَدَّ زَجْرُهُ السَّحَابَ اضْطَرَبَ السَّحَابُ وَاحْتَكَّ فَتَخْرُجُ الصَّوَاعِقُ مِنْ بَيْنِهِ ".
وبإسناده، عَنِ ابْنِ عَبَّاسٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ بِالتَّسْبِيحِ، كَمَا يَسُوقُ الْحَادِي الْإِبِلَ بِحُدَائِهِ ".
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَزْجُرُ السَّحَابَ ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ فِي السَّحَابِ يَجْمَعُ السَّحَابَ كَمَا يَجْمَعُ الرَّاعِي الْإِبِلَ ".
وبإسناده، عَنْ قَتَادَةَ، قَالَ: " الرَّعْدُ: خَلْقٌ مِنْ خَلْقِ اللَّهِ جَلَّ وَعَزَّ سَامِعٌ مُطِيعٌ لِلَّهِ جَلَّ وَعَزَّ ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: «إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يُؤْمَرُ بِإِزْجَاءِ السَّحَابِ فَيُؤَلِّفُ بَيْنَهُ، فَذَلِكَ الصَّوْتُ تَسْبِيحُهُ».
وبإسناده، عَنْ مُجَاهِدٍ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ ".
وبإسناده، عَنِ الْمُغِيرَةِ بْنِ سَالِمٍ، عَنْ أَبِيهِ، أَوْ غَيْرِهِ، أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ ".
وبإسناده، عن مُوسَى بْن سَالِمٍ أَبُو جَهْضَمٍ، مَوْلَى ابْنِ عَبَّاسٍ قَالَ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلَدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّعْدِ؟ فَقَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ "
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: " الرَّعْدُ: مَلَكٌ يَسُوقُ السَّحَابَ كَمَا يَسُوقُ الرَّاعِي الْإِبِلَ ".
وبإسناده، عَنْ عِكْرِمَةَ، قَالَ: كَانَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِذَا سَمِعَ الرَّعْدَ قَالَ: «سُبْحَانَ الَّذِي سَبَّحْتَ لَهُ» قَالَ: وَكَانَ يَقُولُ: «إِنَّ الرَّعْدَ مَلَكٌ يَنْعِقُ بِالْغَيْثِ كَمَا يَنْعِقُ الرَّاعِي بِغَنَمِهِ».
وَقَالَ آخَرُونَ: إِنَّ الرَّعْدَ: رِيحٌ تَخْتَنِقُ تَحْتَ السَّحَابِ، فَتَصَاعَدُ فَيَكُونُ مِنْهُ ذَلِكَ الصَّوْتُ، ذِكْرُ مَنْ قَالَ ذَلِكَ.
وبإسناده، عَنْ أَبِي كَثِيرٍ، قَالَ: " كُنْتُ عِنْدَ أَبِي الْجَلَدِ، إِذْ جَاءَهُ رَسُولُ ابْنِ عَبَّاسٍ بِكِتَابٍ إِلَيْهِ، فَكَتَبَ إِلَيْهِ: " كَتَبْتَ تَسْأَلُنِي عَنِ الرَّعْدِ، فَالرَّعْدُ: الرِّيحُ ".
وبإسناده، عَنِ الْحَسَنِ بْنِ الْفُرَاتِ، عَنْ أَبِيهِ، قَالَ كَتَبَ ابْنُ عَبَّاسٍ إِلَى أَبِي الْجَلْدِ يَسْأَلُهُ عَنِ الرَّعْدِ، فَقَالَ: " الرَّعْدُ: رِيحٌ ".
قَالَ أَبُو جَعْفَرٍ: فَإِنْ كَانَ الرَّعْدُ مَا ذَكَرَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ وَمُجَاهِدٌ، فَمَعْنَى الْآيَةِ: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَصَوْتُ رَعْدٍ؛ لِأَنَّ الرَّعْدَ إِنْ كَانَ مَلَكًا يَسُوقُ السَّحَابَ، فَغَيْرُ كَائِنٍ فِي الصَّيِّبِ؛ لِأَنَّ الصَّيِّبَ إِنَّمَا هُوَ مَا تَحَدَّرَ مِنْ صَوْبِ السَّحَابِ؛ وَالرَّعْدُ: إِنَّمَا هُوَ فِي جَوِّ السَّمَاءِ يَسُوقُ السَّحَابَ، عَلَى أَنَّهُ لَوْ كَانَ فِيهِ يَمُرُّ لَمْ يَكُنْ لَهُ صَوْتٌ مَسْمُوعٌ، فَلَمْ يَكُنْ هُنَالِكَ رُعْبٌ يُرْعَبُ بِهِ أَحَدٌ؛ لِأَنَّهُ قَدْ قِيلَ: إِنَّ مَعَ كُلِّ قَطْرَةٍ مِنْ قَطْرِ الْمَطَرِ مَلَكًا، فَلَا يَعْدُو الْمَلَكُ الَّذِي اسْمُهُ الرَّعْدُ لَوْ كَانَ مَعَ الصَّيِّبِ إِذَا لَمْ يَكُنْ مَسْمُوعًا صَوْتُهُ أَنْ يَكُونَ كَبَعْضِ تِلْكَ الْمَلَائِكَةِ الَّتِي تَنْزِلُ مَعَ الْقَطْرِ إِلَى الْأَرْضِ فِي أَنْ لَا رُعْبَ عَلَى أَحَدٍ بِكَوْنِهِ فِيهِ. فَقَدْ عُلِمَ إِذْ كَانَ الْأَمْرُ عَلَى مَا وَصَفْنَا مِنْ قَوْلِ ابْنِ عَبَّاسٍ أَنَّ مَعْنَى الْآيَةِ: أَوْ كَمَثَلِ غَيْثٍ تَحَدَّرَ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَصَوْتُ رَعْدٍ؛ إِنْ كَانَ الرَّعْدُ هُوَ مَا قَالَهُ ابْنُ عَبَّاسٍ، وَإِنَّهُ اسْتَغْنَى بِدَلَالَةِ ذِكْرِ الرَّعْدِ بِاسْمِهِ عَلَى الْمُرَادِ فِي الْكَلَامِ مِنْ ذِكْرِ صَوْتِهِ. وَإِنْ كَانَ الرَّعْدُ مَا قَالَهُ أَبُو الْجَلْدِ فَلَا شَيْءَ فِي قَوْلِهِ: {فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ} [البقرة: 19] مَتْرُوكٌ لِأَنَّ مَعْنَى الْكَلَامِ حِينَئِذٍ: فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ الَّذِي هُوَ وَمَا وَصَفْنَا صِفَتَهُ.)).

التعليق:

جمهور السلف على تفسير الرعد بأنه ملك يزجر السحاب، وفسره بعضهم بما هو لازم عمل الملك وأثره في السحاب، فلا يخرج تفسيرهم عن ذلك .
وهذا لا يخالف ما يدعيه علماء الفلك اليوم، لأنهم يتكلمون عن آثار لا تعارض ما جاء عن السلف، ولا يقبل قولهم في نفي أن يكون الرعد ملك، لأنهم لا يثبتون إلا ما يستطيعون إدراكه، وهذا مما لم يدركوه .
وكون الرعد ملكاً لا يدرك إلا بأثرٍ، ومجيئه عن السلف يؤكد بأن لديهم في ذلك خبرٌ منقول.
وعلى ذلك لكن لا يقبل أي قول مخالف في نفي كون الرعد ملكاً؛ لأن إثبات ذلك أو نفيه لا يمكن بالإدراك، وإنما بالأثر كما جاء عن السلف.
والحمد لله رب العالمين .


(1) نبه الشيخ على مسألة دقيقة في علوم القرآن، فلتراجع في المادة الصوتية فإنها مهمة .
(2) المحرر الوجيز: (1/ 101).
(3) الدر المصون: (1/ 167).
 
عودة
أعلى