التدبر أفقي وعمودي

أبو عبد المعز

Active member
إنضم
20/04/2003
المشاركات
714
مستوى التفاعل
35
النقاط
28
لكي يكون تدبر القرآن مثمرا يتعين الجمع بين التدبر الأفقي والتدبر العمودي:

- نعني بالأفقي القراءة المعتادة التي تراعي السياق الخطي فتفهم الكلمة من خلال ما سبقها وما لحق بها ، كما في حالة الإعراب فلا تتحدد وظيفة الكلمة أو العبارة إلا بملاحظة علاقتها بالسابق واللاحق ، فلا يفهم معنى الضمير"هو" إلا بتحديد مرجعه المذكورسابقا ولا يفهم معنى ضمير الشأن "هو"إلا برصد مرجعه المذكور لاحقا..وهكذا في كل مكونات الجملة والنص.

- نعني بالعمودي فهم الكلمة أو العبارة بما ورد في سورة أخرى ، فقد تقرأ عبارة في آية فتذكرك بعبارة مشابهة أو مقابلة في سورة أخرى ، وعند المقارنة ستكتشف دلالات جديدة ما كان لك أن تعلمها لو ظللت حبيس العلاقات الأفقية فقط...

ومن كتب التراث التي اعتنت بالعلاقات العمودية في التفسير نذكر كتابين :( ملاك التأويل القاطع بذوي الإلحاد والتعطيل في توجيه المتشابه اللفظ من آي التنزيل) لأبي جعفر أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي الغرناطي 627 ـ 708 هـ ...وكتاب ( درة التنزيل وغرة التأويل) لأبي عبد الله محمد بن عبد الله الأصبهاني المعروف بالخطيب الإسكافي (المتوفى: 420هـ) ....وهما في نظري أفضل كتابين في التفسير البلاغي بعد أن انساق البلاغيون إلى التوبيب والاصطلاح والتقعيد..

ومن العبارات المطردة في الكتابين -التي تشهد على النهج العمودي -:" لماذا قال هنا كذا وقال هناك كذا"...وهذا نموذج من (درة التنزيل):

(سورة الفرقان

الآية الأولى منها

قوله تعالى: (وَاتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَا يَخْلُقُونَ شَيْئًا وَهُمْ يُخْلَقُونَ وَلَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَلَا نَفْعًا وَلَا يَمْلِكُونَ مَوْتًا وَلَا حَيَاةً وَلَا نُشُورًا .

وقال قبله في سورة الرعد، وكان حكم هذه الآية أن تذكر هناك: (قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَفَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِيَاءَ لَا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعًا وَلَا ضَرًّا ... )

للسائل أن يسأل عن تقديم "نفع" على "ضر" في سورة الرعد، وعكس ذلك في سورة الفرقان، وما الذي أوجب هذا الاختلاف؟.

والجواب.....الخ)

هذا هو التدبر العمودي تفهم آية في سورة على ضوء آية في سورة أخرى.

2-

لمزيد من البيان نورد مثالا من تدبرنا لخاتمة سورة الأعلى:

إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى [الأعلى : 18-19]

اسم الإشارة "هذا" لا يكتسب معناه إلا بالقراءة الأفقية، أي بقراءة ما جاء سابقا عليه ، وقد ذهب بعض المفسرين إلى أن المشار إليه جميع ما في السورة، وذهب بعضهم ألى أنه

(قَدْ أَفْلَحَ منْ تَزَكَّى)، أو (خَيْرٌ وَأَبْقَى) قال محمد صديق القِنَّوجي (المتوفى: 1307هـ) في تفسيره (فتحُ البيان في مقاصد القرآن) :

(إن هذا) أي ما تقدم من فلاح من تزكى وما بعده، وقيل إنه إشارة إلى جميع السورة (لفي الصحف الأولى) أي ثابت فيها قال النسفي وهو دليل على جواز قراءة القرآن بالفارسية في الصلاة، لأنه جعله مذكوراً في تلك الصحف مع أنه لم يكن فيها بهذا النظم وبهذه اللغة انتهى.

قلت : التدبر العمودي كفيل ببيان المشار إليه فلا ينساق الذهن إلى التفسير المتهور:

"صحف ابراهيم وموسى " الخاتمة لسورة (الأعلى) ترتبط عموديا بآيات من سورة ( النجم )حيث وردت فيها الكلمات الثلاث نفسها : (صحف- ابراهيم- موسى)

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِمَا فِي صُحُفِ مُوسَى (36) وَإِبْرَاهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37) أَلَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى (38) وَأَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى (39) وَأَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى (40) ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى (41).

هذه الآيات تضمنت القوانبن الثلاثة في محاسبة الله لخلقه:

- القانون الأول: لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى.

كل مكلف يؤاخذ بذنبه ولا يحاسب غيره عنه ونظرية "الفداء " التي ابتدعها الضالون من النصارى باطلة بموجب هذا القانون، فقد زعموا أن خطيئة (آدم) الأصلية ورثتها ذريته فلا يولد آدمي إلا وهو ملطخ بها وهذا مردود بحكم رب العالمين لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى...ثم جاء (يسوع) ابن الله – زعموا- فأهين وعذب وصلب وذاق الموت على الخشبة فداء للناس وهذا مردود أيضا بحكم رب العالمين لَّا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى كيف يعاقب المسيح على ذنب ارتكبه غيره!

- القانون الثاني : لَيْسَ لِلْإِنْسَانِ إِلَّا مَا سَعَى

جزاء الإنسان على عمله وعلى النية من عمله فقط ولا اعتبار لحسبه ونسبه ..ونظرية " الشعب المختار " التي ابتدعها المغضوب عليهم باطلة فقد زعموا أنهم ابناء الله وأحباؤه من دون الناس فلهم الجنة ولا عقاب عليهم إلا عقابا رمزيا!!

- القانون الثالث : أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرَى ثُمَّ يُجْزَاهُ الْجَزَاءَ الْأَوْفَى .

كل أعمال المكلف مسجلة محفوظة ستعرض عليه يوم الحساب ويتحدد مصيره بناء عليها فيكون من المفلحين أو من الأشقياء...

إذن ، الإشارة في قوله تعالى (انَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولَى صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى ) إشارة إلى هذه القوانين عموديا ، وذكرت أفقيا ضمن ما ورد قبل اسم الإشارة من أعمال الناس وأحوالهم وحسابهم:

سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشَى (10) وَيَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرَى (12) ثُمَّ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى (13)

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15) بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا (16) وَالْآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى (17)

هذا تفصيل وبيان (أومصاديق ) لما ورد في آيات سورة النجم على شكل قواعد عامة كلية...والقرآن يفسر بعضه بعضا...والله اعلم.
 
عودة
أعلى