التخييل الحسي والتجسيم في القرآن لسيد قطب

إنضم
18/06/2005
المشاركات
113
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
سيد قطب
التخييل الحسي والتجسيم

قليل من صور القرآن هو الذي يعرض صامتاً ساكناً ـ لغرض فني يقتضي الصمت والسكون ـ أما أغلب الصور ففيه حركة مضمرة أو ظاهرة، حركة يرتفع بها نبض الحياة، وتعلو بها حرارتها. وهذه الحركة ليست مقصورة على مشاهد القصص والحوادث، ولا على مشاهد القيامة، ولا صور النعيم والعذاب، أو صور البرهنة والجدل. بل إنها لتلحظ كذلك في مواضع أخرى لاينتظر أن تلحظ فيها.
ويجب أن ننبه إلى نوع هذه الحركة، فهي حركة حية مما تنبض به الحياة الظاهرة للعيان، أو الحياة المضمرة في الوجدان. هذه الحركة هي التي نسميها (التخييل الحسي)، وهي التي يسير عليها التصوير في القرآن لبث الحياة في شتى الصور، مع اختلاف الشيات والألوان.
وظاهرة أخرى تضح في تصوير القرآن وهي (التجسيم): تجسيم المعنويات المجردة، وإبرازها أجساماً أو محسوسات على العموم. إنه ليصل في هذا إلى مدى بعيد، حتى ليعبر به في مواضع حساسة جد الحساسية، يحرص الدين الاسلامي على تجريدها كل التجريد، كالذات الإلهية وصفاتها. ولهذا دلالته الحاسمة أكثر من كل دلالة أخرى، على أن طريقة (التجسيم) هي الأسلوب المفضل في تصوير القرآن، مع الاحتراس والتنبيه إلى خطورة التجسيم في الأوهام.
والآن نأخذ في ضرب الأمثال.
1 ـ لون من ألوان (التخييل) يمكن أن نسميه (التشخيص) يتمثل في خلع الحياة على المواد الجامدة، والظواهر الطبيعية، والانفعالات الوجدانية. هذه الحياة التي قد ترتقي فتصبح حياة إنسانية، تشمل المواد والظواهر والانفعالات، وتهب لهذه الأشياء كلها عواطف آدمية، وخلجات إنسانية، تشارك بها الآدميين، وتأخذ منهم وتعطي، وتتبدى لهم في شتى الملابسات، وتجعلهم يحسون الحياة في كل شيء تقع عليه العين، أو يتلبس به الحس، فيأنسون بهذا الوجود أو يرهبونه، في توفز وحساسية وإرهاف.
هذا هو الصبح يتنفس: (والصبح إذا تنفس). فيخيل إليك هذه الحياة الوديعة الهادئة التي تنفرج عنها ثناياه، وهو يتنفس فتتنفس معه الحياة، ويدب النشاط في الأحياء، على وجه الأرض والسماء.
وهذا هو الليل يسرع في طلب النهار، فلا يستطيع له دركاً: (يغشي الليل النهار يطلبه حثيثاً). ويدور الخيال مع هذه الدورة الدائبة، التي لا نهاية لها ولا ابتداء.
أو هذا هو الليل يسري: (والليل إذا يسر). فتحس سريانه في هذا الكون العريض، وتأنس بهذا الساري على هينة واتئاد!
وهاتان هما الأرض والسماء عاقلتين، يوجه إليهما الخطاب، فتسرعان بالجواب: (ثم استوى إلى السماء وهي دخان، فقال لها وللأرض: ائتيا طوعاً أو كرهاً. قالتا: أتينا طائعين). والخيال شاخص إلى الأرض والسماء. تدعيان وتجيبان الدعاء.
وهذه هي الشمس والقمر والليل والنهار في سباق دائم ولكن:
(لا الشمس ينبغي لها أن تدرك القمر، ولا الليل سابق النهار). وإنه لسباق جبار، لا يني أو يفتر في ليل أو نهار.
وهذه هي الأرض (هامدة) مرة و (خاشعة) مرة، ينزل عليها الماء فتهتز وتحيا: (وترى الأرض هامدة، فإذا أنزلنا عليها الماء اهتزت وربت، وأنبتت من كل زوج بهيج). وهكذا تستحيل الأرض الجامدة، كائناً حياً بلمسة واحدة في لفظة واحدة.
وهذه جهنم. جهنم النهمة المتغيظة التي لا يفلت منها أحد، ولا تشبع بأحد! جهنم التي تدعو من كانوا يدعون إلى الهدى ويدبرون، وهم لدعوتها على الرغم منهم يجيبون: جهنم التي ترى المجرمين من بعيد فتتغيظ وتفور!
(يوم نقول لجهنم: هل امتلأت؟ وتقول: هل من مزيد؟). (إذا رأتهم من مكان بعيد سمعوا لها تغيظاً وزفيراً). (إذا ألقوا فيها سمعوا لها شهيقاً وهي تفور، تكاد تميز من الغيظ).
وهذا هو الظل الذي يلجأ إليه المجرمون: (وظل من يحموم. لا بارد ولا كريم). ففي نفسه كزازة وضيق، لايحسن استقبالهم، ولا يهش لهم هشاشة الكريم، فهو ليس فقط (لا بارد)، ولكن كذلك (ولا كريم)!
وهذه هي الرياح لواقح: (وأرسلنا الرياح لواقح) بما تحمل من ماء. ولكن التعبير عنها أكسبها حياة حيوانية، تلقح وتنتج!
وهذا هو الغضب، أو هذا هو الروع، أو هذه هي البشرى، تهيج وتسكن، وتوحي وتسكت، وتجيء وتذهب:
(ولما سكت عن موسى الغضب أخذ الألواح). (ولما ذهب عن إبراهيم الروع وجاءته البشرى يجادلنا في قوم لوط)...
2 ـ ولون من ألوان (التخييل) يتمثل في تلك الصور المتحركة التي يعبر بها عن حالة من الحالات أو معنى من المعاني. فصورة الذي يعبد الله على حرف (فإن أصابه خير اطمأن به، وإن أصابته فتنة انقلب على وجهه). وصورة المسلمين قبل أن يسلموا، وهم 0على شفا حفرة من النار). وصورة الذي (أسس بنيانه على شفا جرف هار فانهار به في نار جهنم). كلها صور تخيل للحس حركة متوقعة في كل لحظة.
وقريب من هذه الصور في التخييل ولوج الجمل في سم الخياط، الموعد المضروب لدخول الكافرين الجنة بعد عمر طويل. فالخيال يظل عاكفاً على تمثل هذه الحركة العجيبة، التي لاتتم ولا تقف ما تابعها الخيال!
والصورة التي تخيلها الآية: (قل لو كان البحر مداداً لكلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مدداً).
فالخيال يظل يتصور تلك الحركة الدائبة: حركة الامتداد بماء البحر لكتابة كلمات الله، في غير ما توقف ولا انتهاء، غلا أن ينتهي البحر بالنفاد!
وشبيه بهذه الصور ما تخيله للحس هذه الآية: (فمن زحزح عن النار وأدخل الجنة فقد فاز) والآية: (وما هو بمزحزحه من العذاب أن يعمّر) فلفظة الزحزحة ذاتها تخيل حركتها المعهودة. وهذه الحركة تخيل الموقف على شفا النار، ماثلاً للخيال والأبصار!
3 ـ ولون من ألوان التخييل) يتمثل في الحركة المتخيلة، التي تلقيها في النفس بعض التعبيرات مثل: (وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباء منثوراً). (فقدمنا) ذلك أنها تخيل للحس حركة القدوم التي سبقت نثر العمل كالهباء. وهذا التخييل يتوارى بكل تأكيد لو قيل: وجعلنا عملهم هباء منثوراً. حيث كانت تنفرد حركة النثر وصورة الهباء، دون الحركة التي تسبقها: حركة القدوم.
ومثلها: (قل أندعو من دون الله ما لاينفعنا ولا يضرنا ونرد على أعقابنا). فكلمات (نرد على أعقابنا) تخيل حركة حسية للارتداد في موضع الارتداد المعنوي، وتمنح الصورة حياة محسوسة.
ومن هذا القبيل: (ولا تتبعوا خطوات الشيطان إنه لكم عدو مبين) في موضع: لاتطيعوا الشيطان. فإن كلمتي: تتبعوا، وخطوات، تخيلان حركة خاصة. هي حركة الشيطان يخطو والناس وراءه يتبعون خطواته. وهي صورة حين تجسم هكذا تبدو عجيبة من الآدميين، وبينهم وبين الشيطان الذي يسيرون وراءه، ما أخرج أباهم من الجنة!
وكذلك: (واتل عليهم نبأ الذي آتيناه آياتنا فانسلخ منها فأتبعه الشيطان). باختلاف يسير، هو أن الشيطان في هذه المرة هو الذي تبع هذا الضال ولازمه ليغويه: (فكان من الغاوين)!
ومن هذا الوادي: (ولا تقف ما ليس لك به علم) فحركة الاقتفاء تتهيأ للذهن، ويتمثلها الخيال (بالجسم والأقدام، لا يمجرد الذهن والجنان).
4 ـ ولو من (التخييل) يتمثل في الحركة الممنوحة لما من شأنه السكون كقوله: (واشتعل الرأس شيباً) فحركة الاشتعال هنا تخيل للشيب في الراس حركة كحركة اشتعال النار في الهشيم، فيها حياة وجمال.
وأما (التجسيم) فقد وردت له أمثلة كثيرة. ومنه كل التشبيهات التي جيء بها لا حالة المعاني والحالات صوراً وهيئات.
نذكر منها: (مثل الذين كفروا بربهم أعمالهم كرماد اشتدت به الريح في يوم عاصف) و (يا أيها الذين آمنوا لاتبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر، فمثله كمثل صفوان عليه تراب). و (مثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله، وتثبيتاً من أنفسهم، كمثل جنة بربوة...) إلخ.
ولكن الذي نعنيه هنا بالتجسيم، ليس هو التشبيه بمحسوس، فهذا كثير معتاد، إنما نعني لوناً جديداً هو تجسيم المعنويات، لا على وجه التشبيه والتمثيل، بل على وجه التصيير والتحويل.
1 يقول: (يوم تجد كل نفس ما عملت من خير محضراً، وما عملت من سوء، تود لو أن بينها وبينه أمداً بعيداً). (ووجدوا ما عملوا حاضراً، ولا يظلم ربك أحداً). أو (وما تقدموا لأنفسهم من خير تجدوه عند الله). فيجعل كأن هذا العمل المعنوي مادة محسوسة. تحضر (على وجه التجسيم) أو تحضر هي (على وجه التشخيص) أو توجد عند الله كأنها وديعة تسلم هنا فتتسلم هناك.
وقريب من هذا تجسيم الذنوب كأنها أحمال (تحمل على الظهور زيادة في التجسيم): (وهم يحملون أوزارهم على ظهورهم). (ولا تزر وازرة وزر أخرى).
ومن تجسيم المعنويات أمثال: (وتزوّدوا فإن خير الزاد التقوى) فالتقوى زاد. أو صبغة الله. ومن أحسن من الله صبغة؟) فدين الله صبغة معلمة. أو (يا أيها الذين آمنوا ادخلوا في السلم كافة) فالسلم مما يدخل فيه. أو (وذروا ظاهر الإثم وباطنه) فالإثم مما له ظاهر وباطن. آخر هذا النحو من الاستعارات.
2 ـ ويحدث عن حالة نفسية معنوية هي حالة التضايق والضجر والحرج. فيجسمها كحركة جثمانية: (... وعلي الثلاثة الذين خلفوا، حتى إذا ضاقت عليهم الأرض بما رحبت، وضاقت عليهم أنفسهم، وظنوا أن لا ملجأ من الله إلا إليه). فالأرض تضيق عليهم، ونفوسهم تضيق بهم كما تضيق الأرض، ويستحيل الضيق المعنوي في هذا التصوير ضيقاً حسياً أوضح وأوقع، وتتجسم حالة هؤلاء الذين تخلفوا عن الغزو مع الرسول (فأحسوا بهذا الضيق الخانق، وندموا على تخلفهم ذلك الندم المحرج، حتى لايجدون لهم ملجأ ولا مفراً، ولا يطيقون راحة إلى أن قبل الله توبتهم.
ومثله: (وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع) فالقلوب كأنما تفارق مواضعها وتبلغ الحناجر حقاً من شدة الضيق.
ومنه: (فلولا إذا بلغت الحلقوم، وأنتم حينئذ تنظرون) كأنما الروح شيء مجسم، يبلغ الحلقوم في حركة محسوسة.
3 ـ ويصف حالة عقلية أو معنوية، وهي حالة عدم الاستفادة مما يسمعه بعضهم من الهدى، وكأنهم لم يسمعوا به، أو يتصلوا اتصالاً ما. فيجعل كأنما هناك حواجز مادية تفصل بينهم وبينه. مثل: (إنهم عن السمع لمعزولون). أو (وجعلنا على قلوبهم أكنة أن يفقهوه وفي آذانهم وقراً). أو (أفلا يتدبرون القرآن؟ أم على قلوبهم أقفالها؟). أو (إنا جعلنا في أعناقهم أغلالاً فهي إلى الأذقان فهم مقمحون، وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً فأغشيناهم فهم لايبصرون). أو ختم الله على قلوبهم وعلى سمعهم، وعلى أبصارهم غشاوة).
وكلها تجسم هذه الحواجز المعنوية، كأنما هي موانع حسية، لأنها في هذه الصورة أوقع وأظهر.
4 ـ ويكون الوصف حسياً بطبيعته، فيختار عن الوصف هيئة تجسمه. كقوله: (يوم يغشاهم العذاب من فوقهم ومن تحت أرجلهم) في مكان: يأتيهم من كل جانب، أو يحيط بهم. لأن هيئة الغشيان من فوق ومن تحت أدخل في الحسية من الوصف بالاحاطة.
5 ـ ومن (التجسيم) وصف المعنوي بمحسوس: كوصف العذاب بأنه غليظ (ومن ورائهم عذاب غليظ). واليوم بأنه ثقيل: (ويذرفون وراءهم يوماً ثقيلاً).
فينتقل العذاب من معنى مجرد إلى شيء ذي غلظ وسمك، وينتقل اليوم من زمن لايمسك إلى شيء ذي كثافة ووزن!
6 ـ وضرب الأمثلة على المعنوي بمحسوس، كقوله: (ما جعل الله لرجل من قلبين في جوفه) لبيان أن القلب الانساني لايتسع لاتجاهين.
7 ـ ثم لما كان هذا التجسيم خطة عامة، صوّر الحساب في الآخرة كما لو كان وزناً مجسماً للحسنات والسيئات: (ونضع الموازين القسط ليوم القيامة). (فأما من ثقلت موازينه... وأما من خفت موازينه). وكل ذلك تمشياً مع تجسيم الميزان.
وكثيراً ما يجتمع التخييل والتجسيم في المثال الواحد في القرآن، فيصور المعنوي المجرد جسماً محسوساً، ويخيل حركة لهذا الجسم أو حوله من إشعاع التعبير.
1 ـ من ذلك: (بل نقذف بالحق على الباطل، فيدمغه، فإذا هو زاهق).
فكأنما الحق قذيفة خاطفة تصيب الباطل فتزهقه.
2 ـ ومن ذلك: (بلى من كسب سيئة وأحاطت به خطيئته) و (ألا في الفتنة سقطوا). فبعد أن تصبح الخطيئة شيئاً مادياً، تتحرك حركة الاحاطة، وبعد أن تصبح الفتنة لجة، يتحركون هم بالسقوط فيها.
3 ـ ومنه: (ولا تلبسوا الحق بالباطل). (فاصدع بما تؤمر). ففي المثال الأول يصبح الحق والباطل مادتين تستر إحداهما بالأخرى. وفي المثال الثاني يصبح ما أمر به مادة يشق بها ويصدع، دلالة على القوة والنفاذ.
بهذه الطريقة المفضلة في التعبير عن المعاني المجردة، سار الاسلوب القرآني في أخص شأن يوجب فيه التجريد المطلق، والتنزيه الكامل: فقال: (يد الله فوق أيديهم). (وكان عرشه على الماء). (وسع كرسيه السماوات والأرض). (ثم استوى على العرش).
وثار ما ثار من الجدل حول هذه الكلمات حينما أصبح الجدل صناعة، والكلام زينة. وإن هي إلا جارية على نسق متبع في التعبير، يرمي إلى توضيح المعاني المجردة وتثبيتها، ويجري على سنن مطرد، لاتخلف فيه ولا عوج. سنن التخييل الحسي والتجسيم في كل عمل من أعمال التصوير.
ولكن تباع هذا السنن في هذا الموضع بالذات، قاطع في الدلالة ـ كما قلنا ـ على أن هذه الطريقة في القرآن أساسية في التصوير، كما أن (التصوير هو القاعدة الأولى في التعبير).
 
عودة
أعلى