إبراهيم الحميضي
Member
التحذير من التفسير بغير علم([1])
تفسير القرآن العظيم بغير علم من أكبر المحرَّمات، وقد دَلَّتْ على ذلك النصوصُ الكثيرة من الكتاب والسنة، وأقوال السلف، ومن ذلك:
قوله I : ﴿قُلۡ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّيَ ٱلۡفَوَٰحِشَ مَا ظَهَرَ مِنۡهَا وَمَا بَطَنَ وَٱلۡإِثۡمَ وَٱلۡبَغۡيَ بِغَيۡرِ ٱلۡحَقِّ وَأَن تُشۡرِكُواْ بِٱللَّهِ مَا لَمۡ يُنَزِّلۡ بِهِۦ سُلۡطَٰنٗا وَأَن تَقُولُواْ عَلَى ٱللَّهِ مَا لَا تَعۡلَمُونَ ﴾[الأعراف:33].
قال الإمام ابن القيم" :وقد حرَّم اللهُ سبحانه القولَ عليه بغير علم في الفتيا والقضاء، وجعله من أعظم المحرمات، بل جعله في المرتبة العليا منها, فرتب المحرماتِ أربعَ مراتب، وبدأ بأسهلها وهو الفواحش، ثم ثنَّى بما هو أشد تحريما منه وهو الإثم والظلم، ثم ثلَّث بما هو أعظم تحريما منهما وهو الشرك به سبحانه، ثم ربَّع بما هو أشد تحريما من ذلك كله وهو القول عليه بلا علم، وهذا يَعُمُّ القول عليه I بلا علم في أسمائه وصفاته وأفعاله وفي دينه وشرعه"([2]).
ومن الأدلة على ذلك قوله I : ﴿وَلَا تَقۡفُ مَا لَيۡسَ لَكَ بِهِۦ عِلۡمٌۚ إِنَّ ٱلسَّمۡعَ وَٱلۡبَصَرَ وَٱلۡفُؤَادَ كُلُّ أُوْلَٰٓئِكَ كَانَ عَنۡهُ مَسُۡٔولٗا ﴾[الإسراء:36].
والنهي في الآية يشمل كل قول بلا علم([3]).
ومن الأحاديث الواردة في الترهيب من القول في تفسير القرآن بلا علم، حديثُ ابن عباسt قال: قال رسول الله e: "من قال في القرآن بغير علم، فليتبوأ مقعده من النار"([4]).
وعن جُنْدُب t قال: قال رسول الله e: "من قال في القرآن برأيه فأصاب فقد أخطأ"([5]).
قال الماوَرْدي: "ولهذا الحديث -إن صح- تأويلٌ معناه: أن مَنْ حَمَلَ القرآن على رأيه، ولم يعلم على شواهد ألفاظه، فأصاب الحق، فقد أخطأ الدليل"([6]).
قال ابن عطية: "ومعنى هذا أن يُسْأَلَ الرجلُ عن معنى في كتاب الله فيتسوَّر عليه برأيه، دون نظر فيما قال العلماء، أو اقتضته قوانين العلوم كالنحو، والأصول، وليس يدخل في هذا الحديث أن يُفَسِّرَ اللغويون لغته، والنحاةُ نحوه، والفقهاءُ معانيه، ويقولَ كلُ واحد باجتهاده المبني على قوانين علم ونظر، فإن القائل على هذه الصفة ليس قائلاً بمجرد رأيه، وكان جُلَّةٌ من السلف كسعيد بن المسيب، وعامر الشعبي، وغيرهما، يعظِّمون تفسير القرآن، ويتوقَّفون عنه تورعا واحتياطا لأنفسهم، مع إدراكهم، وتقدمهم، وكان جُلَّة من السلف كثيرٌ عددهم يفسرونه، وهم أبقوا على المسلمين في ذلك y"([7]).
وقال النووي:" ويحرم تفسيره بغير علم والكلام في معانيه لمن ليس من أهلها، والأحاديث في ذلك كثيرة، والإجماع منعقد عليه، وأما تفسيره للعلماء فجائز حسن، والإجماع منعقد عليه، فمن كان أهلاً للتفسير جامعا للأدوات التي يعرف بها معناه، وغلب على ظنه المرادُ = فسَّره إن كان مما يُدرك بالاجتهاد كالمعاني، والأحكام الجلية والخفية، والعموم والخصوص، والإعراب، وغير ذلك، وإن كان مما لا يدرك بالاجتهاد كالأمور التي طريقها النقل، وتفسير الألفاظ اللغوية فلا يجوز الكلام فيه إلا بنقل صحيح من جهة المعتمدين من أهله، وأما مَنْ كان ليس من أهله لكونه غيرَ جامع لأدواته فحرام عليه التفسير، لكن له أن ينقل التفسير عن المعتمدين من أهله"([8]).
وقال شيخ الإسلام ابن تيمية:" أما تفسير القرآن بمجرد الرأي فحرام... فمن قال في القرآن برأيه فقد تكلَّف ما لا علم له به، وسلك غير ما أُمر به، فلو أنه أصاب المعنى في نفس الأمر لكان قد أخطأ؛ لأنه لم يأت الأمر من بابه، كمن حكم بين الناس على جهل فهو في النار، وإن وافق حكمُهُ الصوابَ في نفس الأمر، لكن يكون أخف جرماً ممن أخطأ، والله أعلم"([9]).
وقال الزركشي:" لا يجوز تفسير القرآن بمجرد الرأي والاجتهاد من غير أصل([10]) ... وأما الرأي الذي يسنده برهانٌ فالحكم به في النوازل جائز ..." ([11]).
وكون الإنسان ينظر في بعض كتب التفسير أو اللغة لا يكفي للخوض في تفسير آيات القرآن واستنباط أحكامها ودلالتها، بل لابد من تحصيل أدوات الاجتهاد اللازمة.
أما مجرد النَّقْل عن المفسرين فهو جائز، إذا فهم القارئُ مرادَ المفسِّر.
تَوَرُّعُ الصحابة والتابعين y عن القول في التفسير بغير علم
وقد تورَّع الصحابة والتابعون yعن القول في التفسير بغير علم، وهابوا الكلام فيه، خوفاً من الخطأ، وحمل ِكلام الله I على غير مراده، وهذا أمر مستفيض عنهم ومشهور، والآثار عنهم في ذلك كثيرة ومنها:
ما ورد عن أبي بكر الصديقt أنه قال:" أي أرض تُقِلُّني، وأي سماء تُظِلُّني، إذا قلت في كتاب الله ما لم أعلم"([13]).
كما ورد أن عمر بن الخطابt قرأ على المنبر: ﴿وَفَاكِهَةً وَأَبًّا﴾ فقال: "قد عرفنا ما الفاكهة، فما الأبُّ؟ فقال: لعمرك يا ابن الخطاب، إن هذا لهو التكلف"([14]).
وقد تَخوَّفَ هذان الصاحبان الجليلان وتردَّدا في تفسير الكلالة المذكورة في آخر سورة النساء، ولم يجزما بمعناها؛ فعن أبي بكر t أنه قال: "إني قد رأيت في الكلالة رأيا، فإن كان صوابا فمن الله وحده لا شريك له، وإن يك خطأ فمني والشيطان، والله منه بريء؛ وإن الكلالة ما خلا الولدَ والوالد"([15]).
وثبت في صحيح مسلم أن عمر بن الخطاب t خطب يوم الجمعة في آخر حياته فكان مما قال: ثم إني لا أَدَعُ بعدي شيئا أهمَّ عندي من الكلالة، ما راجعت رسول الله r في شيء ما راجعته في الكلالة، وما أغلظ لي في شيء ما أَغْلَظَ لي فيه، حتى طعن بإصبعه في صدري، فقال: "يا عمر ألا تكفيك آية الصيف التي في آخر سورة النساء؟"([16]).
وعن ابن أبي مُلَيْكَة أن ابن عباس سُئل عن آية لو سئل عنها بعضكم لقال فيها، فأبى أن يقول فيها"([17]).
وكان سعيد بن المسيَّب إذا سُئِلَ عن تفسير آية من القرآن قال: "لا أقول في القرآن شيئا"([18]).
وكان –رحمه الله– يسأل عن الحلال والحرام، وكان أعلم الناس([19])، فإذا سُئِلَ عن تفسير آية من القرآن سكت كأنْ لم يسمع([20]).
وقال عُبيد الله بن عمر بن حفص بن عاصم بن عمر بن الخطابt : لقد أدركتُ فقهاءَ المدينة وإنهم ليعظِّمون القول في التفسير، منهم سالم بن عبد الله، والقاسم بن محمد، وسعيد بن المسيب، ونافع" ([21]).
وعن إبراهيم النَّخَعِي قال: "كان أصحابنا يَتَّقُون التفسير ويهابونه"([22]).
ومما يدل على أن تركهم القول في التفسير لم يكن عن جهل به بل كان ورعاً وخشية لله I قول التابعي الجليل عامر الشعبي: "والله ما من آية إلا وقد سَأَلْتُ عنها، ولكنها الرواية عن الله تعالى"([23]).
قال ابن تيمية بعد أن أورد جملة من الأخبار عن الصحابة والتابعين y في هذا الباب: "فهذه الآثار الصحيحة وما شاكلها عن أئمة السلف، محمولة على تَحَرُّجهم عن الكلام في التفسير بما لا علم لهم به.
فأما من تكلم بما يعلم من ذلك لغة وشرعا فلا حرج عليه؛ ولهذا رُوى عن هؤلاء وغيرهم أقوال في التفسير، ولا منافاة؛ لأنهم تكلموا فيما علموه وسكتوا عما جهلوه، وهذا هو الواجب على كل أحد؛ فإنه كما يجب السكوت عما لا علم له به، فكذلك يجب القول فيما سُئل عنه مما يعلمه؛ لقوله تعالى:﴿ لَتُبَيِّنُنَّهُۥ لِلنَّاسِ وَلَا تَكۡتُمُونَهُۥ ﴾[آل عمران:187]، ولما جاء في الحديث المَرْوِيِ من طُرُقٍ: "من سُئِلَ عن علم فكَتَمَه أُلْجِم يوم القيامة بلجام من نار"([24])([25]).
ولقد كان لمنهج السلف في التشدد في الكلام على التفسير وعدم الخوض فيما لم يبلغه علمهم أَثَرٌ كبير في حماية تفسير القرآن الكريم من الخطأ والتحريف، وتعظيم قدره في النفوس، وكفِّ الناس عن الجرأة عليه بغير علم ([26]).
([1]) انظر كتابي (المهذب في أصول التفسير) ص 98.
([2]) إعلام الموقعين عن رب العالمين1/38.
([3]) انظر أضواء البيان 3/145.
([4]) أخرجه أحمد: 1/269، والترمذي 5/183 ح 2950، وقال: هذا حديث حسن، وفي رواية: "من قال في القرآن برأيه .."وحسنه البغوي في شرح السنة 1/257، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي 1/359، ورُوُيَ موقوفاً على ابن عباس، أخرجه ابن أبي شيبة 6/136 ح30092 والطبري في تفسيره 1/72.
([5]) أخرجه أبو داود 4/64 ح 3652، والترمذي 5/183 ح 2952، وقال: "هذا حديث غريب وقد تكلم بعض أهل الحديث في سهيل بن أبي حزم"، وضعفه الألباني في ضعيف الترمذي 1/360.
([6]) تفسيره 1/35، وانظر الإتقان 6/2289.
([7]) تفسيره 1/22.
([8]) التبيان 1/65
([9]) مقدمة في أصول التفسير ص92- 95.
([10]) أي دليل.
([11]) البرهان2/178.
([13]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص227، وابن جرير في تفسيره 1/784.
([14]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص227، وابن جرير في تفسيره 24/120، وصححه ابن كثير في تفسيره 8/325، وقال: "فهو إسناد صحيح، وقد رواه غير واحد عن أنس، به. وهذا محمول على أنه أراد أن يعرف شكله وجنسه وعينه، وإلا فهو وكلُّ من قرأ هذه الآية يعلم أنه من نبات الأرض ... " وانظر فتح الباري 13/264.
([15])أخرجه ابن جرير 6/475، والبيهقي في السنن الكبرى 6/366 .
([16]) أخرجه مسلم 1/196 ح( 567)
([17]) أخرجه ابن جرير 1/80، وقال ابن تيمية:" إسناده صحيح" انظر مقدمة في أصول التفسير ص 48.
([18])أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 375، وابن جرير في تفسيره 1/79.
([19]) ومن المعلوم أيضاً أنهم يتورعون عن الفتوى عموماً، ويتوقفون في ذلك، ويحيل بعضهم السائلَ إلى بعض، ولكن ورعهم في التفسير أَشَدُّ وأعظم.
([20]) أخرجه ابن جرير 1/80
([21])أخرجه ابن جرير 1/79 .
([22]) أخرجه أبو عبيد في فضائل القرآن ص 229، ومراده بالأصحاب: أصحاب ابن مسعودt.
([23])أخرجه ابن جرير 1/80
([24]) أخرجه أحمد 13/17ح 7571، وأبو داود 4/67 ح 3658 والترمذي 5/ 29 ح 2649،
وابن ماجه 1/97ح 264، من طُرُقٍ عِدَّةٍ لاتخلو من ضعف، انظر تخريج أحاديث الكشاف للزيلعي 1/ 252،
وزوائد ابن ماجه للبوصيري ص 69، وصححه ابن حجر في المطالب العالية من حديث ابن عباس t 12/ 640،
والألباني في صحيح الترغيب 52.
([25]) مقدمة في أصول التفسير ص 100، وانظر تفسير ابن جرير 1/83.
([26]) انظر نقد الصحابة والتابعين للتفسير ص 72.