مساعد الطيار
مستشار
- إنضم
- 15/04/2003
- المشاركات
- 1,698
- مستوى التفاعل
- 5
- النقاط
- 38
( الحلقة الأولى )
هناك بعض المصطلحات العلمية صارت تحمل ظِلالاً خاصَّة ، سرعان ما ينقدح في الذهن الجانب السلبي لاستخدام هذا المصطلح ، ومن هذه المصطلحات التي يقع فيها ذلك مصطلح ( التفسير الإشاري ) ، والتفسير الإشاري لم يلق ـ حسب علمي ـ دراسة تأصيلية تطبيقية من خلال كتب التفسير المعتادة ، وكتب التفسير الإشاري .
حقيقة التفسير الإشاري :
من الأمور المستحسنة في العلوم ؛ معرفة ( المبادئ ) من جهتين :
الأولى : الاستخدام التطبيقي للأفكار .
الثانية : ظهور المصطلح بخصوصيته المتعلقة بتلك التطبيقات .
وكثيرًا ما تأتي المصطلحات متأخرة عن التطبيقات ، ومن أشهر الأمثلة التطبيقة عند السلف ؛ ما ورد من تفسير عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ لسورة النصر ، فقد أورد البخاري بسنده عن ابن عباس قال : ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم .
قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ؟ حتى ختم السورة .
فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا .
وقال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا .
فقال لي : يا ابن عباس ، أكذلك قولك ؟ قلت : لا .
قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه الله له { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، فذاك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } . قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : (وَفِيهِ جَوَاز تَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا يُفْهَم مِنْ الإِشَارَات ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمه فِي الْعِلْم ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآن ) .
وهذا المثال من جنس ما نحن فيه ، فظاهر الآيات على حسب ما فهم بعض البدريين الذين سألهم عمر رضي الله عنهم ، ولكن في الآيات إشارة واضحة إلى أمر آخر ، وهو التنبيه على قرب أجل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ويظهر أن عمر وابن عباس رضي الله عنهم آخذا ذلك من النظر في عموم الشريعة ، حيث يرد الأمر بالاستغفار في نهايات الأعمال ، ولما طُلِب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ؛ أشعر ذلك بانتهاء عمله ( وهو مهمة النبوة ) ، وقرب أجله .
ولقد تأملت أنواع الأمثلة في التفسير الإشاري فوجدت أغلبها يدخل في باب الاستنباط ؛ لأن الغالب على هذه أنها لو فُقِدت لم يتأثر ظاهر القرآن ، والتفسير إنما يتعلق بظاهر القرآن ، وليس بما فيه من دلالات على غير الظاهر .
ولابدَّ من الإشارة إلى أمر مهم في هذا الجانب ، وهو بيان الفرق بين التفسير وهذه الإشارات وغيرها من الاستنباطات ، فأقول :
أولاً : أن من ضوابط التفسير المهمة ( بيان المعنى ) ، فإذا بان المعنى ، وتمَّ ، فقد انتهى التفسير ، وما وراء ذلك فإنه ـ في الغالب ـ لا يخرج أن يكون من علوم القرآن التي ترتبط بالآية ، أو من الاستنباطات بأنواعها المتعددة .
ثانيًا : أن التفسير يتعلق بظاهر النصِّ ، وما خرج عن ظاهره ، فهو من باب الاستنباط ، سواءً أكان اعتبارًا أو إشارة أو قياسًا أو مفهوم مخالفة أو غير ذلك .
ثالثًا : وأن من ضوابط التفسير ـ أيضًا ـ تناسقه مع السياق ، وكل معنى صحيح أُلحِق بالآية ، وهو لا ينتظم مع سياق الآية ، وله وجه ارتباط بها ، فإنه لا يدخل في باب التفسير ، وإنما يكون من باب الاستنباط .
وسأضرب لك مثلين يُبِينَانِ عن ذلك :
المثل الأول : روى الطبري بسنده عن أَبي أمامة في قوله : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) قال: (( هم الخوارج )) .
وسياق الآية كما ـ لا يخفى ـ في اليهود ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .
والملاحظ أن في فعل أبي أمامة أمرين :
الأول : أنه انتزع جزءًا من الآية .
الثاني : أنه حمل هذا الجزء الذي في سياق اليهود على الخوارج .
ولو أردت أن تسبك المعنى على تفسير أبي أمامة ؛ لظهر لك اختلال النظم مع المعنى ، فالمعنى ـ لو كان كلام أبي أمامة تفسيرًا ـ : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وأنتم تعلمون أني مرسل إليكم من الله ، فلما زاغ الخوارج أزاغ الله قلوبهم ...
ولا يخفى عليك هذا الخلل ؛ لو كان أبو أمامة يقصد التفسير ( بيان المعنى الظاهر من السياق ) ، لكنه ـ رضي الله عنه ـ أراد أن ينبهك إلى أن الخوارج شابهوا اليهود في هذه الحيثية ، وهي أنهم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، وليس مراده أن الْمَعْنيَّ الأول بهذه الجملة هم الخوارج ، وعلى هذا لا يحسن أن تَعُدَّ كلام أبي أمامة من التفسير ، بل هو من باب القياس الذي يأتي بعد بيان المعنى الظاهر في السياق .
المثل الثاني : في قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ، فقد ورد عن الإمام الشافعي وغيره : ( لما حجب هؤلاء في حال السخط ، دلَّ على أن قومًا يرونه حال الرضى ) ، وهذه الآية في عِداد الآيات التي يستدل بها أهل السنة على رؤوية الباري في الجنة، لا حرمني الله وإياكم هذا الفضل العظيم .
وإذا تأملت سياق الآيات وجدته في الكفار حيث قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) ، وظاهر معنى الآية في سياقها أن الكفار ممنوعون من رؤية ربهم ، وهذا تمام المعنى ، فلو فسَّر مفسِّر هذه الآية بهذا القدر لما قصَّر في التفسير ، أما ما ورد من بيان (مفهوم المخالفة ) ، وهو الاستدلال بمنع قوم على الكشف لقوم ، فهذا من باب الاستنباط ، وليس من باب التفسير .
ودليل ذلك ما أشرت لك به من أن مفسرًا لو لم ينتبه إلى هذا المعنى الدقيق لما كان مقصِّرًا في بيان المعنى من جهة التفسير .
وقد يرد سؤال عند بعض الناس ، ومفاده : ألا يصح أن نقول : لما أخبر أن الكفار يصلون الجحيم دلَّ على أن المؤمنين يدخلون الجنة ؟
فالجواب : بلى ، لكن هذا المعنى لم يخالف فيه أحد فيلزم التنبيه على دقائق الاستدلال لِمَا وقع فيه الخلاف ؛ مثل مسألة الرؤية التي خالف فيها المعتزلة ومن أخذ بقولهم ، والفرق بين الاستدلالين ظاهر .
أنواع الإشارات:
مما يحسن التنبه له أنه ليس كل ما نُسِب إلى التفسير الإشاري فأنه باطل محض ، بل الإشارات والاعتبارات مثل القياس في الفقه ، منه ما هو صحيح ، ومنه ما هو خطأ ، ومنه ما هو باطل ، وقد أشار إلى ذلك عدد من العلماء ؛ منهم ابن تيمية ففي معرض رده على بعض التفسيرات الخاطئة لاسم الله النور من قوله تعالى : ( الله نور السموات والأرض ) ؛ قال : (الثاني : أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي ، وضعَّف ذلك ، ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نوَّر قلوب الصادقين بتوحيده ، وأسرار المحبين بتأييده ، وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته .
وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولاً ، فيضعفه أولاً ويجعله من كلام العارفين ، وهي كلمة لها صولة في القلوب ، وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق ، فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في حقائق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد ، وبعضها مكذوب على قائله مفترى ؛ كالمنقول عن جعفر وغيره ، وبعضها من المنقول الباطل المردود .
فإن إشارات المشايخ الصوفية ، التي يشيرون بها تنقسم إلى إشارة حالية ، وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به ، وليس هذا موضعه .
وتنقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال ؛ مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه ، فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام ، لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك :
ـ فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح ؛ كانت حسنة مقبولة .
ـ وإن كانت كالقياس الضعيف ؛ كان لها حكمه .
ـ وإن كان تحريفا للكلام على غير تأويله ؛ كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية ، فتدبر هذا ، فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات ) الفتاوى ( 6 : 377 ) .
وإذا كان الحال في الإشارات أنها من هذا الباب ، فهي استنباطات تظهر للإشاري أثناء نظره في القرآن ، وهي نوع من التدبر الذي يحسن النظر إليه ؛ لأنك إذا تأمَّلت بعض الاستنباطات والفوائد التي يذكرها بعض التربويين والدعاة وغيرهم ؛ وجدتها من باب الإشارات ، وليست من التفسير .
ولا شك أن هذه الأقسام الثلاثة في الإشارات تنطبق على ما يذكره هؤلاء الدعاة والتربويون وغيرهم .
كلام العلماء في ضوابط قبول التفسير الإشاري :
لقد ذكر بعض العلماء ضوابط للتفسير الإشاري ، منهم ابن القيم ( ت : 751 ) ، والشاطبي ( ت : 790 ) ، وهاأنذا أسوق كلامهما :
قال ابن القيم ـ في تفسير قوله تعالى ( فالموريات قدحًا ) : (... وأضعف منه قول عكرمة : هي الألسنة تورى نار العداوة بعظيم ما نتكلم به وأضعف منه ما ذكر عنه مجاهد : هي أفكار الرجال تورى نار المكر والخديعة في الحرب
وهذه الأقوال إن أريد أن اللفظ دل عليها وأنها هي المراد فغلط وإن أريد أنها أخذت من طريق الإشارة والقياس فأمرها قريب
وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول :
ـ تفسير على اللفظ ، وهو الذي ينجو إليه المتأخرون .
ـ وتفسير على المعنى ، وهو الذي يذكره السلف .
ـ وتفسير على الإشارة والقياس ، وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم .
وهذا لابأس به بأربعة شرائط :
ـ أن لا يناقض معنى الآية .
ـ وأن يكون معنى صحيحا في نفسه .
ـ وأن يكون في اللفظ إشعار به .
ـ وأن يكون ببنيه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم .
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة ؛ كان استنباطا حسنا ) التبيان في أقسام القرآن ( ص : 49) .
قال الشاطبي : (فصل : وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان
أحدهما أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية
والثاني أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض
فأما الأول فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا
وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن لأنهما موفران فيه بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر ) الموافقات ، تحقيق مشهور سلمان ( 4 : 231 ـ 232 ) .
وقد أشار إلى ضابط آخر عند تعليقه على كلام سهل بن عبد الله في قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادًا ) ، ويمكن أن يقال : أن لا تُعتبر هذه الإشارات من باب التفسير :
قال : ( ... وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصَّل لكان المعنى ، فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا ، وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ، ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ند في الإعتبار الشرعي الذى شهد له القرآن من جهتين ... ) الموافقات ، تحقيق مشهور سلمان ( 4 : 242 ـ 243 ).
وهذان النقلان يحتاجان إلى تحرير في دمج هذه الضوابط ، والنظر في إمكانية إضافة ضوابط أخرى يحتاجها الناظر في كتب التفسير الإشاري ، وإنما نقلتها بطولها لكي تطلع على كلام بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ وتنظر فيه ؛ لتعرف مدى اجتهادهم في ضبط مثل هذه الأمور المرتبطة بالقرآن الكريم .
( يتبع )
هناك بعض المصطلحات العلمية صارت تحمل ظِلالاً خاصَّة ، سرعان ما ينقدح في الذهن الجانب السلبي لاستخدام هذا المصطلح ، ومن هذه المصطلحات التي يقع فيها ذلك مصطلح ( التفسير الإشاري ) ، والتفسير الإشاري لم يلق ـ حسب علمي ـ دراسة تأصيلية تطبيقية من خلال كتب التفسير المعتادة ، وكتب التفسير الإشاري .
حقيقة التفسير الإشاري :
من الأمور المستحسنة في العلوم ؛ معرفة ( المبادئ ) من جهتين :
الأولى : الاستخدام التطبيقي للأفكار .
الثانية : ظهور المصطلح بخصوصيته المتعلقة بتلك التطبيقات .
وكثيرًا ما تأتي المصطلحات متأخرة عن التطبيقات ، ومن أشهر الأمثلة التطبيقة عند السلف ؛ ما ورد من تفسير عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ لسورة النصر ، فقد أورد البخاري بسنده عن ابن عباس قال : ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم .
قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ؟ حتى ختم السورة .
فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا .
وقال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا .
فقال لي : يا ابن عباس ، أكذلك قولك ؟ قلت : لا .
قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه الله له { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، فذاك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } . قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : (وَفِيهِ جَوَاز تَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا يُفْهَم مِنْ الإِشَارَات ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمه فِي الْعِلْم ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآن ) .
وهذا المثال من جنس ما نحن فيه ، فظاهر الآيات على حسب ما فهم بعض البدريين الذين سألهم عمر رضي الله عنهم ، ولكن في الآيات إشارة واضحة إلى أمر آخر ، وهو التنبيه على قرب أجل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ويظهر أن عمر وابن عباس رضي الله عنهم آخذا ذلك من النظر في عموم الشريعة ، حيث يرد الأمر بالاستغفار في نهايات الأعمال ، ولما طُلِب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ؛ أشعر ذلك بانتهاء عمله ( وهو مهمة النبوة ) ، وقرب أجله .
ولقد تأملت أنواع الأمثلة في التفسير الإشاري فوجدت أغلبها يدخل في باب الاستنباط ؛ لأن الغالب على هذه أنها لو فُقِدت لم يتأثر ظاهر القرآن ، والتفسير إنما يتعلق بظاهر القرآن ، وليس بما فيه من دلالات على غير الظاهر .
ولابدَّ من الإشارة إلى أمر مهم في هذا الجانب ، وهو بيان الفرق بين التفسير وهذه الإشارات وغيرها من الاستنباطات ، فأقول :
أولاً : أن من ضوابط التفسير المهمة ( بيان المعنى ) ، فإذا بان المعنى ، وتمَّ ، فقد انتهى التفسير ، وما وراء ذلك فإنه ـ في الغالب ـ لا يخرج أن يكون من علوم القرآن التي ترتبط بالآية ، أو من الاستنباطات بأنواعها المتعددة .
ثانيًا : أن التفسير يتعلق بظاهر النصِّ ، وما خرج عن ظاهره ، فهو من باب الاستنباط ، سواءً أكان اعتبارًا أو إشارة أو قياسًا أو مفهوم مخالفة أو غير ذلك .
ثالثًا : وأن من ضوابط التفسير ـ أيضًا ـ تناسقه مع السياق ، وكل معنى صحيح أُلحِق بالآية ، وهو لا ينتظم مع سياق الآية ، وله وجه ارتباط بها ، فإنه لا يدخل في باب التفسير ، وإنما يكون من باب الاستنباط .
وسأضرب لك مثلين يُبِينَانِ عن ذلك :
المثل الأول : روى الطبري بسنده عن أَبي أمامة في قوله : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) قال: (( هم الخوارج )) .
وسياق الآية كما ـ لا يخفى ـ في اليهود ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .
والملاحظ أن في فعل أبي أمامة أمرين :
الأول : أنه انتزع جزءًا من الآية .
الثاني : أنه حمل هذا الجزء الذي في سياق اليهود على الخوارج .
ولو أردت أن تسبك المعنى على تفسير أبي أمامة ؛ لظهر لك اختلال النظم مع المعنى ، فالمعنى ـ لو كان كلام أبي أمامة تفسيرًا ـ : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وأنتم تعلمون أني مرسل إليكم من الله ، فلما زاغ الخوارج أزاغ الله قلوبهم ...
ولا يخفى عليك هذا الخلل ؛ لو كان أبو أمامة يقصد التفسير ( بيان المعنى الظاهر من السياق ) ، لكنه ـ رضي الله عنه ـ أراد أن ينبهك إلى أن الخوارج شابهوا اليهود في هذه الحيثية ، وهي أنهم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، وليس مراده أن الْمَعْنيَّ الأول بهذه الجملة هم الخوارج ، وعلى هذا لا يحسن أن تَعُدَّ كلام أبي أمامة من التفسير ، بل هو من باب القياس الذي يأتي بعد بيان المعنى الظاهر في السياق .
المثل الثاني : في قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ، فقد ورد عن الإمام الشافعي وغيره : ( لما حجب هؤلاء في حال السخط ، دلَّ على أن قومًا يرونه حال الرضى ) ، وهذه الآية في عِداد الآيات التي يستدل بها أهل السنة على رؤوية الباري في الجنة، لا حرمني الله وإياكم هذا الفضل العظيم .
وإذا تأملت سياق الآيات وجدته في الكفار حيث قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) ، وظاهر معنى الآية في سياقها أن الكفار ممنوعون من رؤية ربهم ، وهذا تمام المعنى ، فلو فسَّر مفسِّر هذه الآية بهذا القدر لما قصَّر في التفسير ، أما ما ورد من بيان (مفهوم المخالفة ) ، وهو الاستدلال بمنع قوم على الكشف لقوم ، فهذا من باب الاستنباط ، وليس من باب التفسير .
ودليل ذلك ما أشرت لك به من أن مفسرًا لو لم ينتبه إلى هذا المعنى الدقيق لما كان مقصِّرًا في بيان المعنى من جهة التفسير .
وقد يرد سؤال عند بعض الناس ، ومفاده : ألا يصح أن نقول : لما أخبر أن الكفار يصلون الجحيم دلَّ على أن المؤمنين يدخلون الجنة ؟
فالجواب : بلى ، لكن هذا المعنى لم يخالف فيه أحد فيلزم التنبيه على دقائق الاستدلال لِمَا وقع فيه الخلاف ؛ مثل مسألة الرؤية التي خالف فيها المعتزلة ومن أخذ بقولهم ، والفرق بين الاستدلالين ظاهر .
أنواع الإشارات:
مما يحسن التنبه له أنه ليس كل ما نُسِب إلى التفسير الإشاري فأنه باطل محض ، بل الإشارات والاعتبارات مثل القياس في الفقه ، منه ما هو صحيح ، ومنه ما هو خطأ ، ومنه ما هو باطل ، وقد أشار إلى ذلك عدد من العلماء ؛ منهم ابن تيمية ففي معرض رده على بعض التفسيرات الخاطئة لاسم الله النور من قوله تعالى : ( الله نور السموات والأرض ) ؛ قال : (الثاني : أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي ، وضعَّف ذلك ، ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نوَّر قلوب الصادقين بتوحيده ، وأسرار المحبين بتأييده ، وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته .
وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولاً ، فيضعفه أولاً ويجعله من كلام العارفين ، وهي كلمة لها صولة في القلوب ، وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق ، فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في حقائق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد ، وبعضها مكذوب على قائله مفترى ؛ كالمنقول عن جعفر وغيره ، وبعضها من المنقول الباطل المردود .
فإن إشارات المشايخ الصوفية ، التي يشيرون بها تنقسم إلى إشارة حالية ، وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به ، وليس هذا موضعه .
وتنقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال ؛ مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه ، فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام ، لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك :
ـ فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح ؛ كانت حسنة مقبولة .
ـ وإن كانت كالقياس الضعيف ؛ كان لها حكمه .
ـ وإن كان تحريفا للكلام على غير تأويله ؛ كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية ، فتدبر هذا ، فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات ) الفتاوى ( 6 : 377 ) .
وإذا كان الحال في الإشارات أنها من هذا الباب ، فهي استنباطات تظهر للإشاري أثناء نظره في القرآن ، وهي نوع من التدبر الذي يحسن النظر إليه ؛ لأنك إذا تأمَّلت بعض الاستنباطات والفوائد التي يذكرها بعض التربويين والدعاة وغيرهم ؛ وجدتها من باب الإشارات ، وليست من التفسير .
ولا شك أن هذه الأقسام الثلاثة في الإشارات تنطبق على ما يذكره هؤلاء الدعاة والتربويون وغيرهم .
كلام العلماء في ضوابط قبول التفسير الإشاري :
لقد ذكر بعض العلماء ضوابط للتفسير الإشاري ، منهم ابن القيم ( ت : 751 ) ، والشاطبي ( ت : 790 ) ، وهاأنذا أسوق كلامهما :
قال ابن القيم ـ في تفسير قوله تعالى ( فالموريات قدحًا ) : (... وأضعف منه قول عكرمة : هي الألسنة تورى نار العداوة بعظيم ما نتكلم به وأضعف منه ما ذكر عنه مجاهد : هي أفكار الرجال تورى نار المكر والخديعة في الحرب
وهذه الأقوال إن أريد أن اللفظ دل عليها وأنها هي المراد فغلط وإن أريد أنها أخذت من طريق الإشارة والقياس فأمرها قريب
وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول :
ـ تفسير على اللفظ ، وهو الذي ينجو إليه المتأخرون .
ـ وتفسير على المعنى ، وهو الذي يذكره السلف .
ـ وتفسير على الإشارة والقياس ، وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم .
وهذا لابأس به بأربعة شرائط :
ـ أن لا يناقض معنى الآية .
ـ وأن يكون معنى صحيحا في نفسه .
ـ وأن يكون في اللفظ إشعار به .
ـ وأن يكون ببنيه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم .
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة ؛ كان استنباطا حسنا ) التبيان في أقسام القرآن ( ص : 49) .
قال الشاطبي : (فصل : وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان
أحدهما أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية
والثاني أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض
فأما الأول فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا
وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن لأنهما موفران فيه بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر ) الموافقات ، تحقيق مشهور سلمان ( 4 : 231 ـ 232 ) .
وقد أشار إلى ضابط آخر عند تعليقه على كلام سهل بن عبد الله في قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادًا ) ، ويمكن أن يقال : أن لا تُعتبر هذه الإشارات من باب التفسير :
قال : ( ... وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصَّل لكان المعنى ، فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا ، وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ، ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ند في الإعتبار الشرعي الذى شهد له القرآن من جهتين ... ) الموافقات ، تحقيق مشهور سلمان ( 4 : 242 ـ 243 ).
وهذان النقلان يحتاجان إلى تحرير في دمج هذه الضوابط ، والنظر في إمكانية إضافة ضوابط أخرى يحتاجها الناظر في كتب التفسير الإشاري ، وإنما نقلتها بطولها لكي تطلع على كلام بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ وتنظر فيه ؛ لتعرف مدى اجتهادهم في ضبط مثل هذه الأمور المرتبطة بالقرآن الكريم .
( يتبع )