الاستفادة من التفسير الإشاري في تدبر القرآن

إنضم
15/04/2003
المشاركات
1,698
مستوى التفاعل
4
النقاط
38
( الحلقة الأولى )
هناك بعض المصطلحات العلمية صارت تحمل ظِلالاً خاصَّة ، سرعان ما ينقدح في الذهن الجانب السلبي لاستخدام هذا المصطلح ، ومن هذه المصطلحات التي يقع فيها ذلك مصطلح ( التفسير الإشاري ) ، والتفسير الإشاري لم يلق ـ حسب علمي ـ دراسة تأصيلية تطبيقية من خلال كتب التفسير المعتادة ، وكتب التفسير الإشاري .
حقيقة التفسير الإشاري :
من الأمور المستحسنة في العلوم ؛ معرفة ( المبادئ ) من جهتين :
الأولى : الاستخدام التطبيقي للأفكار .
الثانية : ظهور المصطلح بخصوصيته المتعلقة بتلك التطبيقات .
وكثيرًا ما تأتي المصطلحات متأخرة عن التطبيقات ، ومن أشهر الأمثلة التطبيقة عند السلف ؛ ما ورد من تفسير عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ لسورة النصر ، فقد أورد البخاري بسنده عن ابن عباس قال : ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم .
قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ؟ حتى ختم السورة .
فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا .
وقال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا .
فقال لي : يا ابن عباس ، أكذلك قولك ؟ قلت : لا .
قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه الله له { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، فذاك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } . قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : (وَفِيهِ جَوَاز تَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا يُفْهَم مِنْ الإِشَارَات ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمه فِي الْعِلْم ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآن ) .
وهذا المثال من جنس ما نحن فيه ، فظاهر الآيات على حسب ما فهم بعض البدريين الذين سألهم عمر رضي الله عنهم ، ولكن في الآيات إشارة واضحة إلى أمر آخر ، وهو التنبيه على قرب أجل نبينا محمد صلى الله عليه وسلم .
ويظهر أن عمر وابن عباس رضي الله عنهم آخذا ذلك من النظر في عموم الشريعة ، حيث يرد الأمر بالاستغفار في نهايات الأعمال ، ولما طُلِب من النبي صلى الله عليه وسلم أن يستغفر ؛ أشعر ذلك بانتهاء عمله ( وهو مهمة النبوة ) ، وقرب أجله .
ولقد تأملت أنواع الأمثلة في التفسير الإشاري فوجدت أغلبها يدخل في باب الاستنباط ؛ لأن الغالب على هذه أنها لو فُقِدت لم يتأثر ظاهر القرآن ، والتفسير إنما يتعلق بظاهر القرآن ، وليس بما فيه من دلالات على غير الظاهر .
ولابدَّ من الإشارة إلى أمر مهم في هذا الجانب ، وهو بيان الفرق بين التفسير وهذه الإشارات وغيرها من الاستنباطات ، فأقول :
أولاً : أن من ضوابط التفسير المهمة ( بيان المعنى ) ، فإذا بان المعنى ، وتمَّ ، فقد انتهى التفسير ، وما وراء ذلك فإنه ـ في الغالب ـ لا يخرج أن يكون من علوم القرآن التي ترتبط بالآية ، أو من الاستنباطات بأنواعها المتعددة .
ثانيًا : أن التفسير يتعلق بظاهر النصِّ ، وما خرج عن ظاهره ، فهو من باب الاستنباط ، سواءً أكان اعتبارًا أو إشارة أو قياسًا أو مفهوم مخالفة أو غير ذلك .
ثالثًا : وأن من ضوابط التفسير ـ أيضًا ـ تناسقه مع السياق ، وكل معنى صحيح أُلحِق بالآية ، وهو لا ينتظم مع سياق الآية ، وله وجه ارتباط بها ، فإنه لا يدخل في باب التفسير ، وإنما يكون من باب الاستنباط .
وسأضرب لك مثلين يُبِينَانِ عن ذلك :
المثل الأول : روى الطبري بسنده عن أَبي أمامة في قوله : ( فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ ) قال: (( هم الخوارج )) .
وسياق الآية كما ـ لا يخفى ـ في اليهود ، قال تعالى : ( وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَقَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زَاغُوا أَزَاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفَاسِقِينَ ) .
والملاحظ أن في فعل أبي أمامة أمرين :
الأول : أنه انتزع جزءًا من الآية .
الثاني : أنه حمل هذا الجزء الذي في سياق اليهود على الخوارج .
ولو أردت أن تسبك المعنى على تفسير أبي أمامة ؛ لظهر لك اختلال النظم مع المعنى ، فالمعنى ـ لو كان كلام أبي أمامة تفسيرًا ـ : وإذ قال موسى لقومه يا قوم لم تؤذونني وأنتم تعلمون أني مرسل إليكم من الله ، فلما زاغ الخوارج أزاغ الله قلوبهم ...
ولا يخفى عليك هذا الخلل ؛ لو كان أبو أمامة يقصد التفسير ( بيان المعنى الظاهر من السياق ) ، لكنه ـ رضي الله عنه ـ أراد أن ينبهك إلى أن الخوارج شابهوا اليهود في هذه الحيثية ، وهي أنهم قوم زاغوا فأزاغ الله قلوبهم ، وليس مراده أن الْمَعْنيَّ الأول بهذه الجملة هم الخوارج ، وعلى هذا لا يحسن أن تَعُدَّ كلام أبي أمامة من التفسير ، بل هو من باب القياس الذي يأتي بعد بيان المعنى الظاهر في السياق .
المثل الثاني : في قوله تعالى : ( كلا إنهم عن ربهم يومئذ لمحجوبون ) ، فقد ورد عن الإمام الشافعي وغيره : ( لما حجب هؤلاء في حال السخط ، دلَّ على أن قومًا يرونه حال الرضى ) ، وهذه الآية في عِداد الآيات التي يستدل بها أهل السنة على رؤوية الباري في الجنة، لا حرمني الله وإياكم هذا الفضل العظيم .
وإذا تأملت سياق الآيات وجدته في الكفار حيث قال تعالى : (وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11) وَمَا يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذَا تُتْلَى عَلَيْهِ آَيَاتُنَا قَالَ أَسَاطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلَّا إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصَالُو الْجَحِيمِ (16) ثُمَّ يُقَالُ هَذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17) ، وظاهر معنى الآية في سياقها أن الكفار ممنوعون من رؤية ربهم ، وهذا تمام المعنى ، فلو فسَّر مفسِّر هذه الآية بهذا القدر لما قصَّر في التفسير ، أما ما ورد من بيان (مفهوم المخالفة ) ، وهو الاستدلال بمنع قوم على الكشف لقوم ، فهذا من باب الاستنباط ، وليس من باب التفسير .
ودليل ذلك ما أشرت لك به من أن مفسرًا لو لم ينتبه إلى هذا المعنى الدقيق لما كان مقصِّرًا في بيان المعنى من جهة التفسير .
وقد يرد سؤال عند بعض الناس ، ومفاده : ألا يصح أن نقول : لما أخبر أن الكفار يصلون الجحيم دلَّ على أن المؤمنين يدخلون الجنة ؟
فالجواب : بلى ، لكن هذا المعنى لم يخالف فيه أحد فيلزم التنبيه على دقائق الاستدلال لِمَا وقع فيه الخلاف ؛ مثل مسألة الرؤية التي خالف فيها المعتزلة ومن أخذ بقولهم ، والفرق بين الاستدلالين ظاهر .
أنواع الإشارات:
مما يحسن التنبه له أنه ليس كل ما نُسِب إلى التفسير الإشاري فأنه باطل محض ، بل الإشارات والاعتبارات مثل القياس في الفقه ، منه ما هو صحيح ، ومنه ما هو خطأ ، ومنه ما هو باطل ، وقد أشار إلى ذلك عدد من العلماء ؛ منهم ابن تيمية ففي معرض رده على بعض التفسيرات الخاطئة لاسم الله النور من قوله تعالى : ( الله نور السموات والأرض ) ؛ قال : (الثاني : أنه ذكر عن المفسرين أنهم تأولوا ذلك بالهادي ، وضعَّف ذلك ، ثم ذكر في آخره أن من كلام العارفين أن النور هو الذي نوَّر قلوب الصادقين بتوحيده ، وأسرار المحبين بتأييده ، وأحيا قلوب العارفين بنور معرفته .
وهذا هو معنى الهادي الذي ضعفه أولاً ، فيضعفه أولاً ويجعله من كلام العارفين ، وهي كلمة لها صولة في القلوب ، وإنما هو من كلام بعض المشايخ الذين يتكلمون بنوع من الوعظ الذي ليس فيه تحقيق ، فإن الشيخ أبا عبد الرحمن ذكر في حقائق التفسير من الإشارات التي بعضها كلام حسن مستفاد ، وبعضها مكذوب على قائله مفترى ؛ كالمنقول عن جعفر وغيره ، وبعضها من المنقول الباطل المردود .
فإن إشارات المشايخ الصوفية ، التي يشيرون بها تنقسم إلى إشارة حالية ، وهي إشارتهم بالقلوب وذلك هو الذي امتازوا به ، وليس هذا موضعه .
وتنقسم إلى الإشارات المتعلقة بالأقوال ؛ مثل ما يأخذونها من القرآن ونحوه ، فتلك الإشارات هي من باب الاعتبار والقياس وإلحاق ما ليس بمنصوص بالمنصوص مثل الاعتبار والقياس الذي يستعمله الفقهاء في الأحكام ، لكن هذا يستعمل في الترغيب والترهيب وفضائل الأعمال ودرجات الرجال ونحو ذلك :
ـ فإن كانت الإشارة اعتبارية من جنس القياس الصحيح ؛ كانت حسنة مقبولة .
ـ وإن كانت كالقياس الضعيف ؛ كان لها حكمه .
ـ وإن كان تحريفا للكلام على غير تأويله ؛ كانت من جنس كلام القرامطة والباطنية والجهمية ، فتدبر هذا ، فإني قد أوضحت هذا في قاعدة الإشارات ) الفتاوى ( 6 : 377 ) .
وإذا كان الحال في الإشارات أنها من هذا الباب ، فهي استنباطات تظهر للإشاري أثناء نظره في القرآن ، وهي نوع من التدبر الذي يحسن النظر إليه ؛ لأنك إذا تأمَّلت بعض الاستنباطات والفوائد التي يذكرها بعض التربويين والدعاة وغيرهم ؛ وجدتها من باب الإشارات ، وليست من التفسير .
ولا شك أن هذه الأقسام الثلاثة في الإشارات تنطبق على ما يذكره هؤلاء الدعاة والتربويون وغيرهم .
كلام العلماء في ضوابط قبول التفسير الإشاري :
لقد ذكر بعض العلماء ضوابط للتفسير الإشاري ، منهم ابن القيم ( ت : 751 ) ، والشاطبي ( ت : 790 ) ، وهاأنذا أسوق كلامهما :
قال ابن القيم ـ في تفسير قوله تعالى ( فالموريات قدحًا ) : (... وأضعف منه قول عكرمة : هي الألسنة تورى نار العداوة بعظيم ما نتكلم به وأضعف منه ما ذكر عنه مجاهد : هي أفكار الرجال تورى نار المكر والخديعة في الحرب
وهذه الأقوال إن أريد أن اللفظ دل عليها وأنها هي المراد فغلط وإن أريد أنها أخذت من طريق الإشارة والقياس فأمرها قريب
وتفسير الناس يدور على ثلاثة أصول :
ـ تفسير على اللفظ ، وهو الذي ينجو إليه المتأخرون .
ـ وتفسير على المعنى ، وهو الذي يذكره السلف .
ـ وتفسير على الإشارة والقياس ، وهو الذي ينحو إليه كثير من الصوفية وغيرهم .
وهذا لابأس به بأربعة شرائط :
ـ أن لا يناقض معنى الآية .
ـ وأن يكون معنى صحيحا في نفسه .
ـ وأن يكون في اللفظ إشعار به .
ـ وأن يكون ببنيه وبين معنى الآية ارتباط وتلازم .
فإذا اجتمعت هذه الأمور الأربعة ؛ كان استنباطا حسنا ) التبيان في أقسام القرآن ( ص : 49) .
قال الشاطبي : (فصل : وكون الباطن هو المراد من الخطاب قد ظهر أيضا مما تقدم في المسألة قبلها ولكن يشترط فيه شرطان
أحدهما أن يصح على مقتضى الظاهر المقرر في لسان العرب ويجري على المقاصد العربية
والثاني أن يكون له شاهد نصا أو ظاهرا في محل آخر يشهد لصحته من غير معارض
فأما الأول فظاهر من قاعدة لكون القرآن عربيا فإنه لو كان له فهم لا يقتضيه كلام العرب لم يوصف بكونه عربيا بإطلاق ولأنه مفهوم يلصق بالقرآن ليس في ألفاظه ولا في معانيه ما يدل عليه وما كان كذلك فلا يصح أن ينسب إليه أصلا إذ ليست نسبته إليه على أن مدلوله أولى من نسبة ضده إليه ولا مرجح يدل على أحدهما فإثبات أحدهما تحكم وتقول على القرآن ظاهر وعند ذلك يدخل قائله تحت إثم من قال في كتاب الله بغير علم والأدلة المذكورة في أن القرآن عربي جارية هنا
وأما الثاني فلأنه إن لم يكن له شاهد في محل آخر أو كان له معارض صار من جملة الدعاوي التي تدعى على القرآن والدعوى المجردة غير مقبولة باتفاق العلماء
وبهذين الشرطين يتبين صحة ما تقدم أنه الباطن لأنهما موفران فيه بخلاف ما فسر به الباطنية فإنه ليس من علم الباطن كما أنه ليس من علم الظاهر ) الموافقات ، تحقيق مشهور سلمان ( 4 : 231 ـ 232 ) .
وقد أشار إلى ضابط آخر عند تعليقه على كلام سهل بن عبد الله في قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادًا ) ، ويمكن أن يقال : أن لا تُعتبر هذه الإشارات من باب التفسير :
قال : ( ... وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصَّل لكان المعنى ، فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا ، وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ، ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ند في الإعتبار الشرعي الذى شهد له القرآن من جهتين ... ) الموافقات ، تحقيق مشهور سلمان ( 4 : 242 ـ 243 ).
وهذان النقلان يحتاجان إلى تحرير في دمج هذه الضوابط ، والنظر في إمكانية إضافة ضوابط أخرى يحتاجها الناظر في كتب التفسير الإشاري ، وإنما نقلتها بطولها لكي تطلع على كلام بعض العلماء ـ رحمهم الله ـ وتنظر فيه ؛ لتعرف مدى اجتهادهم في ضبط مثل هذه الأمور المرتبطة بالقرآن الكريم .
( يتبع )
 
فرغت - تقريباً - من مقالة تتناول هذا الجانب من التفسير : ما وراء اللفظ والمعنى المباشر. أسأل الله أن ييسر تمامها وطرحها بين يدي إخواننا وأساتذتنا في الملتقى.
 
جزاكم الله خيراً فضيلة الدكتور مساعد على هذا البيان ..
وأحب أن أضيف أمرين :

أولاً : أن ما يستخرج من القرآن من المعاني والأحكام والفوائد يكون بطريقين :

1- أولهما : دلالة الألفاظ : وهي دلالات ظاهرة كالعام والخاص والمطلق والمقيد والأمر والنهي ، ودلالات خفية كدلالة الإشارة ودلالة الاقتران ودلالة المفهوم وغيرها وهذه الدلالات هي دلالات الألفاظ الوضعية التي اقتصر جمهور العلماء عليها ولم يعتبروا غيرها مأخذاً للأحكام الشرعية وهي تتميز بكونها تنضبط لاعتمادها على وضع الواضع، وما وضعه لا يختلف بحسب الأشخاص، فهي تتميز عن كلٍّ من الدلالة الطبيعية والعقلية بهذا الانضباط.
وهنا يكون اللفظ قد دل على المعنى المستنبط أو الفائدة بدلالة لفظية وضعية . ولا يدخل هنا الإشارات التي يذكرها بعض المفسرين إذ لا علاقة لغوية بين المعنى الإشاري وبين النص المستنبط منه كما في مثال استنباط ابن عباس رضي الله عنهما من سورة النصر .

2- ثانيهما : ما يستخرج من القرآن بغير دلالات الألفاظ السابقة وإنما بطرق أخرى ومنها : الاستنباط من عادات القرآن كاستنباط الأدب في الحديث عن ما يستقبح ذكره من عادة القرآن في الكناية عنه ، والاستنباط بالقياس على المعاني المذكورة في القرآن . وهذا الأخير ـ أعني القياس ـ هو مجال الإشارات ومحلها فهي قياس على المعاني المذكورة في القرآن . وإن كان قد يسمى ما يستخرج بغيره من غير دلالات الألفاظ إشارة عند بعض المفسرين .

والفرق بين الطريقين أن الأول لُغَويٌّ محض.
وأما الثاني فهو تصرفٌ عقليٌّ قائمٌ على الاجتهاد بالرأي لاستنباط العلة في القياس أو معرفة تلك العادة .


ثانياً : يخلط البعض بين الإشارات القرآنية وبين دلالة الإشارة الأصولية :

ولإيضاح الفرق فإن دلالة الإشارة تعرف بما يلي:

" دلالةُ اللفظِ على حُكْمٍ غيرِ مقصودٍ، ولا سيقَ له النَّصُّ، ولكنه لازمٌ للحُكْمِ الذي سِيْقَ لإفادته الكلام".
وقال الشنقيطي ( ت: 1393 هـ): " دلالة اللفظ على معنى ليس مقصوداً باللفظ في الأصل، ولكنه لازم للمقصود، فكأنه مقصود بالتَّبَعِ لا بالأصل ".
وعند التأمل في تعريف هذه الدلالة عند العلماء يتبين أنها تحمل الصفات التالية:
الأولى: أنها دلالة نظمية: أي أنها مستقاة من نظم اللفظ. والإشارات ليست من النظم .
الثانية: أنها دلالةٌ غير مقصودة للمتكلم بهذا النظم.
الثالثة: أنها تدل على المعنى من جهة اللزوم العقلي، فلابد من تلازم عقلي بين المعنى المستنبط وبين النص، وعلى ذلك إن لم يوجد هذا التلازم فلا يصح كون المعنى مستنبطاً بدلالة الإشارة كما هو الشأن في كثير من استنباطات الصوفية أو ما يسمى بالتفسير الإشاري.

ومثالها :
قوله تعالى : ( لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين ) [ البقرة : 236 ] .
فهذه الآية سيقت لبيان أن طلاق الزوج قبل الدخول وقبل أن يفرض لها مهراً في عقد الزواج ـ بأن كان العقد خلواً من تقدير المهر ـ هو طلاق مشروع. وهذا هو المعنى المأخوذ بعبارة النص.
وأما ما يستنبط بدلالة الإشارة: فهو أن عقد الزواج يصح بدون ذكر المهر أصلاً.
ووجه الاستنباط: أنه لا يصح الطلاق إلا بناء على زواج صحيح قائم.
وبيان التلازم هنا: أن الله أباح الطلاق لمن لم يسمِّ المهر ولم يذكره، وإباحة الطلاق تستلزم وجود زواج صحيح، فيستنبط من ذلك صحة عقد الزواج بدون ذكر المهر أصلاً.

هذا والله أعلم ...
 
ضابط الإشارة الصحيحة

ضابط الإشارة الصحيحة

قال ابن القيم - رحمه الله - في معرض كلام له في هذا : " وسمعت شيخ الإسلام ابن تيمية - قدس الله روحه - يقول : الصحيح منها ما يدل عليه اللفظ بإشارة من القلب من باب قياس الأولى " ثم ذكر جملة من الأمثلة من كلام شيخ الإسلام . انظر مدارج السالكين 2/416-417

سؤال : هل يعد تفسير الطوفي - الإشارات الإلاهية - من هذا ؟
شكر الله لكم ، أعتذر من تطفلي عليكم
 
الإشارات الإلهية للطوفي داخل في جملة الكتب القليلة المفردة في الاستنباط -والإشارات التفسيرية داخلة في علم الاستنباط-, على اختلاف موضوعاتها, ولا نستطيع الحكم على جميع الاستنباطات بالصحة أو البطلان وإنما يحكم بذلك على أفرادها, وإن كانت أكثر استنباطات الطوفي على التمام.
 
لا مزيد على ما ذكر الشيخ مساعد حفظه الله..

ولكن أحببت أن أنقل كلاما لابن القيم رحمه الله في (إعلام الموقعين) يصب في نفس ما ذكر الشيخ ويؤكده
ويستفاد منه في استخراج الضوابط .

يقول ابن القيم رحمه الله: ( دلالة النصوص نوعان حقيقة وإضافية , فالحقيقة تابعة لقصد المتكلم وإرادته وهذه الدلالة لا تختلف.

والإضافية تابعة لفهم السامع وإدراكه وجودة فكره وقريحته وصفاء ذهنه ومعرفته بالألفاظ ومراتبها.

وهذه الدلالة تختلف اختلافا متباينا بحسب تباين السامعين في ذلك وقد كان أبو هريرة وعبد الله بن عمر أحفظ الصحابة للحديث

وأكثرهم رواية له وكان الصديق وعمر وعلي وابن مسعود وزيد بن ثابت أفقه منهما بل عبد الله بن عباس أيضا أفقه منهما ومن عبد الله بن عمر. (ص234)طبعة دار طيبة (مجلد واحد)

فيفهم كلام ابن القيم رحمه الله - حسب فهمي-

أن الإرادة الحقيقية هي (بيان معنى الآية الذي يتعلق بظاهر النص وينتهي عنده التفسير) كما ذكر د. مساعد حفظه الله.

وأن الدلالة الإضافية هي ما يعتبر من قبيل الفهم والاستنباط والتدبر.

ثم قال رحمه الله ( ... والمقصود تفاوت الناس في مراتب الفهم في النصوص وأن منهم من يفهم من الآية حكما أو حكمين

ومنهم من يفهم منها عشرة أحكام أو أكثر من ذلك ومنهم من يقتصر في الفهم على مجرد اللفظ دون سياقه ودون إيمائه وإشارته وتنبيهه واعتباره

وأخص من هذا وألطف ضمه إلى نص آخر متعلق به فيفهم من اقترانه به قدرا زائدا على ذلك اللفظ بمفرده

وهذا باب عجيب من فهم القرآن لا يتنبه له إلا النادر من أهل العلم فإن الذهن قد لا يشعر بارتباط هذا بهذا وتعلقه به

وهذا كما فهم ابن عباس من قوله (وحمله وفصاله ثلاثون شهرا) مع قوله (والوالدات يرضعن أولادهن حولين كاملين) أن المرأة قد تلد لستة أشهر) ص237

أسأل الله تعالى أن يرزقنا التدبر وحسن الفهم.. إنه سميع مجيب
 
فرغت - تقريباً - من مقالة تتناول هذا الجانب من التفسير : ما وراء اللفظ والمعنى المباشر. أسأل الله أن ييسر تمامها وطرحها بين يدي إخواننا وأساتذتنا في الملتقى.

جزاكم الله خيرا، ولعل الأستاذ أبا بيان يجود علينا بمقالته التي أخبر بها، فعنوانها يثير الانتباه.
وقد عدت في الأيام القليلة الماضية إلى تصفح عدة مواضيع قديمة في المنتدى، وتأسفت كثيرا على كثرة المواضيع الهامة التي بادر بعض المشاركين بطرحها ثم طواها النسيان رغم قيمتها العلمية وعدم التجاوب معها.
ولا أدري إن كان من المفيد التفكير في وضع قسم فرعي (هنا في القسم العلمي) تعرض فيه أهم القضايا التي يرغب الأساتذة لفت الانتباه إليها وطرحها للنقاش. وقد رأيت عددا هاما منها في مواضيع د. مساعد الطيار. والفائدة من تخصيص قسم فرعي لها أن تظل دائما في صدارة الاهتمام. فالقسم العلمي يحتوي لحد اليوم على أكثر من 4500 موضوع، قد لا يتجاوز عدد القضايا البحثية الهامة 200 (ولعل هذا الرقم ضخم مقارنة بالواقع)، وهذه القضايا سريعة الضياع في زحمة المشاركات والردود.
وفي صورة اعتماد هذا المقترح، فلعل من المفيد تحديد مجموعة من المحاور التي ترون أولوية التركيز عليها في البحوث العلمية أو المدارسات المقترحة في الدراسات القرآنية، وذلك حتى لا ينحرف مسار الكتابات المنشورة فيه.
 
جزاكم الله خيراً على هذا البيان الشافي
وليتكم تذكرون الكتب المختصة بالتفسير الإشاري؟
 
من الكتب المفردة والمتناولة للتفسير الإشاري :
1- تفسير التستري.
2- لطائف الإشارات, للقشيري.
3- حقائق التفسير, للسلمي.
4- نكت القرآن الدالة على البيان في أنواع العلوم والأحكام, للقصَّاب الكرجي.
5- حجج القرآن, لأبي الفضائل الرازي.
6- الإكليل في استنباط التنزيل, للسيوطي.

وممن اهتم بها مع التفسير:
7- الكرماني في غرائب التفسير وعجائب التأويل.
8- والرازي في التفسير الكبير.
9- والطوفي في الإشارات الإلهية إلى المباحث الأصولية.
10- والآلوسي في روح المعاني.
تلك عشرة كاملة.
 
إتماماً للفائدة:
كتب الدكتور مشعان سعود العيساوي رسالته للماجستير في كلية الشريعة بجامعة بغداد بعنوان ( التفسير الإشاري : ماهيته وضوابطه) سنة 1407هـ = 1987م ، عدد الصفحات 392 .
 
ومن الكتب أيضا

روح البيان للبروسوي

وتفسير ابن عجيبة وكلاهما مطبوع

هل يدخل ما ينقله البقاعي في نظم الدرر عن الحرالي في هذا الباب
 
هل هناك رسالة عنه في تفسير الألوسي - رحمه الله - ؟
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
أخي أبو المكارم لعل تفسير ابن عجيبة من الكتب العجيبة والمؤلفات التي لاينصح طلاب العلم خصوصا المبتدئين مثلي بقراءتها ولا حتى الإحالة عليها.
لأن المطلع عليها سيجد عجبا عجابا لا يمت إلى التفسير بصلة ولعل مثل هذه الكتب هي التي يصدق عليها القول المشهور: تفسير فيه كل شيء إلا التفسير.
والله أعلم وأحكم
 
[align=center]بارك الله في فضيلة الشيخ الطيار ..
و أحببت التركيز على هذه الجوانب المضيئة للعقل :
[/align]


( الحلقة الأولى )
هناك بعض المصطلحات العلمية صارت تحمل ظِلالاً خاصَّة ، سرعان ما ينقدح في الذهن الجانب السلبي لاستخدام هذا المصطلح ، ومن هذه المصطلحات التي يقع فيها ذلك مصطلح ( التفسير الإشاري ) ،

.......
وكثيرًا ما تأتي المصطلحات متأخرة عن التطبيقات ، ومن أشهر الأمثلة التطبيقة عند السلف ؛ ما ورد من تفسير عمر وابن عباس ـ رضي الله عنهم ـ لسورة النصر ، فقد أورد البخاري بسنده عن ابن عباس قال : ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم .
قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ؟ حتى ختم السورة .
فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا .
وقال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا .
فقال لي : يا ابن عباس ، أكذلك قولك ؟ قلت : لا .
قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه الله له { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، فذاك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } . قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : (وَفِيهِ جَوَاز تَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا يُفْهَم مِنْ الإِشَارَات ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمه فِي الْعِلْم ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآن ) .

.......
.......
وقد أشار إلى ضابط آخر عند تعليقه على كلام سهل بن عبد الله في قوله تعالى : ( فلا تجعلوا لله أندادًا ) ، ويمكن أن يقال : أن لا تُعتبر هذه الإشارات من باب التفسير :
قال : ( ... وهذا يشير إلى أن النفس الأمارة داخلة تحت عموم الأنداد حتى لو فصَّل لكان المعنى ، فلا تجعلوا لله أندادا لا صنما ولا شيطانا ولا النفس ولا كذا ، وهذا مشكل الظاهر جدا إذ كان مساق الآية ، ومحصول القرائن فيها يدل على أن الأنداد الأصنام أو غيرها مما كانو يعبدون ولم يكونوا يعبدون أنفسهم ولا يتخذونها أربابا ولكن له وجه جار على الصحة ، وذلك أنه لم يقل إن هذا هو تفسير الآية ، ولكن أتى بما هو ند في الإعتبار الشرعي الذى شهد له القرآن من جهتين ... )

(

[align=center]و من هذا الأخير ما يروى عن سيدنا ابن عباس رضي الله عنه قوله : الهوى شر إله عبد في الأرض .[/align]

أما هذه :
" وكثيرًا ما تأتي المصطلحات متأخرة عن التطبيقات " فعبارة في غاية الإيجاز لمعنى بديع يحل كثيرا من الإشكالات

اللهم علمنا ما ينفعنا و انفعنا بما علّمتنا و زدنا علماً .
 
وهناك بحث علمي للدكتور عبد الجليل عبد الرحيم العبادلة -الجامعة الأردنية- كلية الشريعة في تأصيل فكرة التفسير الإشاري وهذا البحث غاية في الإحكام .
 
جزاك الله خيراً يا دكتور حسن
وهل بالإمكان عرض بحث الدكتور عبد الجليل رحمه الله ؟
 
بسم الله الرحمن الرحيم
والصلاة والسلام على سيد المرسلين وعلى آله وصحبه ومن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته
أخي الحبيب أبو بيان أسأل الله سبحانه وتعالى أن يتغمدنا جميعا برحمته في حياتنا الدنيا والآخرة ، لكن والدي الدكتور عبد الجليل مازال يدرّس في الجامعة الأردنية -كلية الشريعة من السبعين إلى الآن ونسأل الله سبحانه وتعالى أن يبارك لنا فيه .
وسأبحث عن البحث وأستشير الوالد إن إذن لي بإدراجه في هذا الملتقى المبارك أو عبر النت .
 
أحبك الله وأحسن إليك يا دكتور حسن , ونعم الوالد , ونعم الولد .
بارك الله فيكما وأطال أعماركما في طاعته , واعذرني فقد فهمت ذلك من أحد المشاركات من زمن . رعاكم الله .
 
جواز تأويل القرآن بما يفهم من الإشارات .
أغلب التفسير الإشاري يدخل في الاستنباط .
التفسير الإشاري مثل القياس في الفقه ، منه ما هو صحيح ، ومنه ما هو خطأ ، ومنه ما هو باطل
وقد يرد سؤال عند بعض الناس ، ومفاده : ألا يصح أن نقول : لما أخبر أن الكفار يصلون الجحيم دلَّ على أن المؤمنين يدخلون الجنة ؟
فالجواب : بلى ، لكن هذا المعنى لم يخالف فيه أحد فيلزم التنبيه على دقائق الاستدلال لِمَا وقع فيه الخلاف .

فعلى نحو ذلك :
ألا نستطيع أن نقول إن الآية التالية : {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }العنكبوت48 تدل ضمنيا على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح يتلو ويكتب بعد نزول القرآن .
فالرسول صلى الله عليه وسلم ما تلا من كتاب ولا كتب بيده من قبل أن ينزل القرآن ، مع العلم أن الكتابة والقراءة آليات الاتصال بالكتب السماوية السابقة .
فالرسول صلى الله عليه وسلم كان أميا بمعنى لا علاقة له بالكتب السماوية السابقة
ومصطلح الأمي من المشترك اللفظي في القرآن الكريم الذي يتبين معناه عبر السياق .
(ومنهم أميون لا يعلمون الكتاب إلا أماني ) الأميون هنا الذين لا يعرفون التوراة إلا أماني حيث كانوا يتكلـمون بـالظنّ بغير ما فـي كتاب الله، بينما ( هو الذي بعث في الأميين رسولا منهم ) فالأمي هنا نسبة إلى أم القرى ، أي : المكي الذي بعث في المكيين. مع العلم أن العرب المكيين كانوا لا علاقة لهم بالكتب السماوية السابقة . فكان اليهود يجدون المبرر لممارسة كل السلوكات الغير اللائقة ضد العرب ( ليس علينا في الأميين سبيل ) .
ومن هنا يكون الاستنباط التالي : إذا كان الرسول صلى الله عليه وسلم لا علاقة له بالكتب السماوية السابقة من قبل نزول القرآن : ما تلا كتابا ولا خط حرفا ، فبعد نزول الوحي سيتعرف على آليات الكتابة والتلاوة وخصوصا باعتبار المدة الطويلة التي تراوحت العشرين سنة وكان صلى الله عليه وسلم يشرف على عملية الكتابة فيقول لكتبته اكتب كذا في سورة كذا .
عدد كبير من المفسرين قد غمطوا الرسول صلى الله عليه وسلم هذا الحق .وهذا لا يستساغ عقلا . حتى أن عددا منهم اعتبر ذلك معجزة ، وهل المعجزة أن يعاشر الرسول الكتبة مدة طويلة ولا يعرف الكتابة وهذا خلاف الواقع الذي يؤكد أن كل الذين تعلموا الكتابة والقراءة تعلموها في زمن وجيز ، بينما هناك من المفسرين من أجزم أن الرسول ما مات حتى قرأ و كتب . مع العلم أن الرسول صلى الله عليه وسلم ليس في حاجة لا إلى القراءة بمفهومها المعاصر ولا إلى الكتابة ، ذلك أن عملية الوحي من الله العلي الكبير وقد أحاط نبيه بالعناية وعلمه ما لم يكن يعلم : أقرأه فلا ينسى وعلمه شديد القوى ذو مرة ، فكان جبريل يدارسه القرءان ، جمع الله القرآن في صدره وأجراه على لسانه وجعله يتبع القرآن فهو يتلوه على الناس وكأنه مسطور في قلبه يتلو آياته البينات صحفا مطهرة فيها كتب قيمة .

فالآية الكريمة التالية : {وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلَا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لَّارْتَابَ الْمُبْطِلُونَ }العنكبوت48
تدل على أن الرسول صلى الله عليه وسلم أصبح يقرأ ويكتب بعد ما كان من قبل نزول القرآن لا يقرأ ولا يكتب .

فالسؤال المطروح الآن هو : ما علاقة مثل هذا الاستنتاج بما جاء به الشيخ في هذه الدراسة .
 
أورد البخاري بسنده عن ابن عباس قال : ( كان عمر يدخلني مع أشياخ بدر ، فقال بعضهم : لِمَ تُدخل هذا الفتى معنا ولنا أبناء مثله ؟ فقال : إنه ممن قد علمتم .
قال : فدعاهم ذات يوم ودعاني معهم ، قال : وما رأيته دعاني يومئذ إلا ليريهم مني ، فقال : ما تقولون في { إذا جاء نصر الله والفتح . ورأيت الناس يدخلون في دين الله أفواجا } ؟ حتى ختم السورة .
فقال بعضهم : أمرنا أن نحمد الله ونستغفره إذا نصرنا وفتح علينا .
وقال بعضهم : لا ندري ، أو لم يقل بعضهم شيئا .
فقال لي : يا ابن عباس ، أكذلك قولك ؟ قلت : لا .
قال : فما تقول ؟ قلت : هو أجل رسول الله صلى الله عليه و سلم أعلمه الله له { إذا جاء نصر الله والفتح } فتح مكة ، فذاك علامة أجلك { فسبح بحمد ربك واستغفره إنه كان توابا } . قال عمر : ما أعلم منها إلا ما تعلم ) .
قال ابن حجر في شرحه لهذا الحديث : (وَفِيهِ جَوَاز تَأْوِيل الْقُرْآن بِمَا يُفْهَم مِنْ الإِشَارَات ، وَإِنَّمَا يَتَمَكَّن مِنْ ذَلِكَ مَنْ رَسَخَتْ قَدَمه فِي الْعِلْم ، وَلِهَذَا قَالَ عَلِيٌّ رَضِيَ اللَّه تَعَالَى عَنْهُ : أَوْ فَهْمًا يُؤْتِيه اللَّهُ رَجُلاً فِي الْقُرْآن ) .

جزاه الله خيرا الدكتور مساعد طيار.
فإن التفسير الاشاري بحر من بحور علوم القران
 
عودة
أعلى