الإمام عمر بن سليمان الأشقر رحمه الله زينة العلماء وحلية الأولياء

إنضم
02/06/2003
المشاركات
514
مستوى التفاعل
1
النقاط
18
زِيْنَةُ العُلمَاءِوحِلْيةُ الأولياءِ


[FONT=AF_Najed]الإمام عمر بن سليمان الأشقر :

[/FONT]

6

الحمد لله على كل حال، والصلاة والسلام على الصَّحْب والآل، أمَّا بعد..
فقد فُجِعت أمة الإسلام فاجعة عظيمة، ونزلت بها مصيبة كبيرة، بوفاة [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]عالِـم[/FONT] من كبار علمائها، وفقيهٍ من أفقهِ فُقهائها، ذلكم [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]العالِـم[/FONT] العامل، الإمام المجاهد الرَّباني، التَّقي النَّقي الخفي، زينة العلماء، وحِلْية الأولياء، الشَّيخ العلَّامة الإمام عمر بن سليمان الأشقر: رحمة واسعة، وأنزل على قبره الرَّحمات، ورفع منزلته في أعالي الدَّرجات.
رحل هذا الإمام المبارك وقد كان مِلْئَ السَّمع والبصر، رحل بعد أن ألـمَّ به داء البطن إلماماً شديداً، رحل وكأنِّي غير مُصدِّق لهذا الرَّحيل، إي [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]والله[/FONT]، فعُدْتُ بعد دفنه :، وكانت يدي آخر مَن مسَّت جسده الطاهر حين أنزلتُه في قبره، وكشفتُ عن وجهه الوضَّاء المُبتسم، وقد همستُ له همسة يعرف شجونها وأسرارها :، عدتُ أَهِيمُ على وجهي وكأني فقدتُ كلَّ شيء [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]والله[/FONT]، عدتُ كأني أسير تائهاً ضائعاً يتيماً، عدت وقد سُئلتُ في مسألة يسيرة جداً، فلم أُحسِن جواباً! ولم أعرف ما أقول إلا: «رحل الشيخ، فا[FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]لله[/FONT] أعلم»، فعادوني السائل مُتعجِّباً يقول : الله أعلم! فقلت: هو ذاك.
عدت وأنا أتذكَّر حديث أنس رضي الله عنه حين قال عن وفاة النبي ^ : لـمَّا كان اليوم الذي دخل فيه رسول الله ^ المدينة أضاء منها كلُّ شيء، فلما كان اليوم الذي مات فيه أظلم منها كل شيء ([1])، وها نحن تلامذة الشيخ: اليوم نتألَّـم شديداً برحيله: عنَّا، فإذا كان هذا شعورنا نحن في هذا العصر، فيا لله كم كانت المصيبة على الصحابة رضوان الله عليهم في فقدهم رسول الله ^، فما أعظم مَوْجِدتهم لرحيله!
في لحظةٍ واحدة أيقنتُ أنَّ الشيخ: رحل، نعم رحل لأنِّي كنتُ أَرْجعُ إليه في كل أموري العلمية، أرجع إليه في سُؤالاتي واستشكالاتي، في مراجعاتي وتأليفاتي وتحقيقاتي، فكان نِعْم الرِّدء، والمُوجِّه، والُمرشِد، والنَّاصِح، [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]والعالِـم[/FONT]، والُمربِّي، والمُقدِّم، و..و..، كلُّ هذا لن يكون بعد اليوم، لا حول ولا قوة إلا [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]بالله[/FONT]، اللهم آجُرْني في مصيبتي واخْلُف لي خيراً منها، نعم رحل هذا العالم الرَّباني إلى رضوانٍ من [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT]، رحل بعد سبعين عاماً ونيِّف، أُسِّست على خير، وأرجو [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] أن تكون خُتِمت بخير وعلى خير، أحسبه [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]والله[/FONT] حسيبه. عدتُ إلى مكتبتي أقرأ كتبه ــ ولها مكان خاص مُميَّز عندي مطبوعها ومخطوطها ــ لكنَّها كانت قراءة من نوع آخر، شرعتُ أقرأ لأُسلِّي نفسي بقراءة كتبه وكأنَّ شيخي : إمامي يُخاطبني؛ أشعر بحياته، وبدِفْءِ كلماته، وقُرب حنانه، بل وبحركاته الهادئة، وهمساته الحانية، ونظراته الأبوية، فاتنسَّم عبير نفَسِه، وشفافية روحه، وعاطفة قلبه، آهٍ يا شيخي، كم هي الشُّجون والمُنون، كم هي عزيزةٌ على قلبي، تلك اللِّقاءات العلمية، والجلسات الأُنسية، والنُّزهات الأخوية، كم هي عزيزةٌ على قلبي، فمن حُبِّي لها أحتفظ بها في جنبات صدري، خلِّها في جُوَّانيِّ قلبي؛ فإنِّي أغار عليها غيرة شديدة، وأخشى البَوْح بها، خشية نظرة حاسد، أو بغض حاقد:
لا تُذِعِ السِّرَّ المصُون فإنَّني أغارُ على ذِكْر الأحبَّة مِن صَحْبي
ويحي ماذا أكتب؟ وعن أيِّ شيء أكتب، وهل تتَّسع الصفحات، وهل يسعفني القلم لأبثَّ ما عندي الآن؟ رحماك ربي، عدتُ، وسَرعان ما أمسكتُ كتابه الذي كتبه عن حياته «صفحات من حياتي» فقرأتُه كله؛ لأعيد عبير الذكريات، وجميل الأمنيات، فما برحتُه إلَّا وخَلصتُ إلى أنَّ مثل هذا [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]العالِـم[/FONT] الرَّباني الُمبارك الذي عاش كريماً مهيباً عزيزاً، وتُوفِّي كريماً مهيباً عزيزاً شهيداً ــ إن شاء [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] ــ عزيز الوجود، فمن عرف كمعرفتي، وشاهد كمشاهداتي علم ذلك، إيه يا شيخي، مَن لي من بعدك، بعد [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] سبحانه؟ من لي بتلك الهيبة الرَّبانية، التي كانت في حياتك، وفي مماتك، التي كنتُ كلَّما لقيتك فيها بهيبتك وجلالك انتفعت بك؛ فأكون عاقلاً أياماً من وراء ذلك، سبحان ربي :
علوٌّ في الحياة وفي المماتِ بحقٍّ أنت إحدى المعجزات
[FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]تالله[/FONT] إنَّ حياة وممات هذا [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]العالِـم[/FONT] المجاهد الرَّباني فيها من الشَّأن ما ينبغي أن يقف معه كلُّ مَن يبغي صلاح نفسه والارتقاء بها عملياً وعلمياً، مُنذ النَّشئة وحتى الممات، وكم في حياته من عِبَرٍ وأيُّ عِبَر، وها أنا ذا أبثُّ لك بعض هذه العِبَر والشجون، وغايتي أن تجد فيها أُسوة، ومنفعة، وفائدة، وأرجو أنيكون هذا بعض وفاء لشيخنا وعالمنا :، وسأسوقها لك من خلال ثلاث محاور :
q المحور الأول : مُهيِّئات الحفظ والنُّبوغ في حياة هذا العالِـم الرَّباني منذ الصِّغَر :
أراد الله سبحانه لهذا الفتى منذ نُعومة أظفاره أن يكون له شأناً، وأن يكون شَامةً في جبين عصر من العصور، فكان ثمَّة أمارات للحفظ الرَّباني له، وثَمَّة مُهيِّئات وإرْهاصَاتٌ للنُّبوغ والمنزلة الرفيعة، فهاك بعضاً منها أمام عينيك، وفي مُتناول يديك :
1. حفظُ الله له مِن قتل اليهود : يُخبرني شيخنا: عن أُعجُوبةٍ وقعت له، وكيف أنجاه الله من قتل اليهود وهو رضيع، فيقول :: أخبرتني الوالدة أنَّ الإنجليز حين شَنُّوا الحرب علينا، ودخلوا منازلنا، خرَّبوها وأفسدوها، وكنتُ في ذلك الوقت رضيعاً، ولـمَّا دخلوا بيتنا، كنتُ فيه، فأعمى [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] أبصارهم عنِّي، فما أصابني بفضل الله ومنتَّه أذى. ([2])
قلتُ : وهذه إشارة لحفظ [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] له لِـمَا سيكون مِن خَبره وشأنه في مُقتبل عمره، وقارن ذلك مع قصة نبي الله موسى ؛ وكيف حفظه [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] في الصِّغَر ؟!
2. مرض الصِّغَر يحدُّه من اللَّهو واللَّعب حتى الثامنة عشرة من عمره مع الرَّعاية الخاصة: أُصيب شيخنا : في صغره بمرض كدَّر عليه طِيْب العيش لأجلٍ محدود، فيقول شيخنا : عنه: «نَعِمْتُ في الصِّبا بأيام كثيرة طيبة، ولكن نغَّص طِيْب العيش فيها مرضٌ لازمني إلى سِنِّ الثامنة عشرة، وحدَّ من اللَّهو واللَّعب الذي يطيب للفتيان في مرحلة الصبا»([3]) مما جعل من ذلك رعاية خاصة في صغره من والدته رحمهما الله، فهاهو يقول: «رعتني والدتي في صغري رعاية خاصة، وذهبت بي إلى الأطباء لعلاجي، ولكنني لم أستفد من ذلك العلاج؛ إذ تبيَّن فيما بعد أنَّ لديَّ نقصاً خَلْقياً في الرئتين، وكان هذا يسبب لي ضيقاً في التنفس يطرحني في الفراش، وقد أخبرني بعض من اطَّلع على حالتي من الأطباء أنَّ هذا النقص سيزول عندما أبلغ سنَّ الثامنة عشرة، وكذلك كان، فقد كانت نَوبة الضِّيق تأتي أكثر من مرة في كلِّ شهر، وتطرحني في الفراش، فلمَّا بلغتُ سِنَّ الثامنة عشرة، بدأت النَّوبات تتباعد شيئاً فشيئاً، حتى زالت زوالاً تاماً بفضل الله ونعمته»([4])
قلت: فلعلَّك تلحظ أنَّ في هذا البلاء ما هو خير لهذا الفتى مِن أن ينخرط في صفوف اللَّاعبين واللَّاهين، وما لا يُحمد من الفِعَال، ويكاد يُصدِّق ذلك، أنَّ هذا الفتى لم يكن طريح الفراش دوماً، بل مع عِلَّته استطاع أنْ يصعد قمم الجبال في قريته، ويكأنَّها إشارة للرِّعاية والعناية عمَّا لا يُحمد، ثم الدُّربة على المشاق الآتية فيما بعد، وقارن ذلك مع قصة النبي صلى الله عليه وسلم حين صرفه الله عن حضور سمر الجاهلية ذات مساء، فضرب الله عليه النَّوم، فما أيقظه إلا مسُّ الشمس([5])، فكان هذا صارف عن السَّهوة، كما أنَّ ذاك صارف عن الغفلة، فمن يفهم لُطف [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] به؟ ومِن هذا اللُّطف أيضاً:
3. رؤيةٌ منامية في العاشرة من عمره: ففي تلك الحالة المرضية لهذا الفتى اليافع، يرزقه الله تعالى رؤية قلَّ نظيرها لمن كان في سِنِّه، حدَّثني شيخنا : قال : رأيت حين كنتُ في العاشرة من عمري، أني أتجوَّل بين حقول القرية، وبينما أنا أمشي، إذ بالطريق ينقسم إلى قسمين: طريق فيه ارتفاعٌ وصعود إلى أعلى الجبل، وهو صعب وشاق، وطريق إلى أسفل الوادي، وهو سهل ويسير، فاحترتُ أيهما أسلك فرأيتُ فيما [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]أُلْـهِم[/FONT] لي آنذاك النبي ^ وأبا بكر الصديق رضي الله عنه، فأشارا إليَّ أنِ اسلُك الطريق العالي المرتفع ولو كان صعباً، فسلكته، وفرحت بها فرحاً عظيماً. فكان بحمد الله هذه الرفعة العلمية، والمنزلة التي بوَّأها الله له في الحياة وبعد الممات، فقُلِّي بربِّك: أوَتظنُّ هذا عبثاً ؟
4.بُعدُه عن أهل الأهواء : يذكر شيخنا برَّد [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] ضجيعه، فيقول : «ابتليتُ ببعض الذين كانوا يخوضون خوضاً بعيداً عن الهدى، ولكن لم يطل بي المقام معهم، ففارقتهم، وانتهت علاقتي بهم، وكان ذلك من فضل الله عليَّ»([6])
قلت : ولعلَّك تجد في هذا تبصير الله له خطأ هذا المسلك الذي وإنْ سلكه بعض الصالحين، إلَّا أنه مَسلكٌ غير محمود، ولكنَّه نورٌ من الله قذفه في قلب عبده، فأبْصَرَ ما أبصر.
5. توفيقُ الله وهدايتُه بصرفه عن السفر لبلاد الغرب: حدَّثني شيخنا:، أنه كان في مقتبل عمره يرغب بالسَّفر إلى هناك، وكان يودُّ أن يدرس الدراسة العلمية التجريبية، ولكنَّ الله أبدله خيراً من ذلك كلِّه، فها هو يَقصُّ مِن خبره فيقول عن إرادة الله به الخير في عدم سفره: «أنا أعلم اليوم أن عدم سفري كان هو الخير، فلو قُدِّر لي أن أنطلق إلى تلك الديار البعيدة الغريبة، فالله أعلم بما سيكون عليه حالي، قد أجمع المال والثروة، وقد أتبوأ المناصب، ولكن هل سيبقى لي ديني وإسلامي([7])، وهل سأصبح داعية أدعو إلى لله على بصيرة، في الأغلب لا، لقد أراد الله بي خيراً ورحمني، وأختار لي، فسبحانه ما أرحمه وأحلمه»([8])
قلت : تأمُّل هذا وحده يُغنيك عن تعليقي؛ لتَذهبَ به كلَّ مَذهب، وعلى نفسك فَقِسْ ما اختار الله لك، ووفَّقك له، وفتح عليك به، فتعاهد أمرك وشأنك، وفي كلٍّ خير.
هذه نماذج من حفظ الله سبحانه ومهيئات النُّبوغ لشيخنا :، وفي الـجَعْبة الكثير، وحسبك بها دلالة، فتأمل.
q المحور الثاني : الدُّروس والعِبَر من حياته ومماته، خذها في رياحين سبع :
حياة هذا العالم الرَّباني مليئة بالدُّروس والمواعظ والعِبَر، وعلى امتداد هذه السبعين عاماً ونيِّف، فقد كانت بساتين عِلْم، وعبادة، وخُلُق، وخشية، وإخلاص، وتواضع، وطِيْب نَفْس، وحُسْن مَعْشر، ولين جانب، وقُلْ ما شئت، فما حالي في هذه العُجالة إلَّا أن أقتطف لك من هذه البساتين الغرَّاء، وورودها الزهراء، ريحانة، وهذه الرَّيحانة كفيلةٌ أن تُنْعِم حياتك كلها إنْ أخذت بها، فكيف بالرَّياحين كلها؟ وهي التي بلَّغت هذا الإمام ما بلَّغته من العلم والمكانة والرِّفعة في الدنيا، وأرجو الله أن تكون شاهد حق و دليل صدق له في الآخرة.
q الرَّيحانة الأولى : الإخلاصُ والصدق مع الله في القول والعمل.
وهذه هي المنزلة التي رفعت الشيخ: أيَّما رِفْعة، فإنَّ هذا العالم الرَّباني له سِرٌّ عجيب بينه وبين ربِّه، ومن هنا لـمَّا ذُكِر للإمام أحمد : الصِّدق والإخلاص، قال: بهذا ارتفع القوم ([9])، إي وربي ، بهذا حاز شيخنا: قَصَب السَّبْق في الخيرات والطاعات، وخُذْ حادثة جرت بيني وبين شيخي:: كنتُ قد راسلتُ كثيراً من أهل العلم؛ أَنوي إعداد كتاب تحت عنوان: «أبحاثٌ عِلْميَّة مُهدَاةٌ للعلَّامة الشيخ عمر الأشقر» وكنتُ أنوي أنْ أضعه أمامه بعد فراغي منه،أمراً واقعياً لا مـَحِيْدَ عنه، ولم أُخبره به لعلمي أنَّ الشيخ: سيمنع كلَّ هذا لمعرفتي به من حادثاتٍ شتَّى، فإذا به ذات يوم يتَّصل بي ويخبرني برؤيته، فلمَّا جئته :، خرجنا سوياً في نزهة لطيفة، أنستُ وتعلَّمت وانتفعت فيها، ثم بعد الانقضاء منها، وقبل مغادرته، أهداني درساً أثَّر فيَّ كثيراً، فقال لي : في همس لطيف وحنون ــ وكان قد وصله الخبر من أحدهم ــ: الكتاب الذي تُعدُّه أنا غيرُ راضٍ عنه، ولا أقبل به، ورضاي عليك أن تمنع هذا البتَّة، فجهدتُ في إقناعه فلم أفلح، فكان أول أمر يردُّه الشيخ لي، فما كان لي مِن بُدٍّ إلَّا أنْ أُوقف المشروع، وعُدْتُ بإرسال من وصلتني منه مشاركة بإعادتها، والاعتذار له عن إتمام المشروع؛ نزولاً تحت رغبة شيخنا الحبيب أبي سليمان:، ولعَمْر [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] إنَّ فرحته ورضاه خيرٌ عندي من آلاف الكتب .
وانظر إلى نفع الله له في مصنَّفاته، وانتشارها وترجمته إلى لغات شتى تصل إلى خمسة وعشرين لغة، فهذا شَأْنُ الإخلاص، يكتب [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] لصاحبه، الفَتْح والتَّوفيق، والإجادة والتَّحقيق، ثُمَّ يكتب له القَبول وحُسْن التَّلقي، والنَّشر بين العباد في البلاد، فأيُّ فَضيلة أعظمُ مِن الإخلاص؟ «وقد جَرتْ عادة [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] التي لا تُبدَّل وسُنَّته التي لا تُحوَّل ؛ أنيُلْبَس المُخلِص من المهابة ، والنُّور ، والمحبَّة في قلوب الخلق ، وإقبال قلوبهمإليه ما هو بحسب إخلاصه، ونِيَّته ومعاملته لربِّه، ويُلْبَس المرائي اللَّابس ثوبيالزُّور من المقْتِ ، والمهانة ، والبُغْضة ما هو اللَّائق به ؛ فالمُخلِص له المهابةوالمحبَّة ، وللآخر المقت والبغضاء»([10]) فرحمك الله شيخنا، وأنزل على قبرك شآبيب رحمته.
q الريحانة الثانية : التَّربية العلمية الإيمانيَّة .
أوَّل ما طَرَق سمعي عن هذا العالِـم حين كنتُ في الثانية عشر مِن عمري، حين ذُكِر لي عنه وهو في أمريكا للدعوة إلى الله؛ لما حَبَاه الله من العلم الواسع، والبصيرة الُمنوَّرة بهدي الكتاب والسُّنة، هذا جانب، وجانب آخر ما يُذكر عنه مِن عبادته لاسيما حرصه على قيامه اللَّيل، ولو كان بعد يوم طويل وجهيد في الدَّعوة إلى الله، فأكبرتُ في نفسي هذا [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]العالـم[/FONT]، وهذه النفس المؤمنة، ويوم قرأتُ كتابه «معالم الشخصية الإسلامية» أيقنتُ أن هذا المؤلِّف عالِـمٌ من الطراز الفريد، وجاء اليوم الذي أَراه، وتكتحل عيني بطلَّته البهية، ويُقدَّر الله أن أكون من تلاميذه، ثُمَّ من المقرَّبين الخواص، فرأيتُ عجباً، وكنتُ أُقيِّد مِن مثل ما رأيت في هذا الجانب، وحين يلمحني يقول لي لا تفعل، ويوم ألْححتُ عليه في الكتابة عن حياته، وأنِّي أدَّخرها لهذا الشأن، امتنع بشدة، وكان يقول لي : «ما أدري ما يُفعل بي ولا بكم» فأحاول، فيقول: «الحي لا تُؤمن عليه الفتنة» فأكرِّر الإلحاح، فيذكر قصة الشيطان مع الإمام أحمد: وقوله : «فُتَّنِـي يا أحمد، ويقول : لا بعد لا بعد»([11]) ثم أُثني على إسهاماته الدَّعوية وجهوده العلمية، فيقول ــ أعلى [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] منزلته ــ: «لا أعدُّ هذا شيئاً» ! وهكذا كلما طَرقتُ باباً سدَّه وامتنع، حتَّى ألححتُ عليه كثيراً كثيراً، وبعد جُهد جهيد، وقد منع غيري، رَضِيَ ــ أرضاه [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] ــ بالموافقة أن أُسطِّر عنه، لحظوتي ومكانتي عنده، هذه واحدة، والثانية لرؤيا رأيتها، وسأُنْبِيك عنها لاحقاً، إلَّا أنَّ شيخنا : اشترط عليَّ نشرها بعد وفاته، ويعلم [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] كم فرحت بهذه الخصوصية عنده، وقد اغْرَوْرَقت عيناي بهذه المِنْحة؛ فهي شجون ومنون كثيرة عن حياة هذا العالم الرباني، وستُسطَّر، فالحمد [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]لله[/FONT] على فضله وتوفيقه.
q الريحانة الثالثة : التَّربية الجهادية.
أمَّا عن الجهاد فأمره عجيب مع هذا العالِـم الرَّباني التَّقيِّ الخفيِّ، فلقد كانت له أيادٍ بيضاء فيه، ولكن دُون أن يُحدِث كبير ضجَّة حوله عن اهتمامه بهذا، وكثيرٌ من الناس يجد لذَّة ونشوة في الحديث عن هذا الجانب وأنَّه من أربابه وأصحابه، وربما لم يُصب به إلَّا بسهم التَّحدُّث به والمفاخرة، فلا تكاد تمرُّ به ساعة إلَّا ويُثير كبير أمر حوله وإظهار نفسه فيه، وما هكذا العُظماء؟ ورضي الله عن الإمام أبي حفص الفاروق حين وَعَى هذه النكتة العزيزة، فحين قال له رسول حذيفة بن اليمان رضي الله عنه :أبشر يا أمير المؤمنين بفتح أعزَّ الله فيه الإسلام وأهله، وأذلَّ فيه الشرك وأهله، وقال : النُّعمان بعثك ؟ قال : احتَسِبِ النُّعمان يا أمير المؤمنين، فبكى عمر واسترجع، قال : ومَنْ ويحك؟ فقال : فلان، وفلان، وفلان، حتَّى عدَّ ناساً ثم قال : وآخرين يا أمير المؤمنين لا تعرفهم، فقال عمر رضوان الله عليه وهو يبكي : «لا يَضرُّهم أنْ لا يعرفهم عمر، لكنَّ الله يعرفهم»([12])، وكفى، نعم كفى، هذه خصيصة الرَّبانيين، لا يُشهِدُون على أعمالهم إلَّا ربهم، هو أُنسهم، وشاهدهم، وخبير أمرهم وأحوالهم، فما أسعدهم، وأَسْعِد بهم! وهكذا كان شيخنا: أقرب الناس حوله خَفِيت عنهم هذه العنايات، وقد ادَّخر عند ربِّه هذه العبادة الخفية، غير أنِّي ظفرت بنَزْرٍ يسير منها في حياته بموقفين:
الأول: موقف المجاهدين الأفغان، وكيف كان على صِلَة ودراية واهتمام بواقعهم، وقد ذكر: لي عنهم أموراً عجيبة، ثم ما نصحهم به وذكَّرهم [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]بالله[/FONT] تعالى حين دبَّ الخلاف بينهم، وكان قد أرسل لهم رسائل في ذلك، وقد أطلعني على شيء من ذلك : .
والثاني: يوم استشهاد الشيخ أحمد ياسين:، أبان لي بعضاً منها لقرابتي بالشيخ:، فذهب يذكر شيئاً من وميض الذكريات وما منَّ [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]الله[/FONT] به عليه، وصلته بالشيخ: في هذا الباب، وكم حاول: أنْ يَذهب بالموضوع بعيداً إلَّا وكنتُ أحاول ردَّه إليه لأسمع وأسمع، غير أنه : كان يُخفي كثيراً وكثيراً، ولا عَجب، فهو رجل من رجال الإخلاص الأول في هذا العصر، وصفحات شيخنا : غير المحكيَّة في هذا الباب كثيرة، ولعلَّ الله يُهيِّء من ينشرها، ممن يُحسن ذلك وعلى دراية بها.
q الريحانة الرابعة : حُسْنُ الُخلُق ودماثتُه .
وهذه خَصْلة نادرة ومتميِّزة في الشيخ: قد مَلأت حياته كلَّها، أَنْعِم بهذا الشَّيخ: حَسَنُ الأخلاق، زَكيُّ النَّفس، طيِّبُ القلب، سليم الصدر، عفيف اللِّسان، عجيب الصَّمت، ولصمته أسرار وأخبار، لا تجد في قلبه غِلَّاً ولا حقداً أو حسداً لمسلم، وكيف لا يكون كذلك، وقدِ امتثل خبر نبيِّه ^: «إنَّ خِيارَكم أَحاسنُكُم أخلاقاً»([13]) وأحلف [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]بالله[/FONT] غير حانث: أني لا أعلم لشيخنا: عدواً ولا خصماً، وهل أكثرَ مِن أن تَرى في جنازته وقد شيَّعه الآلاف، فخرج المُوافِق والمُخالِف على اختلاف مذاهبهم وتوجُّهاتهم، وخذ هذا الأدب الجم والُخلُق الرَّفيع ممَّا لمسته من شيخي برَّد الله ضجيعه: في المرحلة الجامعية الأولى، أعطاني أحد الدكاترة بحثاً له؛ لمراجعته والنظر فيه، وهو سيقدِّمه للترقية، فما أنْ قرأته ونظرتُ فيه إلَّا وتذكَّرتُ أنَّ هذا البحث قد مرَّ عليَّ، وسبق لي مُطالعتُه، فلمَّا انقلبتُ أبحث بين أرْوِقة مكتبتي، فإذا بي أجده، فإذا هو يُوافق البحث الآخر بما يقارب ما نسبته (90%) حتى في الأخطاء! فعجبتُ والله كثيراً، من هذه السرقة العلمية الفاضحة ــ وما أكثرها اليوم ــ ووقعتُ في حَيْرة، هل أرجعُه وأسكت؟ أو أخبر عميد الكلية وهو شيخنا الراحل:، أو ماذا أفعل؟ فانشرح صدري للذهاب لشيخي:، وقلت له الأمر دون ذكر اسم هذا الدكتور الخائب! فما كان من الشيخ إلَّا أنْ تألَّـم وقال: اكتُم هذا الأمر، ولا تخبرني عن صاحبه ــ مع العلم أنه سيُقدَّم عنده للترقية ــ وأَرْجِعْهُ ولا تكشف له سِتْراً، وذكِّر صاحبه بالله بأسلوب حكيم موفَّق، طالما أنَّ الأمر لم يصل إلينا، فالسِّتر على المسلم خيرٌ كبير، مع عدم إقراري لهذا الفعل الشنيع، فعمِلْتُ بهذه الوصية، وحَفِظَ ذاك ماء وجهه فلم يُقدِّمه.
فانظر إلى هذا الآداب العملية التي تحلَّى بها الشيخ: مع هذه البصيرة المباركة، وهكذا والله كان شيخنا: مدرسة في الأخلاق، فتِّش عن أيِّ خُلُق، تجد هذا الشيخ المهيب قد نال حظاً وافراً منه، فلا تَسَلْ عن لين الجانب، والسَّماحة، والتَّواضع بأنواعه: تواضع الفِكْر والرَّأي، وتواضع المعاملة، وتواضع العيش، إلا أنَّ أميز سِمَةٍ كانت في الشيخ:، عزَّة المؤمن والعالـم الذي يخشى الله تعالى، ولو ذهبتُ أسوق مواقف لهذه الخصال من هذا السُّمو الأخلاقي الرفيع، والامتثال الضَّليع؛لطال بي المقام.
[FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]إذا أعجَبتْـكَ خِـصالُ امرئٍ فكُنْهُ تكُن أنتَ ما يُعجبك[/FONT]
[FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]فليس على الجُود والمكرُمات إذا جئتَها حَاجب يحجُبــــك[/FONT]​
q الرَّيحانة الخامسة : اعرف كيف تموت
فإنَّ من الناس مَن يموت يوم يموت لا يُساوي شيئاً، ولكنَّ القليل من الناس من يموت يوم يموت يُساوي أمةً مِن الأمم، وهكذا كان الشيخ:، فالعُظماء والنُّبلاء، يُحسنُون صناعة الموت، وكيفيَّة الموت، وإنِ استعرضتَ التاريخ الإسلامي الحافل مِن لَدُن العهد النَّبوي إلى أيامنا هذه، تجد أنَّ أهل الفضل والَمنقَبة في الإسلام لهم مع صناعة الموت حكايات وأسرار، ولئن قَعدتْ بهم أجسادهم، فإنَّ نفوسهم توَّاقةٌ لمدارج المعالي، ولمعارج الرِّفعة والسُّمُو، «والأعمال بالنِّيات»([14])، والجوارح شاهدات، ولذا ألْـهَم الله الإمام المُبجَّل أحمد بن حنبل: أن يقول : بيننا وبينكم يوم الجنائز! ([15])
وجاءت جنازة الشيخ عمر : واحتشد الآلاف، وأكتظَّ الجامع بالزِّحام، وهرع الدُّعاة وأهل العلم، من الداخل والخارج، لتشيعه حتى غدا أهل البيوت في طريق المقبرة يفتحونها للوضوء، والراحة من كثرة من شيَّع في تلك القرية ذهاباً وإياباً؟ هكذا هو الإحسان في صناعة الموت والتأهب له، فمن رام خاتمةً حسنة طيبة، عمل لها في حياته ابتغاء وجه الله سبحانه، وامتثل بنفسه وقلبه وعقله وجوارحه هِدَايات الكتاب والسُّنة النَّبوية في كلِّ حياته؛ فاستقامت كما أراد الله، وفَقِهَ عن الله وعن رسوله^، فأَكْرِمْ به من امتثال، وحينها أَبْصِرْ بما يُجريه الله على يديه من ألوان الخيرات والبُشريات، ورفعة الدَّرجات، و أمَّا من قعدت به نفسُه، فكسرته عن معالي الأمور، فقد حرمها الخير كل الخير، وكان أسيراً لدركات الشهوات والشبهات، و«كلُّ الناس يَغْدُو؛ فبَايِعٌ نَفسَه فمُعْتِقُها أو مُوبِقُها»([16]) فاخْتَرْ لنفسك أي صناعة للموت تريد ؟
q الريحانة السادسة : الأثر الصالح قبل الرحيل
العقلاء يُبقون لهم آثاراً تدلُّ على حُسْن حالهم، ومِن أحسن الأثر، العِلْم النَّافع، والعمل الصالح، والولد البار، وقد حازها بفضل الله شيخنا: كلها، فعِلْمُه أشهرُ مِن أنْ يُذكر، وعمله عمل السَّابقين بالخيرات ــ نحسبه ــ وأبناؤه من الأبرار الفضلاء البارِّين به
يَقُولُون ذِكْرُ المَرءِ يَبْقَى بِنَسْلِهِ وَلَيسَ لَه ذِكْرٌ إذا لـم يكُنْ لَهُ نَسْلُ
فَقُلتُ لهم نَسْلي بَدائعُ حِكْمَتي فَمَنْ سَرَّهُ نَسْلٌ فإنَّا بِذَا نَسْلُوا([17])
فما أحسن العمل، وما أجمل الأثر، فليتفكَّر المسلم والمسلمة وليتزوَّد كلٌّ من الخيرات، وليترك أثراً صالحاً قبل رحيله، حتَّى يُغدِق الله به عليهم حسنات تترى، وفضائل شتَّى، والمُوفَّق من وفَّقه ربُّه للخير وفي الخير، وخَتَمه على خير.
ومن لطائف هذا الأثر، أن يكون للمرء بعد وفاته الذِّكر الحسن بين الناس، ولهذا سأل نبي الله إبراهيم الخليل ؛ربَّه عزَّ وجل فقال : ﴿وَاجْعَلْ لي لِسَانَ صِدْقٍ في الآخِرِينَ، قال أهل التفسير : هو الذِّكْر الجميل، والثناء الحسن بعد الممات قروناً تِلْو قرون. ([18])

يَمُوتُ قَومٌ فيُحْي العِلْمُ ذِكْرهُمُ والجهْلُ يُلْحِقُ أَمْواتاً بأمْواتِ

q الريحانة السابعة : ختامه مسك مع المسك
ففي الحديث عن ابن عبَّاس رضي الله عنهما مرفوعاً إلى النبي ^ قال : «أيها الناس، إنه لم يَبقَ مِن مُبشِّرات النُّبوة إلَّا الرُّؤيا الصالحة يراها المسلمُ، أو تُرى له» ولشيخنا: مع الرُّؤى مواقف وعجائب، وخذ ثلاث رؤى محلَّاة بالمسك عن المسك:
الأولى : رأى أحدهم أنِّي أسير مع شيخنا: في أروقة الجامعة، وأُوزِّع مِسْكاً على الناس أُطيِّبهم، وأعطيهم منه. فكان التعبير: أكتب كتباً تنفع الناس، ولم يكن لي سابق تأليف، وهكذا كان بحمد الله وفضله، فلمَّا ألَّفتُ وحقَّقتُ، كان الشيخ: يُراجع كلَّ ذلك، ويُقدِّم له، ويُقرِّظ، وهذا من فضل الله عليَّ، وكم اليوم أفتقدك شيخنا رحمك الله، إلَّا أنَّ يقيني أنَّ ما عند الله هو خير لك وأبقى من هذه الدنيا، فلمَّا قَصصتُ عليه هذه الرُّؤيا وخبرها، قال:: خُذْ منِّي الثانية، وهي بالمسك :
الثانية : قال الشيخ: رأيتُ أني وقفتُ على أبواب المسجد الأقصى، وكنتُ أُوزِّع على الناس مِسْكاً.فسألتُ شيخنا :: فما أوَّلتها ؟ فقال هذه الكتب النَّافعة، وكانت كُتبي تُوزَّع على أبواب المساجد في الكويت وغيرها .
أما الثالثة : فهي عزيزة عليَّ، فقد رأيتُ النبيَّ ^ في المنام، وكنت قد لبستُ عباءة سوداء مذهَّبة، وقال لي : اكتب ترجمة عن عمر الأشقر، ولم يَدُرْ بخلدي أنْ أقوم بهذا الأمر، حتَّى جاءت هذه الرُّؤيا. ففرحتُ بها كثيراً، وتلهَّفت بطلوع الصباح، وقدمت مُسرِعاً لشيخنا:، وقصصت من خبري عليه، فصمت كثيراً، وهو يحسن الصمت ويُتقنه أيَّما إتقان، فما نطق بحرف واحدٍ، إلَّا أنَّ الشيخ: أذن لي بالكتابة عن حياته وما أَبغيه من تدوين كثير من ذلك، فشرح الله صدره لهذا الأمر، وأفاض عليَّ بما لم يُعطِه لأحدٍ قبلي، فحدثني وحدَّثني، ووهبني وأعطاني، وخصَّني وميَّزني، فالحمد [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]لله[/FONT] على توفيقه.
q المحور الثالث : عاجل بُشرى المؤمن .
والمُبشِّرات لهذا الإمام المبارك: كثيرة، ونحسن الظنَّ بربنا أنها دلائل خير وبشرى، وما هذه البشارات إلا شهادة تُؤدَّى، وستكتب شهادتهم ويسألون :
1. رشح عرق الجبين : ويشهد له حديث بُريدة رضي الله عنه، عن النبي ^ قال: «إنَّ المؤمن يموت بعَرق الجبين» ([19])
2. المبطون شهيد: ويشهد له حديث أبي هريرة رضي الله عنه أن رسول الله ^ قال : «الشهداء خمسة؛ المطعون، والمبطون، والغريق، وصاحب الَهدْم، والشهيد في سبيل الله»([20])
3. الوقاية من عذاب القبر : ويشهد له حديث عبد الله بن يسار يقول: كنت جالساً مع سليمان بن صُرَد وخالد بن عُرْفُطَة فذكروا رجلاً تُوفِّي مات ببطنه، فإذا هما يشتهيان أن يكونا شَهِدا جنازته فقال أحدهما للآخر: ألم يقل رسول الله^: «مَن يَقتُلُه بطنُه فلن يُعذَّب في قبره؟» فقال الآخر: بلى. ([21])
4. والشهادة بالثناء الحسن للمُتوفَّى : يصدِّقه حديث أنس بن مالك رضي الله عنه يقول : مرُّوا بجنازة، فأثنوا عليها خيراً، فقال النبِيُّ ^ : «وَجَبَتْ» ثمَّ مرُّوا بأخرى فأثنوا عليها شرَّاً، فقال: «وجبت».
فقال عمر بن الخطاب رضي الله عنه: ما وجبت؟ قال: «هذا أثنيتم عليه خيراً؛ فوجبت له الجنَّة، وهذا أثنيتم عليه شرَّاً، فوجبت له النار، أنتم شهداء الله في الأرض»([22])
5. شفاعة المصلين لاسيَّما أهلُ التوحيد للمُتوفَّى:ويدل لهذه الشفاعة أحاديث :
- حديث عائشة رضي الله عنهما، عن النبيِّ ^ قال: «ما من مَيِّت يُصلِّي عليه أمةٌ من المسلمين يبلغون مئة، كلُّهم يشفعون له إلا شُفِّعوا فيه» ([23])
- وحديث ابن عباس رضي الله عنهما يقول: سمعت رسول الله ^ : «ما من رجل مسلم يموت، فيقوم على جنازته أربعون رجلاً، لا يشركون بالله شيئاً إلَّا شَفَعهم الله فيه»([24])
- وحديث مالك بن هُبيرة قال : قال رسول الله ^ : «من صلَّى عليه ثلاثةُ صُفوفٍ فقد أَوْجبَ» ([25]) أي : الجنة .
وقد كانت هذه الثلاثة متوافرة من فضل الله تعالى في شيخنا:، فقد كانت الجنازة حافلة مشهودة، شهدها كثيرٌ من كبار أهل العلم والفضل والتلاميذ من كافة أنحاء البلاد، وخارجها حتى امتلأ الجامع، وامتدَّت الصُّفوف في الطُّرقات، وقد تزاحم الناس على حمل نَعْشه، والسير في جنازتهـ حتى كادوا أن يقتتلوا . رحمة الله عليك يا أبا سليمان .
6. والختم على عمل صالح : وقد تَرْجم ابنُ حبَّان في «الصَّحيح» فقال : ذِكْر الإخبار بأنَّ مَن وُفِّق للعمل الصالح قبل موته كان ممن أُريد به الخير، وساق حديث أنس بن مالك، أنَّ النبي ^ قال: « إذا أراد الله بعبدٍ خيراً يستعمله» قيل : كيف يستعمله يا رسول الله ؟ قال : «يُوفِّقه لعمل صالح قبل الموت»([26])
ثُمَّ تَرْجم ثانيةً فقال : ذِكْر الإخبار بأنَّ فَتْح الله على المسلم العمل الصالح في آخر عمره من علامة إرادته جلَّ وعلا له الخير، وساق حديث عمرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال : قال رسول الله ^: « إذا أراد الله بعبد خيرا عَسَلَهُ قبل موته» قيل : وما عسلُه قبل موته ؟ قال : «يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه»([27])
ثم ترجم ثالثة فقال : ذِكْر البيان بأنَّ العمل الصالح الذي يُفتح للمرء قبل موته من السَّبب الذي يُلْقِي الله جلَّ وعلا محبَّته في قلوب أهله وجيرانه به، وساق حديث عَمْرو بن الْـحَمِق الخزاعي قال : قال رسول الله ^: « إذا أراد الله بعبد خيرا عَسله قبل موته» قيل : وما عسلُه ؟
قال : «يُفتح له عمل صالح بين يدي موته حتى يَرْضى عنه»([28])
وغيرها، من الشيبة في الإسلام، والوفاة في مواسم الطاعات، لاسيما في شهر رمضان، وفي الأواخر منه، ثم الجمعة عيد الأسبوع، فما هذا مع ما سبق إلَّا من إشارات حُسن الختام إن شاء الله .
هذه ومضة سريعة عن هذا الإمام المبارك، والعالم الرَّباني، وهي بعضٌ من بعضٍ ممَّا تميَّز به، فهكذا كان، وهكذا فلنكن، فهذا [FONT=AAAGoldenLotus Stg1_Ver1]العالِـمُ[/FONT] الذي لو كتبتُ فيه مِن الصَّفحات عشرات، ومِئات لا أُوْفِيه حَقَّه، ولا بعض حَقِّه، وحَسْبي أنْ أكُون في هذه الشجون ممَّن يُحيي مَجداً، ويَرسُم قدوةً، ويُهيِّئ دَرْباً للمَعالي، راجياً أنْ يكون بما قيَّدتُ نِبرَاساً للاهتداء، وعَلَماً للاقتداء .
فاللَّهُمَّ اغفر لشيخنا ووالدنا ومُعلِّمنا ذنبه، واستُر عيبه، وضَعْ عنه وِزْره، وأرفع له ذِكْره، واجعل له لسان صِدْقٍ في الآخرين، واجمعنا به مع النَّبيين والصِّديقين والشهداء والصالحين، وحَسُن أولئك رفيقاً، وأختم بوصية شيخنا :، التي دوَّنها في مطلع كتابه : «أوصي أولادي وذريتي، ومن انتفع بكتبي، ومن يريد الإحسان إليَّ أن يستغفروا لي كثيراً، فأنا عبد الله الخطَّاء، وأسأل الله رحمته وعفوه وإحسانه، وأن يتمَّ عليَّ ستره وعافيته، ومغفرته في الدنيا والآخرة»([29])
إذا ما مات ذو عِلْمٍ وتقوى فقد ثَلُمت من الإسلام ثُلْمة
وموتُ الحاكم العَدْل الُمولَّى بحكم الشَّرْع مَنقصةٌ ونِقْمة
وموتُ العابد القَوَّام ليلاً يُناجي ربَّه في كلِّ ظُلْمة
وموت فتى كثيرُ الجود محضٌ فإنَّ بقائه خيرٌ ونِعْمة
وموتُ الفارس الضِّرْغام هدمٌ فكم شَهِدت له في الحرب عَزْمة
فحسبك خمسة يبكى عليهم وباقي الناس تخفيفٌ ورحمة
وباقي الناس هم همجٌ رعاع وفي إيجادهم لله حكمة

وكتبه : تلميذك المكلوم الذي لن ينساك ما دام حياً
د. محمد بن يوسف الجوراني

الهوامش :
---------
([1]) أخرجه الترمذي (3946)، وابن ماجه (1631)، وأحمد في «المسند» (13312) وهو صحيح.
([2]) وانظر هذا الخبر في «صفحات من حياتي» (19)
([3]) انظر : «صفحات من حياتي» (15)
([4]) المصدر السابق (16)
([5]) وانظر هذا الخبر عند ابن حبان في «الصحيح» (6272) وإسناده حسن.
([6]) وانظر هذا الخبر في «صفحات من حياتي» (27)
([7]) لله ما أحلى هذا الحرص وهذا الزهد في الدنيا، وصدق الله إذا يقول : ﴿[FONT=ABO SLMAN Alomar النسخ4]وللآخرةُ خَيرٌ لكَ مِنَ الأُوْلَى[/FONT] هكذا فلنكن.
([8]) «صفحات من حياتي» (28)
([9]) «طبقات الحنابلة» لابن أبي يعلى (1/147) .
([10]) «إعلام الموقعين» لابن القيم الجوزية (6/106)
([11]) انظر : «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/341)
([12]) أخرجه ابن حبان في «الصحيح» (4756) بإسناد قوي .
([13]) أخرجه البخاري (6035) ومسلم (2321) عن ابن عمرو
([14]) أخرجه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907) عن عمر .
([15]) انظر : «سير أعلام النبلاء» للذهبي (11/340)
([16]) أخرجه مسلم (223) عن أبي مالك الأشعري.
([17]) «الجامع لأخلاق الراوي وآداب السامع» للخطيب البغدادي (2/423)
([18]) انظر : «جامع البيان» للطبري (17/593)
([19]) أخرجه النَّسائي في «الكبرى» (1968)، والترمذي ( 982)، وابن ماجه (1452)، وأحمد في «المسند»(22964) وهو صحيح.
([20]) أخرجه البخاري (653)، ومسلم (1914).
([21]) أخرجه النسائي في «الكبرى» (2190)، والترمذي (1064)و أحمد في «المسند»(18310) وهو صحيح.
وهذا الحديث يغني عن حديث ابن عمرو رضي الله عنه قال : قال رسول الله ^ : «ما من مسلم يموت يوم الجمعة أو ليلة الجمعة إلا وقاه الله فتنة القبر» أخرجه الترمذي (1074) وأحمد (6582) ، فهو ضعيف على الصحيح لعلَّتين.
([22]) أخرجه البخاري (1367) ومسلم (949) (60) .
([23]) أخرجه مسلم في «الصحيح» (947)
([24]) أخرجه مسلم في «الصحيح» (948)
([25]) أخرجه الترمذي في (1028)، وابن ماجه (1490) والحاكم في «مستدركه» (1/516) وقد ضُعِّف من أجل عنعنة ابن إسحاق، وليس بشيء؛ فقد صرَّح بالتحديث في «مسند الروياني» (1537) وإسناده حسن، حسَّنه الترمذي، والنووي في «المجموع» (5/212)، وأقرَّه الحافظ في «الفتح» (3/187) .
فكان مالكٌ : إذا استقلَّ أهلَ الجنازة جزَّأهم ثلاثةَ صفوف للحديث .
([26]) أخرجه ابن حبان في «الصحيح» (341) وإسناده صحيح.
([27]) أخرجه ابن حبان في «الصحيح» (342) وإسناده صحيح.
([28]) أخرجه ابن حبان في «الصحيح» (343) وإسناده صحيح.
([29]) «صفحات من حياتي» (11)
 
اللهم اغفر له وارحمه وأنزله منازل الشهداء ، واجز عنه كاتب هذه السطور خير الجزاء .
 
نسأل الله ان يرحم الشيخ العلامة عمر بن سليمان الاشقر وان يرزقه الفردوس الأعلى من الجنة
نحسبه والله حسيبه من العلماء الربانيين النادرين صاحب العلم الراسخ والفهم الثاقب والعقل الراجح
انتشرت مؤلفاته في الافاق ودرست في الجامعات والكليات واستفاد الملايين من علمه.
 
أخي أبا العالية .. سددك الله ..

أسأل الله تعالى أن يجيرنا في مصيبتنا، وهي لعمرو الحق من أعظم المصائب، وأن يبدلنا خيرا منها.
وإنما كانت وفاة شيخنا من عظيم المصائب لأن العظيم منها ما كان في دين المرء لا في دنياه، نسأل الله تعالى معافاته ومغفرته، ووفاة العالم هي من مصائب الدين، كيف لا؟ وهو من كان يذكرنا بالله، ويدلنا عليه، وتترك الدنيا من شوائبها على قلوبنا ما الله يعلمه، فإذا أوينا إلى الشيخ غسل بعذب سمته، وسنيّ كلامه ما كان أثقلنا بعيدا عنه، وكذلك كان أصحاب نبيّنا محمد معه، والعلماء ورثة الأنبياء.
ولا حول ولا قوة إلا بالله العظيم .

أخي الحبيب ..
إنه في الوقت الذي أدمعت عيناي كلماتُك الدافئة المخضبة بحبّ أستاذنا، المصبوغة بشريف المشاعر الدافئة، في الوقت هذا شوّقتنا رعاك الله إلى الاطلاع على ما أحب أستاذنا إخراجه من أعماله المفيدة الماتعة المسددة، خصوصا ما يتعلق منها بالتفسير.
وفقك الله وأعانك على ما تهمّ به وتُقبل عليه، وجمعنا جميعا بصحبة أستاذنا العلامة المجاهد مع حبيبنا محمد صلى الله عليه وسلم في جنات النعيم، على الأرائك ينظرون، تعرف في وجوههم نضرة النعيم.
 
نسأله سبحانه أن يرحم إمامنا الجليل برحمته الواسعة،وأن يجمعة في الجنة بسيد الخلق أجمعين محمد صلى الله عليه وآله وسلم.
 
عودة
أعلى