محمود عبدالله إبراهيم نجا
Member
الإعجاز في تشبيه رجع الإنسان بالخلق من ماء دافق يخرج من أصلين مُتفرقين؛ جُزءٌ من الصُلب والآخر من الترائب

أنكر البعض قدرة الله على رجع الإنسان بعد تفرق جسده في التراب، فأثبت الله قدرته على الرجع بتشبيه علمي بليغ، فأمر بالنظر لجمع الإنسان من نطاف مُتفرقة في الماء الدافق للأبوين. ثم أعطى تشبيه أعقد حين قال بجمع مكونات ماء الخلق الدافق من أصلين مُتفرقين؛ جزء من الصُلب والآخر من الترائب. وللماء الدافق أنواع، ولكي نفهم أن مُراد الله هو ماء الخصية والمبيض، جاء الوصف المُميز (يخرج من بين الصُلب والترائب)، ومن بين؛ أي منهما، وذلك مثل خروج اللبن (من بين فرث ودم)، أي من كل من الفرث والدم. وعلمياً بعض خلايا الخصية والمبيض جسدية تغذي النطاف، وبعضها جنسي لخلق النطاف، وجنينياً الخلايا الجسدية تخرج من الحدبة التناسلية التي تُتمايز من بعض خلايا الصُلب (الظهر)، والخلايا الجنسية تخرج من كيس المُح المُعلق في الجنين كقلادة لها عنق صغير (الترائب)، ثم تهاجر الخلايا الجنسية للحدبة التناسلية، فيجتمع الشمل وتتكون خصية أو مبيض حسب جنس المولود. وأما باقي السوائل الجنسية الدافقة (ماء البروستاتا الذكرية والأنثوية، والحوصلة المنوية)، فتخرج من تكوينات جنينية في منطقة الحوض، بعيداً عن الصُلب والترائب، وإليكم التفصيل.
■ الآيات (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ).
في الآيات إنتقال من العام للخاص، فكلمة ماء نكرة تحتمل أنواع عديدة، دافقة، أو غير دافقة، فجاءت صفة (دافق) لتصرف الأذهان عن الماء غير الدافق، ولكن للماء الدافق أنواع كثيرة، بعضها يدخل في الخلق (ماء الخصية، وماء المبيض)، وبعضها لا يدخل في الخلق (ماء الحوصلة المنوية، وماء البروستاتا الذكرية والأنثوية)، وللتفريق جاء الإطناب البديع (يخرج من بين الصُلب والترائب)، والتي ستشير بجلاء للماء الدافق للخصية والمبيض، فأصلهما من الصُلب والترائب، وتنفي الخلق من باقي أنواع الماء الدافق، لأن اصولها ليست من الصُلب والترائب.
■ متى حدث الخروج من بين الصلب والترائب؟
ظن الفلاسفة قبل الإسلام أن الماء الدافق في الإنسان البالغ يتكون في الدماغ أو الأطراف، ثم ينتقل عبر قنوات خاصة بين الضلوع والعمود الفقري، ليصل الى الخصية. وقد تأثر بعض المُفسرين بهذه الفكرة، وظنوها تفسير علمي للخروج من بين الصُلب والترائب. ولكن العلم أثبت خطأ هذه الفكرة، ولله الحمد الآية لم تُصرح بأن هذا الخروج في البالغين، ولا صرحت بانتقال المني في قنوات بين الصُلب والترائب. والطبري لم يذكر هذه الأقوال الفاسدة، بل خالفها حين قال بأن الماء الدافق يخرج من كل من الصلب والترائب لأن (من بين) عنده بمعنى منهما. ولنا أن نسأل، هل في الآيات ما يُشير لزمن خروج الماء الدافق من بين الصلب والترائب؟.
والجواب هو نعم، فتغير الأفعال من الخلق للخروج، وتغير زمانها من الماضي (خُلق) إلى المضارع (يخرج)، يشير بوضوح لزمن الخروح، فأهل اللغة والبلاغة يقولون بأن الفعل المضارع قد يستخدم للدلالة على الماضي، إذا كان مسبوق بفعل ماضي، والمضارع (يخرج) مسبوق بالماضي (خُلق)، فدل ذلك على أن هذا الخروج تم في زمن ماضي يسبق زمن تدفقه من الخصية والمبيض في البالغين، أي أن هناك مصدر خفي للماء الدافق غير الذي نعرفه في الظاهر، وهذا المصدر هو الصُلب والترائب كما قال الطبري، وغيره.
■ الدلالة اللغوية والعلمية للخروج من بين الصُلب والترائب
هناك شُبهة شهيرة تقول بأن الماء الدافق يخرج فعلياً من الخصية والمبيض، وبالتالي اتهموا القُرآن بأنه أخطأ في القول بخروجه من بين الصُلب والترائب. وللأسف صدقهم كثير من عُلماء زماننا فقالوا الإنسان هو الذي يخرج من بين الصُلب والترائب وليس الماء الدافق، واعتمدوا على قاعدة توحيد مرجع الضمير عند تعدد الضمائر في سياق واحد، ففسروا الضمير في (يخرج) بأنه يعود للإنسان، وذلك مثل الضمير في (خُلق)، وفي (رجعه) يعودان للإنسان. فأقول وبالله التوفيق، أخطأ كل من قال بعود الضمير في الفعل (يخرج) للإنسان، وذلك للأسباب التالية:
1. كثير من المفسرين وعلى رأسهم الطبري أرجعوا الضمير للماء الدافق، وهم جميعاً أفهم للغة القرآن، ولغة العرب منا. ورجح ابن عاشور ذلك فقال (الضمير عائد إلى ماء دافق وهو المتبادر، فتكون جملة يخرج حالا من ماء دافق).
2. الضمير في (إنه) في آية (إنه على رجعه لقادر)، عائد لله وليس للإنسان، أي أن الضمائر في الآيات لا تعود لمرجع واحد، فيجوز عود الضمير في الفعل (يخرج) لغير الإنسان.
3. سمى الله المكان الذي يخرج منه الجنين بطن في آية (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم)، والبطن تشريحياً لا يقع كله بين الصُلب والأضلاع، فقط الجزء العلوي من البطن، بينما الصدر كله يقع تشريحياً بين الصُلب والترائب، فهل الجنين يخرج من صدر الأم؟، وحتى إن قلنا الخروج من البطن دون الصدر، فيجب أن يوجد الجنين أعلى البطن ليكون بين ضلوع المراة السفلية والعمود الفقري، والجنين قبل الولادة يكون في أغلب البطن ومنطقة الحوض، ولذا فالأدق هو خروج الإنسان الجنين من البطن، وليس من بين الصُلب والترائب. وأما الذي يخرج من الصُلب والترائب فهو الماء الدافق، والعلم الحديث يتفق مع ذلك كما سنرى.
4. هدف الآيات إثبات رجع الإنسان وجمع مكوناته بعد تفرقها في تراب الأرض، فينبغي أن تكون الأمثلة المذكورة فيها جمع بعد تفرق، وهو ما نراه في خلق الإنسان من ماء دافق، ففيه جمع لنطاف مُتفرقة من بين الأبوين. ولابد أن يكون خروج الماء الدافق من بين الصلب والترائب بنفس المعنى، أي هناك جمع لمكونات ماء الخلق الدافق من أصلين متفرقين؛ جزء من الصُلب والآخر من الترائب.
5. المعنى اللغوي لكلمات الآيات يؤكد صحة الفهم السابق، فالخروج ليس فقط ظهور وإنتقال، ولكن أيضاً خلق وإيجاد (كإخراج النبات)، وتمايز شيء واحد لشيئين مختلفين، فتقول العرب (أَرْضٌ مُخَرَّجَةٌ إذا خرج نَبْتُهَا فِي مَكَانٍ دُونَ الآخر). والخروج بهذه المعاني يصف ما هو أكبر من خروج الإنسان من بطن أمه، فهذه المعاني تُستخدم في علم الأجنة لوصف إيجاد الأعضاء من خلايا غير مُتمايزة، ثم تتمايز لتُخلق الأعضاء، وتظهر من الخفاء، ثم تنتقل لمكانها النهائي مع تقدم عمر الجنين. وأما (من بين) في لغة العرب وعند المفسرين، فأشهر معنى لها هو منهما، يقول الطبري (من بين، أي: منهما، يُقال: سيخرج من بين هذين الشيئين خير كثير، بمعنى: يخرج منهما). وهذا المعنى يدل على أصل مُتعدد ومتفرق للماء الدافق الذي منه خلق الإنسان، جزء من الصُلب وآخر من الترائب، وذلك قبل الإجتماع في الخصية والمبيض وهذا المعنى استعمله الله في وصف خروج لبن الأنعام من مكانين مُختلفين فقال (من بين فرث ودم)، أي منهما فاللبن يتكون من كل من مكونات الفرث، ومكونات الدم، فليس المقصود التوسط المكاني، وبالمثل فالماء الدافق له أصلين.
■ الدلالة اللغوية والعلمية للصُلب والترائب
اتفق المفسرون وأهل اللغة على أن الصلب هو الظهر، وفي الحديث كان النبي يقول (سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ ، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ)، وأيضاً كل عظم في الظهر هو صُلب، ولذا يُطلق على العمود الفقري صُلب، وعلى كل فقرة صُلب. وأما الترائب فتعني موضع القلادة وما حولها، وهو ترجيح الطبري وكثيرٌ من المفسرين ومعاجم اللغة. ومعلوم أن القلادة تكون على الجهة الأمامية (الجهة البطنية) المقابلة للظهر (الصلب)، بما يعني أن ماء الخلق الدافق له أصل أول من الجهة الظهرية، وأصل ثاني من الجهة البطنية التي تحمل القلادة.
وقد اختلف المفسرون حول صاحب الصُلب والترائب، فقال بعضهم (الصُلب للرجل والترائب للمرأة)، وقال آخرون (الصُلب والترائب للرجل)، وقال فريق ثالث (الرجل له صُلب وترائب والمرأة لها صُلب وترائب). والراجح عندي أن الصُلب والترائب لكل من الذكر والأنثى، وهو ما نقله القرطبي عن الحسن، ورجحه ابن عاشور في تفسيره. ونصوص الوحيين صريحة في أن المرأة لها ماء ونطفة كالرجل، قال الله (خلقناكم من ذكر وأنثى)، وقال (خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج)، حيث المشج خلط بين نطفتين، والنطفتين من مني يمنى كما قال الله (ألم يك نطفة من مني يمنى)، فالرجل له مني وللمرأة مني، وقال رسول الله (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة اصفر رقيق)، وقال (يا يهودي من كلٍ يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة). وآيات سورة الطارق أضافت صفة جديدة لماء المرأة، وهي صفة دافق، فالآيات عامة للذكر والأنثى ولا تخصيص فيها، وعلمياً المرأة لها أكثر من ماء دافق، ومنهم ماء المبيض كما سنرى في الجزء العلمي.
■ أنواع السوائل الجنسية للرجال والنساء
1. سوائل غير دافقة: مثل ماء غدة كوبر، وغدة بارثولين عند الرجال، وماء غدد المهبل والرحم، عند الإناث. وهذه السوائل لها وظائف أخرى غير خلق الولد، مثل الترطيب، وتسهيل إيلاج العضو الذكري للمهبل.
2. سوائل دافقة:
عند الرجال يوجد السائل المنوي، والذي يخرج دافقاً من العضو الذكري أثناء الشهوة، وهو يتركب من ثلاثة سوائل؛ ماء الخصية (٥ %) والذي يحتوي الحيوانات المنوية، وماء الحويصلات المنوية (٦٠ %)، واخيراً ماء البروستاتا. وماء الخصية هو ماء خلق الولد، وأما ماء الحوصلة المنوية والبروستاتا، فكلاهما لتغذية وحركة الحوين. وأما عند النساء فيوجد ماء المبيض الذي منه خلق الولد، أو ما يُعرف بالماء الأصفر لحويصلة جراف، وبه البويضة، ويخرج دافقاً في تجويف البطن نحو قناة فالوب. وهناك أيضاً ماء البروستاتا الأنثوية أو غدة اسكين (Skene gland)، وهو يخرج دافقاً من المهبل بعد الإستثارة الجنسية القوية أثناء الجماع.
■ أنواع خلايا الخصية والمبيض في البالغين
كل من الخصية والمبيض يحتوي خلايا جنسية (Germ cells)، لتكوين النطاف (الحوين والبويضة)، وأيضاُ هناك خلايا جسدية (somatic cells) وظيفتها دعم تكون النطاف وتغذيتها، وأهمها في الخصية خلايا سيرتولي (sertoli cells)، وفي المبيض الخلايا الجرابية (follicular cells). وبدون الخلايا الجسدية لن تتحول الخلايا الجنسية إلى نطاف، فلها دور أساسي في تكون ماء الخصية والمبيض.
■ الأصل الجنيني لخلايا الخصية والمبيض
في بداية الحمل تكون جميع خلايا الجنين جسدية لها قدرة عالية جداً على التمايز لجميع أعضاء الجسد، ولا توجد به خلايا جنسية. بعد الأسبوع الثاني من الحمل يُخلق كيس المح ( Yolk sac)، وفي بداية الأسبوع الرابع يكون الجنين غير محدد الملامح، له جهة علوية عندها بداية الرأس، وأسفلها القلب، وتتميز الجهة البطنية الأمامية عن الجهة الظهرية بوجود كيس المُح، وهو كيس صغير دائري أو كمثري الشكل يتدلى بعنق صغير (yolk stalk) من الجهة البطنية ويتصل بالمعي المتوسط، فيكاد يُشبه القلادة المُعلقة بالجنين (صورة 1)، وهذا الكيس مؤقت، اي يختفي لاحقاً بعد تكون المشيمة.
في الأسبوع الثالث، والرابع من الحمل تبدأ بعض الخلايا الجسدية للجنين (من الأديم الظاهر = ebiplast cells) أولى خطوات التحول لخلايا جنسية (تخصيص = specification)، وذلك داخل جسم الجنين، ولكن تظل غير جنسية ويمكن أن تمايز لأي عضو لو استمرت داخل الجنين حيث تكون عُرضة للبروتينات التي تُحفز التحول لأعضاء جسدية. ولذا لابد أن تخرج من جسد الجنين إلى جدران كيس المح بالقرب من نقطة اتصال عنقه ببطن الجنين (موضع القلادة) (صورة ٢)، حيث يبدأ التمايز الحقيقي لخلايا جنسية أولية ( primordial germ cells = PGCs )، حيث توجد بكيس المُ بروتينات مُعينة تعمل على تثبيط الجينات المسؤولة عن التحول لخلايا جسدية، وتنشيط الجينات المسؤولة عن التحول لخلايا جنسية أولية، ويتكاثر عدد الخلايا الجنسية الأولية من حوالي ٥٠ الى عدة آلاف. وبدون دور كيس المح لن تكون هناك خلايا جنسية ويصبح الجنين عقيم.
وفي الأسبوع الخامس للحمل تبدأ الخلايا الجسدية للغدد الجنسية في التمايز من بعض خلايا الظهر (ceolomic epeithelium)، وتُعرف باسم الحدبة التناسلية (genital ridge = gonadal ridge) (صورة ٢). بعد ذلك تُهاجر الخلايا الجنسية الأولية (PGCs) من كيس المح الى الحدبة التناسلية، لتجتمع مع الخلايا المغذية، وبذلك تتكون الغدد التناسلية البدائية (primary gonads)، في الجهة الظهرية للجنين، وتهاجر لاحقاً لأسفل البطن.
■ الأصل الجنيني لباقي السوائل الجنسية الدافقة
تنشأ البروستاتا الذكرية والأنثوية جنينيا من تكوين جنيني يسمى الجيب التناسلي البولي (urogenital sinus)، وذلك في منطقة الحوض بعد الشهر الثاني من الحمل، اي بعد نشأة الخصية، والمبيض. بينما تنشأ الحوصلة المنوية جنينيا في الأسبوع العاشر من الحمل في منطقة الحوض من القناة المتوسطة الكلوية (mesonephric duct). ولاحقاً يخرج من البروستاتا (ذكرية أو انثوية)، والحوصلة المنوية ماء دافق ولكنه لا يشارك في خلق الذرية، فيتدفق ماء البروستاتا الذكرية وماء الحوصلة المنوية مع ماء الخصية، بينما يتدفق ماء البروستاتا الأنثوية مع الشهوة قريبا من مجرى البول (urethra)، اي بعيداً عن ماء المبيض الذي منه خلق الذرية.
■ أوجه الإعجاز
1. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين شبه رجع الإنسان يوم القيامة من أجزاء متفرقة، بالخلق من ماء دافق، وبخروج الماء الدافق من بين الصلب والترائب، فكلا المثالين فيه جمع لخلق الإنسان من أصول متفرقة، بما يدل على علم الله بكيفية الجمع والخلق الأول، وأن الله الذي يقدر على الجمع الأول مؤكد يقدر على الجمع الثاني، وهو أهون عليه.
2. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين وصف أصل الماء الدافق الذي منه خلق الإنسان فقال بأنه من أصلين منفصلين، جزء من الصُلب والآخر من الترائب. والعلم الحديث بالفعل توصل إلى أن خلايا كل من الخصية والمبيض تخرج من أصلين متفرقين: الخلايا الجسدية تخرج من الصلب (الجهة الظهرية، أي الحدبة التناسلية)، بينما تخرج الخلايا الجنسية الأولية من ناحية الترائب أي موضع قلادة الجنين في الجهة البطنية = كيس المح الذي يشبه قلادة مُعلقة بعُنق صغير.
3. كان القُرآن دقيقاً معجزاً حين ميز بين أنواع الماء الدافق، فجعل بعضها للخلق، والبعض الآخر لا خلق منه، وجعل علامة الماء الدافق الذي يشارك الخلق هي النشأة الجنينية من الصلب والترائب، وعلمياً ماء الخصية والمبيض هو الوحيد الذي ينشأ من الصُلب والترائب، بينما باقي السوائل الدافقة الأخرى (ماء البروستاتا والحوصلة المنوية) والتي لا تُساهم في الخلق تنشأ من تكوينات جنينية في منطقة الحوض.
4. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين استعمل الفعل (يخرج) بدلا من الفعل يخلق لوصف الإيجاد من الصلب والترائب، فله معاني لغوية متعددة (الخلق، التمايز، الانتقال)، وكلها يتطابق بدقة مع العمليات الجنينية لتكوّن خلايا الخصية والمبيض، وخصوصاً تمايز وخلق الخلايا الجنسية الأولية ثم هجرتها من منطقة الترائب الى الحدبة التناسلية في منطقة الظهر.
5. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين أشار لوجود منطقة بطنية مُقابل الصُلب لها دور في خروج الماء الدافق، وسماها "الترائب"، والعلم الحديث بين لنا أن الجهة البطنية للجنين تحمل عضو مُتدلي كالقلادة يعرف باسم بكيس المح، وله الدور الأكبر في تحول بعض الخلايا الجسدية للجنين إلى خلايا جنسية أولية، وزيادة عددها، ثم تهاجر هذه الخلايا من جهة موضع القلادة اي من جهة التقاء عنق كيس المح بالجهة البطنية، وهو تفصيل لم يكن معلوم زمن التنزيل.
6. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين جعل صيغة الآية عامة تشمل الإنسان بجنسيه الذكر والأنثى، فلكل منهما ماء دافق ونطفة، ولكل منهما "صُلب وترائب"، وهو ما يتفق مع العلم الحديث الذي أثبت أن المرأة لها مبيض يخرج منه ماء أصفر رقيق يتدفق بسرعة كتدفق ماء الرجل. والعلم أثبت أيضاً أن خلايا الخصية والمبيض تتشكل جنينياً بنفس الآلية في الذكور والإناث؛ جزء من الصُلب (الحدبة التناسلية) وآخر من الترائب (منطقة كيس المح).
7. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين قال بأن ماء المرأة الدافق، والذي منه خلق الإنسان يخرج من بين الصلب والترائب، وليس من ماء شهوة المرأة الذي يخرج من المهبل (دافق أو غير دافق)، وبذلك تكون هذه الآيات دليل قاطع على أن النص الإسلامي ينفي أن يكون لماء شهوة المرأة اي دور في خلق الجنين، وإنما الخلق من الماء الدافق للمبيض، والذي يخرج جنينياً من أصلين؛ جزء من الصُلب و الآخر من الترائب. وهذا الدليل الجديد يتكامل مع وصف النبي (ماء المرأة أصفر رقيق)، وهو وصف دقيق لماء حوصلة جراف داخل المبيض، وهذا الماء أصفر رقيق يخرج دافق.
■ ملحوظة مهمة
عندما نأخذ المعاني الأقل شهرة للخروج من بين الصلب والترائب، فتكون (من بين) بمعنى التوسط المكاني بين شيئين، و(الصلب) بمعنى العمود الفقري، و(الترائب) بمعنى الضلوع، فإن ذلك يشير لمرحلة تالية لمرحلة خلق الغدد الجنسية الأولية، حيث نجد أنها لم تتمايز بعد لخصية أو مبيض، وتقع أعلى البطن في مكان يتوسط بين العمود الفقري والضلوع، ثم يحدث لها تمايز إلى خصية أو مبيض حسب جنس المولود، ثم تخرج لاحقاً مُهاجرةً لموضعهما الأخير أسفل البطن، وبذلك تكاملت معاني خروج ماء الخلق الدافق من بين الصلب والترائب لوصف مرحلتين، الأولى قبل الأسبوع السابع من الحمل، وفيها تنشأ الغدد الجنسية من الصلب (الظهر) والترائب (موضع القلادة)، والثانية بعد الأسبوع السابع من الحمل، وفيها تتمايز الغدد الجنسية الأولية إلى خصية ومبيض في مكان أعلى البطن يتوسط بين العمود الفقري والضلوع. ووصف المرحلتين بنفس الكلمات هو أمر مُعجز يثبت أن اختيار الكلمات (دافق، يخرج، من بين، صلب، ترائب)، هو أمر رباني لا يقدر عليه البشر.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من خطأ او سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر

أنكر البعض قدرة الله على رجع الإنسان بعد تفرق جسده في التراب، فأثبت الله قدرته على الرجع بتشبيه علمي بليغ، فأمر بالنظر لجمع الإنسان من نطاف مُتفرقة في الماء الدافق للأبوين. ثم أعطى تشبيه أعقد حين قال بجمع مكونات ماء الخلق الدافق من أصلين مُتفرقين؛ جزء من الصُلب والآخر من الترائب. وللماء الدافق أنواع، ولكي نفهم أن مُراد الله هو ماء الخصية والمبيض، جاء الوصف المُميز (يخرج من بين الصُلب والترائب)، ومن بين؛ أي منهما، وذلك مثل خروج اللبن (من بين فرث ودم)، أي من كل من الفرث والدم. وعلمياً بعض خلايا الخصية والمبيض جسدية تغذي النطاف، وبعضها جنسي لخلق النطاف، وجنينياً الخلايا الجسدية تخرج من الحدبة التناسلية التي تُتمايز من بعض خلايا الصُلب (الظهر)، والخلايا الجنسية تخرج من كيس المُح المُعلق في الجنين كقلادة لها عنق صغير (الترائب)، ثم تهاجر الخلايا الجنسية للحدبة التناسلية، فيجتمع الشمل وتتكون خصية أو مبيض حسب جنس المولود. وأما باقي السوائل الجنسية الدافقة (ماء البروستاتا الذكرية والأنثوية، والحوصلة المنوية)، فتخرج من تكوينات جنينية في منطقة الحوض، بعيداً عن الصُلب والترائب، وإليكم التفصيل.
■ الآيات (فَلْيَنظُرِ الْإِنسَانُ مِمَّ خُلِقَ. خُلِقَ مِن مَّاءٍ دَافِقٍ. يَخْرُجُ مِن بَيْنِ الصُّلْبِ وَالتَّرَائِبِ. إِنَّهُ عَلَىٰ رَجْعِهِ لَقَادِرٌ).
في الآيات إنتقال من العام للخاص، فكلمة ماء نكرة تحتمل أنواع عديدة، دافقة، أو غير دافقة، فجاءت صفة (دافق) لتصرف الأذهان عن الماء غير الدافق، ولكن للماء الدافق أنواع كثيرة، بعضها يدخل في الخلق (ماء الخصية، وماء المبيض)، وبعضها لا يدخل في الخلق (ماء الحوصلة المنوية، وماء البروستاتا الذكرية والأنثوية)، وللتفريق جاء الإطناب البديع (يخرج من بين الصُلب والترائب)، والتي ستشير بجلاء للماء الدافق للخصية والمبيض، فأصلهما من الصُلب والترائب، وتنفي الخلق من باقي أنواع الماء الدافق، لأن اصولها ليست من الصُلب والترائب.
■ متى حدث الخروج من بين الصلب والترائب؟
ظن الفلاسفة قبل الإسلام أن الماء الدافق في الإنسان البالغ يتكون في الدماغ أو الأطراف، ثم ينتقل عبر قنوات خاصة بين الضلوع والعمود الفقري، ليصل الى الخصية. وقد تأثر بعض المُفسرين بهذه الفكرة، وظنوها تفسير علمي للخروج من بين الصُلب والترائب. ولكن العلم أثبت خطأ هذه الفكرة، ولله الحمد الآية لم تُصرح بأن هذا الخروج في البالغين، ولا صرحت بانتقال المني في قنوات بين الصُلب والترائب. والطبري لم يذكر هذه الأقوال الفاسدة، بل خالفها حين قال بأن الماء الدافق يخرج من كل من الصلب والترائب لأن (من بين) عنده بمعنى منهما. ولنا أن نسأل، هل في الآيات ما يُشير لزمن خروج الماء الدافق من بين الصلب والترائب؟.
والجواب هو نعم، فتغير الأفعال من الخلق للخروج، وتغير زمانها من الماضي (خُلق) إلى المضارع (يخرج)، يشير بوضوح لزمن الخروح، فأهل اللغة والبلاغة يقولون بأن الفعل المضارع قد يستخدم للدلالة على الماضي، إذا كان مسبوق بفعل ماضي، والمضارع (يخرج) مسبوق بالماضي (خُلق)، فدل ذلك على أن هذا الخروج تم في زمن ماضي يسبق زمن تدفقه من الخصية والمبيض في البالغين، أي أن هناك مصدر خفي للماء الدافق غير الذي نعرفه في الظاهر، وهذا المصدر هو الصُلب والترائب كما قال الطبري، وغيره.
■ الدلالة اللغوية والعلمية للخروج من بين الصُلب والترائب
هناك شُبهة شهيرة تقول بأن الماء الدافق يخرج فعلياً من الخصية والمبيض، وبالتالي اتهموا القُرآن بأنه أخطأ في القول بخروجه من بين الصُلب والترائب. وللأسف صدقهم كثير من عُلماء زماننا فقالوا الإنسان هو الذي يخرج من بين الصُلب والترائب وليس الماء الدافق، واعتمدوا على قاعدة توحيد مرجع الضمير عند تعدد الضمائر في سياق واحد، ففسروا الضمير في (يخرج) بأنه يعود للإنسان، وذلك مثل الضمير في (خُلق)، وفي (رجعه) يعودان للإنسان. فأقول وبالله التوفيق، أخطأ كل من قال بعود الضمير في الفعل (يخرج) للإنسان، وذلك للأسباب التالية:
1. كثير من المفسرين وعلى رأسهم الطبري أرجعوا الضمير للماء الدافق، وهم جميعاً أفهم للغة القرآن، ولغة العرب منا. ورجح ابن عاشور ذلك فقال (الضمير عائد إلى ماء دافق وهو المتبادر، فتكون جملة يخرج حالا من ماء دافق).
2. الضمير في (إنه) في آية (إنه على رجعه لقادر)، عائد لله وليس للإنسان، أي أن الضمائر في الآيات لا تعود لمرجع واحد، فيجوز عود الضمير في الفعل (يخرج) لغير الإنسان.
3. سمى الله المكان الذي يخرج منه الجنين بطن في آية (والله أخرجكم من بطون أمهاتكم)، والبطن تشريحياً لا يقع كله بين الصُلب والأضلاع، فقط الجزء العلوي من البطن، بينما الصدر كله يقع تشريحياً بين الصُلب والترائب، فهل الجنين يخرج من صدر الأم؟، وحتى إن قلنا الخروج من البطن دون الصدر، فيجب أن يوجد الجنين أعلى البطن ليكون بين ضلوع المراة السفلية والعمود الفقري، والجنين قبل الولادة يكون في أغلب البطن ومنطقة الحوض، ولذا فالأدق هو خروج الإنسان الجنين من البطن، وليس من بين الصُلب والترائب. وأما الذي يخرج من الصُلب والترائب فهو الماء الدافق، والعلم الحديث يتفق مع ذلك كما سنرى.
4. هدف الآيات إثبات رجع الإنسان وجمع مكوناته بعد تفرقها في تراب الأرض، فينبغي أن تكون الأمثلة المذكورة فيها جمع بعد تفرق، وهو ما نراه في خلق الإنسان من ماء دافق، ففيه جمع لنطاف مُتفرقة من بين الأبوين. ولابد أن يكون خروج الماء الدافق من بين الصلب والترائب بنفس المعنى، أي هناك جمع لمكونات ماء الخلق الدافق من أصلين متفرقين؛ جزء من الصُلب والآخر من الترائب.
5. المعنى اللغوي لكلمات الآيات يؤكد صحة الفهم السابق، فالخروج ليس فقط ظهور وإنتقال، ولكن أيضاً خلق وإيجاد (كإخراج النبات)، وتمايز شيء واحد لشيئين مختلفين، فتقول العرب (أَرْضٌ مُخَرَّجَةٌ إذا خرج نَبْتُهَا فِي مَكَانٍ دُونَ الآخر). والخروج بهذه المعاني يصف ما هو أكبر من خروج الإنسان من بطن أمه، فهذه المعاني تُستخدم في علم الأجنة لوصف إيجاد الأعضاء من خلايا غير مُتمايزة، ثم تتمايز لتُخلق الأعضاء، وتظهر من الخفاء، ثم تنتقل لمكانها النهائي مع تقدم عمر الجنين. وأما (من بين) في لغة العرب وعند المفسرين، فأشهر معنى لها هو منهما، يقول الطبري (من بين، أي: منهما، يُقال: سيخرج من بين هذين الشيئين خير كثير، بمعنى: يخرج منهما). وهذا المعنى يدل على أصل مُتعدد ومتفرق للماء الدافق الذي منه خلق الإنسان، جزء من الصُلب وآخر من الترائب، وذلك قبل الإجتماع في الخصية والمبيض وهذا المعنى استعمله الله في وصف خروج لبن الأنعام من مكانين مُختلفين فقال (من بين فرث ودم)، أي منهما فاللبن يتكون من كل من مكونات الفرث، ومكونات الدم، فليس المقصود التوسط المكاني، وبالمثل فالماء الدافق له أصلين.
■ الدلالة اللغوية والعلمية للصُلب والترائب
اتفق المفسرون وأهل اللغة على أن الصلب هو الظهر، وفي الحديث كان النبي يقول (سَمِعَ اللَّهُ لِمَن حَمِدَهُ ، حِينَ يَرْفَعُ صُلْبَهُ مِنَ الرَّكْعَةِ)، وأيضاً كل عظم في الظهر هو صُلب، ولذا يُطلق على العمود الفقري صُلب، وعلى كل فقرة صُلب. وأما الترائب فتعني موضع القلادة وما حولها، وهو ترجيح الطبري وكثيرٌ من المفسرين ومعاجم اللغة. ومعلوم أن القلادة تكون على الجهة الأمامية (الجهة البطنية) المقابلة للظهر (الصلب)، بما يعني أن ماء الخلق الدافق له أصل أول من الجهة الظهرية، وأصل ثاني من الجهة البطنية التي تحمل القلادة.
وقد اختلف المفسرون حول صاحب الصُلب والترائب، فقال بعضهم (الصُلب للرجل والترائب للمرأة)، وقال آخرون (الصُلب والترائب للرجل)، وقال فريق ثالث (الرجل له صُلب وترائب والمرأة لها صُلب وترائب). والراجح عندي أن الصُلب والترائب لكل من الذكر والأنثى، وهو ما نقله القرطبي عن الحسن، ورجحه ابن عاشور في تفسيره. ونصوص الوحيين صريحة في أن المرأة لها ماء ونطفة كالرجل، قال الله (خلقناكم من ذكر وأنثى)، وقال (خلقنا الإنسان من نطفة أمشاج)، حيث المشج خلط بين نطفتين، والنطفتين من مني يمنى كما قال الله (ألم يك نطفة من مني يمنى)، فالرجل له مني وللمرأة مني، وقال رسول الله (ماء الرجل أبيض، وماء المرأة اصفر رقيق)، وقال (يا يهودي من كلٍ يخلق من نطفة الرجل ومن نطفة المرأة). وآيات سورة الطارق أضافت صفة جديدة لماء المرأة، وهي صفة دافق، فالآيات عامة للذكر والأنثى ولا تخصيص فيها، وعلمياً المرأة لها أكثر من ماء دافق، ومنهم ماء المبيض كما سنرى في الجزء العلمي.
■ أنواع السوائل الجنسية للرجال والنساء
1. سوائل غير دافقة: مثل ماء غدة كوبر، وغدة بارثولين عند الرجال، وماء غدد المهبل والرحم، عند الإناث. وهذه السوائل لها وظائف أخرى غير خلق الولد، مثل الترطيب، وتسهيل إيلاج العضو الذكري للمهبل.
2. سوائل دافقة:
عند الرجال يوجد السائل المنوي، والذي يخرج دافقاً من العضو الذكري أثناء الشهوة، وهو يتركب من ثلاثة سوائل؛ ماء الخصية (٥ %) والذي يحتوي الحيوانات المنوية، وماء الحويصلات المنوية (٦٠ %)، واخيراً ماء البروستاتا. وماء الخصية هو ماء خلق الولد، وأما ماء الحوصلة المنوية والبروستاتا، فكلاهما لتغذية وحركة الحوين. وأما عند النساء فيوجد ماء المبيض الذي منه خلق الولد، أو ما يُعرف بالماء الأصفر لحويصلة جراف، وبه البويضة، ويخرج دافقاً في تجويف البطن نحو قناة فالوب. وهناك أيضاً ماء البروستاتا الأنثوية أو غدة اسكين (Skene gland)، وهو يخرج دافقاً من المهبل بعد الإستثارة الجنسية القوية أثناء الجماع.
■ أنواع خلايا الخصية والمبيض في البالغين
كل من الخصية والمبيض يحتوي خلايا جنسية (Germ cells)، لتكوين النطاف (الحوين والبويضة)، وأيضاُ هناك خلايا جسدية (somatic cells) وظيفتها دعم تكون النطاف وتغذيتها، وأهمها في الخصية خلايا سيرتولي (sertoli cells)، وفي المبيض الخلايا الجرابية (follicular cells). وبدون الخلايا الجسدية لن تتحول الخلايا الجنسية إلى نطاف، فلها دور أساسي في تكون ماء الخصية والمبيض.
■ الأصل الجنيني لخلايا الخصية والمبيض
في بداية الحمل تكون جميع خلايا الجنين جسدية لها قدرة عالية جداً على التمايز لجميع أعضاء الجسد، ولا توجد به خلايا جنسية. بعد الأسبوع الثاني من الحمل يُخلق كيس المح ( Yolk sac)، وفي بداية الأسبوع الرابع يكون الجنين غير محدد الملامح، له جهة علوية عندها بداية الرأس، وأسفلها القلب، وتتميز الجهة البطنية الأمامية عن الجهة الظهرية بوجود كيس المُح، وهو كيس صغير دائري أو كمثري الشكل يتدلى بعنق صغير (yolk stalk) من الجهة البطنية ويتصل بالمعي المتوسط، فيكاد يُشبه القلادة المُعلقة بالجنين (صورة 1)، وهذا الكيس مؤقت، اي يختفي لاحقاً بعد تكون المشيمة.
في الأسبوع الثالث، والرابع من الحمل تبدأ بعض الخلايا الجسدية للجنين (من الأديم الظاهر = ebiplast cells) أولى خطوات التحول لخلايا جنسية (تخصيص = specification)، وذلك داخل جسم الجنين، ولكن تظل غير جنسية ويمكن أن تمايز لأي عضو لو استمرت داخل الجنين حيث تكون عُرضة للبروتينات التي تُحفز التحول لأعضاء جسدية. ولذا لابد أن تخرج من جسد الجنين إلى جدران كيس المح بالقرب من نقطة اتصال عنقه ببطن الجنين (موضع القلادة) (صورة ٢)، حيث يبدأ التمايز الحقيقي لخلايا جنسية أولية ( primordial germ cells = PGCs )، حيث توجد بكيس المُ بروتينات مُعينة تعمل على تثبيط الجينات المسؤولة عن التحول لخلايا جسدية، وتنشيط الجينات المسؤولة عن التحول لخلايا جنسية أولية، ويتكاثر عدد الخلايا الجنسية الأولية من حوالي ٥٠ الى عدة آلاف. وبدون دور كيس المح لن تكون هناك خلايا جنسية ويصبح الجنين عقيم.
وفي الأسبوع الخامس للحمل تبدأ الخلايا الجسدية للغدد الجنسية في التمايز من بعض خلايا الظهر (ceolomic epeithelium)، وتُعرف باسم الحدبة التناسلية (genital ridge = gonadal ridge) (صورة ٢). بعد ذلك تُهاجر الخلايا الجنسية الأولية (PGCs) من كيس المح الى الحدبة التناسلية، لتجتمع مع الخلايا المغذية، وبذلك تتكون الغدد التناسلية البدائية (primary gonads)، في الجهة الظهرية للجنين، وتهاجر لاحقاً لأسفل البطن.
■ الأصل الجنيني لباقي السوائل الجنسية الدافقة
تنشأ البروستاتا الذكرية والأنثوية جنينيا من تكوين جنيني يسمى الجيب التناسلي البولي (urogenital sinus)، وذلك في منطقة الحوض بعد الشهر الثاني من الحمل، اي بعد نشأة الخصية، والمبيض. بينما تنشأ الحوصلة المنوية جنينيا في الأسبوع العاشر من الحمل في منطقة الحوض من القناة المتوسطة الكلوية (mesonephric duct). ولاحقاً يخرج من البروستاتا (ذكرية أو انثوية)، والحوصلة المنوية ماء دافق ولكنه لا يشارك في خلق الذرية، فيتدفق ماء البروستاتا الذكرية وماء الحوصلة المنوية مع ماء الخصية، بينما يتدفق ماء البروستاتا الأنثوية مع الشهوة قريبا من مجرى البول (urethra)، اي بعيداً عن ماء المبيض الذي منه خلق الذرية.
■ أوجه الإعجاز
1. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين شبه رجع الإنسان يوم القيامة من أجزاء متفرقة، بالخلق من ماء دافق، وبخروج الماء الدافق من بين الصلب والترائب، فكلا المثالين فيه جمع لخلق الإنسان من أصول متفرقة، بما يدل على علم الله بكيفية الجمع والخلق الأول، وأن الله الذي يقدر على الجمع الأول مؤكد يقدر على الجمع الثاني، وهو أهون عليه.
2. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين وصف أصل الماء الدافق الذي منه خلق الإنسان فقال بأنه من أصلين منفصلين، جزء من الصُلب والآخر من الترائب. والعلم الحديث بالفعل توصل إلى أن خلايا كل من الخصية والمبيض تخرج من أصلين متفرقين: الخلايا الجسدية تخرج من الصلب (الجهة الظهرية، أي الحدبة التناسلية)، بينما تخرج الخلايا الجنسية الأولية من ناحية الترائب أي موضع قلادة الجنين في الجهة البطنية = كيس المح الذي يشبه قلادة مُعلقة بعُنق صغير.
3. كان القُرآن دقيقاً معجزاً حين ميز بين أنواع الماء الدافق، فجعل بعضها للخلق، والبعض الآخر لا خلق منه، وجعل علامة الماء الدافق الذي يشارك الخلق هي النشأة الجنينية من الصلب والترائب، وعلمياً ماء الخصية والمبيض هو الوحيد الذي ينشأ من الصُلب والترائب، بينما باقي السوائل الدافقة الأخرى (ماء البروستاتا والحوصلة المنوية) والتي لا تُساهم في الخلق تنشأ من تكوينات جنينية في منطقة الحوض.
4. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين استعمل الفعل (يخرج) بدلا من الفعل يخلق لوصف الإيجاد من الصلب والترائب، فله معاني لغوية متعددة (الخلق، التمايز، الانتقال)، وكلها يتطابق بدقة مع العمليات الجنينية لتكوّن خلايا الخصية والمبيض، وخصوصاً تمايز وخلق الخلايا الجنسية الأولية ثم هجرتها من منطقة الترائب الى الحدبة التناسلية في منطقة الظهر.
5. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين أشار لوجود منطقة بطنية مُقابل الصُلب لها دور في خروج الماء الدافق، وسماها "الترائب"، والعلم الحديث بين لنا أن الجهة البطنية للجنين تحمل عضو مُتدلي كالقلادة يعرف باسم بكيس المح، وله الدور الأكبر في تحول بعض الخلايا الجسدية للجنين إلى خلايا جنسية أولية، وزيادة عددها، ثم تهاجر هذه الخلايا من جهة موضع القلادة اي من جهة التقاء عنق كيس المح بالجهة البطنية، وهو تفصيل لم يكن معلوم زمن التنزيل.
6. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين جعل صيغة الآية عامة تشمل الإنسان بجنسيه الذكر والأنثى، فلكل منهما ماء دافق ونطفة، ولكل منهما "صُلب وترائب"، وهو ما يتفق مع العلم الحديث الذي أثبت أن المرأة لها مبيض يخرج منه ماء أصفر رقيق يتدفق بسرعة كتدفق ماء الرجل. والعلم أثبت أيضاً أن خلايا الخصية والمبيض تتشكل جنينياً بنفس الآلية في الذكور والإناث؛ جزء من الصُلب (الحدبة التناسلية) وآخر من الترائب (منطقة كيس المح).
7. كان القُرآن دقيقاً مُعجزاً حين قال بأن ماء المرأة الدافق، والذي منه خلق الإنسان يخرج من بين الصلب والترائب، وليس من ماء شهوة المرأة الذي يخرج من المهبل (دافق أو غير دافق)، وبذلك تكون هذه الآيات دليل قاطع على أن النص الإسلامي ينفي أن يكون لماء شهوة المرأة اي دور في خلق الجنين، وإنما الخلق من الماء الدافق للمبيض، والذي يخرج جنينياً من أصلين؛ جزء من الصُلب و الآخر من الترائب. وهذا الدليل الجديد يتكامل مع وصف النبي (ماء المرأة أصفر رقيق)، وهو وصف دقيق لماء حوصلة جراف داخل المبيض، وهذا الماء أصفر رقيق يخرج دافق.
■ ملحوظة مهمة
عندما نأخذ المعاني الأقل شهرة للخروج من بين الصلب والترائب، فتكون (من بين) بمعنى التوسط المكاني بين شيئين، و(الصلب) بمعنى العمود الفقري، و(الترائب) بمعنى الضلوع، فإن ذلك يشير لمرحلة تالية لمرحلة خلق الغدد الجنسية الأولية، حيث نجد أنها لم تتمايز بعد لخصية أو مبيض، وتقع أعلى البطن في مكان يتوسط بين العمود الفقري والضلوع، ثم يحدث لها تمايز إلى خصية أو مبيض حسب جنس المولود، ثم تخرج لاحقاً مُهاجرةً لموضعهما الأخير أسفل البطن، وبذلك تكاملت معاني خروج ماء الخلق الدافق من بين الصلب والترائب لوصف مرحلتين، الأولى قبل الأسبوع السابع من الحمل، وفيها تنشأ الغدد الجنسية من الصلب (الظهر) والترائب (موضع القلادة)، والثانية بعد الأسبوع السابع من الحمل، وفيها تتمايز الغدد الجنسية الأولية إلى خصية ومبيض في مكان أعلى البطن يتوسط بين العمود الفقري والضلوع. ووصف المرحلتين بنفس الكلمات هو أمر مُعجز يثبت أن اختيار الكلمات (دافق، يخرج، من بين، صلب، ترائب)، هو أمر رباني لا يقدر عليه البشر.
اللهم ما كان من توفيق فمنك وحدك وما كان من خطأ او سهو أو نسيان فمني ومن الشيطان والله ورسوله منه براء.
د. محمود عبدالله نجا
كلية طب، جامعة المنصورة، مصر