بعد أن انتهت المقالتان السابقتان إلى ثبوت الإعجاز الغيبي كوجه من وجوه إعجاز القرآن الكريم تأتي هذه المقالة الختامية لمناقشة بعض الإيرادات على هذه النتيجة، فتستعرض أربعة إشكالات رئيسة، مع محاولة الإجابة عنها.
في ضوء ما تقدم هل تدخل اللطائف العددية ضمن دلائل الإعجاز؟ فالدليل قائم على شمولية التحدي بما هو ظاهر في القرآن وبما هو مستنبط. في قوله تعالى (أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ) لماذا لم يأت في الزمن الماضي ليضمن بذلك التحدي بالنظم والبلاغة فقط في عصر النبوة؟
ما قصدته باللطائف العددية هو ما ارتبط بالمعنى في كتاب الله عز وجل، وهو لا يتحقق في غيره من أعمال أدبية، و يثبت بالاستقراء والملاحظة في السورة الواحدة أو في سور متفرقة ، وإن كان لا يتطرد فقد يأتي مصاحب لما يطرد من حسن النظم والبلاغة، و إن كان التفسير لا يتوقف عليه لكنه والله أعلم ملمح في وجه الإعجاز. ومن أمثلة ذلك قوله تعالى(إِنَّ مَثَلَ عِيسَى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرَابٍ ثُمَّ قَالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ ) فنجد بعد الاستقراء في القرآن أن ذكر عيسى مثل ذكر آدم في العدد. أما بخصوص قوله تعالى(أَمْ يَقُولُونَ) جاء في آيات التحدي مضارعا ليدل على أن الطعن في رسول الله صلى الله عليه وسلم مستمر وسيظل قائما .ويشكل أن يكون التدحدي في قوله تعالى(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) خاص بالنظم والبلاغة فقط ، فمعنى ذلك أن من يتقول على رسول الله صلى الله عليه وسلم الآن هم العرب الأقحاح فقط ،وهذا خلاف الواقع. نلاحظ أن الضمير في (افْتَرَاهُ) يعود على القرآن كله،فقوله مفتريات ردا على قولهم وقيد التحدى بمثل القرآن في كل مرة. قال تعالى(أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ) قال تعالى(أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33) فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ) وهذه كتلك ،فالتقول افتراء ولم يطلب ،فالمطرد هو القيد بمثل القرآن في كل مرة وبهذا نعود إلى ماذهب إليه الباحث وفقه الله . هذا والله أعلم
عود الضمير على القرآن كله في شبهة الافتراء يجعل الدفع لها من كل الوجوه ، وليس من جهة النظم والبلاغة فقط ، وإن اختص بها العرب في المقام الأول، فليس القرآن للعرب وحدهم ، و لا قصر على عصر النبوة وإلا لزمتنا الحجة في صلاحية هذا الكتاب لكل عصر ولكل الناس وانظر إلى قوله تعالى(فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ) في جملة الشرط نجد المضارعة في عدم الاستجابة والضمير في لكم يصح الخطاب به لجناب رسول الله صلى الله عليه وسلم على وجه التعظيم، وقال مجاهد هو للمشركين ،ويصح مع عدم استجابة من يعاون الكفار على المعارضة ، و يشير إلى صدوركم الآن، وبالنظر إلى جملة جواب الشرط نجد أن التحدي أثبت العلم لله والوحدانية، فهل يثبت ذلك بوجه واحد في زمن مخصوص؟ فالتعبير بالزمن الماضي كافي. هل يثبت ذلك بما هو مفترى؟ فقد نفى الله ذلك في قوله تعالى(وَما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَتَفْصِيلَ الْكِتابِ لَا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ) ، فالقول بالافتراء قول الكفار فالرد(فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ)على وصفهم يعني قولوا ما شئتم وأتوا بمثله . فالقيد بمثل القرآن في كل مرة سيظل يقطع طريق المعارضة في كل عصر. هذا والله أعلم