د. أبو عائشة
New member
[align=center][color=0000FF]بسم الله الرحمن الرحيم
الأسباب الصوتية لاختيار المفردة القرآنية[/color][/align]
[color=990000]ملاحظة :[/color] قد ترد في البحث مصطلحات صوتيه لا يقال بأنها موجودة في القرآن ، وإنما ذكرت للإيضاح فقط ، كما وأفاد البحث من بعض الكتب والتفاسير التي لا يعني أخذ نصٍ يستلزمه البحث قناعة كاتبه بهذه الكتب وجميع ما ورد فيها ؛ لذا وجب التنبيه ، مؤمناً بكتاب الله على مراد الله الذي فهمه سلف الأمة عرفته أم لم أعرفه ..
[align=center]** ** **[/align]
انماز القرآن ببنائه الصوتي الذي لا يقترب منه في خصائصه بناء أبداً ، ولعل الأساس في بناء القرآن الصوتي
أنه غير قائم على نظام ( الحركة والسكون ) في قالبٍ جاهزٍ كما هو معروف في الشعر ( عمودياً وحرَاً ) ، الأمر الذي لا يستلزم فرض قالب صوتي قد لا يكون موافقاً للموقف الذي يُصوّر ، أو الصورة التي تُرسم والذي يهمني هنا : أن القرآن لما كان منمازاً عن الشعر وقوانينه فأنه لم يقع أسير التوحد الشكلي في اختيار المفردة التي تنهي عبارته والتي تفرض نفسها - أي القافية - تفرض نفسها شكلاً لازماً في نهاية كل عبارة في الشعر مما يعني : أن الاختيار مشروط أساساً كصيغةٍ تشكيليةٍ تحقق تنغيماً معيناً كثيراً ما يكون على حساب الأداء الدلالي للمفردة في الحد الأدنى من السلبية ؛ إذ قد يتحكم هذا الاختيار المشروط بالفكرة أو الصورة كلياً مما سيعني في كل الأحوال قصوراً في الإيصال والتصوير لما يراد الإخبار عنه أو تصويره وعلى الرغم من هذا كله فإن القرآن ما كان تاركاً أسلوباً مثل هذا - التأثير الصوتي - دون الإفادة التامة من خصائصه التأثيرية والجمالية ؛ لذلك نجد أنّ الفاصلة تتكرر غالباً وعلى امتداد السورة ، ولا تخرج عن التوحد الصوتي أو الشكلي إلا في مواضع قليلة لأن القرآن لم يشترط لنفسه شروطاً في التعبير قد تكون حائلاً بينه وبين الدقة في الدلالة والمعنى ؛ لذلك ظهرت المفردة القرآنية مستعملةً في نمطية غريبة ما اعتادتها الأذن العربية لذلك رأيتني مضطراً لتعريف المفردة القرآنية بأنها :
الشكل الدلالي الوحيد الصالح - بأفضل أداءٍ صوتي ممكن - للتعبير عن كلّ أغراض السياق .
لذلك فقد عنيَ ( القرآن بالجرس والإيقاع عنايته بالمعنى وهو لذلك يتخير الألفاظ تخيراً يقوم على أساس من تحقيق الموسيقى المتسقة مع جو الآية وجو السياق بل جو السورة كلها في كثير من الأحيان وبخاصة تلك السور القصار التي حَفِلَ بها العهد المكي ... لتأكيدها أصول العقيدة : من الإيمان بالله وتوحيده و .... ) (1) هذه السور التي ما أن سَمع بعضها الوليد بن المغيرة حتى قال قولته المشهورة : إن له حلاوة وإن عليه لطلاوة ...(2) فما هي الطلاوة التي فيه إذا كانت حلاوته معانيه ودلالاته إنها نابعة من الألفاظ ( من حيث هي أصوات أثرٌ موسيقي خاص يوحي إلى السمع بتأثيرات مستقلة تمام الاستقلال عن تأثيرات المعنى وعن مجرد كون اللفظ رقيقاً وغيررقيق ، ونرى الشعراء في العادة يتجنبون طائفة من الألفاظ التي لا يستطيعون أن يستسيغوها) (3) ، وقد أشار الدكتور إبراهيم أنيس إلى هذا النوع من الدلالة التي تستمد من طبيعة الأصوات والتي يُسميها علم اللغة الحديث (الدلالة الصوتية) أو (رمزية الألفاظ) كما سماها (جسبرسن) (4) لأن لكل كلمة ذائقة سمعية - تكتسبها من استقلالها بحروف معينة - قد تختلف عمّا سواها من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى مما يجعل الكلمة المختارة مؤثرة أكثر من الأخرى - وإن اتحدت معها بالمعنى - بما تضفيه الدلالة الصوتية التي تتجلى بكلمات مختارة (5) لأجل هذا كله كان للمحدثين اهتمام كبير بهذا الجانب كما سيأتي الأمر الذي جعلهم ينتقدون طريقة من سبق في دراستها في كلامهم عن الإيقاع الناشئ من تخير الألفاظ ونظمها .. فمع أن
هذه الظاهرة - كما قيل - واضحة جدَّ الوضوح في القرآن وعميقة كل العمق في بنائه الفني إلا أن حديثهم عنها لم يتجاوز ذلك الإيقاع الظاهري ولم يرتق إلى إدراك التعدد في الأساليب الموسيقية وتناسق ذلك كله مع الجو الذي تطلق فيه هذه الموسيقى ووظيفتها التي تؤديها في كل سياق (6) فهذه الألفاظ ( ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها ... وتارة من حيث هي أداة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها .... ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثراً في الإعجاز اللغوي الذي نحن بصدده إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام )(7) وكل هذا ليس إلا صورة أخرى لما قاله الرافعي حين جعل الكلمة ثلاثة أصوات هي : صوت النفس والذي عرّفه بأنه : الصوت الموسيقي الذي يتكون من تأليف حروف الكلمة واجتماعها ومخارجها وحركاتها ومدّاتها وغناتها ... وصوت العقل وهو الصوت المعنوي الذي يختص بمعنى الكلمة (دلالتها) ومخاطبتها للعقل وصوت الحس : الذي هو اجتماع إيقاع حروف الكلمة وروعة معانيها ، أو هو اجتماع صوت النفس وصوت العقل وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت يكون فيه من روح البلاغة وصوت الحس هذا هو روح الإعجاز في القرآن الكريم (8) وبسببٍ من هذا كله جاءت الدعوة إلى دراسة جرس الألفاظ من أوائل الموضوعات التي نادى لها الشيخ أمين الخولي لبعث الحياة في البحث البلاغي (9) بعد أن ( دارت هذه اللغة على ألسنة أعجمية لم يكن لها عهد بحروفها وبمخارج ألفاظها فتقعر الناطقون بها وجرى اللحن في كيانها ... ومن هنا صرّح العاجزون عن ضبط جرسها بإعلاء شأن المعنى .... ولا عبرة بالألفاظ ما دام الغاية هي إفهام السامع حاجة المتحدث ) (10).
لذلك كان أول ما ينبغي أن يذكر بداية أنه لا يصح عند دراسة ما تحققه البنى التعبيرية من قيم أدائية (جمالية أو صوتية) أن تعزل عمّا تحققه البنى نفسها على مستوى الأداء الدلالي ، ذلك أن الاستخدام الصوتي في القرآن لا يُعارض الجانب الدلالي إطلاقاً إن لم يكن مُبّرزاً له في الأعم الأغلب ، وليس قولي هذا إلا متنفساً للولوج إلى التأكيد على أن الاختيار - وأقول الاختيار المنحصر هنا إلى حدٍّ كبيرٍ في اختيار المفردة - إنما يكون دلالياً عن طريق التوظيف الصوتي للمفردة ، وليس لمسعى جمالي يحقق إثراءً لنغمية النص القائمة على نوعٍ من التوازن الصوتي ، وإن لم يفتقر لهذا منضافاً إلى التواشج التام مع الأداء التعبيري وبكل بُناه من (مفردة ، وجملة ، ونص) النص الذي يمتاز بالإضافة إلى الموافقة التامة من أصواته لمعانيه الخاصة بالوحدة الصوتية القائمة على التوافق أو التقابل الصوتي كما سيبحث .
[color=336633]1- تُختَار المفردة لكونها معبرة عن مدلولها بجرسها من خلال :[/color]
[color=0000FF]أ ) بنية المفردة :[/color] قد تختار المفردة القرآنية لبنيتها الصرفية ، فقد اقترنت بعض الأوزان الصرفية بدلالاتٍ خاصة من ( ذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة ... ووجدتُ أيضاً ( الفعلى ) في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو : البشَكى والجَمَزَى والولقى .... فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر - أعني باب القلقة - والمثال الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها ) (( 11)) والتي ( تتميز عن الثلاثي الأصلي بزيادة مقطع يضخم حجم الفعل ليقوي طاقة التعبير بحكاية أصوات الشيء أو تصوير حركته أو نوره أو أثره في النفس بالأصوات فهو بذلك متميز بإيقاعٍ ذاتي ) ((12)) وهذا ما سُمِّي بـ ( التنسيق المتصل في التكرير المعجل ورُمِزَ له بالآتي : أ + ب / أ + ب (( 13 )) .
قال تعالى : ( في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه )( الحاقة : 32 ) وإنما سميت هكذا لتكرر حلقاتها وتتابعها ( تسلسل الشيء اضطرب كأنه تُصور منه تسلسل متردد ، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه ومنه السلسلة ... وماءٌ سلسل متردد في قعره حتى صفا ... ) (( 14)) قال تعالى : (عيناً فيها تسمى سلسبيلا )( الإنسان : 18 ) ، قال تعالى :( ريحٍ صرصرٍ عاتية )( الحاقة : 6 ) جاء في تهذيب اللغة معزواً إلى الخليل أصرَ الجندب صريراً وصر الباب يصرّ وكل صوت شبه ذلك فهـو صرير إذا امتد فكان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعفَ لقولك صرصر الأخطب صرصرة ) (( 15)) وجاء في الخصائص : ( قال الخليل كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدَاً ، فقالوا صرّ وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا : صرصر ) (( 16 )) ، قال تعالى : ( من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس )( الناس 3 - 5 ) ، فـ ( لما كانت الوسوسة كلاماً يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه كرروا لفظها بأزاء تكرير معناها فقالوا : ( وسوس وسوسة ) فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه … وقد عُلم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يُصب لأنّ الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر … فتأمله فأنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني .. )(17) .
وبهذا يُرى التوظيف الدقيق للصوت في خدمة المعنى بالإضافة إلى ما يحققه من جمالٍ صوتي ، وقد تنبه الرافعي إلى هذا الجمال الذي تحققه البنية القرآنية ذاكراً أن ما يوجد في القرآن من كلماتٍ طويلة تتسم بأنها من الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية ولم ترد في القرآن لفظة خماسية الأصول لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه إلا ما كان من اسم عُرِّبَ ولم يكن في الأصل عربياً : كإبراهيم وإسماعيل ... ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المدّ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان (( 18 )) .
[color=0000FF]ب ) صفات حروفها :[/color] تكاد تطرد أراء الباحثين على أن من الألفاظ ما هو مصور لمعناه بجرس حروفه ولعل أهم ما يتبادر إلى الذهن كمؤثر صوتي هو اختلاف المفردات بصوتٍ واحد يكون مهموساً في أحدهما مجهوراً في أخرى لذلك نرى القرآن يعدل عن إحداهما إلى الأخرى بحسب حاجة السياق أو الصورة التي تُرسم كما في استخدامه تعالى لكلمة ( نضخ ) بدلاً من ( نضح ) وكلاهما كان يعني خروج الماء فقال تعالى : ( فيهما عينان نضاختان ) ( الرحمن : 66 ) فـ ( النضخ والنضح واحد إلا أن الأول أكثر وهذه من فوائد الإبدال الصوتي في العربية ومثل هذا الهدير والهديل ) (( 19 )) ولفظة ( تنضخ ) التي تعبر عن فوران السائل في قوة وعنف ، إذا قورنت بنظيرتها ( تنضح ) التي تدلّ على تسرب السائل في تؤدة وبطء ، فسوف يتبين لنا أن صوت الخاء في الأولى له دخل في دلالتها (( 20 )) ؛ لأن الأصوات الفخمة القوية تواتي المواقف القوية (( 21 )) وهذا الأسلوب كثير في كلام العرب إذ يتغير المعنى بتغير صوتٍ من أصوات لفظه كما ذكر ابن جني في التفرقة بين ( خضم ) و ( قضم ) إذ يستخدم الصوت الأقوى غالباً للدلالة على المعنى الأقوى (( 22 )) .
على أن بنت الشاطيء لم تكد تهتم بمثل هذه الفروق حيث نفت أن يكون معنى ( القد ) في مثل قوله تعالى : (... كنا طرائق قِددا )( الجن : 11 ) مخصوصاً بالقطع طولاً وهو ما قاله الراغب في المفردات (( 23 )) قائلة : ولم أرَ لهذا التخصيص وجهاً (( 24 )) ، ويبدو أنها ، رحمها الله ، لم تطّلع على ما كتبه ( أبن جني ) في الخصائص عن هذا حيث وجهه صوتياً في تعليل الفرق بين ( قط ) و ( قد ) فقال : ( قط الشيء ) إذا قطعه عرضاً و ( قده ) إذا قطعه طولاً ، وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال وكذلك قالوا : ( مدّ الحبل ) و ( مت إليه بقرابةٍ ) فجعلوا الدال لأنها مجهورة لما فيه علاج وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه ) جرياً منهم في جعل ( الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل الأضعف ) (( 25 )) ، بل إنّ القيمة الصوتية للحرف لا تتحدد في جرسه فقط بل حتى باقترانه مع الأصوات المجاورة في اللفظة كما في قوله تعالى : ( القارعة ما القارعة .. )( القارعة : 1 - 2 ) فهذه اللفظة المعبرة عن الشدة والقوة إنما تمّ لها ذلك من طبيعة أصواتها فـ ( العين لا تأتلف مع الهاء إلا إذا كانتا مفصولتين مثل هرع وهلع وهطع أو تقدمت العين على الهاء (( 26 )) كما في الآية الكريمة فلو لم تتقدم العين على الهاء لم تأتلفا ) (( 27 )) وذلك لثقلهما معاً مما يناسب سياق السورة الدّال على القوة والشدة .
وفي القرآن ( كلمات شديدة الإيحاء قوية البعث لما تتضمنه من المعاني وهناك عدد كبير من ألفاظ تصور بحروفها .... ) (( 28 )) قال تعالى: ( يومَ يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش )( القارعة : 5 - 7 ) فالفراش هو الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضاً فإذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة (( 29 )) بل يتطاير من كل جانب (( 30 ))( فهو مبثوث وقد انتهت كلمة الفراش وكلمة المنفوش بالشين كما انتهت كلمة المبثوث بالثاء ، والشين والثاء (( 31 )) من حروف التفشي والانتشار )(( 32 )) ولطالما تلمس( صاحب الظلال ) هذا الأمر وقد كان ( أفضل من فصل ما بين جرس اللفظ وظله والذي كثيراً ما تصوّر أنه واحد لأن الجرس خاص بالصوت والموسيقى أما الظلّ فهو استدعاء صورة المدلول الحسي ) (( 33 )) من ذلك ما اشتقه القرآن ليوم القيامة من أوصاف ( الصاخة ) و ( الطامة ) فالصّاخّة لفظة تكاد تخرق صِماخ الأذن في ثقلها وعنف جرسها ... وضع هذه الألفاظ بجوار ذلك اللفظ المشرق الرشيق ( تنفس ) في قوله تعالى : ( والصبح إذا تنفس )( التكوير : 18 ) تجد الإعجاز في اختيار الألفاظ لمواضعها ونهوض هذه الألفاظ برسم الصور على اختلافها (( 34 )) فهي ملائمة تماماً لرقة الصبح ويبدو ذلك في همس التاء والسين وذلاقة النون والفاء فاللفظة موحية بدلالتها وجرسها وظلها على هذه اليقظة التي شملت الطبيعة .. (( 35 )) ، وقد فُرِّق ما بين (…تفسحوا فافسحوا يفسح الله لكم ) و ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا ..)( المجادلة : 11 ) وإنما اختيرت لفظة ( انشزوا ) وجرسها الذي يدل على حركة القيام لأن الزاي أقوى من السين والشين أقوى من الفاء .. (( 36 )) وقديماً لاحظ ابن جني أن اختلاف الحرف الواحد في اللفظتين أو الحرفين ... يؤدي إلى اختلاف دقيق في المعنى المراد من اللفظ وإن دقة المعنى تتفق مع جرس الحرف المختار ، فكأن هناك اختياراً مقصوداً للصوت ليؤدي المعنى المغاير لما يؤديه الصوت الأخر (( 37 )) واعتبر أن فيه وجهاً للحكمة المعجزة للدلالة على قوة الصنع (( 38 )) .
[color=0000FF]جـ ) حال الحروف :[/color] قد تكون المفردة ثقيلة من حيث بنيتها أو طبيعة أصواتها في غير سياقها غير أن علاقتها مع ما قبلها أو بعدها تجعل المفردة هي الأنسب في الاختيار داخل سياقها من ذلك قوله تعالى : ( تلك إذن قسمةٌ ضيزى ) ( النجم : 22 ) وقد تعجب الرافعي من نظم هذه الكلمة الغريبة وأئتلافه على ما قبلها إذ هي مقطعان أحدهما مدٌّ ثقيل والآخر مدٌّ خفيف وقد جاءت عقب غنتين في ( إذن ) و ( قسمة ) وإحداهما خفيفة حادة والأخرى ثقيلة متفشية فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتيةً لتقطيعٍ موسيقي (( 39 )) فأية لفظة أخرى لها عين مفهومها في اللغة مثل ظالمة أو جائرة لا توفي المعنى المراد إيفاء تلك اللفظة القرآنية … من ثقل حرف الضاد المستعلي المفخم وإيحاء المدين المتقابلين إلى أسفل وإلى أعلى أعني الياء والألف (( 40 )) والذي رأى الرافعي في جرسهما ما يشبه حال المتهكم المستغرب حين يميل يده ورأسه (( 41 )) على أن هذا لا يعني أن كلمة
( الأخرى ) و ( إذن ) في الآية زائدتان لمجرد الجرس النغمي فهما ضروريتان في السياق لنكت معنوية خاصة وتلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى في السياق وتؤدي تناسباً في الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم للضرورات (( 42 )).
ومن مناسبة الحرف لحال السياق قوله تعالى : ( لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية )( العلق : 15 ) هكذا ( لنسفعنْ ) بذلك اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه وإنه لأوقع من مرادفه لنأخذنَّه بشده (( 43)) فإذا كان السياق يُراد به الشدة والغلظة والتهديد فَلِمَ لم يشدد النون في ( لنسفعنْ ) مع أن العرب إنما يزيدون في الصوت لزيادة المعنى ((44)) والجواب عن ذلك يبدو في قراءة الآية مرتلةً حيث يُلاحظ ما حققه السكون من اختزال زمني في قراءة الآية لا يتحقق فيها لو شدد بل لولّد إيقاعاً بطيئاً لا يتناسب مع هذا التهديد المقتضي للسرعة فناسب جرس الآية دلالتها ليكون الجرس عامل تهديدٍ يأخذ على الكافر فرصة النظر والتفكير ولعل في هذا سبب آخر للعدول عن ( لنأخذنّه ) بالإضافة إلى اختلاف الدلالة بينهما ، وهذا ما استشعره سيد قطب كما يبدو في قوله عن ( ولنسفعن بالناصية ) : ( صورة حسية للأخذ الشديد السريع )((45)) فالأصوات ( تابعة للمعاني فمتى قويت قويت ومتى ضعفت ضعفت ويكفيك من ذلك قولهم قَطَعَ وقطّع وكَسَرَ وكَسَّر زادوا في الصوت لزيادة المعنى واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه ) ((46 )) .
أما بالنسبة لحركة الحرف في البنية فقد راعت العرب القدر اليسير من الأصوات على رأي ابن جني
فلو تأملنا لفظتي ( سُعُر ونُذُر ) في قوله تعالى : ( ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنُذر ) ( القمر : 36 ) وقوله تعالى : ( إن المجرمين في ضلالٍ وسُعُر )( القمر : 47 ) حيث عُدّت مثل هذه اللفظة ثقيلة مستكرهة (( 48 )) ، على أن الحركة وإن كانت ثقيلة في نفسها لسببٍ من أسباب الثقل إلا إنها متى ما استعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً فلفظة النذر السابقة جمع ( نذير ) الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً فضلاً عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام كما يقول الرافعي ويضيف لكنه جاء في القرآن على عكس ذلك فتأمل مواضع القلقلة في دال ( لقد ) وفي الطاء من ( بطشتنا ) وهذه الفتحات فيما وراء الطاء إلى واو ( تماروا ) مع الفصل بالمدَّ كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان ليكون ثقل الضمة عليه مستحقاً بعد ... ثم ردد نظرك في الراء من ( تماروا ) فأنها ما جاءت إلا مساندةً لراء ( النذر ) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه ويكمل الرافعي ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون ( أنذرهم ) وفي ميمها والغنة الأخرى التي سبقت الذال في ( النذر )((49 )) على أنه يجب إلا يُفهم من هذه النظــرة الثاقبة للأستاذ الرافعي أن قوة هذا الاستخدام الصوتي للفظة قد اختفت وإنما سوّغت بحيث لا تظهر جسأة في الكلام ولا ثقلاً في السمع لأن الشيء يُقاس بما حوله ، وفرق بين اختفاء ثقل الشيء وبين التهيئة له لأن سياق سورة القمر يتطلب مثل هذا الاستخدام ( والحقيقة أن الخروج على القاعدة في سياق النظم لا ينقص من قيمة القاعدة لأن القاعدة تُعنى بالغالب في بناء اللغة ، أما الشذوذ عنها فهو في حالة ثانية وهي حالة انتقال الألفاظ إلى الاستعمال التطبيقي في التعبير الأدبي أي وضع اللقطة ضمن سياق فني يخضع اللقطة إلى الكثير من المؤثرات التي منها المؤثرات الذوقية والنفسية ) ((50)) .
فالقرآن يضع حاجة السياق بالدرجة الأساس مستفيداً من كل ما تتيحه اللغة من وسائل تعبيرية قد لا يتخذ معيار ( الأفصح ) شرطاً في الاختيار ومن الظواهر الصوتية التي تُوظَف في التعبير القرآني مستفيدةً من كل إمكانات اللغة وشكلياتها ظاهرة الإدغام والتي جيء بها بصورةٍ أعطت للنص القرآني خصوصيةً في الاستعمال ففي ( يشاقّ ) يكون الإدغام وهو لغة تميم ((51)) طالما ذُكِرَ الله تعالى وحده فإذا ذُكِرَ معه الرسول صلى الله عليه وسلم فُكَّ الإدغام وهو لغة الحجاز ((52)) قال تعالى : ( ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) ( الأنفال : 13 ) وقال تعالى :
( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى )( النساء : 115 ) وقال تعالى :
( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقِّ الله فإن الله شديد العقاب ) ( الحشر : 4 ) ... وقد نبّه الدكتور فاضل السامرائي لهذا غير أنه أبعد في تعليل هذا الاستخدام حيث قال ( ولعله وَحد الحرفين وأدغمهما في حرف واحد لأنه ذكر الله وحده وفكهما وأظهرهما لأنه ذكر الله والرسول فكانا اثنين )(( 53)) ، وليس هذا موضع تفصيل توجيهه .
ولربما جاء الرسم المصحفي ( العثماني ) بما يخالف القياس المتبع كما في قوله تعالى : ( إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً وأغلالاً وسعيرا )( الإنسان : 4 ) فالرسم العثماني لكلمة ( سلاسلا ) ورسمها بالألف من غير تنوين وكان من حقها أن تكتب من غير ألف ولا يَصحُّ في تعليل ذلك أن الكتابة العربية لم تكن قد استوفت شكلها النهائي يوم أن كُتب المصحف العثماني ذلك لأن ألفاظاً وردت في القرآن الكريم على صيغة ( فعائل ) أو ( مفاعل ) ولم تكتب بالألف مثل قوله تعالى :( كنّا طرائقَ قِددا ) ( الجن : 11 ) ... فلو كان ذلك عن نقصٍ في رسم الكتابة لأخذت أمثال هذه الصيغ شكلاً واحداً لكونها ممنوعة من الصرف فما الحكمة من هذا الرسم بهذه الصورة ؟ إن الألف الزائدة قد زيدت عن قصدٍ ولحكمةٍ تُراد لها وهي أن هذه الألف تشير إلى معنى مضمر في كلمة ( سلاسلا ) وأنها سلاسل طويلة جاوزت في طولها الحد المعروف للسلاسل التي يقيد بها الحيوان أو الإنسان ((54)) ، قال تعالى : ( في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه )( الحاقة : 32 ) ذلك أن الألف تحتمل مدَّ الصوت بها وامتداده وإطالته كما طالت تلك السلاسل طولاً غريباً ((55)) .و من ذلك قوله تعالى : (ممّا خطيئتهم أغرقوا فادخلوا ناراً )( نوح : 25 ) فــ ( ما ) التي عدّها النحاة في مثل هذا زائدة ((56)) أصلية مؤدية لاستكمال المعنى المراد غير أنهم لم يلحظوا ذلك من جهة الجرس وإنما لحظوه من جهة الوضع اللغوي فقط إذ كان لهذا المد الموحي جرسه بالتفخيم دلالة على عظم الخطيئات التي أغرقت قوم نوحٍ عليه السلام ((57)).
[color=0000FF]د) لظل المفردة :[/color] لا بد من الفصل ما بين جرس اللفظة وظلها والذي كثيراً ما تُصورّ أنه واحدٌ لأن الجرس خاص بالصوت والموسيقى أما الظل فهو استدعاء صورة المدلول الحسي ((58)) إلا أن الأسلوب القرآني كثيراً ما كان يقرن جرس المفردة بظلها قال تعالى : ( قلوبٌ يومئذٍ واجفة )( النازعات : 8 ) أي خائفة((59)) فلماذا عَدَلَ القرآن عن خائفة إلى واجفة ؟ ولعل في فهم السياق ما يعطي إجابة وافية عن هذا السؤال فالآيات السابقة ( يوم تتبعها الرادفة … )( النازعات : 6 – 7 ) عبّرت عن سرعة الوقوع والتتابع فلو قيل ( خائفة ) بدلاً من ( واجفة ) لما ناسبت من الناحية الصوتية معاني سابقاتها ولما اتسقت معها ، ذلك أن صوت المدّ فيها ما كان مناسباً هنا سرعة السياق * لذلك تمّ العدول عن تسمية القيامة بما فيه مدّ من الأسماء ويتأكد لنا من خلال بقية الأسماء التي غالباً ما جاء فيها المد مثل الحآقّة والصآخّة والطآمّة على أن هذا الملحظ الصوتي ليس منعزلاً عن ملحظٍ إيحائي من ظل المفردة لأن ( وجف ) في هذا السياق أكثر دلالةً وإيحاء من (خاف) فبالإضافة إلى معنا الخوف فإنها تدل على
( السرعة والاضطراب ) فـ ( الوجيف سرعة السير وأوجفتُ البعيرَ أسرعته قال تعالى : ( فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ )( الحشر : 6 ) قال تعالى : ( قلوبٌ يومئذٍ واجفة ) أي مضطربة )(( وبهذا تكون ( واجفة ) أولى في الاستخدام ، فاللفظ المستخدم إذا كان له معنى عام ومعنى خاص كان الأولى حمله على العام لتضمنه الخاص (( 60)) فإذا كان هذا في تفسير النص فهو أولى بالاستخدام أصلاً إذا كان يحقق غاية السياق . ومن ذلك تعبير القرآن حين يصوّر هدوء الليل وسكونه بالعسعسة تارة وبالسجو أخرى وبالسريان ثالثة مُزاوجاً في تصوير الحركة المتخلية لامتداد الليل بهدوء ما بين الدلالة الوضعية للألفاظ وبين إيحائها الموسيقي في السمع فيقول الله تعالى : ( والليل إذا عسعس )( التكوير : 17 ) وقال تعالى : ( والليل إذا سجى )( الضحى : 2 ) وقال تعالى : ( والليل إذا يسر)( الفجر : 4 ) وهو إيحاء عجيب لا يوجد في العبارة المؤدية للمعنى( أقبل بظلامه )((61 )) وقد جعل الرافعي من صوت الحس الذي هو اجتماع جرس المفردة (صوت النفس) وظلها ( صوت العقل ) معياراً للبلاغة فعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت يكون فيه من روح البلاغة وهو روح الإعجاز في القرآن الكريم ((62)) لذلك أصبح الليل جرساً وظلاً إيحائياً مفهوماً للنعمة والجمال والطمأنينة على الرغم من ارتباطه في شعر غير واحدٍ من شعراء قبل الإسلام بالهموم والآلام النفسية المبرحة كما هو عند امريء القيس ((63)) وبهذا يتكون لدينا ما يشبه الاستخدام الصوتي المخصوص بسياقٍ معين فمن ذاك التفريق القرآني بين ( الصبح ، والفجر ) حيث يُلاحظ أنّ كل استخدام لمفردة الصبح واشتقاقاتها لا يخرج عن سياق العذاب والإهلاك قال تعالى :(ولقد صبحهم بكرةً عذاب مستقر)( القمر : 38 ) وقال تعالى :( ... وهم نائمون فأصبحت كالصريم )( القلم : 20 ) و (إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب)( هود : 81 )(64) وعلى العكس من لفظة ( الفجر ) التي ما استخدمت إلا في سياقٍ خالٍ من العذاب إن لم يكن أقرب إلى الرقة قال تعالى :(والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر ... هل في ذلك قسمٌ لذي حجر)( الفجر : 1 - 6 ) وقال تعالى :(سلامٌ هي حتى مطلع الفجر)( القدر : 5 ) ... أو في سياقاتٍ تتعلق بالأحكام يستثنى من هذا قوله تعالى :( فالق الإصباح ... )( الإنعام : 96 ) وإنما جيء به للحاجة إلى جمعٍ ولا جمع للفجر لمناسبة ( الإصباح للإنفلاق ) من حيث الجرس ، والسر في هذا الاستخدام الخاص السابق مراعاة جرس كل من اللفظتين للسياق الذي استخدم فيه لأن ( الصاد ) صوت قوي لاجتماع الصفير والإطباق والاستعلاء (مفخم)(65) والباء صوت مجهور شديد متقلقل انفجاري (66) فناسب لفظهما (الصبح) معرض الإهلاك والعذاب ، وسيختلف السياق تماماً فيما لو استبدلت إحداهما بالأخرى .غير أن التعبير القرآني خالف هذا الاستخدام في قوله تعالى ( والصبح إذا تنفس )( التكوير : 18 ) فعدل في هذا الموضع عن استخدام ( الفجر ) لتحقيق التناسق الصوتي في نظم السياق الذي جاءت فيه هذه الآية ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ... )( التكوير 15 - 18 ) فالألفاظ المختارة كلها تحتوي صوت ( السين ) الصفيري فجيء بالصاد الصفيري ليناسب التكـرار فلـو كان الاختيار واقعاً على ( الفجر ) لأصبح الجرس متعثراً فيه نبوة يوجدها صوت ( الجيم ) الذي سيكون ثقيلاً جداً في مثل هذا السياق لذلك أرى ضرورة لدراسة التناسق الصوتي كسببٍ لاختيار المفردة مما يحقق للسياق إيقاعاً داخلياً قائماً على التكرار الصوتي الذي يحققه الاختيار الدقيق للمفردة دون الإخلال بقيمته الدلالية كما سيأتي .
ومن أسباب الاختيار الصوتي في القرآن اختيار ألفاظ معينة ذات جرسٍ خاص لإشاعة جرسٍ واحد في السياق وبما يتلائم مع دلالته العامة أو بما يساعد على تثبيت أطر الصورة المرسومة ويحقق ظلالها المعنوية ، وقد ذهب
بعض دارسي الصوت إلى أنه لا يتم تذوق الهندسة الإيقاعية الحقة إلا إذا حصلنا على تلاؤمٍ بين المكونات الثلاثة التي تشكل الرؤوس الثلاثة للمثلث الآتي :
[align=center]معانٍ
أصوات..................... مشاعر[/align]
واعتماداً على هذه الترسيمة ( المقفلة إلى حدٍ ما ) يمكن القول إنّ الأصوات في نظام اللغة الفنولوجي لا قيمة رمزية لها بينما هي تثير بعض مشاعر القارئ المستمع في كلامٍ محددٍ بالاتفاق مع المعنى (( 67)) .
قال تعالى :(فلا أقسم بالخنس الجوارِ الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس) (التكوير : 15 - 18 ) وقد اختيرت مفردات الآية مشتركة بدلالة المعنى والصوت اللذان يشكلان عنصراً واحداً في صرف مشاعر وذهن القاريء أو المستمع في اتجاه واحد وهو الغاية التعبيرية التي يحتاجها السياق أو البنية العامة فمدار الدلالة المعجمية لمفردات الآية تدور حول الخفاء والمخافتة فالخنس في أغلب معانيها تدلّ على السر والاختفاء والحبس والتأخر وهي هنا بمعنى اختفاء هذه الكواكب (( 68 ))والكنس التي تستر كما تكنس الظباء في المغار (( 69)) وعسعس الليل اعتكرت ظلماؤه وهو من الأضداد أي أقبل وأدبر وذلك في مبدأه ومنتهاه فالعسعسة رقة الظلام وذلك في طرفي الليل وهو الخفيف من كل شيء ((70)) وقد شكلت هذه المفردات المختارة لهذا ( هندسة ) صوتية قائمة في بنائها على التكرر المقصود والمنتظم لصوت السين وعلى الشكل الآتي :
( سِ سِ سْ سْ سَ سَ ) والذي ناغم بجرسه صور وإيحاء الألفاظ التي شكلته بهذه الصــورة وقد نبه ابن جني كثيراً إلى معنى المخافتة والخفاء الذي يحققه صوت السين كما في مقارنته بين ( صعد وسعد ) قائلاً :
( جعلوا الصاد لأنها أقوى - لما فيه أثر مشاهد يُرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك وجعلوا السين - لضعفها - لما لا يظهر ولا يُشاهد حساً ... فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم ترَهُ العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية ) وكذلك قال في تفريقه بين القسم والقصم (( 71 )) ومن كلام ابن جني هذا نفهم دقة ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله حين فرّق بين سورة ( الفلق ) و ( الناس ) فـ ( سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شرٌ ( من خارج ) وسورة الناس تضمنت الاستفادة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر ( من داخل ) )(( 72 )) لذلك تكرر صوت السين في الاختيار في سورة الناس دون الفلق قال تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس آله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس )( سورة الناس ) لنجد بهذا نكتةً أخرى من نكت ذكر وتكرار مفردة الناس مع أن السياق يقتضي أن يكون الإضمار أولى هنا من الإظهار ليكون تكرار هذا الصوت مؤكداً لصورة الخفاء التي عليها السورة وكذلك الوسوسة التي هي صوت الحلي والهمس الخفيُّ وكذلك يُقال ( لهمس الصائد )((73)) وأصلها الصوت الذي لا يحسُّ أو الإلقاء الخفيُّ في النفس إما بصوتٍ خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد … وأما الخناس فهو من خنس يخنس إذا توارى واختفى …((74)) وبهذا ندرك تكرار السين أيضاً في قوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلَمُ ما توسوسُ به نفسه … )( ق : 16 ) حيث تكرر صوت السين أربع مرات وهو ما لم يتكرر في الخمسة عشر آية السابقة غير سبع مرات فقط ، كل ذلك لما يمتاز به السين من صفاتٍ فهو
( مصمت ، رخو ، مهموس ، منفتح : مستفل ، مرقق ، غير مطبق )((75)) وهكذا استعملته العرب حين عبّروا عن المخافتة والخفاء يقول طرفة ((76)) :
[align=center]وصادِقتا سَمْعِ التوجسِ للسُّرى * لهجسٍ خفيٍّ أو لصوتٍ مُنَدِدِ[/align]
فا ( التوجس : التسمّع بحذرٍ والهجس الصوت الخفيّ وقوله للسرى أي في السرى أوعند الســـرى ويقال سرى وأسرى إذا سار بالليل )((77)) فلولا المخافتة ما تكرر خمس مراتٍ في البيت وهو لم يتكرر في أي بيتٍ من معلقة امريء القيس أكثر من ثلاث مرات فقط . وعلى الرغم من عدم وجود دراسات واضحة عند المفسرين المحدثين للإيقاع والهندسة الصوتية فأنني لا أرى ضرراً في تأكيد قضية الاهتمام باختيار المفردة لصنع تشكيلات صوتية ، هذا الاختيار الذي بدا واضحاً جداً في مفردات سورة النازعات قال تعالى : (... فالمدبراتِ أمراً يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوبٌ يومئذٍ واجفة ... )(النازعات 5 ـ 8 ) حيث ستشكل هذه المفردات المختارة التشكيلة الآتية :
را را تَرْ جُ فُرْ را ج فَهْ هَرْ را د فَهْ وا ج فَهْ ،
وبهذا تتشكل كل بنية على انفراد بالشكل الآتي :
رَا ــــ رَا ــــ رَا ــــ رَا ــــ وَا
تَرْ ــــ فُرْ ــــ هُرْ ــــ
جُ ــــ جِ ــــ دِ ــــ جِ
فَهْ ــــ فَهْ ــــ فَهْ
فأيُّ تناغمٍ أبدع أو أروع من هذا وسآتي بعد قليلٍ إلى دلالة تكرار صوت الراء لأنصرف هنا إلى بيان الدقة التي ما بعدها دقة في الراء الذي استخدم ساكناٌ مع التاء والفاء والهاء ( تَرْ و فَرْ و هَرْ ) والتي لن يشكل اختلافها فارقاً صوتياً لأنها قد اتفقت في أهم صفاتها الصوتية فكلها :
مهموسة ، مرققة ، صامتة ، مستفلة ، احتكاكية ، منفتحة ... ((78)) .
لذلك لن يشكل استبدالها بعضها ببعض فارقاً صوتياً يذكر وكذلك الأمر في استبدال الجيم بالدال
( جِ - جِ - دِ - جِ ) لأنهما يشتركان في كونهما :
شديدين ، مجهورين ، صامتين ، منفتحين ، مستفلين ، مرققين ((79)) .
مما يعني قصدية كاملة في الاختيار والعدول على حدٍ سواء ، وإذا كان أمرؤ القيس أو الأعشى أو البحتري ... قد نجحوا في مثل هكذا استخدام للمفردات وبما يحقق ذلك الجرس المتفق مع الدلالة إلى حدٍ كبيرٍ إلا أن أبياتهم التي اعتمدت التكرار الصرف أصبحت أسيرة الثقل والمعاضلة التي يحققها ثقل التكرار الحرفي كما هو معروف
(( 80)) إلا أن الأسلوب القرآني كان يكرر الصوت بتشكيلات متجددة ينبع أحدها من الآخر وبما لا يلفت الانتباه إلى تكرار معين وإن كان يحقق نغمية التكرار وبشكلها الأجمل . على أن ما ذكر ليس الشكل الوحيد الذي تخيرت لأجله مفردات السورة ففي بداية السورة تكررت المفردات بصورتها الاشتقاقية التي تبقي الجرس الصوتي واحداً دون أن يتكرر التشكيل الصوتي العام للمفردة فلا تتكرر إلا الأصول الصوتية للمفردة مما يبعد ثقل المعاضلة عنها ( والناشطات نشطاً والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً )( النازعات : 2 - 4 ) مما حقق ثنائيات لفظية قائمة على التكرار الصوتي ناسبت تماماً الدلالة على البعث بعد الموت والحياة المتكررة يوم القيامة وليأتي بعد هذا اختيار مفردات تحقق التكرار الصوتي الدّال على نفس المدلول للتكرار الأول وإن كان ضمن اختيارات جديدة وبشكل آخر حيث كثر اختيار المفردات التي تحوي تكراراً صوتياً مثل ( تتبعها ، أئنا ، لمردودون أئذا ) ولتكتمل الصورة كثر اختيار المفردات التي تحوي صوت الراء في بنيتها الصوتية حيث يُلاحظ غلبة هذه المفردات التي بلغت ( أربعة عشر مفردة ) من بين ( أربعين مفردة فقط ) ذلك أن الراء هو صوت العربية الوحيد الدّال بجرسه على التكرار ((81)) المناسب الوحيد بجرسه لهذا السياق ونحن إزاء المختارات ذات الجرس المتكرر ( الراء ) أمام تشكيلين هما :
را - را - را - را - وا
تَرْ - فَرْ - هَرْ
غير أنهما وليس كما رسمت - تشكيلان مختلطان في لفظتي ( الرّاجفة والرّادفة ) فكل منهما عبارة عن حرفين الأول ساكن والثاني متحرك ، ونستطيع أن ندرك أهمية السكون في الراء من خلال معرفتنا بأن صفة التكرار تكون في درجتها الأعلى عند سكون الراء ((82)) الأمر الذي جعل ابن جنّي يعدُّ الراء الساكن مساوياً بقيمته الصوتية لأصوات العربية المتحركة الأخرى ((83)) ؛ لذلك قيل : ( إنّ في القرآن إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع يتناسق مع الجو ويؤدي وظيفة أساسية في البيان )((84)) ؛ لذا فإن قاريء القرآن يشعر شعوراً طبيعياً يدفعه إلى ترتيله ترتيلاً صوتياً له نغماته في كل كلمة من كلماته بل في تتابع حروفه ((85)) .
[align=center]** ** **[/align]
[color=0000FF]*الحواشي :[/color]
1) الجرس والإيقاع 335 .
2) ينظر : تفسير الرازي 30 / 202 .
3) التوجيه الأدبي 138 .
4) دلالة الألفاظ 68 ، 70 .
5) الصورة الفنية في المثل القرآني 238 .
6) ينظر : التصوير الفني 73 .
7) النبأ العظيم 106 .
8) تاريخ آداب العرب 2 / 220 – 222 .
9) ينظر : فن القول 217 .
10) المذاهب النقدية 28 ، وينظر : جرس الألفاظ 121 .
11) الخصائص 2 / 153 ، وينظر : بدائع الفوائد 1 / 108 .
12) الجامع في فقه اللغة 2 / 426 – 446 ، وينظر اللغة الشعرية 197 ، والتركيب الصوتي 117 .
13) ينظر : دليل الدراسات الأسلوبية 91 – 92 .
14) المفردات 346 – 347 ، وتفسير مفردات ألفاظ القرآن 431 – 432 .
15) تهذيب اللغة 12 / 106 .
16) الخصائص 2 / 152 .
17) تفسير المعوذتين 63 ، وبدائع الفوائد 2 / 251 .
18) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 229 .
19) من بديع لغة التنزيل 287 ، وينظر : الكشاف 4 / 451 .
20) ينظر : دلالة الألفاظ 46 .
21) ينظر : بحوث لسانية 13 .
22) ينظر : الخصائص 2 / 157 – 158 ، وعلل هذا الاختيار بأنه كان ( حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الألفاظ ) 2 / 158 .
23) ينظر : المفردات 594 .
24) ينظر : الإعجاز البياني – الهامش – 346 .
25) الخصائص 1 / 65 – 66 ، وينظر : جرس الألفاظ 293 .
26) عبقري من البصرة 143 .
27) دور الصوت في إعجاز القرآن 143 – 144 .
28) من بلاغة القرآن 69 .
29) مجمع البيان 30 / 219 .
30) ينظر : تفسير من نسمات القرآن 654 .
31) ينظر : الرعاية 110 ، علم التجويد 63 ، والدراسات الصوتية 319 .
32) دور الصوت في إعجاز القرآن 144 .
33) البيان في إعجاز القرآن 195 .
34) ينظر : التصوير الفني 78 – 79 .
35) ينظر : الجرس والإيقاع 335 – 336 ، والطبيعة في القرآن 466 .
36) ينظر : في ظلال القرآن 8 / 21 .
37) الدراسات اللهجية 277 .
38) ينظر التمام 131 ، والدراسات اللهجية 277 .
39) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 230 .
40) ينظر : الجرس والإيقاع 346 .
41) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 261 ، ومن بلاغة القرآن 261 ، والجرس والإيقاع 346 .
42) ينظر : البيان في إعجاز القرآن 197 ، والتصوير الفني 87 ، والنبؤة والإعجاز 68 – 69 .
43) التصوير الفني 20 .
44) ينظر : المحتسب 2 / 210 .
45) التصوير الفني 21 .
46) المحتسب 2 / 210 .
47) ينظر : المثل السائر 1 / 268 ، وتاريخ آداب العرب 2 / 227 .
48) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 227 – 228 .
49) جرس الألفاظ 161 .
50) ينظر : المحتسب 1 / 148 ، والبحر المحيط 2 / 354 .
51) ينظر : البحر المحيط 2 / 344 .
52) التعبير القرآني 19 .
53) ينظر : التفسير القرآني للقرآن 8 / 1355 .
54) ينظر : التفسير القرآني 8 / 1356 .
55) ينظر : شرح ابن عقيل 369 .
56) ينظر : الجرس والإيقاع 340 – 341 .
57) ينظر : التصوير الفني 78 – 79 ، والبيان في إعجاز القرآن 195 .
58) تفسير من نسمات القرآن 631 .
59) وبقدر ما تكثر الصوامت تزداد الحركة السريعة وبقدر ما تكثر المصوتات تخفّ هذه السرعة ويحلّ محلها الجمود والثبات ، ينظر : الصورة الشعرية في الكتابة .
60) المفردات 807 ، تفسير مفردات القرآن 909 .
61) ينظر : مقدمة في أصول التفسير 45 ، وتفسير ابن كثير 1 / 5 .
62) ينظر : الجرس والإيقاع 336 – 337 ، وفي ظلال القرآن 30 / 66 .
63) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 221 .
64) ينظر : الجرس والإيقاع 337 ، ينظر : وصف الليل في معلقة أمريء القيس ، الديوان 18 – 19 .
65) وينظر بقية المواضع في المعجم المفهرس 399 .
66) ينظر : الدراسات الصوتية 329 .
67) ينظر : المصدر السابق 340 .
68) ينظر : دليل الدراسات الأسلوبية 110 .
69) ينظر : الفروق بين الحروف 804 ، وكتاب الأفعال 1 / 279 ، وشرح الفصيح 136 .
70) ينظر : معاني القرآن 3 / 242 والكشاف 4 / 224 .
71) ينظر : كتاب الأفعال 2 / 404 ، ومختصر العين 1 / 74 ، وتفسير مفردات ألفاظ القرآن 587 .
72) الخصائص 2 / 163 .
73) بدائع الفوائد 2 / 250 .
74) ينظر : المفردات 819 ، وتفسير مفردات ألفاظ القرآن 927 .
75) ينظر : عدة المسلمين 284 – 285 .
76) ينظر : جدول صفات الأصوات الصحيحة في ظاهرة التنافر في اللغة العربية 29 .
77) ديوان طرفة 23 .
78) شرح المعلقات العشر 72 .
79) ينظر في ذلك : ظاهرة التنافر في اللغة العربية 29 .
80) ينظر : المصدر السابق .
81) المعاضلة : عثار الجرس نتيجة تكرار بعض الحروف لتقارب مخارجها مما يحدث ثقلاً في النطق ينظر : سر الفصاحة 91 .
82) ينظر : علم الأصوات العام 128 .
83) ينظر : الكتاب 4 / 136 .
84) ينظر : المحتسب .
85) التصوير الفني في القرآن 101 – 102 .
86) ينظر : دراسة أدبية لنصوص من القرآن 152 .
الأسباب الصوتية لاختيار المفردة القرآنية[/color][/align]
[color=990000]ملاحظة :[/color] قد ترد في البحث مصطلحات صوتيه لا يقال بأنها موجودة في القرآن ، وإنما ذكرت للإيضاح فقط ، كما وأفاد البحث من بعض الكتب والتفاسير التي لا يعني أخذ نصٍ يستلزمه البحث قناعة كاتبه بهذه الكتب وجميع ما ورد فيها ؛ لذا وجب التنبيه ، مؤمناً بكتاب الله على مراد الله الذي فهمه سلف الأمة عرفته أم لم أعرفه ..
[align=center]** ** **[/align]
انماز القرآن ببنائه الصوتي الذي لا يقترب منه في خصائصه بناء أبداً ، ولعل الأساس في بناء القرآن الصوتي
أنه غير قائم على نظام ( الحركة والسكون ) في قالبٍ جاهزٍ كما هو معروف في الشعر ( عمودياً وحرَاً ) ، الأمر الذي لا يستلزم فرض قالب صوتي قد لا يكون موافقاً للموقف الذي يُصوّر ، أو الصورة التي تُرسم والذي يهمني هنا : أن القرآن لما كان منمازاً عن الشعر وقوانينه فأنه لم يقع أسير التوحد الشكلي في اختيار المفردة التي تنهي عبارته والتي تفرض نفسها - أي القافية - تفرض نفسها شكلاً لازماً في نهاية كل عبارة في الشعر مما يعني : أن الاختيار مشروط أساساً كصيغةٍ تشكيليةٍ تحقق تنغيماً معيناً كثيراً ما يكون على حساب الأداء الدلالي للمفردة في الحد الأدنى من السلبية ؛ إذ قد يتحكم هذا الاختيار المشروط بالفكرة أو الصورة كلياً مما سيعني في كل الأحوال قصوراً في الإيصال والتصوير لما يراد الإخبار عنه أو تصويره وعلى الرغم من هذا كله فإن القرآن ما كان تاركاً أسلوباً مثل هذا - التأثير الصوتي - دون الإفادة التامة من خصائصه التأثيرية والجمالية ؛ لذلك نجد أنّ الفاصلة تتكرر غالباً وعلى امتداد السورة ، ولا تخرج عن التوحد الصوتي أو الشكلي إلا في مواضع قليلة لأن القرآن لم يشترط لنفسه شروطاً في التعبير قد تكون حائلاً بينه وبين الدقة في الدلالة والمعنى ؛ لذلك ظهرت المفردة القرآنية مستعملةً في نمطية غريبة ما اعتادتها الأذن العربية لذلك رأيتني مضطراً لتعريف المفردة القرآنية بأنها :
الشكل الدلالي الوحيد الصالح - بأفضل أداءٍ صوتي ممكن - للتعبير عن كلّ أغراض السياق .
لذلك فقد عنيَ ( القرآن بالجرس والإيقاع عنايته بالمعنى وهو لذلك يتخير الألفاظ تخيراً يقوم على أساس من تحقيق الموسيقى المتسقة مع جو الآية وجو السياق بل جو السورة كلها في كثير من الأحيان وبخاصة تلك السور القصار التي حَفِلَ بها العهد المكي ... لتأكيدها أصول العقيدة : من الإيمان بالله وتوحيده و .... ) (1) هذه السور التي ما أن سَمع بعضها الوليد بن المغيرة حتى قال قولته المشهورة : إن له حلاوة وإن عليه لطلاوة ...(2) فما هي الطلاوة التي فيه إذا كانت حلاوته معانيه ودلالاته إنها نابعة من الألفاظ ( من حيث هي أصوات أثرٌ موسيقي خاص يوحي إلى السمع بتأثيرات مستقلة تمام الاستقلال عن تأثيرات المعنى وعن مجرد كون اللفظ رقيقاً وغيررقيق ، ونرى الشعراء في العادة يتجنبون طائفة من الألفاظ التي لا يستطيعون أن يستسيغوها) (3) ، وقد أشار الدكتور إبراهيم أنيس إلى هذا النوع من الدلالة التي تستمد من طبيعة الأصوات والتي يُسميها علم اللغة الحديث (الدلالة الصوتية) أو (رمزية الألفاظ) كما سماها (جسبرسن) (4) لأن لكل كلمة ذائقة سمعية - تكتسبها من استقلالها بحروف معينة - قد تختلف عمّا سواها من الكلمات التي تؤدي نفس المعنى مما يجعل الكلمة المختارة مؤثرة أكثر من الأخرى - وإن اتحدت معها بالمعنى - بما تضفيه الدلالة الصوتية التي تتجلى بكلمات مختارة (5) لأجل هذا كله كان للمحدثين اهتمام كبير بهذا الجانب كما سيأتي الأمر الذي جعلهم ينتقدون طريقة من سبق في دراستها في كلامهم عن الإيقاع الناشئ من تخير الألفاظ ونظمها .. فمع أن
هذه الظاهرة - كما قيل - واضحة جدَّ الوضوح في القرآن وعميقة كل العمق في بنائه الفني إلا أن حديثهم عنها لم يتجاوز ذلك الإيقاع الظاهري ولم يرتق إلى إدراك التعدد في الأساليب الموسيقية وتناسق ذلك كله مع الجو الذي تطلق فيه هذه الموسيقى ووظيفتها التي تؤديها في كل سياق (6) فهذه الألفاظ ( ينظر فيها تارة من حيث هي أبنية صوتية مادتها الحروف وصورتها الحركات والسكنات من غير نظر إلى دلالتها ... وتارة من حيث هي أداة لتصوير المعاني ونقلها من نفس المتكلم إلى نفس المخاطب بها .... ولا شك أنها هي أعظم الناحيتين أثراً في الإعجاز اللغوي الذي نحن بصدده إذ اللغات تتفاضل من حيث هي بيان أكثر من تفاضلها من حيث هي أجراس وأنغام )(7) وكل هذا ليس إلا صورة أخرى لما قاله الرافعي حين جعل الكلمة ثلاثة أصوات هي : صوت النفس والذي عرّفه بأنه : الصوت الموسيقي الذي يتكون من تأليف حروف الكلمة واجتماعها ومخارجها وحركاتها ومدّاتها وغناتها ... وصوت العقل وهو الصوت المعنوي الذي يختص بمعنى الكلمة (دلالتها) ومخاطبتها للعقل وصوت الحس : الذي هو اجتماع إيقاع حروف الكلمة وروعة معانيها ، أو هو اجتماع صوت النفس وصوت العقل وعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت يكون فيه من روح البلاغة وصوت الحس هذا هو روح الإعجاز في القرآن الكريم (8) وبسببٍ من هذا كله جاءت الدعوة إلى دراسة جرس الألفاظ من أوائل الموضوعات التي نادى لها الشيخ أمين الخولي لبعث الحياة في البحث البلاغي (9) بعد أن ( دارت هذه اللغة على ألسنة أعجمية لم يكن لها عهد بحروفها وبمخارج ألفاظها فتقعر الناطقون بها وجرى اللحن في كيانها ... ومن هنا صرّح العاجزون عن ضبط جرسها بإعلاء شأن المعنى .... ولا عبرة بالألفاظ ما دام الغاية هي إفهام السامع حاجة المتحدث ) (10).
لذلك كان أول ما ينبغي أن يذكر بداية أنه لا يصح عند دراسة ما تحققه البنى التعبيرية من قيم أدائية (جمالية أو صوتية) أن تعزل عمّا تحققه البنى نفسها على مستوى الأداء الدلالي ، ذلك أن الاستخدام الصوتي في القرآن لا يُعارض الجانب الدلالي إطلاقاً إن لم يكن مُبّرزاً له في الأعم الأغلب ، وليس قولي هذا إلا متنفساً للولوج إلى التأكيد على أن الاختيار - وأقول الاختيار المنحصر هنا إلى حدٍّ كبيرٍ في اختيار المفردة - إنما يكون دلالياً عن طريق التوظيف الصوتي للمفردة ، وليس لمسعى جمالي يحقق إثراءً لنغمية النص القائمة على نوعٍ من التوازن الصوتي ، وإن لم يفتقر لهذا منضافاً إلى التواشج التام مع الأداء التعبيري وبكل بُناه من (مفردة ، وجملة ، ونص) النص الذي يمتاز بالإضافة إلى الموافقة التامة من أصواته لمعانيه الخاصة بالوحدة الصوتية القائمة على التوافق أو التقابل الصوتي كما سيبحث .
[color=336633]1- تُختَار المفردة لكونها معبرة عن مدلولها بجرسها من خلال :[/color]
[color=0000FF]أ ) بنية المفردة :[/color] قد تختار المفردة القرآنية لبنيتها الصرفية ، فقد اقترنت بعض الأوزان الصرفية بدلالاتٍ خاصة من ( ذلك أنك تجد المصادر الرباعية المضعفة تأتي للتكرير نحو الزعزعة والقلقلة والصلصلة ... ووجدتُ أيضاً ( الفعلى ) في المصادر والصفات إنما تأتي للسرعة نحو : البشَكى والجَمَزَى والولقى .... فجعلوا المثال المكرر للمعنى المكرر - أعني باب القلقة - والمثال الذي توالت حركاته للأفعال التي توالت الحركات فيها ) (( 11)) والتي ( تتميز عن الثلاثي الأصلي بزيادة مقطع يضخم حجم الفعل ليقوي طاقة التعبير بحكاية أصوات الشيء أو تصوير حركته أو نوره أو أثره في النفس بالأصوات فهو بذلك متميز بإيقاعٍ ذاتي ) ((12)) وهذا ما سُمِّي بـ ( التنسيق المتصل في التكرير المعجل ورُمِزَ له بالآتي : أ + ب / أ + ب (( 13 )) .
قال تعالى : ( في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه )( الحاقة : 32 ) وإنما سميت هكذا لتكرر حلقاتها وتتابعها ( تسلسل الشيء اضطرب كأنه تُصور منه تسلسل متردد ، فردد لفظه تنبيهاً على تردد معناه ومنه السلسلة ... وماءٌ سلسل متردد في قعره حتى صفا ... ) (( 14)) قال تعالى : (عيناً فيها تسمى سلسبيلا )( الإنسان : 18 ) ، قال تعالى :( ريحٍ صرصرٍ عاتية )( الحاقة : 6 ) جاء في تهذيب اللغة معزواً إلى الخليل أصرَ الجندب صريراً وصر الباب يصرّ وكل صوت شبه ذلك فهـو صرير إذا امتد فكان فيه تخفيف وترجيع في إعادة ضوعفَ لقولك صرصر الأخطب صرصرة ) (( 15)) وجاء في الخصائص : ( قال الخليل كأنهم توهموا في صوت الجندب استطالة ومدَاً ، فقالوا صرّ وتوهموا في صوت البازي تقطيعاً فقالوا : صرصر ) (( 16 )) ، قال تعالى : ( من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس )( الناس 3 - 5 ) ، فـ ( لما كانت الوسوسة كلاماً يكرره الموسوس ويؤكده عند من يلقيه كرروا لفظها بأزاء تكرير معناها فقالوا : ( وسوس وسوسة ) فراعوا تكرير اللفظ ليفهم منه تكرير مسماه … وقد عُلم بهذا أن من جعل هذا الرباعي بمعنى الثلاثي المضاعف لم يُصب لأنّ الثلاثي لا يدل على تكرار بخلاف الرباعي المكرر … فتأمله فأنه مطابق للقاعدة العربية في الحذو بالألفاظ حذو المعاني .. )(17) .
وبهذا يُرى التوظيف الدقيق للصوت في خدمة المعنى بالإضافة إلى ما يحققه من جمالٍ صوتي ، وقد تنبه الرافعي إلى هذا الجمال الذي تحققه البنية القرآنية ذاكراً أن ما يوجد في القرآن من كلماتٍ طويلة تتسم بأنها من الألفاظ المركبة التي ترجع عند تجريدها من المزيدات إلى الأصول الثلاثية أو الرباعية ولم ترد في القرآن لفظة خماسية الأصول لأنه مما لا وجه للعذوبة فيه إلا ما كان من اسم عُرِّبَ ولم يكن في الأصل عربياً : كإبراهيم وإسماعيل ... ولا يجيء به مع ذلك إلا أن يتخلله المدّ فتخرج الكلمة وكأنها كلمتان (( 18 )) .
[color=0000FF]ب ) صفات حروفها :[/color] تكاد تطرد أراء الباحثين على أن من الألفاظ ما هو مصور لمعناه بجرس حروفه ولعل أهم ما يتبادر إلى الذهن كمؤثر صوتي هو اختلاف المفردات بصوتٍ واحد يكون مهموساً في أحدهما مجهوراً في أخرى لذلك نرى القرآن يعدل عن إحداهما إلى الأخرى بحسب حاجة السياق أو الصورة التي تُرسم كما في استخدامه تعالى لكلمة ( نضخ ) بدلاً من ( نضح ) وكلاهما كان يعني خروج الماء فقال تعالى : ( فيهما عينان نضاختان ) ( الرحمن : 66 ) فـ ( النضخ والنضح واحد إلا أن الأول أكثر وهذه من فوائد الإبدال الصوتي في العربية ومثل هذا الهدير والهديل ) (( 19 )) ولفظة ( تنضخ ) التي تعبر عن فوران السائل في قوة وعنف ، إذا قورنت بنظيرتها ( تنضح ) التي تدلّ على تسرب السائل في تؤدة وبطء ، فسوف يتبين لنا أن صوت الخاء في الأولى له دخل في دلالتها (( 20 )) ؛ لأن الأصوات الفخمة القوية تواتي المواقف القوية (( 21 )) وهذا الأسلوب كثير في كلام العرب إذ يتغير المعنى بتغير صوتٍ من أصوات لفظه كما ذكر ابن جني في التفرقة بين ( خضم ) و ( قضم ) إذ يستخدم الصوت الأقوى غالباً للدلالة على المعنى الأقوى (( 22 )) .
على أن بنت الشاطيء لم تكد تهتم بمثل هذه الفروق حيث نفت أن يكون معنى ( القد ) في مثل قوله تعالى : (... كنا طرائق قِددا )( الجن : 11 ) مخصوصاً بالقطع طولاً وهو ما قاله الراغب في المفردات (( 23 )) قائلة : ولم أرَ لهذا التخصيص وجهاً (( 24 )) ، ويبدو أنها ، رحمها الله ، لم تطّلع على ما كتبه ( أبن جني ) في الخصائص عن هذا حيث وجهه صوتياً في تعليل الفرق بين ( قط ) و ( قد ) فقال : ( قط الشيء ) إذا قطعه عرضاً و ( قده ) إذا قطعه طولاً ، وذلك لأن منقطع الطاء أقصر مدة من منقطع الدال وكذلك قالوا : ( مدّ الحبل ) و ( مت إليه بقرابةٍ ) فجعلوا الدال لأنها مجهورة لما فيه علاج وجعلوا التاء - لأنها مهموسة - لما لا علاج فيه ) جرياً منهم في جعل ( الصوت الأقوى للفعل الأقوى والصوت الأضعف للفعل الأضعف ) (( 25 )) ، بل إنّ القيمة الصوتية للحرف لا تتحدد في جرسه فقط بل حتى باقترانه مع الأصوات المجاورة في اللفظة كما في قوله تعالى : ( القارعة ما القارعة .. )( القارعة : 1 - 2 ) فهذه اللفظة المعبرة عن الشدة والقوة إنما تمّ لها ذلك من طبيعة أصواتها فـ ( العين لا تأتلف مع الهاء إلا إذا كانتا مفصولتين مثل هرع وهلع وهطع أو تقدمت العين على الهاء (( 26 )) كما في الآية الكريمة فلو لم تتقدم العين على الهاء لم تأتلفا ) (( 27 )) وذلك لثقلهما معاً مما يناسب سياق السورة الدّال على القوة والشدة .
وفي القرآن ( كلمات شديدة الإيحاء قوية البعث لما تتضمنه من المعاني وهناك عدد كبير من ألفاظ تصور بحروفها .... ) (( 28 )) قال تعالى: ( يومَ يكون الناس كالفراش المبثوث وتكون الجبال كالعهن المنفوش )( القارعة : 5 - 7 ) فالفراش هو الجراد الذي ينفرش ويركب بعضه بعضاً فإذا ثار لم يتجه إلى جهة واحدة (( 29 )) بل يتطاير من كل جانب (( 30 ))( فهو مبثوث وقد انتهت كلمة الفراش وكلمة المنفوش بالشين كما انتهت كلمة المبثوث بالثاء ، والشين والثاء (( 31 )) من حروف التفشي والانتشار )(( 32 )) ولطالما تلمس( صاحب الظلال ) هذا الأمر وقد كان ( أفضل من فصل ما بين جرس اللفظ وظله والذي كثيراً ما تصوّر أنه واحد لأن الجرس خاص بالصوت والموسيقى أما الظلّ فهو استدعاء صورة المدلول الحسي ) (( 33 )) من ذلك ما اشتقه القرآن ليوم القيامة من أوصاف ( الصاخة ) و ( الطامة ) فالصّاخّة لفظة تكاد تخرق صِماخ الأذن في ثقلها وعنف جرسها ... وضع هذه الألفاظ بجوار ذلك اللفظ المشرق الرشيق ( تنفس ) في قوله تعالى : ( والصبح إذا تنفس )( التكوير : 18 ) تجد الإعجاز في اختيار الألفاظ لمواضعها ونهوض هذه الألفاظ برسم الصور على اختلافها (( 34 )) فهي ملائمة تماماً لرقة الصبح ويبدو ذلك في همس التاء والسين وذلاقة النون والفاء فاللفظة موحية بدلالتها وجرسها وظلها على هذه اليقظة التي شملت الطبيعة .. (( 35 )) ، وقد فُرِّق ما بين (…تفسحوا فافسحوا يفسح الله لكم ) و ( وإذا قيل انشزوا فانشزوا ..)( المجادلة : 11 ) وإنما اختيرت لفظة ( انشزوا ) وجرسها الذي يدل على حركة القيام لأن الزاي أقوى من السين والشين أقوى من الفاء .. (( 36 )) وقديماً لاحظ ابن جني أن اختلاف الحرف الواحد في اللفظتين أو الحرفين ... يؤدي إلى اختلاف دقيق في المعنى المراد من اللفظ وإن دقة المعنى تتفق مع جرس الحرف المختار ، فكأن هناك اختياراً مقصوداً للصوت ليؤدي المعنى المغاير لما يؤديه الصوت الأخر (( 37 )) واعتبر أن فيه وجهاً للحكمة المعجزة للدلالة على قوة الصنع (( 38 )) .
[color=0000FF]جـ ) حال الحروف :[/color] قد تكون المفردة ثقيلة من حيث بنيتها أو طبيعة أصواتها في غير سياقها غير أن علاقتها مع ما قبلها أو بعدها تجعل المفردة هي الأنسب في الاختيار داخل سياقها من ذلك قوله تعالى : ( تلك إذن قسمةٌ ضيزى ) ( النجم : 22 ) وقد تعجب الرافعي من نظم هذه الكلمة الغريبة وأئتلافه على ما قبلها إذ هي مقطعان أحدهما مدٌّ ثقيل والآخر مدٌّ خفيف وقد جاءت عقب غنتين في ( إذن ) و ( قسمة ) وإحداهما خفيفة حادة والأخرى ثقيلة متفشية فكأنها بذلك ليست إلا مجاورة صوتيةً لتقطيعٍ موسيقي (( 39 )) فأية لفظة أخرى لها عين مفهومها في اللغة مثل ظالمة أو جائرة لا توفي المعنى المراد إيفاء تلك اللفظة القرآنية … من ثقل حرف الضاد المستعلي المفخم وإيحاء المدين المتقابلين إلى أسفل وإلى أعلى أعني الياء والألف (( 40 )) والذي رأى الرافعي في جرسهما ما يشبه حال المتهكم المستغرب حين يميل يده ورأسه (( 41 )) على أن هذا لا يعني أن كلمة
( الأخرى ) و ( إذن ) في الآية زائدتان لمجرد الجرس النغمي فهما ضروريتان في السياق لنكت معنوية خاصة وتلك ميزة فنية أخرى أن تأتي اللفظة لتؤدي معنى في السياق وتؤدي تناسباً في الإيقاع دون أن يطغى هذا على ذاك أو يخضع النظم للضرورات (( 42 )).
ومن مناسبة الحرف لحال السياق قوله تعالى : ( لئن لم ينتهِ لنسفعاً بالناصية )( العلق : 15 ) هكذا ( لنسفعنْ ) بذلك اللفظ الشديد المصور بجرسه لمعناه وإنه لأوقع من مرادفه لنأخذنَّه بشده (( 43)) فإذا كان السياق يُراد به الشدة والغلظة والتهديد فَلِمَ لم يشدد النون في ( لنسفعنْ ) مع أن العرب إنما يزيدون في الصوت لزيادة المعنى ((44)) والجواب عن ذلك يبدو في قراءة الآية مرتلةً حيث يُلاحظ ما حققه السكون من اختزال زمني في قراءة الآية لا يتحقق فيها لو شدد بل لولّد إيقاعاً بطيئاً لا يتناسب مع هذا التهديد المقتضي للسرعة فناسب جرس الآية دلالتها ليكون الجرس عامل تهديدٍ يأخذ على الكافر فرصة النظر والتفكير ولعل في هذا سبب آخر للعدول عن ( لنأخذنّه ) بالإضافة إلى اختلاف الدلالة بينهما ، وهذا ما استشعره سيد قطب كما يبدو في قوله عن ( ولنسفعن بالناصية ) : ( صورة حسية للأخذ الشديد السريع )((45)) فالأصوات ( تابعة للمعاني فمتى قويت قويت ومتى ضعفت ضعفت ويكفيك من ذلك قولهم قَطَعَ وقطّع وكَسَرَ وكَسَّر زادوا في الصوت لزيادة المعنى واقتصدوا فيه لاقتصادهم فيه ) ((46 )) .
أما بالنسبة لحركة الحرف في البنية فقد راعت العرب القدر اليسير من الأصوات على رأي ابن جني
فلو تأملنا لفظتي ( سُعُر ونُذُر ) في قوله تعالى : ( ولقد أنذرهم بطشتنا فتماروا بالنُذر ) ( القمر : 36 ) وقوله تعالى : ( إن المجرمين في ضلالٍ وسُعُر )( القمر : 47 ) حيث عُدّت مثل هذه اللفظة ثقيلة مستكرهة (( 48 )) ، على أن الحركة وإن كانت ثقيلة في نفسها لسببٍ من أسباب الثقل إلا إنها متى ما استعملت في القرآن رأيت لها شأناً عجيباً فلفظة النذر السابقة جمع ( نذير ) الضمة ثقيلة فيها لتواليها على النون والذال معاً فضلاً عن جسأة هذا الحرف ونبوه في اللسان وخاصة إذا جاء فاصلة للكلام كما يقول الرافعي ويضيف لكنه جاء في القرآن على عكس ذلك فتأمل مواضع القلقلة في دال ( لقد ) وفي الطاء من ( بطشتنا ) وهذه الفتحات فيما وراء الطاء إلى واو ( تماروا ) مع الفصل بالمدَّ كأنها تثقيل لخفة التتابع في الفتحات إذا هي جرت على اللسان ليكون ثقل الضمة عليه مستحقاً بعد ... ثم ردد نظرك في الراء من ( تماروا ) فأنها ما جاءت إلا مساندةً لراء ( النذر ) حتى إذا انتهى اللسان إلى هذه انتهى إليها من مثلها فلا تجف عليه ولا تغلظ ولا تنبو فيه ويكمل الرافعي ثم أعجب لهذه الغنة التي سبقت الطاء في نون ( أنذرهم ) وفي ميمها والغنة الأخرى التي سبقت الذال في ( النذر )((49 )) على أنه يجب إلا يُفهم من هذه النظــرة الثاقبة للأستاذ الرافعي أن قوة هذا الاستخدام الصوتي للفظة قد اختفت وإنما سوّغت بحيث لا تظهر جسأة في الكلام ولا ثقلاً في السمع لأن الشيء يُقاس بما حوله ، وفرق بين اختفاء ثقل الشيء وبين التهيئة له لأن سياق سورة القمر يتطلب مثل هذا الاستخدام ( والحقيقة أن الخروج على القاعدة في سياق النظم لا ينقص من قيمة القاعدة لأن القاعدة تُعنى بالغالب في بناء اللغة ، أما الشذوذ عنها فهو في حالة ثانية وهي حالة انتقال الألفاظ إلى الاستعمال التطبيقي في التعبير الأدبي أي وضع اللقطة ضمن سياق فني يخضع اللقطة إلى الكثير من المؤثرات التي منها المؤثرات الذوقية والنفسية ) ((50)) .
فالقرآن يضع حاجة السياق بالدرجة الأساس مستفيداً من كل ما تتيحه اللغة من وسائل تعبيرية قد لا يتخذ معيار ( الأفصح ) شرطاً في الاختيار ومن الظواهر الصوتية التي تُوظَف في التعبير القرآني مستفيدةً من كل إمكانات اللغة وشكلياتها ظاهرة الإدغام والتي جيء بها بصورةٍ أعطت للنص القرآني خصوصيةً في الاستعمال ففي ( يشاقّ ) يكون الإدغام وهو لغة تميم ((51)) طالما ذُكِرَ الله تعالى وحده فإذا ذُكِرَ معه الرسول صلى الله عليه وسلم فُكَّ الإدغام وهو لغة الحجاز ((52)) قال تعالى : ( ذلك بأنهم شاقّوا الله ورسوله ومن يشاقق الله ورسوله فإن الله شديد العقاب ) ( الأنفال : 13 ) وقال تعالى :
( ومن يشاقق الرسول من بعد ما تبين له الهدى )( النساء : 115 ) وقال تعالى :
( ذلك بأنهم شاقوا الله ورسوله ومن يشاقِّ الله فإن الله شديد العقاب ) ( الحشر : 4 ) ... وقد نبّه الدكتور فاضل السامرائي لهذا غير أنه أبعد في تعليل هذا الاستخدام حيث قال ( ولعله وَحد الحرفين وأدغمهما في حرف واحد لأنه ذكر الله وحده وفكهما وأظهرهما لأنه ذكر الله والرسول فكانا اثنين )(( 53)) ، وليس هذا موضع تفصيل توجيهه .
ولربما جاء الرسم المصحفي ( العثماني ) بما يخالف القياس المتبع كما في قوله تعالى : ( إنا اعتدنا للكافرين سلاسلاً وأغلالاً وسعيرا )( الإنسان : 4 ) فالرسم العثماني لكلمة ( سلاسلا ) ورسمها بالألف من غير تنوين وكان من حقها أن تكتب من غير ألف ولا يَصحُّ في تعليل ذلك أن الكتابة العربية لم تكن قد استوفت شكلها النهائي يوم أن كُتب المصحف العثماني ذلك لأن ألفاظاً وردت في القرآن الكريم على صيغة ( فعائل ) أو ( مفاعل ) ولم تكتب بالألف مثل قوله تعالى :( كنّا طرائقَ قِددا ) ( الجن : 11 ) ... فلو كان ذلك عن نقصٍ في رسم الكتابة لأخذت أمثال هذه الصيغ شكلاً واحداً لكونها ممنوعة من الصرف فما الحكمة من هذا الرسم بهذه الصورة ؟ إن الألف الزائدة قد زيدت عن قصدٍ ولحكمةٍ تُراد لها وهي أن هذه الألف تشير إلى معنى مضمر في كلمة ( سلاسلا ) وأنها سلاسل طويلة جاوزت في طولها الحد المعروف للسلاسل التي يقيد بها الحيوان أو الإنسان ((54)) ، قال تعالى : ( في سلسلةٍ ذرعها سبعون ذراعاً فاسلكوه )( الحاقة : 32 ) ذلك أن الألف تحتمل مدَّ الصوت بها وامتداده وإطالته كما طالت تلك السلاسل طولاً غريباً ((55)) .و من ذلك قوله تعالى : (ممّا خطيئتهم أغرقوا فادخلوا ناراً )( نوح : 25 ) فــ ( ما ) التي عدّها النحاة في مثل هذا زائدة ((56)) أصلية مؤدية لاستكمال المعنى المراد غير أنهم لم يلحظوا ذلك من جهة الجرس وإنما لحظوه من جهة الوضع اللغوي فقط إذ كان لهذا المد الموحي جرسه بالتفخيم دلالة على عظم الخطيئات التي أغرقت قوم نوحٍ عليه السلام ((57)).
[color=0000FF]د) لظل المفردة :[/color] لا بد من الفصل ما بين جرس اللفظة وظلها والذي كثيراً ما تُصورّ أنه واحدٌ لأن الجرس خاص بالصوت والموسيقى أما الظل فهو استدعاء صورة المدلول الحسي ((58)) إلا أن الأسلوب القرآني كثيراً ما كان يقرن جرس المفردة بظلها قال تعالى : ( قلوبٌ يومئذٍ واجفة )( النازعات : 8 ) أي خائفة((59)) فلماذا عَدَلَ القرآن عن خائفة إلى واجفة ؟ ولعل في فهم السياق ما يعطي إجابة وافية عن هذا السؤال فالآيات السابقة ( يوم تتبعها الرادفة … )( النازعات : 6 – 7 ) عبّرت عن سرعة الوقوع والتتابع فلو قيل ( خائفة ) بدلاً من ( واجفة ) لما ناسبت من الناحية الصوتية معاني سابقاتها ولما اتسقت معها ، ذلك أن صوت المدّ فيها ما كان مناسباً هنا سرعة السياق * لذلك تمّ العدول عن تسمية القيامة بما فيه مدّ من الأسماء ويتأكد لنا من خلال بقية الأسماء التي غالباً ما جاء فيها المد مثل الحآقّة والصآخّة والطآمّة على أن هذا الملحظ الصوتي ليس منعزلاً عن ملحظٍ إيحائي من ظل المفردة لأن ( وجف ) في هذا السياق أكثر دلالةً وإيحاء من (خاف) فبالإضافة إلى معنا الخوف فإنها تدل على
( السرعة والاضطراب ) فـ ( الوجيف سرعة السير وأوجفتُ البعيرَ أسرعته قال تعالى : ( فما أوجفتم عليه من خيلٍ ولا ركابٍ )( الحشر : 6 ) قال تعالى : ( قلوبٌ يومئذٍ واجفة ) أي مضطربة )(( وبهذا تكون ( واجفة ) أولى في الاستخدام ، فاللفظ المستخدم إذا كان له معنى عام ومعنى خاص كان الأولى حمله على العام لتضمنه الخاص (( 60)) فإذا كان هذا في تفسير النص فهو أولى بالاستخدام أصلاً إذا كان يحقق غاية السياق . ومن ذلك تعبير القرآن حين يصوّر هدوء الليل وسكونه بالعسعسة تارة وبالسجو أخرى وبالسريان ثالثة مُزاوجاً في تصوير الحركة المتخلية لامتداد الليل بهدوء ما بين الدلالة الوضعية للألفاظ وبين إيحائها الموسيقي في السمع فيقول الله تعالى : ( والليل إذا عسعس )( التكوير : 17 ) وقال تعالى : ( والليل إذا سجى )( الضحى : 2 ) وقال تعالى : ( والليل إذا يسر)( الفجر : 4 ) وهو إيحاء عجيب لا يوجد في العبارة المؤدية للمعنى( أقبل بظلامه )((61 )) وقد جعل الرافعي من صوت الحس الذي هو اجتماع جرس المفردة (صوت النفس) وظلها ( صوت العقل ) معياراً للبلاغة فعلى مقدار ما يكون في الكلام البليغ من هذا الصوت يكون فيه من روح البلاغة وهو روح الإعجاز في القرآن الكريم ((62)) لذلك أصبح الليل جرساً وظلاً إيحائياً مفهوماً للنعمة والجمال والطمأنينة على الرغم من ارتباطه في شعر غير واحدٍ من شعراء قبل الإسلام بالهموم والآلام النفسية المبرحة كما هو عند امريء القيس ((63)) وبهذا يتكون لدينا ما يشبه الاستخدام الصوتي المخصوص بسياقٍ معين فمن ذاك التفريق القرآني بين ( الصبح ، والفجر ) حيث يُلاحظ أنّ كل استخدام لمفردة الصبح واشتقاقاتها لا يخرج عن سياق العذاب والإهلاك قال تعالى :(ولقد صبحهم بكرةً عذاب مستقر)( القمر : 38 ) وقال تعالى :( ... وهم نائمون فأصبحت كالصريم )( القلم : 20 ) و (إنّ موعدهم الصبح أليس الصبح بقريب)( هود : 81 )(64) وعلى العكس من لفظة ( الفجر ) التي ما استخدمت إلا في سياقٍ خالٍ من العذاب إن لم يكن أقرب إلى الرقة قال تعالى :(والفجر وليالٍ عشر والشفع والوتر ... هل في ذلك قسمٌ لذي حجر)( الفجر : 1 - 6 ) وقال تعالى :(سلامٌ هي حتى مطلع الفجر)( القدر : 5 ) ... أو في سياقاتٍ تتعلق بالأحكام يستثنى من هذا قوله تعالى :( فالق الإصباح ... )( الإنعام : 96 ) وإنما جيء به للحاجة إلى جمعٍ ولا جمع للفجر لمناسبة ( الإصباح للإنفلاق ) من حيث الجرس ، والسر في هذا الاستخدام الخاص السابق مراعاة جرس كل من اللفظتين للسياق الذي استخدم فيه لأن ( الصاد ) صوت قوي لاجتماع الصفير والإطباق والاستعلاء (مفخم)(65) والباء صوت مجهور شديد متقلقل انفجاري (66) فناسب لفظهما (الصبح) معرض الإهلاك والعذاب ، وسيختلف السياق تماماً فيما لو استبدلت إحداهما بالأخرى .غير أن التعبير القرآني خالف هذا الاستخدام في قوله تعالى ( والصبح إذا تنفس )( التكوير : 18 ) فعدل في هذا الموضع عن استخدام ( الفجر ) لتحقيق التناسق الصوتي في نظم السياق الذي جاءت فيه هذه الآية ( فلا أقسم بالخنس الجوار الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس ... )( التكوير 15 - 18 ) فالألفاظ المختارة كلها تحتوي صوت ( السين ) الصفيري فجيء بالصاد الصفيري ليناسب التكـرار فلـو كان الاختيار واقعاً على ( الفجر ) لأصبح الجرس متعثراً فيه نبوة يوجدها صوت ( الجيم ) الذي سيكون ثقيلاً جداً في مثل هذا السياق لذلك أرى ضرورة لدراسة التناسق الصوتي كسببٍ لاختيار المفردة مما يحقق للسياق إيقاعاً داخلياً قائماً على التكرار الصوتي الذي يحققه الاختيار الدقيق للمفردة دون الإخلال بقيمته الدلالية كما سيأتي .
ومن أسباب الاختيار الصوتي في القرآن اختيار ألفاظ معينة ذات جرسٍ خاص لإشاعة جرسٍ واحد في السياق وبما يتلائم مع دلالته العامة أو بما يساعد على تثبيت أطر الصورة المرسومة ويحقق ظلالها المعنوية ، وقد ذهب
بعض دارسي الصوت إلى أنه لا يتم تذوق الهندسة الإيقاعية الحقة إلا إذا حصلنا على تلاؤمٍ بين المكونات الثلاثة التي تشكل الرؤوس الثلاثة للمثلث الآتي :
[align=center]معانٍ
أصوات..................... مشاعر[/align]
واعتماداً على هذه الترسيمة ( المقفلة إلى حدٍ ما ) يمكن القول إنّ الأصوات في نظام اللغة الفنولوجي لا قيمة رمزية لها بينما هي تثير بعض مشاعر القارئ المستمع في كلامٍ محددٍ بالاتفاق مع المعنى (( 67)) .
قال تعالى :(فلا أقسم بالخنس الجوارِ الكنس والليل إذا عسعس والصبح إذا تنفس) (التكوير : 15 - 18 ) وقد اختيرت مفردات الآية مشتركة بدلالة المعنى والصوت اللذان يشكلان عنصراً واحداً في صرف مشاعر وذهن القاريء أو المستمع في اتجاه واحد وهو الغاية التعبيرية التي يحتاجها السياق أو البنية العامة فمدار الدلالة المعجمية لمفردات الآية تدور حول الخفاء والمخافتة فالخنس في أغلب معانيها تدلّ على السر والاختفاء والحبس والتأخر وهي هنا بمعنى اختفاء هذه الكواكب (( 68 ))والكنس التي تستر كما تكنس الظباء في المغار (( 69)) وعسعس الليل اعتكرت ظلماؤه وهو من الأضداد أي أقبل وأدبر وذلك في مبدأه ومنتهاه فالعسعسة رقة الظلام وذلك في طرفي الليل وهو الخفيف من كل شيء ((70)) وقد شكلت هذه المفردات المختارة لهذا ( هندسة ) صوتية قائمة في بنائها على التكرر المقصود والمنتظم لصوت السين وعلى الشكل الآتي :
( سِ سِ سْ سْ سَ سَ ) والذي ناغم بجرسه صور وإيحاء الألفاظ التي شكلته بهذه الصــورة وقد نبه ابن جني كثيراً إلى معنى المخافتة والخفاء الذي يحققه صوت السين كما في مقارنته بين ( صعد وسعد ) قائلاً :
( جعلوا الصاد لأنها أقوى - لما فيه أثر مشاهد يُرى وهو الصعود في الجبل والحائط ونحو ذلك وجعلوا السين - لضعفها - لما لا يظهر ولا يُشاهد حساً ... فجعلوا الصاد لقوتها مع ما يشاهد من الأفعال المعالجة المتجشمة وجعلوا السين لضعفها فيما تعرفه النفس وإن لم ترَهُ العين والدلالة اللفظية أقوى من الدلالة المعنوية ) وكذلك قال في تفريقه بين القسم والقصم (( 71 )) ومن كلام ابن جني هذا نفهم دقة ما أشار إليه ابن القيم رحمه الله حين فرّق بين سورة ( الفلق ) و ( الناس ) فـ ( سورة الفلق تضمنت الاستعاذة من الشر الذي هو ظلم الغير له بالسحر والحسد وهو شرٌ ( من خارج ) وسورة الناس تضمنت الاستفادة من الشر الذي هو سبب ظلم العبد نفسه وهو شر ( من داخل ) )(( 72 )) لذلك تكرر صوت السين في الاختيار في سورة الناس دون الفلق قال تعالى : ( قل أعوذ برب الناس ملك الناس آله الناس من شر الوسواس الخناس الذي يوسوس في صدور الناس من الجنة والناس )( سورة الناس ) لنجد بهذا نكتةً أخرى من نكت ذكر وتكرار مفردة الناس مع أن السياق يقتضي أن يكون الإضمار أولى هنا من الإظهار ليكون تكرار هذا الصوت مؤكداً لصورة الخفاء التي عليها السورة وكذلك الوسوسة التي هي صوت الحلي والهمس الخفيُّ وكذلك يُقال ( لهمس الصائد )((73)) وأصلها الصوت الذي لا يحسُّ أو الإلقاء الخفيُّ في النفس إما بصوتٍ خفي لا يسمعه إلا من ألقي إليه وإما بغير صوت كما يوسوس الشيطان إلى العبد … وأما الخناس فهو من خنس يخنس إذا توارى واختفى …((74)) وبهذا ندرك تكرار السين أيضاً في قوله تعالى : ( ولقد خلقنا الإنسان ونعلَمُ ما توسوسُ به نفسه … )( ق : 16 ) حيث تكرر صوت السين أربع مرات وهو ما لم يتكرر في الخمسة عشر آية السابقة غير سبع مرات فقط ، كل ذلك لما يمتاز به السين من صفاتٍ فهو
( مصمت ، رخو ، مهموس ، منفتح : مستفل ، مرقق ، غير مطبق )((75)) وهكذا استعملته العرب حين عبّروا عن المخافتة والخفاء يقول طرفة ((76)) :
[align=center]وصادِقتا سَمْعِ التوجسِ للسُّرى * لهجسٍ خفيٍّ أو لصوتٍ مُنَدِدِ[/align]
فا ( التوجس : التسمّع بحذرٍ والهجس الصوت الخفيّ وقوله للسرى أي في السرى أوعند الســـرى ويقال سرى وأسرى إذا سار بالليل )((77)) فلولا المخافتة ما تكرر خمس مراتٍ في البيت وهو لم يتكرر في أي بيتٍ من معلقة امريء القيس أكثر من ثلاث مرات فقط . وعلى الرغم من عدم وجود دراسات واضحة عند المفسرين المحدثين للإيقاع والهندسة الصوتية فأنني لا أرى ضرراً في تأكيد قضية الاهتمام باختيار المفردة لصنع تشكيلات صوتية ، هذا الاختيار الذي بدا واضحاً جداً في مفردات سورة النازعات قال تعالى : (... فالمدبراتِ أمراً يوم ترجف الراجفة تتبعها الرادفة قلوبٌ يومئذٍ واجفة ... )(النازعات 5 ـ 8 ) حيث ستشكل هذه المفردات المختارة التشكيلة الآتية :
را را تَرْ جُ فُرْ را ج فَهْ هَرْ را د فَهْ وا ج فَهْ ،
وبهذا تتشكل كل بنية على انفراد بالشكل الآتي :
رَا ــــ رَا ــــ رَا ــــ رَا ــــ وَا
تَرْ ــــ فُرْ ــــ هُرْ ــــ
جُ ــــ جِ ــــ دِ ــــ جِ
فَهْ ــــ فَهْ ــــ فَهْ
فأيُّ تناغمٍ أبدع أو أروع من هذا وسآتي بعد قليلٍ إلى دلالة تكرار صوت الراء لأنصرف هنا إلى بيان الدقة التي ما بعدها دقة في الراء الذي استخدم ساكناٌ مع التاء والفاء والهاء ( تَرْ و فَرْ و هَرْ ) والتي لن يشكل اختلافها فارقاً صوتياً لأنها قد اتفقت في أهم صفاتها الصوتية فكلها :
مهموسة ، مرققة ، صامتة ، مستفلة ، احتكاكية ، منفتحة ... ((78)) .
لذلك لن يشكل استبدالها بعضها ببعض فارقاً صوتياً يذكر وكذلك الأمر في استبدال الجيم بالدال
( جِ - جِ - دِ - جِ ) لأنهما يشتركان في كونهما :
شديدين ، مجهورين ، صامتين ، منفتحين ، مستفلين ، مرققين ((79)) .
مما يعني قصدية كاملة في الاختيار والعدول على حدٍ سواء ، وإذا كان أمرؤ القيس أو الأعشى أو البحتري ... قد نجحوا في مثل هكذا استخدام للمفردات وبما يحقق ذلك الجرس المتفق مع الدلالة إلى حدٍ كبيرٍ إلا أن أبياتهم التي اعتمدت التكرار الصرف أصبحت أسيرة الثقل والمعاضلة التي يحققها ثقل التكرار الحرفي كما هو معروف
(( 80)) إلا أن الأسلوب القرآني كان يكرر الصوت بتشكيلات متجددة ينبع أحدها من الآخر وبما لا يلفت الانتباه إلى تكرار معين وإن كان يحقق نغمية التكرار وبشكلها الأجمل . على أن ما ذكر ليس الشكل الوحيد الذي تخيرت لأجله مفردات السورة ففي بداية السورة تكررت المفردات بصورتها الاشتقاقية التي تبقي الجرس الصوتي واحداً دون أن يتكرر التشكيل الصوتي العام للمفردة فلا تتكرر إلا الأصول الصوتية للمفردة مما يبعد ثقل المعاضلة عنها ( والناشطات نشطاً والسابحات سبحاً فالسابقات سبقاً )( النازعات : 2 - 4 ) مما حقق ثنائيات لفظية قائمة على التكرار الصوتي ناسبت تماماً الدلالة على البعث بعد الموت والحياة المتكررة يوم القيامة وليأتي بعد هذا اختيار مفردات تحقق التكرار الصوتي الدّال على نفس المدلول للتكرار الأول وإن كان ضمن اختيارات جديدة وبشكل آخر حيث كثر اختيار المفردات التي تحوي تكراراً صوتياً مثل ( تتبعها ، أئنا ، لمردودون أئذا ) ولتكتمل الصورة كثر اختيار المفردات التي تحوي صوت الراء في بنيتها الصوتية حيث يُلاحظ غلبة هذه المفردات التي بلغت ( أربعة عشر مفردة ) من بين ( أربعين مفردة فقط ) ذلك أن الراء هو صوت العربية الوحيد الدّال بجرسه على التكرار ((81)) المناسب الوحيد بجرسه لهذا السياق ونحن إزاء المختارات ذات الجرس المتكرر ( الراء ) أمام تشكيلين هما :
را - را - را - را - وا
تَرْ - فَرْ - هَرْ
غير أنهما وليس كما رسمت - تشكيلان مختلطان في لفظتي ( الرّاجفة والرّادفة ) فكل منهما عبارة عن حرفين الأول ساكن والثاني متحرك ، ونستطيع أن ندرك أهمية السكون في الراء من خلال معرفتنا بأن صفة التكرار تكون في درجتها الأعلى عند سكون الراء ((82)) الأمر الذي جعل ابن جنّي يعدُّ الراء الساكن مساوياً بقيمته الصوتية لأصوات العربية المتحركة الأخرى ((83)) ؛ لذلك قيل : ( إنّ في القرآن إيقاعاً موسيقياً متعدد الأنواع يتناسق مع الجو ويؤدي وظيفة أساسية في البيان )((84)) ؛ لذا فإن قاريء القرآن يشعر شعوراً طبيعياً يدفعه إلى ترتيله ترتيلاً صوتياً له نغماته في كل كلمة من كلماته بل في تتابع حروفه ((85)) .
[align=center]** ** **[/align]
[color=0000FF]*الحواشي :[/color]
1) الجرس والإيقاع 335 .
2) ينظر : تفسير الرازي 30 / 202 .
3) التوجيه الأدبي 138 .
4) دلالة الألفاظ 68 ، 70 .
5) الصورة الفنية في المثل القرآني 238 .
6) ينظر : التصوير الفني 73 .
7) النبأ العظيم 106 .
8) تاريخ آداب العرب 2 / 220 – 222 .
9) ينظر : فن القول 217 .
10) المذاهب النقدية 28 ، وينظر : جرس الألفاظ 121 .
11) الخصائص 2 / 153 ، وينظر : بدائع الفوائد 1 / 108 .
12) الجامع في فقه اللغة 2 / 426 – 446 ، وينظر اللغة الشعرية 197 ، والتركيب الصوتي 117 .
13) ينظر : دليل الدراسات الأسلوبية 91 – 92 .
14) المفردات 346 – 347 ، وتفسير مفردات ألفاظ القرآن 431 – 432 .
15) تهذيب اللغة 12 / 106 .
16) الخصائص 2 / 152 .
17) تفسير المعوذتين 63 ، وبدائع الفوائد 2 / 251 .
18) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 229 .
19) من بديع لغة التنزيل 287 ، وينظر : الكشاف 4 / 451 .
20) ينظر : دلالة الألفاظ 46 .
21) ينظر : بحوث لسانية 13 .
22) ينظر : الخصائص 2 / 157 – 158 ، وعلل هذا الاختيار بأنه كان ( حذواً لمسموع الأصوات على محسوس الألفاظ ) 2 / 158 .
23) ينظر : المفردات 594 .
24) ينظر : الإعجاز البياني – الهامش – 346 .
25) الخصائص 1 / 65 – 66 ، وينظر : جرس الألفاظ 293 .
26) عبقري من البصرة 143 .
27) دور الصوت في إعجاز القرآن 143 – 144 .
28) من بلاغة القرآن 69 .
29) مجمع البيان 30 / 219 .
30) ينظر : تفسير من نسمات القرآن 654 .
31) ينظر : الرعاية 110 ، علم التجويد 63 ، والدراسات الصوتية 319 .
32) دور الصوت في إعجاز القرآن 144 .
33) البيان في إعجاز القرآن 195 .
34) ينظر : التصوير الفني 78 – 79 .
35) ينظر : الجرس والإيقاع 335 – 336 ، والطبيعة في القرآن 466 .
36) ينظر : في ظلال القرآن 8 / 21 .
37) الدراسات اللهجية 277 .
38) ينظر التمام 131 ، والدراسات اللهجية 277 .
39) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 230 .
40) ينظر : الجرس والإيقاع 346 .
41) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 261 ، ومن بلاغة القرآن 261 ، والجرس والإيقاع 346 .
42) ينظر : البيان في إعجاز القرآن 197 ، والتصوير الفني 87 ، والنبؤة والإعجاز 68 – 69 .
43) التصوير الفني 20 .
44) ينظر : المحتسب 2 / 210 .
45) التصوير الفني 21 .
46) المحتسب 2 / 210 .
47) ينظر : المثل السائر 1 / 268 ، وتاريخ آداب العرب 2 / 227 .
48) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 227 – 228 .
49) جرس الألفاظ 161 .
50) ينظر : المحتسب 1 / 148 ، والبحر المحيط 2 / 354 .
51) ينظر : البحر المحيط 2 / 344 .
52) التعبير القرآني 19 .
53) ينظر : التفسير القرآني للقرآن 8 / 1355 .
54) ينظر : التفسير القرآني 8 / 1356 .
55) ينظر : شرح ابن عقيل 369 .
56) ينظر : الجرس والإيقاع 340 – 341 .
57) ينظر : التصوير الفني 78 – 79 ، والبيان في إعجاز القرآن 195 .
58) تفسير من نسمات القرآن 631 .
59) وبقدر ما تكثر الصوامت تزداد الحركة السريعة وبقدر ما تكثر المصوتات تخفّ هذه السرعة ويحلّ محلها الجمود والثبات ، ينظر : الصورة الشعرية في الكتابة .
60) المفردات 807 ، تفسير مفردات القرآن 909 .
61) ينظر : مقدمة في أصول التفسير 45 ، وتفسير ابن كثير 1 / 5 .
62) ينظر : الجرس والإيقاع 336 – 337 ، وفي ظلال القرآن 30 / 66 .
63) ينظر : تاريخ آداب العرب 2 / 221 .
64) ينظر : الجرس والإيقاع 337 ، ينظر : وصف الليل في معلقة أمريء القيس ، الديوان 18 – 19 .
65) وينظر بقية المواضع في المعجم المفهرس 399 .
66) ينظر : الدراسات الصوتية 329 .
67) ينظر : المصدر السابق 340 .
68) ينظر : دليل الدراسات الأسلوبية 110 .
69) ينظر : الفروق بين الحروف 804 ، وكتاب الأفعال 1 / 279 ، وشرح الفصيح 136 .
70) ينظر : معاني القرآن 3 / 242 والكشاف 4 / 224 .
71) ينظر : كتاب الأفعال 2 / 404 ، ومختصر العين 1 / 74 ، وتفسير مفردات ألفاظ القرآن 587 .
72) الخصائص 2 / 163 .
73) بدائع الفوائد 2 / 250 .
74) ينظر : المفردات 819 ، وتفسير مفردات ألفاظ القرآن 927 .
75) ينظر : عدة المسلمين 284 – 285 .
76) ينظر : جدول صفات الأصوات الصحيحة في ظاهرة التنافر في اللغة العربية 29 .
77) ديوان طرفة 23 .
78) شرح المعلقات العشر 72 .
79) ينظر في ذلك : ظاهرة التنافر في اللغة العربية 29 .
80) ينظر : المصدر السابق .
81) المعاضلة : عثار الجرس نتيجة تكرار بعض الحروف لتقارب مخارجها مما يحدث ثقلاً في النطق ينظر : سر الفصاحة 91 .
82) ينظر : علم الأصوات العام 128 .
83) ينظر : الكتاب 4 / 136 .
84) ينظر : المحتسب .
85) التصوير الفني في القرآن 101 – 102 .
86) ينظر : دراسة أدبية لنصوص من القرآن 152 .