عبدالكريم عزيز
New member
أولاً : اختيار المفردة لإيحائها الدلالي ( الدلالة الهامشية ) : لعل العامل الأساس في اختيار المفردة دون غيرها هو ما تحققه اللفظة المختارة وما تعطيه من معانٍ ودلالاتٍ
إلى جنب الدلالة الأساسية التي قد تشترك فيها مع غيرها من المفردات ، وبذلك تكون المفردة المختارة قد أدت المعنى الأساس في التعبير ، فضلاً عمّا أوحت به ضمن الإطار السياقي نفسه ، ومن هنا كانت استحالة تغيير أو استبدال هذه المفردة حتى مع مرادفتها إن كان هناك مرادف أصلاً ، وأنا هنا لا أقصد ( بالإيحاء الدلالي ) تأدية المعنى الدلالي المباشر بل المعاني الجانبية له والتي تدور حول هذا المعنى الأساس ، ويمكن أن يتشكل هذا الإيحاء في المحاور الآتية التي يتم اختيار المفردة بسببها :
أ – الإيحاء المعتمد على التقابل الدلالي : فقد تختار المفردة في التعبير القرآني مصورةً المعنى المراد وفي الوقت نفسه يكون لها مقابل على المستوى الدلالي توحي به إلى جنب المعنى الذي أدته أساساً ففي قوله تعالى : ( حتى زرتم المقابر )( التكاثر : 2 ) فإن لفظة ( زرتم ) تمثل لفظة لها مقابل دلالي هو الرجوع فكل زائر لاشك وستنتهي به زيارته ( فاستعمال الزيارة بهذا المعنى صريح الإيحاء بأن الإقامة في القبر ليست إقامة دائمة … وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث وحساب وجزاء ، وهذا الإيحاء ينفرد به لفظ ( زرتم ) دون غيره فلا يمكن أن يؤديه لفظ آخر كأن يقال ( قبرتم ، أو سكنتم المقابر …إنها زيارة أي إقامة مؤقتة ويعقبها بعث ونشور ) ، ومن ذلك قوله تعالى : ( يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم )( الزلزلة : 6 ) فالصدور إنما هو مقابل دلالي للورود فاستعمال الفعل ( يصدر ) ليوحي إلى أن الحياة الدنيا ليست بدار مقامٍ وليس هذا فقط فقد ( جرت أمثالهم بأن الوارد يجب أن يعرف كيف يصدر وإلا ضاعَ ففي لفظ ( يصدر ) هنا لفتٌ واضح الإيحاء إلى أن الحياة الدنيا ليست بدار مقامٍ ، إن هي إلا رحلة نجتازها ولابد من تأمين طريق الصدر … ) ولا يمكن أن يستبدل هذا اللفظ ( يصدر ) بلفظٍ آخر مثل ( يخرج وينصرف ) ويعطي من المعنى ما أعطاه الفعل الأول ، وهذا كثير في القرآن .
ففي قوله تعالى ( ولله ميراث السموات والأرض )( الحديد : 10 ) يظهر تساؤل كيف يرث الله هذه ؟ ونستطيع الإجابة عندما نجد المقابل الدلالي وهو الموت ، وبهذا يكون اختيار لفظ ( ميراث ) إيحاء بأن كل من في السموات والأرض سيموت ويبقى تعالى وحده ( لأنه الباقي بعد فنائهم والدائم بعد انقضائهم )(1) .
ب – الإيحاء المعتمد على الغرابة اللفظية : قال تعالى ( تلك إذاً قسمة ضيزى )( النجم : 22 ) فهنا وصف لحكم المشركين بأن لله تعالى البنات ولهم البنون ، وهذا الحكم على ما فيه من انتفاءٍ للعدل والغرابة فإنه يحوي غرابة أكبر من خلال معرفتنا أن العرب أو قسماً منهم ما كانوا يرضون لأنفسهم ما رضوه لربهم وهو ( البنات ) ( وإذا بُشرَ أحدهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مسوداً وهو كظيم يتوارى من القومِ من سوء ما بُشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسهُ في التراب … )( النحل : 58 - 59 ) لذلك قال تعالى : ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى )( النجم : 21 – 22 )فالحكم ليس جائراً وحسب وإنما هو غريب في العقل والمنطق – أن ينسب العبد مالا يرضى لنفسه إلى ربه – لذلك استعملت (ضيزى ) والتي تعني القسمة الجائرة أو غير العادلة ، ولم تستعمل هاتان الكلمتان ، لهذه الزيادة في إيحاء ( ضيزى )( فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملائمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها ) (2)( والعرب يعرفون هذا الضرب في الكلام وله نظائر في لغتهم وكم من لفظةٍ غريبةٍ عندهم لا تحسن إلا في موضعها ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سيقت إليه بلفظها )(3) وبهذا يتبين بُعدُ ما ذهبت إليه بنت الشاطئ بقولها ( وقُصارى ما ألمحه فيها – على بُعْدٍ – أن يكون فيها مع الجور حس مادتها فيما يلوك عَبَدة الأوثان من ألفاظٍ منقولة من : ضاز التمرة لاكها في فمه والله أعلم ) (4) .
ج – الإيحاء النابع من دقة التصوير الحركي : المفردة القرآنية قد تختار لتصوير الحركة بدقة كما في قوله تعالى : ( فراغ إلى أهله )( الذاريات : 26 ) فراغ هنا أعطت للنص إيحاءاً وبعداً جديدين ذاك أنها فضلاً عن تصويرها ذهاب إبراهيم عليه السلام صدرت حركته بدقة ما بعدها نظير من غير أن يكون ذلك لمجرد مُتعةٍ أدبية في التصوير وإنما هي الدقة مقرونةً بالصدق الإخباري مع تحقيق ملحظٍ اجتماعي هنا ، فراغ ( ذهب إليهم في خفيةٍ من ضيوفه ، ومن أدب المضيف أن يُخفي أمره وأن يبادره بالقِرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه ويعذره )(5) ، وكذلك في قولــه تعــالى ( والصبح إذا تنفس ) ( التكوير : 18 ) فاختيار لفظة ( تنفس ) للدقة في رسم المشهد الحركي هنا إذ إن خروج النور فجراً أشبه ما يكون بحركة النفس الذي ينساب بلا صوت متتابعاً فيكون بذلك ( أشبه الأشياء بخروج النفس شيئاً فشيئاً ) (1) .
ومثل هذا (إنا صببنا الماء صباً )(عبس : 25 ) وقوله تعالى: (ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء )( الممتحنة : 2 ) .
د – الإيحاء النابع من وصف خاص : فقد يصف القرآن الشيء وصفاً خاصاً ليدلل من خلال إيحاء هذا الوصف على دلالة تنصب في إغناء الدلالة العامة للسياق كما في قوله تعالى ( وفاكهة وأبّا )( عبس : 31 ) فالأبّ هو ( المرعى المتهيء للرعي والجز ، من قولهم أبَّ لكذا أي : تهيأ ) (2) في حين ذهب الزمخشري إلى أن الأبّ هو المرعى لأنه يؤَبُّ أي يؤمّ وينتجع (3) وقد يوصف الشيء وصفاً خاصاً لأجل بيان تفاهة هذا الشيء وخسته قال تعالى : ( فكانوا كهشيم المحتظر )( القمر : 31 ) وفي قراءة ( المحتظر ) أي ( كهشيم الاحتظار كقولك كآجر البناء وخشب النجارة ، والاحتظار : أن يجعل حظيرة وإن شئت جعلت ( المحتظر ) هنا هو الشجر أي كهشيم الشجر المتخذة منها الحظيرة أي : كما يتهافت من الشجر المجعولة حظيرة والهشيم ما تهشم منه وانتشر )(4) وأي إهانة أكبر من أن يجعل جمعهم ( كالهشيم المتخلف مما جمعه صاحب الحظيرة ) (5) فهو الشجر اليابس المتهشم المتكسر … يبس لطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم )(6) ومن ذلك قوله تعالى ( فشاربون شُرب الهيم )( الواقعة : 55 ) فلو أُريد تحديد معنى ( الهيم ) لخرجنا بأنها تعني ( جمع الرجل العطش ) يُقال : رجلٌ هيمان وهائم شديد العطش .. ويمكن أن تعني الرمال التي تبتلع الماء وهيام من الرمال اليابس كأن به عطش لذلك أستعير هذا الاسم للعاشق ، كما أنها داءٌ يأخذ الإبل من العطش(7) فهذه اللفظة أوحت بظلال المرض وشدة العطش والتوله والهروب وابتلاع الماء … على هؤلاء .
ثانياً : اختيار المفردة للتسمية ( لعلاقة دلالية خاصة ) :
أ – تسمية الشيء بوصفه جزءاً من معناه : ولعل من أوضح التسميات هي تسميات يوم القيامة والتي زخرت بها قصار السور إن لم أقل انفردت بها فقد سُميت القيامة في القرآن بعدة تسميات منها : الحاقة والصاخة والآزفة والقارعة والطامة والواقعة والراجفة والرادفة ، وعند التأمل في هذه التسميات تجد أن كل تسمية إنما اختصت بجانبٍ من جوانب هذا اليوم صوره لفظها ، فالواقعة تدلّ على حتمية ووجوب الوقوع فقد ( وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة … ووقوع الأمر نزوله )(1) ليصفها سيد قطب ( كأنّما هي ثقلٌ ضخمٌ ينقضُ من علٍ ثم يستقر لغير ما زحزحةٍ بعد ذلك ولا زوال )(2) والحاقة هي الواجبة الوقوع والتي تحقق فيها الأمر أو الوقت أو الساعة التي يحقّ فيها الجزاء فتغلب كل شيءٍ وتحقّ كل محاقٍ(3) وتسمية يوم القيامة بالآزفة كان ( لآزوفها أي قربها )(4) و ( أزف وأفِدَ يتقاربان – لكن أزِفَ يُقال اعتباراً بضيق وقتها ) (5) وبهذا يتحقق وصف الشكل الخارجي ليوم القيامة كاملاً ، فقد تمَّ عن طريق التسمية تأكيد الوقوع وسرعته وتحقق ذلك ولم يبق إلا وصف طبيعتها ( القيامة ) وأثرها لذلك سُمّيت بالقارعة وهي ( التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال … ) (6) وسُميت بالغاشية و ( الغاشية داءٌ يأخذ في الجوف أو ورمٌ يكون في البطن … ومن هذا الهلاك تفسر الغاشية في استعمال القرآن … أي الجائحة المهلكة … ) (7) و ( الغاشية كل ما يغطي الشيء كغاشية السرج … )(8) وسميت بالطامّة الكبرى لأنها ( تطمُّ على الدواهي أي تعلو وتغلب … وهي القيامة لطمومها على كل هائلةٍ )(9) فـ ( طمّ الماء … أرتفع وعلا وفي المعنوي : طمّ الأمر اشتدّ وجاوز الطامة .. )(10) وسميت الصاخة يقال صخّت تصخّ صخّاً أي تصم ويقال رجلٌ أصخ … إذا كان لا يسمع )(11) وبهذا صورت كيفية وقوعها بالغاشية ومدى تأثيرها مقارنة بغيرها بالطامة وكيفية وقوعها بالقارعة وأثرها عند وقوعها بالصاخة ، وبهذا وعن طريق تسميتها بجانب منها وٌصفت كلها ومن جميع جوانبها ، والمهم هنا أن كل هذه التسميات إنما جاءت بصيغة الفاعل فكأنها هي التي تصخّ وتقرع وتقع … الخ ، فضلاً عن تعريفها بالألف واللام الذي هو تعريف جنسٍ لتميزها من بين الأجناس لأن في استحضاره زيادة تهويلٍ لأنه حقيقٌ بالتدبر(1) والأهم من كل هذا أنّ جميع هذه التسميات جاءت كناية عن يوم القيامة و ( الكناية عبارة عن أن تذكر لفظةً وتفيد بمعناها معنى ثانياً هو المقصود وإذا كنت تفيد المقصود بمعنى اللفظ وجب أن يكون معناه معتبراً … ) (2) فالكناية إرادة المعنى الثاني مع جواز إرادة المعنى الأول ، وبهذا يكون التعبير بها هنا أقوى من أي تعبيرٍ آخر ، أي أنّ الصاخة لا تتضمن أسلوباً مجازياً المقتضى منه التهويل والتخويف فقط وإنما هو كذلك ومضافاً إليه أن معناه الأول ( الحقيقي ) حقيق الوقوع على الإرادة . والله أعلم .
ب – تسميته باعتباره وصفاً لنفسه : يكثر في الاختيار القرآني مثل هذا حيث يتم العدول عن التسمية الأساسية إلى تسميةٍ تتعلق بفعلٍ خاصٍ يكون هو المقصد الدلالي الذي يحتاجه السياق كقوله تعالى : ( كلا لينبذن في الحُطمة )( الهمزة : 4 ) والحطمة ( الكثير التحطيم وأطلقت على جهنم لتحطيمها المكذبين بها )(3) ولأن من ( شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها ، ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة )(4) كما أن ( بناء فُعَلة يدلّ على أن ذلك عادة )(5) وإنما اختيرت على هذا الوصف ( صيغة المبالغة ) لتكون على وزن الصيغة التي ضمنها الذنب ( هُمزة و لُمَزة ) حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء فالمذنب الذي ضرّى بالذنب جزاؤه هذه الحطمة التي هي ضاربة بحطم كل ما يُلقى
إليها(6) ومن هذا قوله تعالى : ( وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً )( النبأ : 14 ) أي ( السحائب التي تعتصر بالمطر أي تصب وقيل التي تأتي بالإعصار )(7) وفسرها ابن عباس بـ ( السحاب يعصُرُ بعضه بعضاً فيخرج الماء من بين السحابتين ..) (8) واعتبرت بنت الشاطئ هذا من قبيل الشرح فهي لا ترى ضرورةً فـي تقييده بسحابتين ، وقالت بأن العصر في كل صيغة واستعماله يرجع إلى أصل دلالته على الضغط لاستخلاص العصارة (1) والغيوم إذا أعصرت – كما يقول محمد عبده – جاء وقت أن تعصر الماء فيسقط منها المطر (2) .
ج – تسمية الشيء باعتبار ما سيكون عليه : وهو من أساليب الإيجاز كما في قوله تعالى : ( وقال نوحٌ ربِ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنكَ إن تذرهم يضلوا عبادكَ ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً )( نوح : 26 – 27 ) فَسُمِّيَ الأنباء بما سيكون عليه من فجورٍ وكفرٍ وبذلك أصبح هذا الأخبار عِلةً للإهلاك على أن هذا الأخبار لم يكن بمعناه المجازي لعلاقة الاستقبال لأنه إخبار عن وحي يصل إلى الأمر الحقيقي قال تعالى : ( وأوحي إلى نوحٍ أنه لن يؤمنَ من قومِكَ إلا من قد آمن )( هود : 36 ) فكانت تسميتهم بما سيكونون عليه عِلةً لإنزال العقاب عليهم فناسب السياق تسميتهم بهذا فكانت التسمية هنا لحاجة السياق كما هي في قوله تعالى : ( بل عجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم فقال الكافرون هذا شيءٌ عجيب )( ق : 2 – 3 ) فقد كان القياس أن يقال ( فقالوا ) بالضمير مثل ( عجبوا ، وجاءهم ، ومنهم ) لأن المُخبَر عنهم واحدٌ في كل هذه الألفاظ لكنه تعالى قال ( فقال الكافرون ) وإنما سمّاهم بالكفر هنا ( للشهادة على أنهم في قولهم هذا مُقدِمونَ على الكفر العظيم )(3) .
ثالثاً : للتعبير عن الشيء بما هو معه في علاقة خاصة : فقد يعدل التعبير القرآني عن لفظٍ ما إلى لفظٍ آخر كونه يشترك مع مدلوله في علاقةٍ تتحقق بالإخبار بها فائدة دلالية وهذه سمة أسلوبية كثيراً ما تستخدم في القرآن لأنها تعبر عن هذه العلاقة بأوجز تعبير من غير إطنابٍ وتفصيلٍ يضيع معه الترابط كـ :
أ – العلاقة السببية : وهي ( أن يكون اللفظ المذكور مسبباً عن المعنى المقصود … نحو قوله تعالى : ( والرجز فاهجر ) ( المدثر : 5 ) فالمعنى الحقيقي للرجز العذاب الشديد لأنه مسبب عن عبادة الأصنام )(4) فقد سمي كيد الشيطان رجزاً وذلك لأنه سبب للعذاب وقد سميت الأصنــام رجزاً لهـذا المعنى أيضاً(1) وهذا أبلغ لأنه أشد في صرفهم عن عبادة الأصنام لما ترتب من التذكير بالعاقبة من هذه العبادة .
ب - العلاقة الجزئية : وهي أن يكون المذكور جزءاً من المعنى المقصود ، ومثاله التعبير عن الصلاة بالقيام في قوله تعالى : ( يا آيها المزمل قُمْ الليل إلا قليلاً )( المزمل : 2 ) والقيام إنما هو جزء من الصلاة فعبّر بالجزء وهو القيام وأراد الكل(2) وإنما عُبّر عن الصلاة هنا لأن المشقة في صلاة الليل ترجع إلى القيام فقد قاموا ( حتى ورمت أقدامهم وسوقهم )(3) ، ومنه قوله تعالى : ( سنسمه على الخرطوم )( القلم : 16 ) أي سنجعل له علامة على أنفه الذي هو الأظهر في الوجه وفي ذلك كناية عن عارٍ يلزمُهُ (4) لأن الوجه أكرم موضع في الجسد والأنف أكرم موضع منه لتقدمه ، لذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنَفَة فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة لأن السمة على الوجه شينٌ فكيف بها على أكرم موضعٍ منه(5) ، والتسمية بالعلاقة الخاصة واحد من أبرز الأساليب التي يظهر فيها توافق المفردة والسياق ومجيئها له دون غيره وبما يحقق للبنية وحدتها الموضوعية قال تعالى : ( كلا إنها لظى نزاعةً للشوى ) ( المعارج : 16 ) والشوى ( الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنتزعها نزعاً فتبتكها ثم تعاد )(6) فأي أجزاء الجسم أشد إيلاماً من هذه مما ناسب تخصيصها دون سواها بالعذاب ، في حين اختار من الأشجار أفنانها لما كان الحديث ضمن سياق النعم قال تعالى : ( ذواتا أفنان )( الرحمن : 48 ) فقد اختار هذا الجزء دون غيره لما ناسب من ملائمته للسياق الذي يتحدث عن دقائق النعم فقد ( خصّ الأفنان بالذكر وهي الغضة التي تتشعب من فروع الشجرة لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ومنها تجتنى الثمرات )(7) وقد يعبر عن الشيء ببعضه لما يحققه هذا الأسلوب من تكثيفٍ في المعاني بأوجز الألفاظ وأبسطها كما في قوله تعالى : ( أخرجَ منها ماءها ومرعاها ) ( النازعات : 31 ) فقد أغنت هاتان اللفظتان عن ذكر أي لفظة أخــرى إذ ( دلّ بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب … والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء )(1) .
ج - العلاقة المحلية : وهي تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى : (فليدع ناديه ) ( العلق : 17 ) أي أهل ناديه ، والنادي لا يُدعى وإنما هو مكان اجتماع الناس فعبّر بالمحل وأراد ما يَحلُّ فيه(2) والدرس الأسلوبي يتعامل مع المذكور ويعطيه قيمة تعبيرية بالتضمن فكأنه تعالى استهزاءً به أمرهُ أن يدعو كل من في ناديه بل ليدع ناديه نفسه وفي هذا عدول عن ألفاظ مثل ( عشيرتك ، أصحابك ... ) إلى هذا أو على نية حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامة غير أن هذا الحذف لابد من أن يكون لوجهٍ تأثيري ولغاية في التعبير ، ذلك أن القوة كثيراً ما تُستمد من قرب الإنسان من محله ومنزله فلفظ ناديه المُعبّر به يحمل من المعاني الأشياء الكثيرة ففيه عصبة الرجل وأصحابه وفيه رمزٌ لقوته وبأسه واطمئنانه ، ومع ذلك أمره وتحداه أن يدعوه ولعل فيه تهكماً بهؤلاء باستخدام لفظ ( ناديه ) لأنهم غالباً ما يكونون فيه مخمورين لاهين لا قوة أو إدراك لهم ، وقد قرن الله تعالى المنكر بلفظ النادي في قوله تعالى : (وتأتون في ناديكم المنكر ) ( العنكبوت : 29 ) ، وبهذا يصبح من الواضح ( أن سخرية القرآن تحتوي على ألفاظ حين نتأملها ونحاول تذوقها نجد أنها توحي بمعانٍ ومشاعر وأجواء فوق دلالتها الأصلية وكثيراً ما تتركز سخرية المعنى كله في لفظ واحد )(3) .
رابعاً : اختيار المفردة بناءً على موافقة السياق : فقد تختار المفردة القرآنية مع أنه يتصور قيام غيرها مقامها وعند التأمل نجد أن هذا الاختيار مشروط بموافقته لمعنى يفهم من السياق ، فلو أقيمت أية مفردة غير هذه المفردة لما كان لقيامها محلها شيء من الفائدة التي حققها الاستخدام الأول كقوله تعالى : (وما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون ولا بقولِ كاهنٍ قليلاً ما تذكرون )( الحاقة : 41 ، 42 ) فما الداعي إلى أن تكون الفاصلة في الآية الأولى ( تؤمنون ) وفي الثانية ( تذكرون ) وماذا لو لم يكونا كذلك ؟ والجواب عن هذا أن مخالفة القرآن لنظم الشعر مخالفة ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحدٍ فالقائلون بأنه شعر كان قولهم كفراً وعناداً محضاً ، فناسب ختمه بقوله ( قليلاً ما تؤمنون ) أما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فليست بمثل ذلك الوضوح فيحتاج فيها إلى تدبرٍ وتذكرٍ لأن كلاً منهما نثر فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحدٍ كمخالفته للشعر .. فحُسن ختمة بقوله ( قليلاً ما تذكرون )(4).
خامساً : اختيار المفردة لاعتماد الأسلوب القرآني الحسية في الوصف : عند التأمل في هذه السور يتبين للمتأمل أن الأسلوب القرآني فيها كان يعتمد إلى الوصف الحسي الذي تمرُّ عليه النفس دون أن تتنبه إلى أن هذا مستعار أو أنه عموماً أسلوب مجازي خرج عن المعنى المباشر إلى معنى ثانوي ، بل أنّ المُلاحظ في الأسلوب القرآني ما يمكن أن يُسمى ( التشريك في الوصف ) ما بين المعنى الحسي والمعنوي الذي يصور به ، إذ تتماهى اللفظة ما بين معناها المباشر والمعنى الذي تخرج إليه بدلالة السياق من غير أن يكون هناك ما يرجح أحد الاستعمالين على الآخر ، فمثلاً قوله تعالى : ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون )( القلم : 28 ) فلم أجد من فسره بغير أعدلهم وأفضلهم(1) فإذا كان الأمر هكذا فَلِمَ عُبِّرَ عن هذا المعنى بلفظ ( أوسطهم ) ولم يقل ( أفضلهم ) أو ( أعدلهم ) إنها الحسية في الوصف التي تلصق المعنى بذهن المتلقي مباشرة دون أن يحس بانتقالٍ على مستوى السرد هنا من المعاني المباشرة إلى المعاني الثانية في اللفظة لأنهما لا يتقاطعان في أي وجه داخل السياق القرآني ، ومثل هذا قوله تعالى : ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر )( القمر : 46 )(2) فـ ( المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمطعومات ولكن الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقي العقاب حَسنَ وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق … )(3) وكذلك قوله تعالى : ( فَصبَّ عليهم ربُك سوط عذاب )( الفجر : 13 ) فالسوط ما يضرب به تشبيهاً بعذاب السوط ، وقيل إشارة إلى معنى المخالطة الذي يخرج إليه الفعل ( ساط ) أي خلط أنواع العذاب(4) أو مخالطة الدماء واللحوم جراء العذاب(5) .
فليس من السهولة تمييز المعنى المراد على وجه التحقيق والفصل بين ما توحي به اللفظة وتخرج إليه من دلالات وبين معناها المباشر ، فلقد أصبح النص وكأنه قد استغل كل هذه المعاني في لفظةٍ بقيت بين الحقيقة والمجاز تُفهم الأمرين من غير التباس أو غموض وبهذا نُدرك استخدام الأسلوب القرآني ( ألم تَرَ ) في مخاطبة المتلقي وهي كما قال المفسرون بمعنى ( ألم تعلم )(6) فلِمَ استخدم الفعل ( ترى ) دون ( تعلم ) مع أنه بمعناه ويبدو أن الزمخشري أوّل من تنبه لهذا فقال ( .... والمعنى : أنك رأيت آثار فعلِ الله بالحبشة وسمعت الأخبارية متواترة فقامت لك مقام المشاهدة )(1) غير أن الشيخ الشعراوي كان أدق من فصّل ذلك قائلاً ( إن العلم قد تكون له وسيلة أخرى غير الرواية بأن يكون مخبراً به من أحد ... ولكن الخبر من الحق سبحانه وتعالى خبر وصل في مرتبة اليقين إلى مرتبة أنك ترى )(2) فهذا مما ينصب في حسية التعبير .
خامساً : اختيار المفردة ذات الدلالات المتعددة : فالتعبير القرآني كثيراً ما يختار مفردة معينة ولها أكثر من دلالة واحدة مما يعني أننا سنكون حيال مهمة تحديد القصدية في هذا ؟ وهل قُصد إلى أحد هذه المعاني أم إن المعاني مرادةٌ على التوسع ؟ فمن الناحية الأصولية ذهب أغلب الأصوليين إلى جواز إرادة أكثر من معنى واحد للفظة فقد ( أجاز مالك والشافعي استعمال اللفظ الواحد في معنيين فأكثر في حالة واحدة ومنعه قوم )(3) ، وقد ردّ الدكتور أحمد نصيف الجنابي القول بأن وجود المشترك اللفظي يولد الإبهام أو الغموض أو التعمية (4) . وذهب إلى أن سبب هذا القول وغيره كان نتيجة عدم مراعاة السياق والمعنى الحضوري للتركيب اللغوي والتركيز الدلالي وهذا الذي يهمني هنا في هذه الدراسة أي ( تكثيف أكثر من معنى في اللفظة الواحدة في جملة واحدة في سياق واحد لغاية وهدف مقصودين بحيث تكون كل تلك المعاني مطلوبة في التركيب اللغوي مقصودة من إيراده )(5) ، وقد ابتعدت عن تسمية هذه الظاهرة الأسلوبية بالمشترك اللفظي لكونه لا يمثل إلا جانباً من جوانبها كلفظة ( قسورة ) التي فُسرت بأنها الرامي أو الأسد (6) أو جماعة الرماة أو ركز الناس وأصواتهم أو ظلمة الليل(7) وبهذا تتواشج هذه المعاني لترسم أبلغ صورة لهؤلاء الذين كانوا ينفرون من مجرد صوت القرآن كما تنفر الحمر من أي صوتٍ تسمعه أو أي شخصٍ تراه أو حيوان تشاهده خوفاً من أن يفترسها فـ ( الصفة الجامعة بينهما أن كلاً منهما ضعيف منهار أمام جبّار قوي ، مقدرٌ أنه واقعٌ لا محالة لأن الصائد مما لا تمكن مقاومته لأنه قسورة فالأسلم إذن الهزيمة والفرار )(8) فكيف إذا أضيف إلى كل هذا أنها تعني ظلمة الليل والركز والصوت المزعج حيث الخوف أكبر وأكبر وبهذا لا يزداد التصوير إلا تكثيفاً في الدلالة على مصدر الخوف .
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين )( الحاقة : 44 - 45 ) فـ ( يجوز أن تكون اليمين ههنا راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون بمعنى لو فعل ذلك لسلبناه قدرته وانتزعنا منه قوّته )(1) بالإضافة إلى المعنى المتبادر إلى الذهن …
1) التفسير البياني ، 1 / 206 .
2) الإعجاز البياني في كتاب العربية الأكبر ، 214 .
3) تلخيص البيان ، 240 .
4) تاريخ آداب العرب ، 2 / 261 .
5) البديع في ضوء أساليب القرآن ، 145 .
6) الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق ، 461 .
7) الكشاف ، 4 / 18 ، وينظر : معنى ( راغ ) في معجم ألفاظ القرآن ، 1 / 527 ، والإنتصاف ، 4 / 18
8) بديع القرآن ، 21 .
9) المفردات ، 6 .
01) ينظر : الكشاف ، 4 / 220 ، وشرح شواهد الكشاف ، 4 / 455 .
11) المحتسب ، 2 / 300 .
21) معجم ألفاظ القرآن ، 1 / 283 .
31) الكشاف ، 4 / 40 .
41) ينظر : المفردات ، 799 – 800 .
51) (1) الكشاف 4 / 362 .
61) في ظلال القرآن 7 / 694 .
71) ينظر: تفسير الرازي 30 / 102 .
81) معجم ألفاظ القرآن 1 / 37 .
91) المفردات 19 .
02) تفسير الرازي 30 / 103 .
12) معجم ألفاظ القرآن 2 / 282 .
22) المفردات 541 .
32) الكشاف 4 / 557 .
42) معجم ألفاظ القرآن 2 / 145 .
52) تفسير غريب القرآن 515 .
62) ينظر تفسير التحرير والتنوير 27 / 159 .
72) نهاية الإيجاز 136 وينظر نهاية الأرب 7 / 60 .
82) معجم ألفاظ القرآن 1 / 283 .
92) الكشاف 4 / 284 وينظر تلخيص البيان 283 – 284 .
03) من بديع لغة التنزيل 312 .
13) ينظر : الإنتصاف 4 / 284 .
23) المفردات 503 .
33) معجم غريب القرآن 268 .
43) ينظر الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 359 .
53) ينظر الأعمال الكاملة لمحمد عبده 5 / 311 .
63) الكشاف 4 / 4 .
73) ينظر القرآن إعجازه وبلاغته 170 – 171 .
83) ينظر : تفسير الرازي 30 / 193 ، والفوائد 19 .
93) ينظر القرآن إعجازه … 173 .
04) تفسير الرازي 30 / 172 .
14) ينظر معجم ألفاظ القرآن 1 / 344 .
24) ينظر الكشاف 4 / 471 .
34) الكشاف 4 / 158 .
44) الكشاف 4 / 452 .
54) الإتقان 2 / 55 ، والطبيعة في القرآن 451 .
64) القرآن إعجازه وبلاغته 178 ، وينظر معجم الألفاظ 2 / 694 .
74) أسلوب السخرية 432 .
84) ينظر : البديع في ضوء أساليب القرآن 148 ، والإتقان 2 / 102 ، ودرة التنزيل 495 – 496 .
94) ينظر : تفسير غريب القرآن 480 ، والكشاف 1 / 273 وتفسير الرازي 30 / 90 ، وتفسير ابن كثير 4 / 406 ومعجم الألفاظ 2 / 848 .
05) قاموس القرآن 488 …
15) تلخيص البيان 235 .
25) ينظر : المفردات 361 .
35) ينظر : تلخيص البيان 277 .
45) ينظر : قاموس القرآن 188 .
55) الكشاف 4 / 286 .
65) المختار من التفسير 1 / 71 .
75) تقريب الوصول إلى علم الأصول 64 ، وإليه ذهب الباقلاني والجمهور وبعض المعتزلة ، ينظر : شرح جمع الجوامع 1 / 294 ، وتنقيح الفصول 459 ، وإرشاد الفحول 20 .
85) ينظر : ظاهرة المشترك اللفظي 393 – 394 .
95) المصدر السابق 404 .
06) ينظر : معاني القرآن 3 / 206 ، وتفسير غريب القرآن 498 ، والمفردات 608 .
16) ينظر : تفسير الرازي 30 / 212 .
26) التشبيهات القرآنية 187 .
36) ينظر : تلخيص البيان 258 .
المصدر : موسوعة دهشة
إلى جنب الدلالة الأساسية التي قد تشترك فيها مع غيرها من المفردات ، وبذلك تكون المفردة المختارة قد أدت المعنى الأساس في التعبير ، فضلاً عمّا أوحت به ضمن الإطار السياقي نفسه ، ومن هنا كانت استحالة تغيير أو استبدال هذه المفردة حتى مع مرادفتها إن كان هناك مرادف أصلاً ، وأنا هنا لا أقصد ( بالإيحاء الدلالي ) تأدية المعنى الدلالي المباشر بل المعاني الجانبية له والتي تدور حول هذا المعنى الأساس ، ويمكن أن يتشكل هذا الإيحاء في المحاور الآتية التي يتم اختيار المفردة بسببها :
أ – الإيحاء المعتمد على التقابل الدلالي : فقد تختار المفردة في التعبير القرآني مصورةً المعنى المراد وفي الوقت نفسه يكون لها مقابل على المستوى الدلالي توحي به إلى جنب المعنى الذي أدته أساساً ففي قوله تعالى : ( حتى زرتم المقابر )( التكاثر : 2 ) فإن لفظة ( زرتم ) تمثل لفظة لها مقابل دلالي هو الرجوع فكل زائر لاشك وستنتهي به زيارته ( فاستعمال الزيارة بهذا المعنى صريح الإيحاء بأن الإقامة في القبر ليست إقامة دائمة … وسوف تنتهي الزيارة حتماً إلى بعث وحساب وجزاء ، وهذا الإيحاء ينفرد به لفظ ( زرتم ) دون غيره فلا يمكن أن يؤديه لفظ آخر كأن يقال ( قبرتم ، أو سكنتم المقابر …إنها زيارة أي إقامة مؤقتة ويعقبها بعث ونشور ) ، ومن ذلك قوله تعالى : ( يومئذٍ يصدر الناس أشتاتاً ليروا أعمالهم )( الزلزلة : 6 ) فالصدور إنما هو مقابل دلالي للورود فاستعمال الفعل ( يصدر ) ليوحي إلى أن الحياة الدنيا ليست بدار مقامٍ وليس هذا فقط فقد ( جرت أمثالهم بأن الوارد يجب أن يعرف كيف يصدر وإلا ضاعَ ففي لفظ ( يصدر ) هنا لفتٌ واضح الإيحاء إلى أن الحياة الدنيا ليست بدار مقامٍ ، إن هي إلا رحلة نجتازها ولابد من تأمين طريق الصدر … ) ولا يمكن أن يستبدل هذا اللفظ ( يصدر ) بلفظٍ آخر مثل ( يخرج وينصرف ) ويعطي من المعنى ما أعطاه الفعل الأول ، وهذا كثير في القرآن .
ففي قوله تعالى ( ولله ميراث السموات والأرض )( الحديد : 10 ) يظهر تساؤل كيف يرث الله هذه ؟ ونستطيع الإجابة عندما نجد المقابل الدلالي وهو الموت ، وبهذا يكون اختيار لفظ ( ميراث ) إيحاء بأن كل من في السموات والأرض سيموت ويبقى تعالى وحده ( لأنه الباقي بعد فنائهم والدائم بعد انقضائهم )(1) .
ب – الإيحاء المعتمد على الغرابة اللفظية : قال تعالى ( تلك إذاً قسمة ضيزى )( النجم : 22 ) فهنا وصف لحكم المشركين بأن لله تعالى البنات ولهم البنون ، وهذا الحكم على ما فيه من انتفاءٍ للعدل والغرابة فإنه يحوي غرابة أكبر من خلال معرفتنا أن العرب أو قسماً منهم ما كانوا يرضون لأنفسهم ما رضوه لربهم وهو ( البنات ) ( وإذا بُشرَ أحدهم بالأنثى ظلَّ وجههُ مسوداً وهو كظيم يتوارى من القومِ من سوء ما بُشر به أيمسكه على هونٍ أم يدسهُ في التراب … )( النحل : 58 - 59 ) لذلك قال تعالى : ( ألكم الذكر وله الأنثى تلك إذاً قسمة ضيزى )( النجم : 21 – 22 )فالحكم ليس جائراً وحسب وإنما هو غريب في العقل والمنطق – أن ينسب العبد مالا يرضى لنفسه إلى ربه – لذلك استعملت (ضيزى ) والتي تعني القسمة الجائرة أو غير العادلة ، ولم تستعمل هاتان الكلمتان ، لهذه الزيادة في إيحاء ( ضيزى )( فكانت غرابة اللفظ أشد الأشياء ملائمة لغرابة هذه القسمة التي أنكرها ) (2)( والعرب يعرفون هذا الضرب في الكلام وله نظائر في لغتهم وكم من لفظةٍ غريبةٍ عندهم لا تحسن إلا في موضعها ولا يكون حسنها على غرابتها إلا أنها تؤكد المعنى الذي سيقت إليه بلفظها )(3) وبهذا يتبين بُعدُ ما ذهبت إليه بنت الشاطئ بقولها ( وقُصارى ما ألمحه فيها – على بُعْدٍ – أن يكون فيها مع الجور حس مادتها فيما يلوك عَبَدة الأوثان من ألفاظٍ منقولة من : ضاز التمرة لاكها في فمه والله أعلم ) (4) .
ج – الإيحاء النابع من دقة التصوير الحركي : المفردة القرآنية قد تختار لتصوير الحركة بدقة كما في قوله تعالى : ( فراغ إلى أهله )( الذاريات : 26 ) فراغ هنا أعطت للنص إيحاءاً وبعداً جديدين ذاك أنها فضلاً عن تصويرها ذهاب إبراهيم عليه السلام صدرت حركته بدقة ما بعدها نظير من غير أن يكون ذلك لمجرد مُتعةٍ أدبية في التصوير وإنما هي الدقة مقرونةً بالصدق الإخباري مع تحقيق ملحظٍ اجتماعي هنا ، فراغ ( ذهب إليهم في خفيةٍ من ضيوفه ، ومن أدب المضيف أن يُخفي أمره وأن يبادره بالقِرى من غير أن يشعر به الضيف حذراً من أن يكفه ويعذره )(5) ، وكذلك في قولــه تعــالى ( والصبح إذا تنفس ) ( التكوير : 18 ) فاختيار لفظة ( تنفس ) للدقة في رسم المشهد الحركي هنا إذ إن خروج النور فجراً أشبه ما يكون بحركة النفس الذي ينساب بلا صوت متتابعاً فيكون بذلك ( أشبه الأشياء بخروج النفس شيئاً فشيئاً ) (1) .
ومثل هذا (إنا صببنا الماء صباً )(عبس : 25 ) وقوله تعالى: (ويبسطوا إليكم أيديهم وألسنتهم بالسوء )( الممتحنة : 2 ) .
د – الإيحاء النابع من وصف خاص : فقد يصف القرآن الشيء وصفاً خاصاً ليدلل من خلال إيحاء هذا الوصف على دلالة تنصب في إغناء الدلالة العامة للسياق كما في قوله تعالى ( وفاكهة وأبّا )( عبس : 31 ) فالأبّ هو ( المرعى المتهيء للرعي والجز ، من قولهم أبَّ لكذا أي : تهيأ ) (2) في حين ذهب الزمخشري إلى أن الأبّ هو المرعى لأنه يؤَبُّ أي يؤمّ وينتجع (3) وقد يوصف الشيء وصفاً خاصاً لأجل بيان تفاهة هذا الشيء وخسته قال تعالى : ( فكانوا كهشيم المحتظر )( القمر : 31 ) وفي قراءة ( المحتظر ) أي ( كهشيم الاحتظار كقولك كآجر البناء وخشب النجارة ، والاحتظار : أن يجعل حظيرة وإن شئت جعلت ( المحتظر ) هنا هو الشجر أي كهشيم الشجر المتخذة منها الحظيرة أي : كما يتهافت من الشجر المجعولة حظيرة والهشيم ما تهشم منه وانتشر )(4) وأي إهانة أكبر من أن يجعل جمعهم ( كالهشيم المتخلف مما جمعه صاحب الحظيرة ) (5) فهو الشجر اليابس المتهشم المتكسر … يبس لطول الزمان وتتوطؤه البهائم فيتحطم ويتهشم )(6) ومن ذلك قوله تعالى ( فشاربون شُرب الهيم )( الواقعة : 55 ) فلو أُريد تحديد معنى ( الهيم ) لخرجنا بأنها تعني ( جمع الرجل العطش ) يُقال : رجلٌ هيمان وهائم شديد العطش .. ويمكن أن تعني الرمال التي تبتلع الماء وهيام من الرمال اليابس كأن به عطش لذلك أستعير هذا الاسم للعاشق ، كما أنها داءٌ يأخذ الإبل من العطش(7) فهذه اللفظة أوحت بظلال المرض وشدة العطش والتوله والهروب وابتلاع الماء … على هؤلاء .
ثانياً : اختيار المفردة للتسمية ( لعلاقة دلالية خاصة ) :
أ – تسمية الشيء بوصفه جزءاً من معناه : ولعل من أوضح التسميات هي تسميات يوم القيامة والتي زخرت بها قصار السور إن لم أقل انفردت بها فقد سُميت القيامة في القرآن بعدة تسميات منها : الحاقة والصاخة والآزفة والقارعة والطامة والواقعة والراجفة والرادفة ، وعند التأمل في هذه التسميات تجد أن كل تسمية إنما اختصت بجانبٍ من جوانب هذا اليوم صوره لفظها ، فالواقعة تدلّ على حتمية ووجوب الوقوع فقد ( وصفت بالوقوع لأنها تقع لا محالة … ووقوع الأمر نزوله )(1) ليصفها سيد قطب ( كأنّما هي ثقلٌ ضخمٌ ينقضُ من علٍ ثم يستقر لغير ما زحزحةٍ بعد ذلك ولا زوال )(2) والحاقة هي الواجبة الوقوع والتي تحقق فيها الأمر أو الوقت أو الساعة التي يحقّ فيها الجزاء فتغلب كل شيءٍ وتحقّ كل محاقٍ(3) وتسمية يوم القيامة بالآزفة كان ( لآزوفها أي قربها )(4) و ( أزف وأفِدَ يتقاربان – لكن أزِفَ يُقال اعتباراً بضيق وقتها ) (5) وبهذا يتحقق وصف الشكل الخارجي ليوم القيامة كاملاً ، فقد تمَّ عن طريق التسمية تأكيد الوقوع وسرعته وتحقق ذلك ولم يبق إلا وصف طبيعتها ( القيامة ) وأثرها لذلك سُمّيت بالقارعة وهي ( التي تقرع الناس بالأفزاع والأهوال … ) (6) وسُميت بالغاشية و ( الغاشية داءٌ يأخذ في الجوف أو ورمٌ يكون في البطن … ومن هذا الهلاك تفسر الغاشية في استعمال القرآن … أي الجائحة المهلكة … ) (7) و ( الغاشية كل ما يغطي الشيء كغاشية السرج … )(8) وسميت بالطامّة الكبرى لأنها ( تطمُّ على الدواهي أي تعلو وتغلب … وهي القيامة لطمومها على كل هائلةٍ )(9) فـ ( طمّ الماء … أرتفع وعلا وفي المعنوي : طمّ الأمر اشتدّ وجاوز الطامة .. )(10) وسميت الصاخة يقال صخّت تصخّ صخّاً أي تصم ويقال رجلٌ أصخ … إذا كان لا يسمع )(11) وبهذا صورت كيفية وقوعها بالغاشية ومدى تأثيرها مقارنة بغيرها بالطامة وكيفية وقوعها بالقارعة وأثرها عند وقوعها بالصاخة ، وبهذا وعن طريق تسميتها بجانب منها وٌصفت كلها ومن جميع جوانبها ، والمهم هنا أن كل هذه التسميات إنما جاءت بصيغة الفاعل فكأنها هي التي تصخّ وتقرع وتقع … الخ ، فضلاً عن تعريفها بالألف واللام الذي هو تعريف جنسٍ لتميزها من بين الأجناس لأن في استحضاره زيادة تهويلٍ لأنه حقيقٌ بالتدبر(1) والأهم من كل هذا أنّ جميع هذه التسميات جاءت كناية عن يوم القيامة و ( الكناية عبارة عن أن تذكر لفظةً وتفيد بمعناها معنى ثانياً هو المقصود وإذا كنت تفيد المقصود بمعنى اللفظ وجب أن يكون معناه معتبراً … ) (2) فالكناية إرادة المعنى الثاني مع جواز إرادة المعنى الأول ، وبهذا يكون التعبير بها هنا أقوى من أي تعبيرٍ آخر ، أي أنّ الصاخة لا تتضمن أسلوباً مجازياً المقتضى منه التهويل والتخويف فقط وإنما هو كذلك ومضافاً إليه أن معناه الأول ( الحقيقي ) حقيق الوقوع على الإرادة . والله أعلم .
ب – تسميته باعتباره وصفاً لنفسه : يكثر في الاختيار القرآني مثل هذا حيث يتم العدول عن التسمية الأساسية إلى تسميةٍ تتعلق بفعلٍ خاصٍ يكون هو المقصد الدلالي الذي يحتاجه السياق كقوله تعالى : ( كلا لينبذن في الحُطمة )( الهمزة : 4 ) والحطمة ( الكثير التحطيم وأطلقت على جهنم لتحطيمها المكذبين بها )(3) ولأن من ( شأنها أن تحطم كل ما يلقى فيها ، ويقال للرجل الأكول إنه لحطمة )(4) كما أن ( بناء فُعَلة يدلّ على أن ذلك عادة )(5) وإنما اختيرت على هذا الوصف ( صيغة المبالغة ) لتكون على وزن الصيغة التي ضمنها الذنب ( هُمزة و لُمَزة ) حتى يحصل التعادل بين الذنب والجزاء فالمذنب الذي ضرّى بالذنب جزاؤه هذه الحطمة التي هي ضاربة بحطم كل ما يُلقى
إليها(6) ومن هذا قوله تعالى : ( وأنزلنا من المعصرات ماءً ثجاجاً )( النبأ : 14 ) أي ( السحائب التي تعتصر بالمطر أي تصب وقيل التي تأتي بالإعصار )(7) وفسرها ابن عباس بـ ( السحاب يعصُرُ بعضه بعضاً فيخرج الماء من بين السحابتين ..) (8) واعتبرت بنت الشاطئ هذا من قبيل الشرح فهي لا ترى ضرورةً فـي تقييده بسحابتين ، وقالت بأن العصر في كل صيغة واستعماله يرجع إلى أصل دلالته على الضغط لاستخلاص العصارة (1) والغيوم إذا أعصرت – كما يقول محمد عبده – جاء وقت أن تعصر الماء فيسقط منها المطر (2) .
ج – تسمية الشيء باعتبار ما سيكون عليه : وهو من أساليب الإيجاز كما في قوله تعالى : ( وقال نوحٌ ربِ لا تذر على الأرض من الكافرين ديّاراً إنكَ إن تذرهم يضلوا عبادكَ ولا يلدوا إلا فاجراً كفّاراً )( نوح : 26 – 27 ) فَسُمِّيَ الأنباء بما سيكون عليه من فجورٍ وكفرٍ وبذلك أصبح هذا الأخبار عِلةً للإهلاك على أن هذا الأخبار لم يكن بمعناه المجازي لعلاقة الاستقبال لأنه إخبار عن وحي يصل إلى الأمر الحقيقي قال تعالى : ( وأوحي إلى نوحٍ أنه لن يؤمنَ من قومِكَ إلا من قد آمن )( هود : 36 ) فكانت تسميتهم بما سيكونون عليه عِلةً لإنزال العقاب عليهم فناسب السياق تسميتهم بهذا فكانت التسمية هنا لحاجة السياق كما هي في قوله تعالى : ( بل عجبوا أن جاءهم منذرٌ منهم فقال الكافرون هذا شيءٌ عجيب )( ق : 2 – 3 ) فقد كان القياس أن يقال ( فقالوا ) بالضمير مثل ( عجبوا ، وجاءهم ، ومنهم ) لأن المُخبَر عنهم واحدٌ في كل هذه الألفاظ لكنه تعالى قال ( فقال الكافرون ) وإنما سمّاهم بالكفر هنا ( للشهادة على أنهم في قولهم هذا مُقدِمونَ على الكفر العظيم )(3) .
ثالثاً : للتعبير عن الشيء بما هو معه في علاقة خاصة : فقد يعدل التعبير القرآني عن لفظٍ ما إلى لفظٍ آخر كونه يشترك مع مدلوله في علاقةٍ تتحقق بالإخبار بها فائدة دلالية وهذه سمة أسلوبية كثيراً ما تستخدم في القرآن لأنها تعبر عن هذه العلاقة بأوجز تعبير من غير إطنابٍ وتفصيلٍ يضيع معه الترابط كـ :
أ – العلاقة السببية : وهي ( أن يكون اللفظ المذكور مسبباً عن المعنى المقصود … نحو قوله تعالى : ( والرجز فاهجر ) ( المدثر : 5 ) فالمعنى الحقيقي للرجز العذاب الشديد لأنه مسبب عن عبادة الأصنام )(4) فقد سمي كيد الشيطان رجزاً وذلك لأنه سبب للعذاب وقد سميت الأصنــام رجزاً لهـذا المعنى أيضاً(1) وهذا أبلغ لأنه أشد في صرفهم عن عبادة الأصنام لما ترتب من التذكير بالعاقبة من هذه العبادة .
ب - العلاقة الجزئية : وهي أن يكون المذكور جزءاً من المعنى المقصود ، ومثاله التعبير عن الصلاة بالقيام في قوله تعالى : ( يا آيها المزمل قُمْ الليل إلا قليلاً )( المزمل : 2 ) والقيام إنما هو جزء من الصلاة فعبّر بالجزء وهو القيام وأراد الكل(2) وإنما عُبّر عن الصلاة هنا لأن المشقة في صلاة الليل ترجع إلى القيام فقد قاموا ( حتى ورمت أقدامهم وسوقهم )(3) ، ومنه قوله تعالى : ( سنسمه على الخرطوم )( القلم : 16 ) أي سنجعل له علامة على أنفه الذي هو الأظهر في الوجه وفي ذلك كناية عن عارٍ يلزمُهُ (4) لأن الوجه أكرم موضع في الجسد والأنف أكرم موضع منه لتقدمه ، لذلك جعلوه مكان العز والحمية واشتقوا منه الأَنَفَة فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال والإهانة لأن السمة على الوجه شينٌ فكيف بها على أكرم موضعٍ منه(5) ، والتسمية بالعلاقة الخاصة واحد من أبرز الأساليب التي يظهر فيها توافق المفردة والسياق ومجيئها له دون غيره وبما يحقق للبنية وحدتها الموضوعية قال تعالى : ( كلا إنها لظى نزاعةً للشوى ) ( المعارج : 16 ) والشوى ( الأطراف أو جمع شواة وهي جلدة الرأس تنتزعها نزعاً فتبتكها ثم تعاد )(6) فأي أجزاء الجسم أشد إيلاماً من هذه مما ناسب تخصيصها دون سواها بالعذاب ، في حين اختار من الأشجار أفنانها لما كان الحديث ضمن سياق النعم قال تعالى : ( ذواتا أفنان )( الرحمن : 48 ) فقد اختار هذا الجزء دون غيره لما ناسب من ملائمته للسياق الذي يتحدث عن دقائق النعم فقد ( خصّ الأفنان بالذكر وهي الغضة التي تتشعب من فروع الشجرة لأنها هي التي تورق وتثمر ، فمنها تمتد الظلال ومنها تجتنى الثمرات )(7) وقد يعبر عن الشيء ببعضه لما يحققه هذا الأسلوب من تكثيفٍ في المعاني بأوجز الألفاظ وأبسطها كما في قوله تعالى : ( أخرجَ منها ماءها ومرعاها ) ( النازعات : 31 ) فقد أغنت هاتان اللفظتان عن ذكر أي لفظة أخــرى إذ ( دلّ بهاتين الكلمتين على جميع ما أخرجه من الأرض قوتاً ومتاعاً للأنام من العشب والشجر والحب … والنار والملح لأن النار من العيدان والملح من الماء )(1) .
ج - العلاقة المحلية : وهي تسمية الشيء باسم محله كقوله تعالى : (فليدع ناديه ) ( العلق : 17 ) أي أهل ناديه ، والنادي لا يُدعى وإنما هو مكان اجتماع الناس فعبّر بالمحل وأراد ما يَحلُّ فيه(2) والدرس الأسلوبي يتعامل مع المذكور ويعطيه قيمة تعبيرية بالتضمن فكأنه تعالى استهزاءً به أمرهُ أن يدعو كل من في ناديه بل ليدع ناديه نفسه وفي هذا عدول عن ألفاظ مثل ( عشيرتك ، أصحابك ... ) إلى هذا أو على نية حذف المضاف وإقامة المضاف إليه مقامة غير أن هذا الحذف لابد من أن يكون لوجهٍ تأثيري ولغاية في التعبير ، ذلك أن القوة كثيراً ما تُستمد من قرب الإنسان من محله ومنزله فلفظ ناديه المُعبّر به يحمل من المعاني الأشياء الكثيرة ففيه عصبة الرجل وأصحابه وفيه رمزٌ لقوته وبأسه واطمئنانه ، ومع ذلك أمره وتحداه أن يدعوه ولعل فيه تهكماً بهؤلاء باستخدام لفظ ( ناديه ) لأنهم غالباً ما يكونون فيه مخمورين لاهين لا قوة أو إدراك لهم ، وقد قرن الله تعالى المنكر بلفظ النادي في قوله تعالى : (وتأتون في ناديكم المنكر ) ( العنكبوت : 29 ) ، وبهذا يصبح من الواضح ( أن سخرية القرآن تحتوي على ألفاظ حين نتأملها ونحاول تذوقها نجد أنها توحي بمعانٍ ومشاعر وأجواء فوق دلالتها الأصلية وكثيراً ما تتركز سخرية المعنى كله في لفظ واحد )(3) .
رابعاً : اختيار المفردة بناءً على موافقة السياق : فقد تختار المفردة القرآنية مع أنه يتصور قيام غيرها مقامها وعند التأمل نجد أن هذا الاختيار مشروط بموافقته لمعنى يفهم من السياق ، فلو أقيمت أية مفردة غير هذه المفردة لما كان لقيامها محلها شيء من الفائدة التي حققها الاستخدام الأول كقوله تعالى : (وما هو بقول شاعرٍ قليلاً ما تؤمنون ولا بقولِ كاهنٍ قليلاً ما تذكرون )( الحاقة : 41 ، 42 ) فما الداعي إلى أن تكون الفاصلة في الآية الأولى ( تؤمنون ) وفي الثانية ( تذكرون ) وماذا لو لم يكونا كذلك ؟ والجواب عن هذا أن مخالفة القرآن لنظم الشعر مخالفة ظاهرة وواضحة لا تخفى على أحدٍ فالقائلون بأنه شعر كان قولهم كفراً وعناداً محضاً ، فناسب ختمه بقوله ( قليلاً ما تؤمنون ) أما مخالفته لنظم الكهان وألفاظ السجع فليست بمثل ذلك الوضوح فيحتاج فيها إلى تدبرٍ وتذكرٍ لأن كلاً منهما نثر فليست مخالفته لهما في وضوحها لكل أحدٍ كمخالفته للشعر .. فحُسن ختمة بقوله ( قليلاً ما تذكرون )(4).
خامساً : اختيار المفردة لاعتماد الأسلوب القرآني الحسية في الوصف : عند التأمل في هذه السور يتبين للمتأمل أن الأسلوب القرآني فيها كان يعتمد إلى الوصف الحسي الذي تمرُّ عليه النفس دون أن تتنبه إلى أن هذا مستعار أو أنه عموماً أسلوب مجازي خرج عن المعنى المباشر إلى معنى ثانوي ، بل أنّ المُلاحظ في الأسلوب القرآني ما يمكن أن يُسمى ( التشريك في الوصف ) ما بين المعنى الحسي والمعنوي الذي يصور به ، إذ تتماهى اللفظة ما بين معناها المباشر والمعنى الذي تخرج إليه بدلالة السياق من غير أن يكون هناك ما يرجح أحد الاستعمالين على الآخر ، فمثلاً قوله تعالى : ( قال أوسطهم ألم أقل لكم لو لا تسبحون )( القلم : 28 ) فلم أجد من فسره بغير أعدلهم وأفضلهم(1) فإذا كان الأمر هكذا فَلِمَ عُبِّرَ عن هذا المعنى بلفظ ( أوسطهم ) ولم يقل ( أفضلهم ) أو ( أعدلهم ) إنها الحسية في الوصف التي تلصق المعنى بذهن المتلقي مباشرة دون أن يحس بانتقالٍ على مستوى السرد هنا من المعاني المباشرة إلى المعاني الثانية في اللفظة لأنهما لا يتقاطعان في أي وجه داخل السياق القرآني ، ومثل هذا قوله تعالى : ( بل الساعة موعدهم والساعة أدهى وأمر )( القمر : 46 )(2) فـ ( المرارة لا يوصف بها إلا المذوقات والمطعومات ولكن الساعة لما كانت مكروهة عند مستحقي العقاب حَسنَ وصفها بما يوصف به الشيء المكروه المذاق … )(3) وكذلك قوله تعالى : ( فَصبَّ عليهم ربُك سوط عذاب )( الفجر : 13 ) فالسوط ما يضرب به تشبيهاً بعذاب السوط ، وقيل إشارة إلى معنى المخالطة الذي يخرج إليه الفعل ( ساط ) أي خلط أنواع العذاب(4) أو مخالطة الدماء واللحوم جراء العذاب(5) .
فليس من السهولة تمييز المعنى المراد على وجه التحقيق والفصل بين ما توحي به اللفظة وتخرج إليه من دلالات وبين معناها المباشر ، فلقد أصبح النص وكأنه قد استغل كل هذه المعاني في لفظةٍ بقيت بين الحقيقة والمجاز تُفهم الأمرين من غير التباس أو غموض وبهذا نُدرك استخدام الأسلوب القرآني ( ألم تَرَ ) في مخاطبة المتلقي وهي كما قال المفسرون بمعنى ( ألم تعلم )(6) فلِمَ استخدم الفعل ( ترى ) دون ( تعلم ) مع أنه بمعناه ويبدو أن الزمخشري أوّل من تنبه لهذا فقال ( .... والمعنى : أنك رأيت آثار فعلِ الله بالحبشة وسمعت الأخبارية متواترة فقامت لك مقام المشاهدة )(1) غير أن الشيخ الشعراوي كان أدق من فصّل ذلك قائلاً ( إن العلم قد تكون له وسيلة أخرى غير الرواية بأن يكون مخبراً به من أحد ... ولكن الخبر من الحق سبحانه وتعالى خبر وصل في مرتبة اليقين إلى مرتبة أنك ترى )(2) فهذا مما ينصب في حسية التعبير .
خامساً : اختيار المفردة ذات الدلالات المتعددة : فالتعبير القرآني كثيراً ما يختار مفردة معينة ولها أكثر من دلالة واحدة مما يعني أننا سنكون حيال مهمة تحديد القصدية في هذا ؟ وهل قُصد إلى أحد هذه المعاني أم إن المعاني مرادةٌ على التوسع ؟ فمن الناحية الأصولية ذهب أغلب الأصوليين إلى جواز إرادة أكثر من معنى واحد للفظة فقد ( أجاز مالك والشافعي استعمال اللفظ الواحد في معنيين فأكثر في حالة واحدة ومنعه قوم )(3) ، وقد ردّ الدكتور أحمد نصيف الجنابي القول بأن وجود المشترك اللفظي يولد الإبهام أو الغموض أو التعمية (4) . وذهب إلى أن سبب هذا القول وغيره كان نتيجة عدم مراعاة السياق والمعنى الحضوري للتركيب اللغوي والتركيز الدلالي وهذا الذي يهمني هنا في هذه الدراسة أي ( تكثيف أكثر من معنى في اللفظة الواحدة في جملة واحدة في سياق واحد لغاية وهدف مقصودين بحيث تكون كل تلك المعاني مطلوبة في التركيب اللغوي مقصودة من إيراده )(5) ، وقد ابتعدت عن تسمية هذه الظاهرة الأسلوبية بالمشترك اللفظي لكونه لا يمثل إلا جانباً من جوانبها كلفظة ( قسورة ) التي فُسرت بأنها الرامي أو الأسد (6) أو جماعة الرماة أو ركز الناس وأصواتهم أو ظلمة الليل(7) وبهذا تتواشج هذه المعاني لترسم أبلغ صورة لهؤلاء الذين كانوا ينفرون من مجرد صوت القرآن كما تنفر الحمر من أي صوتٍ تسمعه أو أي شخصٍ تراه أو حيوان تشاهده خوفاً من أن يفترسها فـ ( الصفة الجامعة بينهما أن كلاً منهما ضعيف منهار أمام جبّار قوي ، مقدرٌ أنه واقعٌ لا محالة لأن الصائد مما لا تمكن مقاومته لأنه قسورة فالأسلم إذن الهزيمة والفرار )(8) فكيف إذا أضيف إلى كل هذا أنها تعني ظلمة الليل والركز والصوت المزعج حيث الخوف أكبر وأكبر وبهذا لا يزداد التصوير إلا تكثيفاً في الدلالة على مصدر الخوف .
ومن ذلك قوله تعالى : ( ولو تقوّل علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين )( الحاقة : 44 - 45 ) فـ ( يجوز أن تكون اليمين ههنا راجعة إلى النبي صلى الله عليه وسلم فيكون بمعنى لو فعل ذلك لسلبناه قدرته وانتزعنا منه قوّته )(1) بالإضافة إلى المعنى المتبادر إلى الذهن …
1) التفسير البياني ، 1 / 206 .
2) الإعجاز البياني في كتاب العربية الأكبر ، 214 .
3) تلخيص البيان ، 240 .
4) تاريخ آداب العرب ، 2 / 261 .
5) البديع في ضوء أساليب القرآن ، 145 .
6) الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق ، 461 .
7) الكشاف ، 4 / 18 ، وينظر : معنى ( راغ ) في معجم ألفاظ القرآن ، 1 / 527 ، والإنتصاف ، 4 / 18
8) بديع القرآن ، 21 .
9) المفردات ، 6 .
01) ينظر : الكشاف ، 4 / 220 ، وشرح شواهد الكشاف ، 4 / 455 .
11) المحتسب ، 2 / 300 .
21) معجم ألفاظ القرآن ، 1 / 283 .
31) الكشاف ، 4 / 40 .
41) ينظر : المفردات ، 799 – 800 .
51) (1) الكشاف 4 / 362 .
61) في ظلال القرآن 7 / 694 .
71) ينظر: تفسير الرازي 30 / 102 .
81) معجم ألفاظ القرآن 1 / 37 .
91) المفردات 19 .
02) تفسير الرازي 30 / 103 .
12) معجم ألفاظ القرآن 2 / 282 .
22) المفردات 541 .
32) الكشاف 4 / 557 .
42) معجم ألفاظ القرآن 2 / 145 .
52) تفسير غريب القرآن 515 .
62) ينظر تفسير التحرير والتنوير 27 / 159 .
72) نهاية الإيجاز 136 وينظر نهاية الأرب 7 / 60 .
82) معجم ألفاظ القرآن 1 / 283 .
92) الكشاف 4 / 284 وينظر تلخيص البيان 283 – 284 .
03) من بديع لغة التنزيل 312 .
13) ينظر : الإنتصاف 4 / 284 .
23) المفردات 503 .
33) معجم غريب القرآن 268 .
43) ينظر الإعجاز البياني ومسائل ابن الأزرق 359 .
53) ينظر الأعمال الكاملة لمحمد عبده 5 / 311 .
63) الكشاف 4 / 4 .
73) ينظر القرآن إعجازه وبلاغته 170 – 171 .
83) ينظر : تفسير الرازي 30 / 193 ، والفوائد 19 .
93) ينظر القرآن إعجازه … 173 .
04) تفسير الرازي 30 / 172 .
14) ينظر معجم ألفاظ القرآن 1 / 344 .
24) ينظر الكشاف 4 / 471 .
34) الكشاف 4 / 158 .
44) الكشاف 4 / 452 .
54) الإتقان 2 / 55 ، والطبيعة في القرآن 451 .
64) القرآن إعجازه وبلاغته 178 ، وينظر معجم الألفاظ 2 / 694 .
74) أسلوب السخرية 432 .
84) ينظر : البديع في ضوء أساليب القرآن 148 ، والإتقان 2 / 102 ، ودرة التنزيل 495 – 496 .
94) ينظر : تفسير غريب القرآن 480 ، والكشاف 1 / 273 وتفسير الرازي 30 / 90 ، وتفسير ابن كثير 4 / 406 ومعجم الألفاظ 2 / 848 .
05) قاموس القرآن 488 …
15) تلخيص البيان 235 .
25) ينظر : المفردات 361 .
35) ينظر : تلخيص البيان 277 .
45) ينظر : قاموس القرآن 188 .
55) الكشاف 4 / 286 .
65) المختار من التفسير 1 / 71 .
75) تقريب الوصول إلى علم الأصول 64 ، وإليه ذهب الباقلاني والجمهور وبعض المعتزلة ، ينظر : شرح جمع الجوامع 1 / 294 ، وتنقيح الفصول 459 ، وإرشاد الفحول 20 .
85) ينظر : ظاهرة المشترك اللفظي 393 – 394 .
95) المصدر السابق 404 .
06) ينظر : معاني القرآن 3 / 206 ، وتفسير غريب القرآن 498 ، والمفردات 608 .
16) ينظر : تفسير الرازي 30 / 212 .
26) التشبيهات القرآنية 187 .
36) ينظر : تلخيص البيان 258 .
المصدر : موسوعة دهشة