رواية أخرى ثالثة
وقال أبوجعفر الطحاوي:
حدثنا فهد، قال: حدثنا يوسف بن البهلول ، قال: حدثنا سليمان بن حيان، عن عبد الله بن عبد الرحمن بن يعلى بن كعب الطائفي، عن عثمان بن عبد الله بن أوس بن حذيفة، عن جده أوس بن حذيفة، قال: وفدت في وفد ثقيف إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فنزلت الأحلاف على المغيرة بن شعبة وأنزل رسول الله صلى الله عليه وسلم بني مالك في قبة له، فكان ينصرف علينا النبي صلى الله عليه وسلم بعد العشاء فيحدثنا قائما على رجليه حتى يراوح بين قدميه من طول القيام...، فلما كان ذات ليلة أبطأ علينا عن الوقت الذي كان يأتي فيه، فقلت: أبطأت علينا الليلة فقال:
« إنه طرأ عليّ حزبي من القرآن فكرهت أن أجيء حتى أتمه» قال أوس بن حذيفة: فسألت أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم: كيف تحزّبون القرآن؟
قالوا : ثلاثا، وخمسا، وسبعا، وتسعا، وإحدى عشرة، وثلاث عشرة، وحزب المفصل وحده.
قال أبو جعفر: قال أبو خالد وهو سليمان بن حيان، فنظرنا فيه،
فإذا ثلاث سور من أول القرآن: البقرة وآل عمران والنساء.
والخمس: المائدة والأنعام والأعراف والأنفال وبراءة.
والسبع: يونس وهود ويوسف والرعد وإبراهيم والحجر والنحل.
والتسع: بني إسرائيل والكهف ومريم وطه والأنبياء والحج والمؤمنون والنور والفرقان. والإحدى عشرة: الطواسين والعنكبوت والروم ولقمان والسجدة والأحزاب وسبأ وفاطر ويس.
والثلاث عشرة : الصافات وص والزمر وحم يعني آل حاميم ، وسورة محمد والفتح والحجرات.
وحزب المفصل. قال أبو جعفر ففيما روينا من هذه الآثار تحقيق أمر الحجرات أنها ليست من المفصل وأن المفصل ما بعدها إلى آخر القرآن. (مشكل الآثار للطحاوي، باب:إنه طرأ علي حزبي من القرآن: 3/386/1171)
تلك رواية مشهورة رواهاعدّة من أصحاب السنن، وهي تدل على أن أصحاب رسول الله قد قسّموا القرآن إلى أحزاب، وكان لكل يوم حزب، أي: قدرمعين، أو عدد معين من السور، وهم كانوا يلتزمون به، وكانوا يختمون القرآن عادة في كل أسبوع.
وأحزابهم كانت على نفس الترتيب الذي يوجد في مصاحفنا، وهذا الحزب، وهذا الترتيب حجة قاطعة على أن القرآن كان مجمعا، ومرتبا، ومدونا كمثله في أيامنا، وكانت بيوت الصحابة كلهاعامرة بها.
رواية أخرى رابعة
وممايدل على تدوين القرآن في حياة رسول الله مارواه أهل الجوامع والسنن:
قال رسول الله - صلى الله عليه وسلم - (إن مما يلحق المؤمن من عمله وحسناتهِ بعد موته علماً علمه ونشره، وولداً صالحاً تركه، أو مصحفاً ورّثه، أو مسجداً بناه، أو بيتاً لابن السبيل بناه، أو نهراً أجراه، أو صدقة أخرجها من ماله في صحته وحياته تلحقه من بعد موته) حسن ابن ماجه وابن خزيمة.(صحيح كنوز السنة النبوية: 1/68)
الشاهد في الحديث أن الحثّ على توريث المصحف لايكون إلا بعد جمع القرآن وتدوينه، فإن لفظ المصحف لايطلق إلا على القرآن المجموع بين الدفتين، فإذاحثّ رسول الله على توريث المصحف، فهي حجة واضحة ساطعة على أن القرآن قد أخذ صورة المصحف، وكان يوجد في حالة تجري الوراثة فيها.
بيان القرآن عن نفسه
وبعد هذه الجولة الشيقة الممتعة في أجواء الصحاح والسنن والجوامع، نرجع إلى القرآن نفسه، حتى نسمع ماذا يقول في شأنه، فإذاهو يلقي القول الفصل في الموضوع، قال تعالى:
لَا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ(19)
تلك الآيات واضحة في أن الله سبحانه وتعالى أخذ على نفسه، أنه يتولى جمع القرآن، وقراءته، وتبيينه كلما احتاج إلى بيان. وأمر النبي أن يتبع قرآنه، إذاقرأه.
وهذا يعني أن القرآن يجمع حسب أمر الله، وإرشاده، كما يعني أنه يجمع في حياة النبي عليه السلام، حتى يقرأه كما يرشده.
كلمة وجيهة قيمة للفراهي
قال الفراهي في ضمن حديثه عن تلك الآيات:
"اعلم أن الله تعالى وعد بحفظ القرآن مرارا، إجمالا وتفصيلا، فقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جَاءَهُمْ وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ (41) لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42) أي: إنه مصون عن الزيادة. وقال تعالى: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ(9) وهذا قول في غاية الصراحة بنفي النقصان والتغير، مع الدلالة على نفي الزيادة أيضا؛ فإن كل واحد من هذه الثلاث يخالف حفظ كلام الله، وهذا أمر ظاهر.
ويزيد رحمه الله فيقول: " فلايخفى عليك أن قوله تعالى: إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآَنَهُ (17) فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ (19) يحتوي على ثلاثة أمور:
الأول: أن القرآن يجمع في عهد النبي، ويقرأعليه بنسق واحد، فإنه لو أنجز هذا الوعد بعد عهد النبي لم يأمره باتباعه، وذلك قوله تعالى: فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآَنَهُ.
والثاني: أن النبي مأمور بالقراءة حسب هذه القراءة الثانية التي تكون بعدالجمع، وليس للنبي أن يلقى عليه شيء من الوحي، ولايبلغه الأمة، حيث أمره الله تعالى، فقال: يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ. وقوله تعالى: (مَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ) عام، فكل ماأنزل إلى الرسول من أمر الرسالة، لابد أن يبلغه الأمة، ونظم القرآن وترتيبه منه، فكيف يترك تبليغه، وهو مما أنزل إليه؟ فلا شك في أن النبي عليه السلام علّم الأمة قراءة السور بنسق آياتها.
والثالث: أن بعد هذاالجمع والترتيب بين الله ماشاء بيانه، من التعميم، والتخصيص، والتكميل، والتخفيف. وقد علمنا وقوع هذه الأمور الثلاث، فإن النبي كان يقرأ عليهم سورة القرآن كاملة، وهذا لايكون إلا بعد أن قرئ عليه بنسق خاص، فأخذوهامنه، وكان يأمرهم بوضع الآيات بمحلها اللائق بها، ثم بعد ذلك إذا أنزلت عليه آيات مبينة ضمّها إلى القرآن.
فترى هذه المبينات ربما وضعت بجنب ماتبينه، وأحيانا في آخر السورة، إن كانت متعلقة بعمودها، وترى في أكثر هذه الآيات تصريحا بأنها بيان من الله تعالى، كقوله عزّ من قائل: (كَذَلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آَيَاتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ)
ثم عرض عليه جبريل الأمين عرضة أخيرة، بعد تمام القرآن، كماجاء في الخبر الصحيح المتفق عليه، فجاءه القرآن بتمامه، مرتّب السور، فكانت مواقع السور فيه، مثل مواقع الآيات مما ألقي عليه، وعلّم الأمة، كما تلقى من الروح الأمين. (عبدالحميد الفراهي، تفسير سورة القيامة:231-233)