اخترت لكم هذا المقال : في بلاغة القرآن ...

إنضم
12/07/2003
المشاركات
31
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
[align=center]في بلاغة القرآن
رأي جديد في بعض مناحيها
( 1 - 3 )[/align]
[align=center]بقلم العلامة الأديب اللغوي / .....
[/align]

يطيب لنفسي أن أتعمد مأدبة الله كلما استطعت إلى ذلك سبيلاً ، فألتهم من طعامها الشائق ، واحتسي من شرابها الرائق ، ما أعتقد أن فيه غذاء لروحي الساغبة وريا ، وما أكاد أن أنفتل عنها حتى أحس برغبة جامحة في العودة ، فأعود الكرة ابتغاء الافترار وإزالة العطاش ، ولكن هيهات ، فكلما ازددت منها ازددت شوقاً إليها ، وحرصاً عليها :
[align=center]إذا ازددت منها زاد وجدي بقربها
فكيف احتراسي من هوى متجدد[/align]
هيهات هيهات أن تقنع روحي من مأدبة الله ، وطعامها شفاء للنفس ، وشرابها طهور للحس ، وغشيانها جلاء للقلب وصقال للضمير . كيف أقنع من القرآن مأدبة الله ، كما سماه رسول لله فكانت تسمية فذة بارعة ، أصاب بها عليه السلام شواكل المراد ، وطبق مفاصل السداد ، بإيجاز وإعجاز لم نر لهما ضريباً إلا في القرآن الكريم . والقرآن كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خبير ، وفضله على سائر الكلام " معروف غير مجهول ، وظاهر غير خفي ، يشهد بذلك عجز المتعاطين ، ووهن المتكلفين ، وتحير الكاذبين ، وهو المبلغ الذي لا يمل ، الجديد الذي لا يخلق ، والحق الصادع ، والنور الساطع ، والماحي لظلم الضلال ، ولسان الصدق النافي للكذب ، ونذير قدمته الرحمة قبل الهلاك ، وناعي الدنيا المنقولة ، وبشير الآخرة المخلدة ، ومفتاح الخير ، ودليل الجنة ، إن أوجز كان كافياً ، وإن أكثر كان مذكراً ، وإن أومئ كان مقنعاً ، وإن أطال كان مفهماً ، وإن أمر فناصحاً ، وإن حكم فعادلاً ، وإن أخبر فصادقاً ، وإن بين فشافياً ، سهل على الفهم ، صعب على المتعاطي ، قريب المأخذ ، بعيد المرام ".
لا تستسفه النظرة الأولى ، وقد تكون الثانية مبعث توهيم ، وإذا ما هجس التوهيم في نفس ، لا يقر لها قرار أو تكون على بينة من أمره ، فتبحث وتنقب ما وسعها البحث والتنقيب ، وترهف الذهن وتحد الخاطر ، ولا تزال تدير الرأي ، وتجيل عيون الفرض لتعلم سر توهمها ، ولاسيما إذا كان هذا التوهيم في كتاب أحكمت آياته وأعجزت ، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه . وكثيراً ما نظرتُ في آيات منه فتوهمتُ ، فبحثت فأسفر البحث عن حقائق تجعل القلب خاشعاً متصدعاً من خشية الله ، مؤمناً إيماناً قوياً صادقاً لم تشبه شائبة من شوائب التقليد بأنه معجز حقاً ، تتعاقب عليه الأيام ، وتتعاور الأفهام ، فما تزيده الأيام إلا جدة ونضارة ، وتنحسر عنه العقول ظالعة حسيرة وما تنفد كلماته ، ولا تفرع أسرار بلاغتها ( قل لو كان البحر مداداً كلمات ربي لنفد البحر قبل أن تنفد كلمات ربي ولو جئنا بمثله مددا ).
من تلك الآيات التي نظرت فيها فتوهمت ، قوله تعالى : ( فقلنا يا آدم إن هذا عدو لك ولزوجك فلا يخرجنكما من الجنة فتشقى * إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، فلقد خيل إلي أنه لو قيل : " لا تجوع ولا تظمأ ، ولا تضحى ولا تعرى " لكان ذلك جارياً على ما تقتضيه البلاغة من الملاءمة بين الأشباه والنظائر ، ولكنها لم تجئ كذلك فلابد لهذا من سر بل من أسرار ، لأن الكلمة في القرآن ليست كما تكون في غيره " بل السمو فيها على الكلام أنها تحمل معنى ، وتومئ إلى معنى ، وتستتبع معنى ، وهذا ما ليس في طاقة البشرية ، وهو الدليل على أنه كتاب أحكمت آياته ثم فصلت " . فما سر مجيئها هكذا ؟
نظرت في كتب التفسير التي بين يدي ، وهي الكشاف والطبري والنسفي والجلالين والبحر المحيط ، فما ألفيت كتاباً منها حاول أن يكشف عن سر نظم الآية بيد أني وجدت فيما كتبه الصاوي على الجلالين كلاماً ليس له ضحى ، فهو يقول : " قابل بين الجوع والعرى ، والظمأ والضحو ، وإن كان الجوع يقابل بالعطش ، والعرى يقابل الضحو ، لأن الجوع ذل الباطن والعري ذل الظاهر ، والظمأ حر الباطن والضحو حر الظاهر ، فنفى عن ساكن الجنة ذل الظاهر والباطن ، وحر الظاهر الباطن ". ووجدت ابن المنير يقول في كتاب الانتصاف : " والغرض من ذلك تحقيق تعداد هذه النعم وتصنيفها ، ولو قرن كلاً بشكله لتوهم أن المعدودات نعمة واحدة ، على أن في الآية سراً زائداً على ذلك وهو قصد تناسب الفواصل ، ولو قرن الظمأ بالجوع لانتثر سلك رؤوس الآي ، وأحسن به منتظماً ". وهذا الكلام ليس له نصيب كبير من الوجاهة والرجاحة ، ولذلك لم ترتح إليه نفسي ولم تقنع به ، وإنما قنعت برأي حلو جميل أنساب في أعطافها ، ودب في ثناياها دبيب الكرى في المفاصل ، ففرحت به وآثرته ، وصارت به حفية ، وله وامقة ، ولنشره تائقة ، ويتخلص هذا الرأي في أنه لو جاء النظم هكذا : وأنك لا تجوع فيها ولا تظمأ ، لوجب أن يقال : وأنك لا تعرى فيها ولا تضحى ، ولو كان ذلك كذلك لفسد المعنى ، لأن التضحي هو البروز للشمس بغير سترة كما في اللسان وغيره ، وإذا كان التضحي هو البروز للشمس بغير سترة كان معناه العري ، فيصير معنى الكلام ( وأنك لا تعرى فيها ولا تعرى ) وهو فساد بين ، ولما كان هذا الفساد في النظم مرجعه ضم الأشباه والنظائر ، فرقها وجاء بها على هذا النسق البديع : ( إن لك ألا تجوع فيها ولا تعرى * وأنك لا تظمأ فيها ولا تضحى ) ، وضم سبحانه لنفي الجوع نفي العري لتطمئن النفس بسد الجوع وسترة العورة الذين تدعو إليهما ضرورة الحياة ونحيزة الإنسانية . ولما كان الجوع مقدماً على العطش كتقديم الأكل على الشراب ، كان من مقتضى البلاغة أن يتأخر ذكر الظمأ عن الجوع ، وأن يتقدم على التضحي لأنه مهم يجب أن يتقدم الوعد بنفيه كما تقدم الوعد بنفي الجوع ، وأن يتأخر ذكر التضحي كما تأخر ذكر العري عن الجوع ، لأن التضحي من جنس العري والظمأ من جنس الجوع . ولعلك إذا بلغت هذا الموضع من مقالي تسائلني فيما بينك وبين نفسك ، أو فيما بينك وبين غيرك ، وتقول : إذا كان الأمر كما بينت ، وكان سر التفريق بين الأجناس كما جلوت ، فلم ذكر التضحي وهو عري كما أثبت ، وقد أغنى عنه ذكر العري ؟ ولعلي أبلغ الغاية من إقناعك ومرضاتك ، أو لعلي أوفر عليك مؤنة السؤال أو التساؤل إذا قلت لك : في ذكر التضحي فائدة كبيرة وهي وصف الجنة بأنها لا شمس فيها ( لا يرون فيها شمساً ولا زمهريراً ) ، فإن التضحي عري مخصوص مشروط بالبروز للشمس وقت الضحى ، ولذلك سمي تضحياً ، وسميت الشمس ضحى لظهورها في ذلك الوقت ، والانتقال من الأعم إلى الأخص بلاغة ، لاختصاص الأخص بما لا يوجد في الأعم كما يقولون .

يتبع ...
 
[align=center]( 2 ) [/align]


... وفي القرآن الكريم آية أخرى تشبه هذه الآية في التوهيم كل المشابهة ، وهي قوله تعالى : ( مثل الفريقين كالأعمى والأصم ، والسميع والبصير ، هل يستويان مثلاً ؟ أفلا تذكرون ) ، خيل إلي أن هذه الآية قد أتت على غير طريق البلاغة ، فإن طريق البلاغة أن يقال : " كالأعمى والبصير ، والأصم والسميع " لتلتئم الألفاظ وتأتلف بمعانيها ، وليكون في كل جملة من الجملتين طباق لفظي . وأخيراً تبين لي أن مجيئها على النظم الذي توهمته وزينه لي الطباق المزدوج ؛ يفسد المعنى الذي جاءت الآية لتقريره . وبيان ذلك أن الله سبحانه وتعالى قال : ( مثل الفريقين ) فاقتضى ذكر الفريقين تفسيرهما ، فقال : ( كالأعمى والأصم ، والسميع البصير ) ليكون المشبه به قسمين ، والمشبه وفق عدد الفريقين ، أحد القسمين مبتلى والآخر معافى ، للتضاد بين القسمين حتى يصح السؤال عن التسوية بينهما مع تضادهما . ولو قيل " كالأعمى والبصير " لكانت هذه الجملة فريقين ، ثم يعود فيقول : " والأصم والسميع " فيكون في الجملة الأخرى فريقان آخران ، فيكون قد فسر الفريقين بأربعة ، وهذا فساد واضح ، فلذلك عدل الملاءمة في ظاهر الكلام إلى ما هو أهم منها ، وهو تصحيح المعنى المراد . ولقد أذكرتني هذه الآية والتي قبلها – والشيء بالشيء يذكر ، والحديث شجون – بقصة طريفة جرت بين سيف الدولة والمتنبي ، توهم فيها سيف الدولة عدم المناسبة بين أبيات ، فكشف له المتنبي عن المناسبة وأبان له سرها ، روى البكري أن المتنبي وقف ينشد سيف الدولة قصيدته التي مطلعها :
على قدر أهل العزم تأتي العزائم وتأتي على قدر الكرام المكارم
حتى وصل إلى قوله :
وقفت وما في الموت شك لواقف كأنك في جفن الردى وهو نائم
تمر بك الأبطال كلمى هزيمة ووجهك وضاح وثغرك باسم
فأنكر عليه سيف الدولة تطبيق عجز البيتين على صدريهما ، وقال له : ينبغي أن تطبق عجز الأول على الثاني ، وعجز الثاني على الأول . ثم قال له : وأنت في هذا مثل امرئ القيس في قوله :
كأني لم أركب جواداً للذة ولم أتبطن كاعباً ذات خلخال
ولم أسبأ الزق الروي ولم أقل لخيلي كرى كرة بعد إجفال

ووجه الكلام في البيتين على ما قاله أهل العلم بالشعر : أن يكون عجز الأول على الثاني والثاني على الأول ليستقيم الكلام ، فيكون ركوب الخيل مع الأمر للخيل بالكر ، وسبء الخمر مع تبطن الكاعب . فقال له المتنبي : أدام الله عز مولانا ، إن صح أن الذي استدرك على امرئ القيس أعلم منه بالشعر فقد أخطأ امرؤ القيس وأخطات أنا ، ومولانا يعرف أن البزاز لا يعرف الثوب مثل معرفة الحائك ، لأن البزاز يعرف جملته ، والحائك يعرف جملته وتفصيله ، لأنه أخرجه من الغزلية إلى الثوبية . وإنما قرن امرؤ القيس لذة النساء بلذة ركوب للصيد ، وقرن السماحة في شراء الخمر للأضياف بالشجاعة في منازلة الأعداء ، وأنا لما ذكرت الموت في أول البيت أتبعته بذكر الردى ليجانسه ، ولما كان وجه المنهزم لا يخلو من أن يكون عبوساً ، وعينه من أن تكون باكية قلت : ووجهك وضاح ؛ لأجمع بين الأضداد في المعنى . فأعجب سيف الدولة ووصله بخمسمائة دينار . قال أبو الفتح بن جني – فيما نقله الواحدي : وليس الملك والشجاعة في شيء من صناعة الشعر ، ولا يمكن أن يكون في ملاءمة العجز الصدر مثل هذين البيتين ، لأن قوله : كأنك في جفن الردى ، هو معنى قوله : وقفت ، فلا معدل لهذا العجز عن هذا الصدر ، لأن النائم إذا أطبق جفنه أحاط بما تحته ، فكأن الموت قد أظله من كل مكان كما يحدق الجفنة بما يتضمن من جميع جهاتها ، فهذا هو حقيقة الموت . وقوله : تمر بك الأبطال ، هو النهاية في التطابق للمكان الذي تكلم فيه الأبطال فتكلح وتعبس .وهذا كلام رائق معجب يدل على حصافة وتفطن ، وبصر بدقائق المعاني ومنازع الكلام .... يتبع
 
مقال رائع للعلامة الأديب اللغوي

يقول العلامة ابن عاشور ـ رحمه الله تعالى ـ في تفسيره :
وقد قُرن بين انتفاء الجوع واللباس في قوله { ألا تجوع فيها ولا تعرى ، وقرن بين انتفاء الظمأ وألم الجسم في قوله لا تظمأ فيها ولا تضحى } لمناسبة بين الجوع والعَرى ، في أن الجوع خلوّ باطن الجسم عما يقيه تألمه وذلك هو الطعام ، وأن العري خلوّ ظاهر الجسم عما يقيه تألمه وهو لفح الحر وقرص البرد؛ ولمناسبة بين الظمأ وبين حرارة الشمس في أن الأول ألم حرارة الباطن والثاني ألم حرارة الظاهر . فهذا اقتضى عدم اقتران ذكر الظمأ والجوع ، وعدم اقتران ذكر العري بألم الحر وإن كان مقتضى الظاهر جمع النظيرين في كليهما ، إذ جَمْعُ النظائر من أساليب البديع في نظم الكلام بحسب الظاهر لولا أن عرض هنا ما أوجب تفريق النظائر .
 
[align=center]جزاك الله خيراً على تعقيبك أخي أحمد [/align]

... جلوت لك في الحديث السابق بعض ما تهدى إليه عقلي ، واستطف لي بيانه من أسرار البلاغة في آيتين من آي الذكر الحكيم ، ولعلك عجبت منها العجب كله ، " وأي شيء أعجب من أن تتجاذبك معاني الوضع في ألفاظ القرآن ، فترى اللفظ قاراً في موضعه لأنه الأليق في النظم ، ثم لأنه مع ذلك الأوسع في المعنى ، ومع ذلك الأقوى في الدلالة ، ومع ذلك الأحكم في الإبانة ، ومع ذلك الأبدع في وجوه البلاغة ، ومع ذلك الأكثر مناسبة لمفردات الآية مما يتقدمه أو يترادف عليه " . وهذا من أظهر الفروق بين أنوع البلاغة في القرآن وبين هذه الأنواع في كلام البلغاء . فنظم القرآن يقتضي كل ما فيه منها اقتضاء طبيعياً بحيث يبنى هو عليها لأنها في أصل تركيبه ، ولا تبنى هي عليه ، فليست فيه استعارة ولا مجاز ولا كناية ، ولا شيء من مثل هذا يصح في الجواز أو فيما يسعه الإمكان أن يصلح غيره في موضعه إذا تبدلته منه ، فضلاً عن أن يفي به ، وفضلاً عن أن يربي عليه ، ولو أدرت اللغة كلها على هذا الموضع . فكأن البلاغة فيه إنما هي وجه من نظم حروفه ، بخلاف ما أنت واجد من كلام البلغاء ، فإن بلاغته إنما تصنع لموضعها ، وتبنى عليه ، فربما وفت وربما أخلفت ، وهي لو رفعت من نظم الكلام ثم نزل غيرها في مكانها لرأيت النظم نفسه غير مختلف ، بل لكان عسى أن يصح ويجود في مواضع كثيرة من كلامهم .
كم حارت العقول الواصفة في وصفه ، وكلت الألسنة البارعة عن نعته ، لأنه المطمع بظاهره في نفسه ، والممتنع في باطنه بنفسه ، ولأنه لا يشبه كلاماً تقدمه ولا يشبه كلاماً تأخر عنه ، ولا يتصل بما قبله ، ولا يتصل به ما بعده ، فهو الكلام القائم بنفسه ، البائن من جنسه ، العالي على كل كلام قرن إليه وقيس به . وإنه ليرى فيه عند الانفراد بتلاوته من غرائب الفصاحة ، وثواقب البلاغة ، ونوادر الكلم ، وينابيع الحكم ، ما يعجز الخواطر عن الكلام فيه ، والإيضاح عن عجائب ما فيه ، حقاً إنك " لتحار إذا تأملت تركيب القرآن ونظم كلماته في الوجوه المختلفة التي يتصرف فيها ، وتقعد بك العبارة إذا أنت حاولت أن تمضي في وصفه ، حتى لا ترى في اللغة كلها أدل على غرضك ، وأجمع لما في نفسك ، وأبين لهذه الحقيقة غير كلمة ( الإعجاز ) ".
" ثم ماذا يبلغ القول من صفة هذا التركيب العجيب وأنت ترى أن أعجب منه مجيئه على هذا الوجه الذي يستنفد كل ما في العقول البيانية من الفكر ، وكل ما في القوى من أسباب البحث ، كأنما ركب على مقادير العقول والقوى ، وآلات العلوم وأحوال العصر المغيبة".
" ولن تجد في وصفه كلاما ً أدق ولا أبرع ، ولا أخصر ولا أجمع مما وصفه به من أوتي الحكمة وجوامع الكلم ، الذي لم يسمع الناس بكلام قط أعم نفعاً ، ولا أصدق لفظاً ، ولا أعدل وزناً ، ولا أجمل مذهباً ، ولا أكرم مطلباً ، ولا أحسن موقعاً ، ولا أسهل مخرجاً ، ولا أفصح عن معناه ، ولا أبين في فحواه ، من كلامه صلى الله عليه وسلم كثيراً ، فهو الكلام الذي قل عدد حروفه ، وكثر عدد معانيه ، وجل عن الصنعة ونزه عن التكلف ، وهو الذي ألقى الله عليه المحبة ، وغشاه بالقبول ، وجمع له بين المهابة والحلاوة ، وبين حسن الإفهام وقلة عدد الكلام ، ولعل بعض من لم يتسع في العلم ، ولم يعرف مقادير الكلام ، يظن أنا تكلفنا له من الامتداح والتشريف ، ومن التزيين والتجويد ، ما ليس عنده ، ولا يبلغ قدره ، كلا والذي حرم التزيد على العلماء ، وقبح التكلف عند الحكماء ، وبهرج الكذابين عند الفقهاء !! لا يظن هذا إلا من ضل سعيه " .
لن تجد في وصف القرآن أحسن من وصفه صلى الله عليه وسلم : حدث الترمذي أن ابن أبي طالب رضي الله عنه سمع الرسول وهو يقول : ( أما إنها ستكون فتنة ) ، فقال له : فما المخرج منها يا رسول الله ؟ فقال عليه الصلاة والسلام : ( كتاب الله فيه نبأ ما قبلكم ، وخبر ما بعدكم ، وحكم ما بينكم ، وهو الفصل ليس بالهزل ، من تركه من جبار قصمه الله تعالى ، ومن ابتغى الهدى من غيره أضله الله تعالى ، وهو حبل الله المتين ، وهو الذكر الحكيم ، وهو الصراط المستقيم ، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء ، ولا تلبس به الألسنة ، ولا تشبع منه العلماء ، ولا يخلق على كثرة الرد ، ولا تنقضي عجائبه ، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمتعه حتى قالوا : ( إنا سمعنا قرآناً عجباً يهدي إلى الرشد فآمنا به ) ، من قال به صدق ، ومن عمل به أجر ، ومن حكم به عدل ، ومن دعي إليه هدي إلى صراط مستقيم ) .
أضف إلى هذا أنه كلما دار الزمان ، وتقدمت العلوم ، وتكشفت للإنسان أسرار الكون ، استبان للناس من عظمة القرآن ، واتضح لهم من وجوه إعجازه مالم يدر لهم ولا لآبائهم بخلد . فهذه أسرار طبية ، وهذه أسرار فلكية ، وتلك أسرار زراعية كشف عنها العلم الحديث ، وإلى الأخيرة نلفت النظر لطرافتها وغضارتها :
قال الله تعالى : ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابها وابل فآتت أكلها ضعفين فإن لم يصبها وابل فطل والله بما تعملون بصير ) .
لقد ساءلت نفسي وأنا أتدبر هذه الآية : لماذا كانت هذه الجنة بربوة ؟ ولماذا عبر الله عن سقياها بإصابة الوابل ؟ وهل لذلك من فائدة في كونها تؤتي أكلها ضعفين ؟
قال الخليل : الربوة : أرض مرتفعة طيبة ، وخص الله بالذكر التي لا يجري فيها ماء من حيث العرف في بلاد العرب ، فمثل لهم ما يحسونه ويدركونه ، وله رحمه الله :
ترفعت عن ندى الأعماق وانخفضت عن المعاطش واستغنت بسقياها
فمال بالخوخ والرمان أسفلها واعتم بالنخل والزيتون أعلاها
وقال ابن عباس : الربوة : المكان المرتفع الذي لا يجري فيه الأنهار ، لأن قوله : ( أصابها وابل ) يدل على أنها ليس فيها ماء جار . قال أبو حيان : وتفسير ابن عباس الربوة بالمكان المرتفع الذي لا يجري فيه ماء إنما يريد المذكورة هنا ، لقوله : أصابها وابل ، فدل على أنها ليس فيها ماء جار ، ولم يرد جنس الربوة لا يجري فيها ماء ، ألا ترى إلى قوله تعالى : ( ربوة ذات قرار ومعين ) ؟ وخصت بأن سقياه الوابل لا الماء الجاري فيها على عادة بلاد العرب بما يحسونه كثيراً ، وخص الربوة لحسن شجرها وزكاء ثمرها ".
فهل من الحق أن القرآن عبر بإصابة الوابل عن السقيا لأن هذه الربوة التي أشار إليها لا تجري فيها الأنهار كما روي عن ابن عباس ، أم جرياً على عادة بلاد العرب ، وتمثيلاً لهم بما يحسونه ويدركونه كما يقول غيره من المفسرين ؟.
عندي أن القرآن لم يرد ذلك ، ولم يذهب إليه ، وإنما ذهب إلى سر عظيم كشف عنه العلم الزراعي : فقد أثبت علماء النبات بعد تجارب أخطأها الحصر وما أخطأها الصواب ، أن الحدائق التي تنشأ في الأراضي المرتفعة تغل أحسن من الحدائق المنشأة في الأراضي الواطئة ، لأنها بعيدة عن الرشح الزائد ، والماء الراكد ، ولأن الهواء يتخلل بين طبقاتها في يسر وسهولة ، فيساعد على التأكسد وصلاح المواد الغذائية ، التي تمتصها الشعيرات الجذرية طيبة سائغة وتغذي بها الساق ، والأوراق والزهور ، فيزكو الزرع ويستغلظ ويستوي على سوقه يعجب الزراع ، ويؤتي أكله ضعفين بإذن الله .
ولقد أثبت هؤلاء العلماء أيضاً أن أحسن طريقة للسقي ، طريقة المطر الصناعي ، لأنه يزيل ما على الأشجار من أوضار ، فتتفتح مسام الأوراق ، وتسهل عليها التفتح والتنفس ، أو ( التمثيل الكلوروفلي ) .
ولأنه ينشر الماء على سطح الأرض بالتساوي ، فتأخذ منه كل بقعة حاجتها ، ولا تتعرض الأشجار والنباتات للأذى ، فهذا سر إيثار ( الربوة ) وسر ( إصابة الوابل ) كما بينه العلم الحديث ، وجاء بيانه مصداقاً لقوله تعالى : ( سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق ، أو لم يكف بربك أنه على كل شيء شهيد ) .

... يتبع
 
.... حدثتك في حديث مضى عن بعض الأسرار البلاغية في قوله تعالى : ( ومثل الذين ينفقون أموالهم ابتغاء مرضاة الله وتثبيتاً من أنفسهم كمثل جنة بربوة أصابه وابل فآتت أكلها ضعفين ) ، ولست أزعم أني أشرفت على الأمد ، وأوفيت على معجزة الأبد فيما أفضت القول فيه : " فإن هذا أمر ضيق كثير الالتواء لمن تلمس جوانبه ، واقتحم مصاعبه ، وما أشبه القرآن في تركيب إعجازه ، وإعجاز تركيبه ، بصورة كلامية عن نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة ، وتعاوروه من كل ناحية ، وأخلقوا جوانبه بحثاً وتفتيشاً ، ثم هو بعد لا يزال عندهم على كل ذلك خلقاً جديداً ، ومراماً بعيداً ، وإنما بلغوا منه إذ بلغوا نزراً تهيأت لضعفه أسبابه ، وقليلاً عرف لقلته حسابه ، وبقي وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار ، والابتغاء المعجز الذي انحط عنده قدر الإنسان ، لأنه مما سمت به الأقدار ".
وإنما الذي أستطيع أن أزعمه في غير ما خيلاء ولا تطاول ، أني استطعت بتوفيق الله أن أتوسم هذه الآية على ضوء العلم الحديث ، وأن ألقي على هذا التشبيه المعجب الذي احتوته ، بصيصاً من النور إخاله أضاء جوانبه ، وبَيَّن دقائقه ، وجعلها على أعين الناس لعلهم يشهدون أن هذا القرآن ( لا تنقضي عجائبه ) كما قال الصادق الأمين صلى الله عليه وسلم ، وأن الكلمة فيه ليست كما تكون في غيره : " بل وجه السمو فيها على الكلام أنها تحمل معنى ، وتومئ إلى معنى ، وتستتبع معنى ، وهذا ما ليس في طاقة البشر ، وهو الدليل على أنه ( كتاب أحكمت آياته ، ثم فصلت من لدن حكيم خبير ) .
لقد جاء هذا المثل العبقري متمماً للصورة البيانية الرائعة التي رسمها الله لمن أنفق ماله رئاء الناس ، وهو غير مؤمن : ( يا أيها الذين آمنوا لا تبطلوا صدقاتكم بالمن والأذى كالذي ينفق ماله رئاء الناس ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ، فمثله كمثل صفوان عليه تراب ، فأصابه وابل فتركه صلداً ، لا يقدرون على شيء مما كسبوا ) ، فإنه سبحانه لما ضرب مثل من أنفق ماله رئاء الناس وهو غير مؤمن ، ذكر ضده بتمثيل محسوس للذهن ، كي يتصور السامع تفاوت ما بين الضدين ، ويختار لنفسه أنسب الأمرين ، وأطيب المنزلتين ، وهذا من بديع أساليب فصاحة القرآن الكريم . ومن يقايس بين المثلين يجد أنه تعالى لما وصف صاحب النفقة بوصفين قابل ذلك هنا بوصفين ، فقوله ( ابتغاء مرضاة الله ) مقابل لقوله ( رئاء الناس ) ، وقوله ( تثبيتاً من أنفسهم ) مقابل لقوله ( ولا يؤمن بالله واليوم الآخر ) ، لأن المراد بالتثبيت توطين النفس على المحافظة عليه وترك ما يفسده ، ولا يكون إلا عن يقين بالآخرة . وهنا بدأ بالوصف الثابت وهو كونها بربوة ، ثم بالوصف المعارض وهو أصابها وابل ، وجاء في وصف صفوان قوله ( عليه تراب ) ثم عطف عليه بالتاء ، وهنا لم يعطف بل أخرج صفة ، على ما ذهب إليه ( أثير الدين ) ، ولو أمعن الناس النظر في هذه الصورة البيانية الرائعة ، وجعلوها نصب أعينهم ، وتفطنوا لأسرارها ، لحُبَِّبت إليهم البذل في ابتغاء مرضاة الله ، وكُرِّهت إليهم المن والأذى ، فَرَقاً من أن يبطل الله بذلهم ، ويأباه عليهم كما أباه على الكفار والمنافقين

.... يتبع
 
يقول الله عز وجل : ( إن الذين كفروا وماتوا وهم كفار فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ولو افتدى به ، أولئك لهم عذاب أليم ، وما لهم من ناصرين ) .
لقد توهمت في هذه الآية الأخيرة أنها أتت على غير وجهها البلاغي ، ولو جاءت عليه لقيل ( لو افتدى به ) بدون الواو ... فما سر هذا القلب ؟ وما معنى مجيء هذه الواو ؟ ذهب كثير من العلماء إلى أنها زائدة ، وأنا أرى في هذا الموطن رأي أبي العباس المبرد ، فإن له مذهباً سديداً في جملة الحروف التي يقولون عنها أنها مزيدة في القرآن ، وهو أنه ليس شيء من الحروف جاء في القرآن إلا لمعنى مفيد ، ولا يجوز أن يكون لقاً مطرحاً ، ولا خالياً من الفائدة صفراً ، وذلك أن الزيادات والنقائص في الكلام إنما يضطر إليها ويحمل عليه الشعر الذي هو مقيد بالأوزان والقوافي ، وينتهي إلى غايات ومرام ، فإذا نقصت أجزاء كلامه قبل لحاق القافية اضطر الشاعر إلى أن يزيد في الحروف فيمد المقصور ، ويقطع الموصول ، وما أشبه ذلك . وإذا زاد كلامه – وقد هجم على القافية فاستوقفته عن أن يتقدمها ، وأخذت بمخنقه دون تجاوزها – اضطر صاحبه إلى النقصان من الحروف ، فقصر الممدود ، ووصل المقطوع ، وما أشبه ذلك حتى يعتدل الميزان ، وتصح الأوزان ؛ فأما إذا كان الكلام محلول العقال ، مخلوع العذار ، ممكنا من الجري في مضماره ، غير محجور بينه وبين غاياته ، فإن شاء صاحبه أرسل عنانه فخرج جامحاً ، وإن شاء قدع لجامه فوقف جانحاً ، لا يحصره أمد دون أمد ، ولايقف به حد دون حد – فلا تكون الزيادات الواقعة فيه إلا عيا واستراحة ، ولغوباُ وإلاحة ، وهذه منزلة ترفع عنها كلام الله سبحانه ، الذي هو المتعذر المعوز ، والممتنع المعجز ، وكل كلام إنما هو مصل خلف سبقه ، وقاصر عن بلوغ أدنى غاياته ، بل قد يرتفع عن هذه المنزلة كلام الفصحاء المتقدمين ، والبلاغاء المحذقين ، فضلاً عما هو أعلى طبقات الكلام ، وأبعد مقدورات الأنام .
وإذا كان ذلك كذلك فما معنى هذه الواو ؟
ما كدت أوجه هذا السؤال إلى جائشتي حتى تذكرت – وللذكرى شجون – سؤالاً من هذا القبيل وجه إلى أبي العباس المبرد ، وقد قرأ قوله تعالى : ( هذا بلاغ للناس ولينذروا به ) سأله سائل فقال : قد علمنا أن هذه اللام لام كي فما معنى إدخال الواو عليها إن لم نقدرها مزيدة ؟ فقال له المبرد : ألست تعلم أن قوله تعالى ( هذا بلاغ ) مصدر ، وقوله ( ولينذروا به ) فعل موضوع في موضع المصدر ، لأن الأفعال تدل على مصادرها ؟ فالتقدير : هذا بلاغ للناس وإنذار ، فبطل أن تكون الواو جاءت لغير معنى .
وقد أحسن المبرد في هذا الجواب غاية الإحسان . فما أحسن جواب في واو الآية التي نحن بصددها ؟ قال الزمخشري : " فإن قلت : كيف موقع قوله ( ولو افتدى به ) ؟ قلت : هو كلام محمول على المعنى كأنه قيل : فلن يقبل من أحدهم فدية ولو افتدى بملء الأرض ذهباً " وهذا المعنى الذي ذكره لا يتسق ونظم الكلام ، والذي يقتضيه التركيب وينبغي أن يحمل عليه ، أن الله تعالى أخبر أن من احترم كافراً لا يقبل منه ما يملأ الأرض من ذهب ، على كل حال يقصدها ، ولو في حالة الافتداء به من العذاب . ومن المعروف في النحو : أن ( لو ) تأتي منبهة على أن ما قبلها جاء على سبيل الاستقصاء وما بعدها جاء تنصيصاً على الحالة التي يظن أنها لا تندرج فيما قبلها كقوله : ( أعطوا السائل ولو جاء على فرس ، وردوا السائل ولو بظلف محرق ) ، كأن هذه الأشياء مما كان لا ينبغي أن يؤتى بها ، لأن كون السائل على فرس يشعر بثرائه ، فلا يناسب أن يعطى ، وكذلك الظلف المحرق لا غنى فيه . فكان يناسب أن يقبل منه ملء الأرض ذهباً لكنه لا يقبل ، ونظيره قوله تعالى : ( وما أنت بمؤمن لنا ولو كنا صادقين ) ، لأنهم نفوا أن يصدقهم على كل حال حتى في حالة صدقهم ، وهي الحالة التي ينبغي أن يصدقوا فيها ، ولو هنا لتعميم النفي والتأكيد له ، فكأن الله سبحانه لما قال : ( فلن يقبل من أحدهم ملء الأرض ذهباً ) عمم وجوه القبول بالنفي ، ثم فصل سبحانه لزيادة الإيضاح والبيان ... ولو لم ترد هذه الواو لم يكن النفي عاماً لوجوه القبول ، وكان القبول كأنه مخصوص بوجوه الفدية دون غيرها من وجوه القربة ... وهكذا تتكشف لك دقائق الإعجاز في القرآن إذا أعملت الفكر ، وأرهفت الخاطر ، ويتبين لك جلياً أن " الحرف الواحد من القرآن معجز في موضعه لأنه يمسك الكلمة التي هو فيها ، ليمسك بها الآية والآيات الكثيرة ، ولأنه ما من حرف إلا ومعه رأي يسنح في البلاغة من جهة نظمه ، أو دلالته أو وجه اختياره بحيث يستحيل البتة أن يكون فيه موضع قلق ، أو حرف نافر ، أو جهة غير محكمة ، أو شيء مما تنفذ في نقده الصنعة الإنسانية من أي باب من أبواب الكلام إن وسعها منه باب ". وهذا هو السر في إعجاز عامته ، والدليل الناصع على أنه ( كتاب أحكمت آياته ثم فصلت من لدن حكيم خير ) ، ( خلق الإنسان علمه البيان ) .
 
جزى الله خيراً من كتب هذا المقال ومن نقله لنا ......... هذا مقالٌ ماتعٌ نافعٌ .......... نرجوا الاستمرار وعدم التوقف يا أخ موسى
 
ما شاء الله تبارك الله لا قوة إلا بالله

بارك الله فيك أخي الفاضل أحمد بن موسى على هذا المقال وأرجو أن تزيدنا من هذه النفحات القرآنية الرائعة وأن تدلنا على كاتب المقال أو مصدره للإفادة
 
عودة
أعلى