إلى العشاق والمُعجَبين: زَوَالُ العَرَض مِن آثَـارِ العشقِ وَالحَرَض.!

إنضم
20 يناير 2006
المشاركات
1,245
مستوى التفاعل
0
النقاط
36
الإقامة
المدينة المنورة
الحمد لله والصلاة والسلامُ على سيدنا وولينا وقُرَّة أعيننا محمدٍ رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين , وبعد:
فـ(الحرَضُ) علَّـةٌ تصيبُ فكرَ الإنسانِ , وعِبادَتَه , ووجهَهُ , وطموحَـهُ , وهمَّتَـهُ واهتمامَه , وبدنَهُ , بل وعقلَهُ , فتُفسِد بعضَ ذلكَ أو كُلَّـهُ , وهي من أثَر عشقِ الإنسانِ وهُيامه وتعلُّقهِ وإعجابهِ الشَّديد بغَيرهِ , ووردَ هذا اللَّفظُ في القُرآن صفةً لإحدى أصدقِ وأنقَى وأطهَر صُور الحُبِّ وهي حُبُّ الوالد لولَده الفاتك بهِ حُسَّادُه كما قال إخوةُ يوسفَ لأبيهم {تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضًا} أي لا تفتُر من ذكرك ومحبَّتك يوسُفَ حتى تنتهي بك إلى فساد بدَنكَ وعقلكَ.

ومحبَّةُ الإنسانِ غيرَهُ حاجةٌ بشريَّة لم ولن يزعُمَ إنسانٌ خُلوَّهُ منها وعُلوَّه عليها, وأيُّنا لم يقرأ أخبارَ المُحبينَ , أو تقرعْ أذنيهِ مآسي العاشقينَ , ومن ذا الذي لم يحبَّ يوماً من الدهر فيقاسي مرارة الوجدِ وحرارة الالتياع:


فلو نظروا بين الجوانح والحشا * رأوا من كتاب الحبّ في كُلِّنا سطرا

لأنَّ الحبَّ فطرةٌ في أنفس البشر وما النَّاسُ إلا محبٌّ ومحبوبٌ , ولولا الحبُّ لما صفا للنَّاس عيشٌ , ولولا الحبُّ لما تراحم الخَلائقُ , ولولا الحُبُّ لما فازَ من فازَ , ولولا الحُبُّ ما استُسيغت عواقبُ الصبر وعذُوبتُها , ولولا الحُبُّ ما تحمَّل المُحبُّـونَ غلظَةَ أكباد المحبوبينَ وعدَم مُبالاتِهم , كما قال قائلهم:

أتيتُكَ لما ضَاقَ صدْري منَ الهَوَى * و لو كُنتَ تدري كيفَ شوْقي أتيتَني


والحُبُّ والتعلُّقُ والإعجابُ لهُ حدَّانِ وطَرفَان:
أحدُهما: كثيراً ما يصلُ بالعبدِ إلى رضَـى الله , وينتهي به إلى الجنَّـةِ , فمن علمَ الله تعَالى صدقَ قلبهِ في حُب النبيِّـينَ والصَّدِّيقينَ والصَّحَابة والشُّهَداء والصَّالحينَ , فهذا التعلُّقُ من قلبهِ بأولئكَ المهديِّـينَ مؤذِنٌ بأن يُنزلَهُ الله منزلتَهم في الآخرةِ كما صحَّ بذلكَ الخَبرُ عن رَسول اللهِ صلى الله عليه وسلم عن أنَسٍ رضي الله عنه قال (جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صلى الله عليه وسلم فَقَالَ يَا رَسُولَ اللَّهِ مَتَى السَّاعَةُ قَالَ صلى الله عليه وسلم { وَمَا أَعْدَدْتَ لِلسَّاعَةِ } قَالَ (حُبَّ اللَّهِ وَرَسُولِهِ) قَالَ صلى الله عليه وسلم { فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ }.
قَالَ أَنَسٌ رضي الله عنه {فَمَا فَرِحْنَا بَعْدَ الإِسْلاَمِ فَرَحًا أَشَدَّ مِنْ قَوْلِ النَّبِىِّ صلى الله عليه وسلم فَإِنَّكَ مَعَ مَنْ أَحْبَبْتَ } ثمَّ تعبَّد أنسٌ رضي اللهُ عنهُ بالحُبِّ لله تعالى فقال ( فَأَنَا أُحِبُّ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَأَبَا بَكْرٍ وَعُمَرَ فَأَرْجُو أَنْ أَكُونَ مَعَهُمْ وَإِنْ لَمْ أَعْمَلْ بِأَعْمَالِهِمْ)

وهذا منهجٌ أسمَى في تعليم عُلُـوِّ الهمَّـة في الحُبِّ والتعلُّق والإعجابِ , ومن مجالاتِ ذلكَ حُبُّ القرآنِ والتعلُّق بتلاوةِ بعضِه أو كُلِّهِ كما ثبتَ صحيحاً عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في قصَّة الرَّجُل الذي أحبَّ سورةَ الإخلاصِ حُبًّا شديداً جعلَهُ لا يقرَأ بغيرها في كُلِّ صلاتهِ , وهذا التعلُّقُ لا يتصوَّرُ حقيقتَه إلا من كَان مأمُوماً , لأنَّ المأمومَ يفطِن في الصَّلاة لما لا يفطِن له الإمامُ من نفسِه , وأظُنُّ لو أنَّ إماماً صلَّى بقومه صلاتين يكرر فيهما نفسَ السُّورةِ لوجَد منهم ما يحجزهُ عن تكرار ذلك أبدَ الدَّهر , الحاصلُ:
أنَّ جماعةَ هذا الصَّحابيِّ الإمامِ عجِبُوا من اقتصارهِ على سورة الإخلاص بعد الفاتحة في كلِّ صلاتهِ فشَكوهُ إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فاستدعاهُ يقولُ {مَا يَحْمِلُكَ عَلَى لُزُومِ هَذِهِ السُّورَةِ فِي كُلِّ رَكْعَةٍ} فَقَالَ {إِنِّي أُحِبُّهَا} فَقَالَ صلى الله عليه وسلم {حُبُّكَ إِيَّاهَا أَدْخَلَكَ الْجَنَّةَ}.

ومِن الحُبِّ ما يكُونُ تعلُّقاً شديداً جداً يتكدَّرُ معهُ خاطرُ المرءِ ويتأثَّر به لونهُ وجسدُه إن ترقَّبَ محذُوراً يمنعهُ ممَّن يحبُّ ويهوى , وقد حصل ذلك لمولى رسول الله صلى الله عليه وسلم ثوبانَ رضي الله عنه كما صحَّ عنهُ أنَّهُ بلَغَ به التعلُّق برسولِ الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً جعلهُ قليلَ الصبر عن رؤيته وحديثهِ ومخالطتهِ , حتى دخَل عليهِ يوماً وَقد تغير وَجهُه وَنحل جِسْمُه وَعُرف الْحزن فِي وَجهه فَسَأَلَهُ رَسُول الله صلى الله عليه وسلم عَن حَاله فَقَالَ (يَا رَسُول الله مَا فِيَّ من وجع ؛ غير أَنِّي إِذا لم أرك اشْتقت إِلَيْك وَاسْتَوْحَشْت وَحْشَة شَدِيدَة حَتَّى أَلْقَاك , فَذكرت الْآخِرَة فَخفت أَلا أَرَاك هُنَاكَ , لِأَنِّي عرفت أَنَّك ترفع مَعَ النَّبِيين , وَإِذا دخلت الْجنَّة كنت فِي منزل دون مَنْزِلك , وَإِن لم أَدخل فَذَاك حِين لَا أَرَاك أبدا) فَنزلَ قولُ الله تعالَى (وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَأُولَئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَالصِّدِّيقِينَ وَالشُّهَدَاءِ وَالصَّالِحِينَ وَحَسُنَ أُولَئِكَ رَفِيقًا)
ومن سُنَّة نبينا صلى الله عليه وسلم في أحاسيسِ الحُبِّ الشَّرعيِّ إعلانُها وإشهارُها وتكرارُ الإخبارِ بها توكيداً لها كما فعل عليه الصلاة والسلام مع الأنصار يوم قال لهم كما صحَّ عنهُ {اللَّهُمَّ أَنْتُمْ مِنْ أَحَبِّ النَّاسِ إِلَيَّ} قالَها في طريقٍ لقي فيه صبيةً ونساءً من الأنصار وهو يُكرِّرُها ثَلاَثَ مِرَارٍ.
وكما قالَ في أسامةَ بن زيد رضي الله عنه يوم نيلَ منه ببعض القيل (وَإِنَّهُ أَحَبُّ النَّاسِ إِلَيَّ).
بل رُبَّما زادَ صلى الله عليه وسلم من جمَال وجلالةِ التَّعبير عن الحُبِّ فأخَذ بيَد محبُوبه وأقسمَ لهُ على الحبِّ وهو الصَّادقُ المقصودُ ولو لم يُقسِمْ صلى الله عليه وسلم, كما جاء صحيحاً عَنْ مُعَاذِ بْنِ جَبَلٍ رضي الله عنه أَنَّ رَسُولَ اللهِ صلى الله عليه وسلم أَخَذَ بِيَدِهِ يَوْمًا فَقَالَ (يَا مُعَاذُ ، وَاللَّهِ إِنِّي أُحِبُّك) ولا شكَّ أن إمساكَ اليَد والقسَمَ على الحُبِّ حينَ الإخبارِ بهِ لهُ أثَرٌ على المحبوبِ من كل أحدٍ , فكيف لو كانَ من رسول الله صلى الله عليه وسلم فلله أنت يا معاذُ رضي الله عنكَ من يُساميك ويُدانيكَ ويُحاذيكَ..؟

وثانيهِما: ما لا يصلُ بالعبدِ لرضَى الله ولا سخَطهِ إذا كان في المُبَاحَاتِ كحُبِّ القرابة والرِّياض والغُدران والأنهار والفَيَافي والزُّهور والشِّعر والتَّرجمةِ والخطِّ والصَّيد وغير ذلك مما لا نيَّة فيه لخير أو شرٍّ , وإنَّما يجري من العبد مجرى الطبيعة والميول الفطري.
وقد يكونُ الحُبُّ في هذا الطَّرفِ غيرَ موصلٍ لسَخَط الله تعالى أوَّل الأمر , ولكنَّـهُ يعرِّضُ في وسَطه أو مُنتهاهُ إلى سخَط الله تعالى , ووجوهُ ذلكَ أكثرُ من أن يستقصيَها المقالُ , ولعلَّ التمثيلَ ببعضِها يُغني عن الحصر , فحُبُّ الوالدَينِ الولدَ والولدَ الوالدَين , وحُبُّ المرأةِ زوجَها وحُبِّ الرَّجُل زوجتهُ طاعةٌ وعبادةٌ وقُربةٌ , لكنَّ استفحالَها إلى درجَة إعطائها أولويةً على مناهي الله وأوامره يجعلُ هذا الحُبَّ سخطاً من الله وإن لم يكن كذلك أوَّل الأمر.


وكذلكَ الأمرُ بالنِّسبة للعشقِ والتعلُّق بين الذَّكرَينِ والأنثيَيْـن إذا تخطَّى حدودَ الطبيعَة إلى الشُّذوذِ فهو هاويةٌ سحيقةٌ إلى جهنَّم , وإن كان في أوَّلهِ طبَعياً عاديًّا , لكنَّه متى استفحَل إلى ما لايُحمَدُ فجرَّ إلى الغيرَة على المحبوبِ واعتبَارهِ مجَالاً لاستنبَات ما لا يصلحُ لهُ من حاجاتِ البَشَر القائمة على اختلاف الجنسينِ فهُو حبٌّ هَارٍ بالمحبِّ في مكانٍ سحيقٍ.

ومما يجدُر الحديثُ عنهُ في أحاسيس الحُبِّ: اقتضاءُ فطرةِ الله التي فطَر النَّاسَ عليهَا ميَلان جنسِ الرِّجَال إلى النِّسَـاءِ عموماً , ولا يعظُم عن هذا الميَلان الفطريِّ القائمِ عالمٌ ولا إمامٌ ولا وليٌّ ولا نبيٌّ , وكذلكَ العكسُ فما من امراةٍ إلا تقتضي فطرتُها هذا الميَلانَ الطبَعيَّ إلى الرَّجُل , ومن أجل ذلكَ كانَ الحُبِّ في هذه الجُزئيَّة ذا مراحل مختلفةٍ , فمنهُ ما هو معفُوٌّ عنهُ كحُب أحدِهما الآخَرَ على وجهِ اقتضاءِ الجبلَّـة لأجل اكتمالِ حياته بهِ من غير إعمالِ وسيلةٍ غير مرضيَّـةٍ ولا شرعيَّةٍ , ومن مراحلِ هذه الجُزئيَّة مرحلةٌ يُغالبُ فيها المرءَ دواخلَهُ وعواطفَهُ لعدَم شرعيةِ غاياتِها , كحُبِّ المحَارمِ والمُحصَناتِ والكوافرِ , وهذا يحرُم السَّعي إليهِ وإنماؤُه, وقد تكونُ غاياتُه شرعيَّةً كحُب أجنبيٍّ لأجنبيَّةٍ عنهُ أو العكسُ لغايةٍ شرعيةٍ ممكنةٍ وهي الإفضاءُ إلى التزوُّجِ إن غلبَ على الظَّن إمكانُه, وهذا لا ينبَغي أن يُؤتَى من غير أبوابهِ , فليسَ من البرِّ إتيانهُ من الظُّهُور ولا التسوُّر إليه , ومتى غلبَ على الظنِّ استحالتهُ فتجبُ مدافعتُهُ بما يُستَطَاعُ, والعبدُ في حلٍّ من مغارمه ومآثمهِ ما لم يتكلَّم أو يكتُب أو يعمَلْ.
وإن يعجَب القارئُ الكريمُ فعجبٌ أن يُسيطرَ الحُبُّ على انفعَالات أقوامٍ وهُم لا يشعُرون , فيأتون في سبيل التعلق والإعجاب أموراً فيها انقلابٌ عللا الفطرة ومغالبَةٌ للجبلَّة أو حلقٌ للدِّيانة بالسَّبب أو المباشَرة وهم لا يشعُرون , ولهذا مظاهرُ كثيرةٌ قد تتباينُ في أشكالها لكن مقابحَها واحدةٌ , ومنها – تمثيلاً لا حصراً - :
• أن يبلُغ حبُّ الطالبِ لشَيخه وإعجابهُ وتعلُّقُه به مبلغاً يحملُه على محاكاته في المشية , وبُحَّـة الصوت , ورائحة الطيب , وطريقة قص الشَّارب , ولون السيَّارة , وغير ذلك من الأمور التي يُعتبر العمْدُ فيها إلى التقليد والمشابهةِ نوعاً من سلب الإرادة ورداءة الطموح , وقد رأيتُ من ذلك أعجبَه حين يكون شيخُ واحدِهم عالماً جليلاً مرضِياً ابتلاهُ الله بسوء الخط فيسعى التلميذ العاشق إلى إرغام نفسه على رداءة الخط حتى يكون كالشيخ , أو يكون الشيخُ ابتُلي ببلاء في صوته فيتمرَّسُ العاشقُ سنوات وسنواتٍ بغية الظفر بحشرَجة شيخه غير المقصودة , والناتجة عن المرض والإصابة , أو يكون مُحدَودبَ الظهر خِلقَةً وزادته سنونه الثمانون التي قضاها , فيحني مريدُه العاشقُ ظهرهُ ويتحادَبُ وما به من حدَبٍ , إنْ يُريدُ إلا المشابهة في الصورةِ..!!

• تركُ اللهجَة الأصيلة التي يتحدَّثُ بها المرءُ منذ أنطقهُ الله إلى ساعة إعجابه وتعلقه بمعشوقه شيخاً كان أو أستاذاً أو زميلاً أو داعيةً أو لاعباً أو.. أو .. أو .. الخ , فتراهُ يستبدِلُ لسانَه بلسَان المحبُوب وإن لم يكُن يسطيعُ محاكاتَهُ , ويُجاهِدُ في ذلكَ جهاداً لو بذَل بعضَه في تعلم لغة أخرى تنفعه في دنياهُ لما شُقَّ له في ذلك غُبارٌ.

• تغيير التخصُّص والميول إلى تخصص وميول المحبوب لا لشيءٍ إلا للظَّفَر بمُشابهَته في التخصص , وهذا أغربُ ما يكونُ من العمَـهِ في سَكرةِ الحَرَض , لأن الطبائع والمواهب ذاتُ شقَّين أحدُهما فطريٌّ والآخَر اكتسابيٌّ , ونادرٌ جداً أن تتشكَّل الموهبةُ أو الميول أو الرَّغبَة بأحد هذين دونَ الآخر , فإذا كان المعشوقُ المحبوبُ مفطوراً على حُب الإنشاد والحُداء ويملك لذلك قدرةً منحهُ الله إياها متمثلةً في صوته الجميل , وزاد هو موهبته ونمَّاها باكتسابه مكمِّلات الممارسَة فمن الخطإ أن يمزِّق العاشقُ حبالهُ الصوتيَّة الضعيفة , أو يخرق آذان السامعينَ الضعيفة , بتسوُّره جدار هذه الموهبة التي لا تصلح لهُ فطرةً ولا اكتساباً , ولا يكفي العشقُ (وحدهُ) لتأهيلك أن تكون نُسخةً أخرى من محبوبك , وقس على ذلك الشعرَ , والخطَابة , والرَّسم , والإصلاح الاجتماعيَّ , والوعظَ , والسَّفرَ , والتأليفَ , و.. و.. و.. الخ.

ولا يخفى أن هذه الأنماط الثلاثة المُستقبَحَة وإن لم تكن حرَاماً , إلا أنَّها ينبغي أن تَشغَل أذهان المُربَّين والمصلحين ولا ينبغي أن يُستَهان بها , فقد أفرزت بعضَ الجيل خاوي الطُّموح بارد الهمَّة فترى أوحد أمنيات بعض أفراده التقاطَ صورة تذكارية مع فُـلانٍ وعلاَّن وكونهُ منسقاً للداعية الفلاني , وعلى صلة هاتفية بالعلامة الفلاني , وأميناً على سر الشيخ الفلاني , وحضر لزواجه المشهور الفلاني , مما يوحي لمن يليه من النَّشإ البريء أن هذه المكاسبَ مشروعاتٌ حياتيةٌ حقيقة بإفناء العمر لتحصيلها , ولا ضير على حائزها أن يفاخر بها حيثُما حلَّ وارتحلَ , ويحسِبها العافية والمعافاة الدائمة , وموجبة الرحمة وعزيمة المغفرة , وهذه الخُطوات وما يصطفُّ معها مما يخطُر ببالك أيها القارئ الكريم: خُطُواتٌ إجباريةٌ في السَّير إلى الأنماط المحرَّمة من نقش اسم المحبوب وصورته ونحتها على الجسَد وما يلي ذلك من دَرَكات قد تُفضي للعبَادة إن لم تتداركِ العاشقَ نعمةٌ من ربِّـه.
ويكفي المرءَ إزراءًا بنفسه أن يكون من أهداف حياته: ذوَبانُ ذاته , وانصهارُ شخصه , واختفاء استقلاليته بتبعيَّة بعضِه أو كُلِّه لأحد غير رسولِ الله صلى الله عليه وسلم , ولهذا فإنه صلى الله عليه وسلم كان يُحيلُ النَّاس إلى مشابهته والاقتداء به عند علاج الاجتهادات الخاطئة كما فعل مع عثمان بن مظعون رضي الله عنه حين قصَّر في حق زوجه بمواصلة الصيام مع القيام فأحاله النبي صلى الله عليه وسلم إلى الأسوة المعصومة الكامنة في حياته ومنامه وصيامه وقيامه قائلاً {يَا عُثْمَانُ: إِنَّ الرَّهْبَانِيَّةَ لَمْ تُكْتَبْ عَلَيْنَا ، أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ! فَوَاللَّهِ إِنِّي لأَخْشَاكُمْ لِلَّهِ ، وَأَحْفَظُكُمْ لِحُدُودِهِ} , وكذلك عبيدةُ بن خلف حين جرَّ إزارهُ في المدينة فغمزه صلى الله عليه وسلم بِمخصَرةٍ معه ثم قال {أَمَا لَكَ فِيَّ أُسْوَةٌ‏.؟‏} قال عُبيد: (فَنَظَرْتُ فَإِذَا إِزَارُهُ إِلَى نِصْفِ سَاقَيْهِ).

ولو كان عند شبابنا وفتياتنا (المعجَبين – العُشَّاق – المتعلِّقينَ – المقلِّدينَ – الحرَضِ) اكتفاءٌ ذاتيٌّ في المتارك والمآخذ الشخصيَّـة والشَّرعية والاجتماعية والنَّفسيَّة لما سمَح الواحدُ منهم لنفسهِ بأن ينزل هذه المنزلةَ حتى يرهَن (نفسَه , وطُموحهُ , ومظهَره , ورائحتهُ , وصوته , وصورتَه , وتوقيعهُ , وشاربه , ولحيتهُ و.. و.. و.. الخ) لغيره ممن يُحب ويَعشَقُ ولو كانَ من كان , ومن أجل ذلك كان حديثُ القرآن عن الأسوة والقُدوة محصوراً في شخصيَّاتٍ عصمَها الله تعالى كشخصية رسول الله صلى الله عليه وسلم التي قال الله عنها في باب المشابهة والائتساء {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} وكشخصيَّة خليل الله إبراهيم عليه السلام وإخوته من أنبياء الله ورسله الذين قال الله عنهم {قَدْ كَانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْرَاهِيمَ وَالَّذِينَ مَعَهُ} أي: من الأنبياء , وقال {لَقَدْ كَانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ} أي: في الأنبياء , وقال حاضاً نبيه صلى الله عليه وسلم على الاقتداء بمن سبقه من رسل الله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُدَاهُمُ اقْتَدِهِ} , ومن تأمل هذا الأمر وجد علَّته حاضرةً في قول الله تعالى {أُولَئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ} فليس الأمر بالاقتداء بهم استحقاقاً ذاتياً من عند أنفسهم , بل لأنَّهم (مهديُّونَ إلى صراط الله المستقيم) على وجه الجَزم والتحقيق واليقين , فلا يصدر منهم ما يُنافيه قطعاً وما حصل من ذلك بيَّن الله لعباده أمره فلا يلتبسُ, ومن عداهم فهو مترددٌ فيما يأتي ويذرُ بين الضلالة والهُدى وإن تفاوتت النسبةُ بحسب الرُّتبة والحقبَة والشريعة حاكمةٌ عليه وعلى غيره وفاصلةٌ بينَهم , ولذلك كانت الاستماتةُ في مُشابهَته المجردة عن التعبُّد عيباً وشَيـْناً.

بقي أمرٌ مهمٌ لا يسعُ إغفالهُ وهو: أنَّ آفَةَ الحُـبِّ – غالباً - تكمُن في تمكُّـنه من القَلب من غير سعيِ العبدِ أو اختيارهِ , وعلى هذا النَّوع من المحبَّة حمَل بعضُ العُلماء تفسيرَ قولِ الله تعالى {رَبَّنا وَلا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِه} فقالوا هو: الحُبُّ أو العشقُ , ومن هُنا تبدأُ مرحَلةُ الابتِـلاء ليبلُوَ اللهُ المُحبِّـينَ أيُّهُم أحسَنُ عَمَلاً.!
وقد يَسعَى العبدُ إلى ذلك بنفسهِ حتَّى إذا وقعَ في (الحَرَض) ومقدِّماته , وعالجَ ألمَ نتائجهِ ومُعطَياتِه , استعظَم حالهُ فلم يَسْطِعْ عَليهِ صبراً , وفي حديث القرآن عن المحبَّـة أو العشقِ (غير المحمودِ) نجدُه صنواً للخَمر , يفعل في العقل ما يفعلهُ الخَمر من الحملِ على قول وفعل واعتقادِ ما لا ينبغي ولا يكُونُ , وذلك قوله تعالى {لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ} مع أنَّ الذي بهم ليسَ سُكراً ولم يشربوا خمراً , إنما كانت فتنتُهم في الصور والذَّوات التي ابتُلوا بعشقِها.
و(سَكرَةُ الحُبِّ) أو (الحَرَضُ) أو (العشقُ) أو (التعلُّقُ) أو (الإِعجَابُ) المُفضي إلى قولِ وفعلِ واعتقَادِ ما لا ينبَغي أو لا يجُوزُ ولا يحلُّ (هوَ في الفَتكِ أسرَعُ المُوبِقَاتِ) وهو من بلاء الله الذي تنبغي مدافعتُه حسب الطَّاقة والوُسع.
والإزراءُ بالعُشَّاق والمفتونين وذمهم والوقيعةُ فيهم ولمزُهم بما هم فيه ليس من الديانة والإصلاح والعلاج في شيء , فمن ملك لهم نصيحةً وعلاجاً وتوجيها فحقُّهم عليه بذلها , ومن عجَز فليحمد الله على العافية , ولذا فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم عايَن إحدى حالات العشق والهُيام التي بعثته على إخبار غيرهِ من الصَّحابة عن عجَبه من هذا الحال الغريب من العشق والتعلُّق كما في قصة بريرة ومغيث التي يقول عنها شاهدٌ عليها وهو ابن عباس رضي الله عنهما (كَانَ زَوْجُ بَرِيرَةَ عَبْدًا يُقَالُ لَهُ مُغِيثٌ كَأَنِّى أَنْظُرُ إِلَيْهِ يَطُوفُ خَلْفَهَا يَبْكِى وَدُمُوعُهُ تَسِيلُ عَلَى لِحْيَتِهِ) وهذا المُستَوى عزيزُ الوُجود بين الرجال , وإن وُجد فأعزُّ منه عدمُ الحرَج منه الماثل في الطَّواف خلف المحبوب توسُّلاً إليه واسترحَاماً , وهذا ما حصل لمغيث رضي الله عنه فقد حمله حبه لزوجته المفارِقة له على أن يبكي ويطوف خلفَها طمعاً في مراجعته حتى عجب رسولُ الله صلى الله عليه وسلم لفرلط هذا التعلق قائلاً لعمه العباس رضي الله عنه {أَلاَ تَعْجَبَ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا} , ثم زادت رحمتهُ صلى الله عليه وسلم وشفقته على مغيث لدرجة اضطر معها للشفاعة عند بريرة رضي الله عنها قائلاً صلى الله عليه وسلم {لَوْ رَاجَعْتِيهِ فَإِنَّهُ أَبُو وَلَدِكِ} فامتنعت من مراجعته رضي الله عنها لما عرفت أنه صلى الله عليه وسلم شافعٌ لا آمرٌ , ورسول الله صلى الله عليه وسلم وصحابتُه لم يلوموا مغيثا أو يعيبوهُ أو يُزروا بهِ - وإن عجبوا من فرط عشقه وتعلقه – والواجب على من بعدَهم أن يلزَم طريقهم في العلاج فيقول خيراً أو يصمُت.
ولا يجدُ الواقعُ في (الحَرَض) علاجاً أنجعَ من تصحيح المَسَار , لأن المرءَ لا بُدَّ له أن يُحبَّ , وإنما المشكلة في (المحبوب) فمن جعل محبَّته مصروفةً إلى الله ورسوله والوالدَين ومراضيهم , وألزَم نفسَه ذلك فلن يجد التعلق – المفرط المذموم - بغيرهم إلى نفسه سبيلاً , ألا ترى الله تعالى يقول {وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْدَادًا يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آَمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ} وهذه الآية فيها من عجائب الهداية ما يحيرُ الألباب , فليس في الوجود أحدٌ تُشرَع محبَّتُه لذاته من كلِّ وجهٍ إلا للهُ تعالى , وكل المحابِّ بعد الله تعالى إنما هي لأجله سبحانه لا لذواتِها , ولذلك لما أراد تبيين شدَّة تعلق أولئك بالأنداد قال (يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ) لأن حبه أقصى غاية الحبِّ.
ولذا فإنَّ الله تعالى لمَّا ذكَر شدَّة تعلُّق امرأة العزيز بنبي الله يوسُف بيَّن انصراف يوسفَ عليه السَّلام عن مبادلة العشق بالعشق وقال {كَذَلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السّوءَ وَالْفَحْشَاءَ} ثم بيَّن لكل من سمع بأمر امرأة العزيز ويوسفَ طريقة اكتسَاب هذا الصَّرف الربَّاني للعباد عن كل فاحشة وسوءٍ يجُرُّ إليها العشق فقال معلِّلاً {إِنّهُ مِنْ عِبَادِنَا الْمُخْلِصِينَ} بكسر اللام كما في القراءةِ الأخرى المتواترة فإخلاصُ يوسفَ لله كان حجاباً حاجزاً له عن الاغترار بعشق امراة العزيز وهُيامها , والإخلاصُ هنا عامٌ يشمل إخلاص الحُب والغاية والفعل والقول والاعتقاد.


وعشق المرأة للرجل أو العكس , له في التداوي أسباب غير ذلك منها النكاحُ والتزوُّجُ متى ما أمكنَ لقوله صلى الله عليه وسلم الصحيح {لَمْ يُرَ لِلْمُتَحَابِّينَ مِثْلُ النِّكَاحِ} وهذا في حالة أن المُتحابَّين لا يمنعُهما مانعٌ من التزوج , فليس أحدُهما بمحرم للآخر , وليست المرأة ذات زوج , وليس الرجل ذا أربع نسوة , ولا يغلب على ظن أحدِهما استحالة النكاح لأعراف قوم الآخر وعاداته وعدم التكافؤ بينهما.


أما إذا استحال النكاح لاختلاف الدين أو إحصان المرأة أو قيام المحرميَّة أو قيام مانع عرفي واجتماعي بأحدهما فلا سبيل للدَّواء أنفعُ من إنزال المعشوق منزلة الميت الذي لا سبيل إلى الاتصال به على كل حال , وهذا يكون بتناسيه والإعراض عنه وصرف القلب عن التفكر فيه والمجاهدة في ذلك , ومن وسائل الإعراض في حياتنا ترك المنتديات والقنوات التي يغشاها ويتواجد فيها , وعدم القراءة لهُ , والاستعاضة عنه بغيره , وإقناع النفس بذلك فلا شيئ غير الوحيين في الدنيا إلا ويغني عنه غيرهُ , وهذا التناسي واليأسُ داخلٌ في جملة الاستعفاف التي أحال الله إليها عند عدم النكاح والقدرة عليه بقوله {وَلْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكَاحاً} يقول ابن القيم رحمه الله تقريرا لذلك (فَمِنْ عِلَاجِهِ إشْعَارُ نَفْسِهِ الْيَأْسَ مِنْهُ فَإِنّ النّفْسَ مَتَى يَئِسَتْ مِنْ الشّيْءِ اسْتَرَاحَتْ مِنْهُ وَلَمْ تَلْتَفِتْ إلَيْهِ).
فإن لم يُجْدِ ذلك اليأسُ شيئاً فللمحب أن يقسو على نفسه وأن يقسو عليه أقربوه طلباً لمعافاته فيجعلوا استمرار التعلق ع استحالة الوصول للمحبوب جُنوناً منهُ , والعاقل لا يرتضي وصف الجنون , قال ابن القيم رحمه الله (فَإِنْ لَمْ يَزَلْ مَرَضُ الْعِشْقِ مَعَ الْيَأْسِ فَقَدْ انْحَرَفَ الطّبْعُ انْحِرَافًا شَدِيدًا فَيَنْتَقِلُ إلَى عِلَاجٍ آخَرَ وَهُوَ عِلَاجُ عَقْلِهِ بِأَنْ يُعْلَمَ بِأَنّ تَعَلّقَ الْقَلْبِ بِمَا لَا مَطْمَعَ فِي حُصُولِهِ نَوْعٌ مِنْ الْجُنُونِ وَصَاحِبُهُ بِمَنْزِلَةِ مَنْ يَعْشَقُ الشّمْسَ وَرُوحُهُ مُتَعَلّقَةٌ بِالصّعُودِ إلَيْهَا وَالدّوَرَانِ مَعَهَا فِي فَلَكِهَا وَهَذَا مَعْدُودٌ عِنْدَ جَمِيعِ الْعُقَلَاءِ فِي زُمْرَةِ الْمَجَانِينِ) , وليُرجع لكلامه رحمه الله في زاد المعاد فقد ساق فيه أنفع علاجات العشق وختمَها بجُملة تكتب بماء العيون , وهي قوله (فَإِنْ عَجَزَتْ عَنْهُ هَذِهِ الْأَدْوِيَةُ كُلّهَا لَمْ يَبْقَ لَهُ إلّا صِدْقُ اللّجَأِ إلَى مَنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرّ إذَا دَعَاهُ وَلْيَطْرَحْ نَفْسَهُ بَيْنَ يَدَيْهِ عَلَى بَابِهِ مُسْتَغِيثًا بِهِ مُتَضَرّعًا مُتَذَلّلًا مُسْتَكِينًا فَمَتَى وُفّقَ لِذَلِكَ فَقَدْ قَرَعَ بَابَ التّوْفِيقِ فَلِيَعِفّ وَلْيَكْتُمْ وَلَا يُشَبّبْ بِذِكْرِ الْمَحْبُوبِ وَلَا يَفْضَحْهُ بَيْنَ النّاسِ وَيُعَرّضْهُ لِلْأَذَى فَإِنّهُ يَكُونُ ظَالِمًا مُعْتَدِيًا) وليُراوح المُبتَـلى ويداوم النَّظَر والفكرة في أمرين مهمَّين: قبحُ المعصيةِ و فضيلةُ العفاف فمن أدمن فيهما النَّظر وقاهُ الله تعالى الخطَر ودفعَ عنه الضَّرر , وصلى الله تعالى وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه.
 
جزاك الله خيراً أخي الفاضل على هذا الموضوع الذي وددت أن أضعه في متناول كل شاب من شبابنا، فقد زويت في موضوعك كل طرف، وقربت فيه كل بعيد، وكلمة على هامش الموضوع استوقفتني قصة مغيث وبريرة وما أرى من عجب الرسول عليه الصلاة والسلام منها إلا لأنها تحمل تفسيراً أعمق من قضية التفسير العاطفي فمغيث طاف في شوارع المدينة لأنه يحمل نفسية عبد لا يعرف معنى الحرية، وبريرة رفضت شفاعة نبيها فيها لأنها تحمل نفسية حرة دفعتها لمكاتبة نفسها ودفعتها لرفض من يحمل بين جنباته العبودية .ولعل قصة امرأة العزيز تحمل بعداً أعلى من التعلق العاطفي مثل حب الاستحواذ والتملك ذك المرض الذي يصاب به أبناء الطبقة المخملية فيخيل إليهم أن المشاعر مما يستطيع الإنسان امتلاكه، ويمكن أن يكون الكثير مما نسميه حباً هو خبيئة عقل الإنسان الواعي واللاواعي ولا متعلق له بالطرف الآخر.
 
[poem=]لا تُخْفِ ما صنعتْ بك الأشواقُ= واشرحْ هواكَ فكلُّنا عُشَّاقُ
فلقد يُعينُكَ مَنْ شكوتَ له الهوى =في حَملهِ ، فالعاشقونَ رِفاقُ[/poem]
بارك الله فيك يا أبا زيد على هذا المقال الطيب ، ولعلك اتخذت من آية سورة يوسف مدخلا لربطه بالقرآن الكريم ، وقد قرأتُ الموضوعَ وأوافقك على ما ذكرته ، وأسأل الله سبحانه أن يصرف عنا وعن المسلمين السوء والفحشاء ، وأن يجعلنا من عباده المخلصين .
 
هذه مقالة حقها أن تكتب بمداد نفيس, فهي من أجمل ما قرأت في هذا الباب, وإني لأرجو أن يطلع عليها ويستفيد منها أكبر عدد من القراء, بمختلف شرائح المجتمع, صغيرهم وكبيرهم, ذكرهم وأنثاهم.
فالعشق والإعجاب زائر متسكع متنكر, يحوم حول القلوب ليتصيّدها, فإن شُرّعتْ له الأبواب استوطن القلب فأفسده, وإن أُوصدت دونه الأبواب تحايل حتى أتى متسلقا الأسوار.
..لا يفرق بين شباب وشيب, ولا بين صالحين وفاسدين.
هو مرض يكوي الأجساد من غير ما مرض, ويشغل الأذهان في غير ما شغل.
وهو ابتلاء وجبت الاستعاذة منه, وعدم الاستخفاف به ولا بأهله, فما استخفَّ به مستخفٌّ إلا والظن أن يُبتلى به فيذوق الأمرين. فيرى نجوم الليل في وضح النهار. (نسأل الله أن يعذنا وأزواجنا وذرارينا والمسلمين والمسلمات منه).
ولا يُبتلى به عاقل إلا ويلزمه مدافعته ومحاربته قدر طاقته, فالاستسلام له ذل, والسكوت عنه انتحار.
وإنه والله لعدو مستبسل يجيد النزال, ولا ينفع في مجابهته استدعاء المقاتلين من الرجال.
العاشق فيه هو المحارِب وحده, والعشق فيه جيش مصفوف, له قلب بين ميمنة وميسرة, وخلف القلب هناك شيطان يستبسل في إدارة هذه المعركة. وعلى من أراد أن يتخلص من هذا الابتلاء أن ينازل شيطان الهوى في تلك المعركة وحده, ولا معين له إلا من الله وحده. فهو سبحانه خير معين وخير مستعان.
ولقد أحببت أن أضيف إلى هذا الموضوع القيم فائدة صغيرة استقيتها من تجارب لي ولآخرين حولي وأرجو أن ينفع الله بها. وهي:
من الواقع: يندر أن يكون هناك عاشق يكتوي بالعشق أو الإعجاب المحرم دون أن يُعلِم بعشقه الطرف الآخر, سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر, إلا إن كان في هذا المبتلى بقية من عقل تردعه, أو قوة من دين تحكمه.
والغالب أن المعشوق إن علم فإنه يغض الطرف, ويظهر التشاغل, وينشد الهروب الآمن. وهو دائما ما يلقي باللائمة على ذاك المفتون وحده, وربما دون أن يدري تداخله سعادة وشعور بإرضاء الذات في كونه يمثل شيئا عظيما تلاحقه الأعين المعجبة لتسجل جميع حركاته وسكناته. ولربما يصل في أنانيته إلى حد الإجرام, وذلك حين يكتفي بانتظار عودة العاشق إلى رشده دون معاونة منه.
والمعاونة التي أقصد ليست على شكل نصيحة لطيفة, أو حوارات عقلية هادئة... قد تأجج النيران, وتزيد الطين بلة!. وإنما هي لطمة قوية مدوية, مباشرة أو غير مباشرة, تعقبها أخرى فأخرى حتى يعود ذلك العاشق إلى رشده, حتى وإن اقتضى ذلك تشويه المعشوق لصورة نفسه تشويها بشعا في عين عاشقه. وكم من العقلاء الصالحين المتقين من فعل ذلك.ومن يفعله...
لكن المشكلة تكمن في أن المعشوق وإن كان يريد الشفاء للعاشق فهو بأنانيته يريده شفاء آمنا, تبقى صورته فيه جميلة في عين عاشقه إلى يوم الدين!.
والحق أنه يصعب أن يستبدل العاشق أو المعجب مشاعره المتأججة دفعة واحدة بمشاعر ود متعقلة وطبيعية, وإنما الطبيعي أن يعقب العشق الشديد كره شديد, ولا يمنع مع الوقت أن يزول الكره فيحل محله تدريجيا محبة طبيعية متعقلة وحذرة في نفس الوقت, فلربما تقبع تحت الرماد شعلة حارقة متأهبة لتشعل حريقا في أي عود خشب يعبث هنا أو هناك.
ومن واقعنا نحن كمعلمات فإننا نعاني من آفة الإعجاب والتعلق الشديد بنا من بعض الطالبات. ونشاهد للأسف كيف يستشري الإعجاب بين الطالبات بعضهن ببعض. وإني والله كما ألوم الطالبة ألوم المعلمة التي تعلم علما يقينا أن فلانة تعجب بها إعجابا حادا زائدا عن حده, حتى بات مفضوحا لكل أحد, وقد وصل مع الطالبة حدا يفسد عليها حياتها في حاضرها ومستقبلها, ثم تدير المعلمة لها ظهرها وتبدي الغفلة, وترتدي ثوب البراءة! وتؤثر السلامة! ولو أنها رأت في تلك الطالبة المعجبة بها صورة أختها أو ابنتها لما تركتها تغرق في مستنقع كريه كهذا.
وكذلك ألوم المعلم الصالح والشيخ التقي وكل من يُبتلى بإعجاب أحد به إعجابا يراه الجميع في اختلاسات نظره وفي طول تأمله وفي تقليده في كل صغيرة وكبيرة من حركاته وسكناته.
ولستُ هنا بصدد ذكر صور لاجتثاث العشق من قلب العاشق بصدمة عنيفة, لأن أشكال الصدمات تتنوع, ومناسبتها لكل أحد تختلف باختلاف خطورتها وباختلاف درجتها, لكنني سأكتفي بذكر صورة رائعة أعدها أصلا ورمزا استحضرها وأستشهد بها على ما ذكرتُ.
ألا وهي القصة المشتهرة التي تُحكى عن ابن سيرين. ونصها:
(كان ابن سيرين بزازاً (بائع أقمشة)، ومرّ يوماً في زقاق فسألته امرأة: ماذا لديك من بضاعة؟ قال: أبيع الأقمشة. فقالت له: ادخل المنزل حتى اختار القماش الذي أريد، فلما دخل أغلقت المرأة الباب وقالت: يجب أن تلبي طلبي. وكان ابن سيرين شابا نجيباً ولم يرتكب رذيلة أبداً وكان يقول: كنت أغض بصري إذا رأيت في المنام امرأة أجنبية (غير محرمة). ولمّا أصرت تلك المرأة على ابن سيرين ليفعل ما تريد، قال لها: حسناً دعيني أذهب إلى المستراح (الخلاء) كي أتهيأ وأعود، فذهب ولطخ نفسه بالنجاسة، ثم رجع إليها فاشمأزت منه وأخرجته، وهكذا تخلص من المعصية).
صحيح أن القصة لم تنسب العشق لتلك المرأة, ولم تصرح سوى بإعجابها الحد الذي معه خططت للوقوع في الزنا, لكن القصة في نفس الوقت تصلح لأن يستدل بها في باب الحب الشديد والعشق المحرم. وما الإعجاب إلا طريقا له ما لم يستدرك ويضبط بضوابطه. وقد استدعى إطفاء هذا الإعجاب إلصاق هذا الشاب التقي مساوئ غير حقيقية لنفسه لتبشيع صورته في عين تلك المعجبة... وقد نجح, فنجا ونجت.
وهذا الذي أقصد... ففي بعض الحالات الشديدة الصعوبة على المعشوق إذا كان في قلبه شيء من الرأفة والرحمة بعاشقه المغرم الذي تجاوز كل حد = أن يعري له مساوئه الحقيقية, أو حتى مساوئ يدعيها على نفسه بقدْرٍ ينجي فيه صاحبه من الزلل في مستنقع العشق, الذي لا يخلو من التقصير في حب الله, والتقصير في عبادته, بل ويصل والعياذ إلى حد الشرك في عبادة الله, وتعظيم من سواه تعظيما لا يليق ولا يصرف إلا لله.
أخيرا... أسأل الله أن يجزيك خيرا وأن ينفع بقلمك وفكرك...
 
جزاك الله خيراً أخي الفاضل على هذا الموضوع الذي وددت أن أضعه في متناول كل شاب من شبابنا، فقد زويت في موضوعك كل طرف، وقربت فيه كل بعيد
شكر الله لكم وجزاكم خيراً.

وكلمة على هامش الموضوع استوقفتني قصة مغيث وبريرة وما أرى من عجب الرسول عليه الصلاة والسلام منها إلا لأنها تحمل تفسيراً أعمق من قضية التفسير العاطفي فمغيث طاف في شوارع المدينة لأنه يحمل نفسية عبد لا يعرف معنى الحرية، وبريرة رفضت شفاعة نبيها فيها لأنها تحمل نفسية حرة دفعتها لمكاتبة نفسها ودفعتها لرفض من يحمل بين جنباته العبودية .
لكن: يبدو لي يا أختاه أنَّ نصَّ الحَديث لا يُعينُ على ما تريدينَ حمل تعجُّبه صلى الله عليه وسلم عليه , وذلك لأنه قال لعمه العبَّاس رضي الله عنه { أَلا تَعْجَبُ مِنْ حُبِّ مُغِيثٍ بَرِيرَةَ، وَمِنْ بُغْضِ بَرِيرَةَ مُغِيثًا } فالعَجَبُ النَّبَويُّ لا صلة له بالعُبوديَّة والحُريَّـة , خصوصاً إذا علمنـا الخلافَ العريضَ القائمَ بين أئمَّـة السَّلف في توقيت عتق مغيث وبريرةَ رضي الله عنهما , وهل تزوجَـها وهو عبدٌ أم حرٌّ.؟ فمنهم من يقول إن عتقهُ كان سابقاً لعتقها رضي الله عنهما , ولكنها كرهت منهُ بعضَ ما تكرهُ الزوجةُ من زوجها في العادة كما حصل في قصة غير واحد من الصحابة الأكرمين رضي الله عنهم.
وعلة طوافه واسترحامه رضي الله عنه لبريرة رضي الله عنها عائدٌ إلى أن الأَمَـةَ إذا عتُقت وهي تحتَ زوج فلها الخيار في استدامة النكـاح أو فسخه بمجرد ثبوت الحرية لها , حتى ولو كانت تحت عمر بن الخطاب رضي الله عنه فضلاً عمن دونه , وعلى ذلك مشى القائلون بسبق إعتاق مغيث لإعتاق بريرة رضي الله عنهما.
وأحب أن أنبه إلى أن عبارة (لأنه يحمل نفسية عبد لا يعرف معنى الحرية، وبريرة رفضت شفاعة نبيها فيها لأنها تحمل نفسية حرة دفعتها لمكاتبة نفسها ودفعتها لرفض من يحمل بين جنباته العبودية) فيها من التجوُّز ما لا يليق بمقام الصحبة وعظيم الرتبة التي أنزل الله مغيثاً رضي الله عنه إيَّـاها , خصوصاً عند استشعار أن العبيد في العهد النبوي - غالباً - كانوا يحظون بمعاملة يتشوَّف لها كثيرٌ من أحرار اليوم , فلا معنى لأن يجد واحدُهم حسَّ الاضطهـاد الذي لا يتحرَّز معه من إظهار الحب واسترحام المحبوب والبكاء عليه.

وأشكر لكِ مرةً أخرى طيب المرور وحُسن التعليق.
 
[poem=]لا تُخْفِ ما صنعتْ بك الأشواقُ= واشرحْ هواكَ فكلُّنا عُشَّاقُ
فلقد يُعينُكَ مَنْ شكوتَ له الهوى =في حَملهِ ، فالعاشقونَ رِفاقُ[/poem]
بارك الله فيك يا أبا زيد على هذا المقال الطيب ، ولعلك اتخذت من آية سورة يوسف مدخلا لربطه بالقرآن الكريم ، وقد قرأتُ الموضوعَ وأوافقك على ما ذكرته ، وأسأل الله سبحانه أن يصرف عنا وعن المسلمين السوء والفحشاء ، وأن يجعلنا من عباده المخلصين .
آمينَ آمينَ , وأجاب الله دعاءك.

[poem=]
إنْ أُخـفِ ما صنَعَـت بي الأشْـوَاقُ = رَصَـدتْ محَـاسرَ لوعَتي العُشَّاقُ
وتَقَـاسَـموا يا صَـاحِ أحمَـالَ الذي = في مُهجَتي فالعَـاشقُـونَ رِفَـاقُ
لا تحْسَبِ العُشَّـاقَ عَـوناً في الهَـوَى = أبداً , فكَم شَاقُوا المَنُونَ وسَاقُـوا
هَـا سَوفَ أشكٌوا من هَـوَايَ أمَـرَّهُ = وهُـو الذي ما كَـانَ قبلُ يُطَـاقُ
لي في المَدِينَـة والعَقيقِ وفي الحِـمَى = من أرضِ طَيبَـةَ مَــوثِـقًٌ ووِثَــاقُ
[/poem]
 
هذه مقالة حقها أن تكتب بمداد نفيس, فهي من أجمل ما قرأت في هذا الباب, وإني لأرجو أن يطلع عليها ويستفيد منها أكبر عدد من القراء, بمختلف شرائح المجتمع, صغيرهم وكبيرهم, ذكرهم وأنثاهم.
فالعشق والإعجاب زائر متسكع متنكر, يحوم حول القلوب ليتصيّدها, فإن شُرّعتْ له الأبواب استوطن القلب فأفسده, وإن أُوصدت دونه الأبواب تحايل حتى أتى متسلقا الأسوار.
..لا يفرق بين شباب وشيب, ولا بين صالحين وفاسدين.
هو مرض يكوي الأجساد من غير ما مرض, ويشغل الأذهان في غير ما شغل.
وهو ابتلاء وجبت الاستعاذة منه, وعدم الاستخفاف به ولا بأهله, فما استخفَّ به مستخفٌّ إلا والظن أن يُبتلى به فيذوق الأمرين. فيرى نجوم الليل في وضح النهار. (نسأل الله أن يعذنا وأزواجنا وذرارينا والمسلمين والمسلمات منه).
ولا يُبتلى به عاقل إلا ويلزمه مدافعته ومحاربته قدر طاقته, فالاستسلام له ذل, والسكوت عنه انتحار.
وإنه والله لعدو مستبسل يجيد النزال, ولا ينفع في مجابهته استدعاء المقاتلين من الرجال.
العاشق فيه هو المحارِب وحده, والعشق فيه جيش مصفوف, له قلب بين ميمنة وميسرة, وخلف القلب هناك شيطان يستبسل في إدارة هذه المعركة. وعلى من أراد أن يتخلص من هذا الابتلاء أن ينازل شيطان الهوى في تلك المعركة وحده, ولا معين له إلا من الله وحده. فهو سبحانه خير معين وخير مستعان.
ولقد أحببت أن أضيف إلى هذا الموضوع القيم فائدة صغيرة استقيتها من تجارب لي ولآخرين حولي وأرجو أن ينفع الله بها. وهي:
من الواقع: يندر أن يكون هناك عاشق يكتوي بالعشق أو الإعجاب المحرم دون أن يُعلِم بعشقه الطرف الآخر, سواء أكان ذلك بشكل مباشر أو غير مباشر, إلا إن كان في هذا المبتلى بقية من عقل تردعه, أو قوة من دين تحكمه.
والغالب أن المعشوق إن علم فإنه يغض الطرف, ويظهر التشاغل, وينشد الهروب الآمن. وهو دائما ما يلقي باللائمة على ذاك المفتون وحده, وربما دون أن يدري تداخله سعادة وشعور بإرضاء الذات في كونه يمثل شيئا عظيما تلاحقه الأعين المعجبة لتسجل جميع حركاته وسكناته. ولربما يصل في أنانيته إلى حد الإجرام, وذلك حين يكتفي بانتظار عودة العاشق إلى رشده دون معاونة منه.
والمعاونة التي أقصد ليست على شكل نصيحة لطيفة, أو حوارات عقلية هادئة... قد تأجج النيران, وتزيد الطين بلة!. وإنما هي لطمة قوية مدوية, مباشرة أو غير مباشرة, تعقبها أخرى فأخرى حتى يعود ذلك العاشق إلى رشده, حتى وإن اقتضى ذلك تشويه المعشوق لصورة نفسه تشويها بشعا في عين عاشقه. وكم من العقلاء الصالحين المتقين من فعل ذلك.ومن يفعله...
لكن المشكلة تكمن في أن المعشوق وإن كان يريد الشفاء للعاشق فهو بأنانيته يريده شفاء آمنا, تبقى صورته فيه جميلة في عين عاشقه إلى يوم الدين!.
والحق أنه يصعب أن يستبدل العاشق أو المعجب مشاعره المتأججة دفعة واحدة بمشاعر ود متعقلة وطبيعية, وإنما الطبيعي أن يعقب العشق الشديد كره شديد, ولا يمنع مع الوقت أن يزول الكره فيحل محله تدريجيا محبة طبيعية متعقلة وحذرة في نفس الوقت, فلربما تقبع تحت الرماد شعلة حارقة متأهبة لتشعل حريقا في أي عود خشب يعبث هنا أو هناك.
ومن واقعنا نحن كمعلمات فإننا نعاني من آفة الإعجاب والتعلق الشديد بنا من بعض الطالبات. ونشاهد للأسف كيف يستشري الإعجاب بين الطالبات بعضهن ببعض. وإني والله كما ألوم الطالبة ألوم المعلمة التي تعلم علما يقينا أن فلانة تعجب بها إعجابا حادا زائدا عن حده, حتى بات مفضوحا لكل أحد, وقد وصل مع الطالبة حدا يفسد عليها حياتها في حاضرها ومستقبلها, ثم تدير المعلمة لها ظهرها وتبدي الغفلة, وترتدي ثوب البراءة! وتؤثر السلامة! ولو أنها رأت في تلك الطالبة المعجبة بها صورة أختها أو ابنتها لما تركتها تغرق في مستنقع كريه كهذا.
وكذلك ألوم المعلم الصالح والشيخ التقي وكل من يُبتلى بإعجاب أحد به إعجابا يراه الجميع في اختلاسات نظره وفي طول تأمله وفي تقليده في كل صغيرة وكبيرة من حركاته وسكناته.
ولستُ هنا بصدد ذكر صور لاجتثاث العشق من قلب العاشق بصدمة عنيفة, لأن أشكال الصدمات تتنوع, ومناسبتها لكل أحد تختلف باختلاف خطورتها وباختلاف درجتها, لكنني سأكتفي بذكر صورة رائعة أعدها أصلا ورمزا استحضرها وأستشهد بها على ما ذكرتُ.
ألا وهي القصة المشتهرة التي تُحكى عن ابن سيرين. ونصها:
(كان ابن سيرين بزازاً (بائع أقمشة)، ومرّ يوماً في زقاق فسألته امرأة: ماذا لديك من بضاعة؟ قال: أبيع الأقمشة. فقالت له: ادخل المنزل حتى اختار القماش الذي أريد، فلما دخل أغلقت المرأة الباب وقالت: يجب أن تلبي طلبي. وكان ابن سيرين شابا نجيباً ولم يرتكب رذيلة أبداً وكان يقول: كنت أغض بصري إذا رأيت في المنام امرأة أجنبية (غير محرمة). ولمّا أصرت تلك المرأة على ابن سيرين ليفعل ما تريد، قال لها: حسناً دعيني أذهب إلى المستراح (الخلاء) كي أتهيأ وأعود، فذهب ولطخ نفسه بالنجاسة، ثم رجع إليها فاشمأزت منه وأخرجته، وهكذا تخلص من المعصية).
صحيح أن القصة لم تنسب العشق لتلك المرأة, ولم تصرح سوى بإعجابها الحد الذي معه خططت للوقوع في الزنا, لكن القصة في نفس الوقت تصلح لأن يستدل بها في باب الحب الشديد والعشق المحرم. وما الإعجاب إلا طريقا له ما لم يستدرك ويضبط بضوابطه. وقد استدعى إطفاء هذا الإعجاب إلصاق هذا الشاب التقي مساوئ غير حقيقية لنفسه لتبشيع صورته في عين تلك المعجبة... وقد نجح, فنجا ونجت.
وهذا الذي أقصد... ففي بعض الحالات الشديدة الصعوبة على المعشوق إذا كان في قلبه شيء من الرأفة والرحمة بعاشقه المغرم الذي تجاوز كل حد = أن يعري له مساوئه الحقيقية, أو حتى مساوئ يدعيها على نفسه بقدْرٍ ينجي فيه صاحبه من الزلل في مستنقع العشق, الذي لا يخلو من التقصير في حب الله, والتقصير في عبادته, بل ويصل والعياذ إلى حد الشرك في عبادة الله, وتعظيم من سواه تعظيما لا يليق ولا يصرف إلا لله.
أخيرا... أسأل الله أن يجزيك خيرا وأن ينفع بقلمك وفكرك...

أنا أوافقكِ جزَاكِ الله خيراً فيما تقولين , وأعتقد أن العلاج يصعُب أن تتحد أدواته في كل حالة , والمهم في كل الأنواع التسديد والمقاربة.
 
مقال رائع تسلسل الأفكار ، تناسب الفقرات ، دقة الاستشهاد ، إشراقة التعبير كلها تشي بالتمكن ، بارك الله فيك ، وزادك علماً وفيضاً من بركاته .
 
ياارب بشّر كاتبها بالفردوس الأعلى من الجنة ... رائعه جدااا ماشاء الله.. ملاء الله قلوبنا بحّبه وحبّ نبيهصلى الله عليه وسلم وحبّ كل عمل يقربنا إليه..
 
مقال رائع تسلسل الأفكار ، تناسب الفقرات ، دقة الاستشهاد ، إشراقة التعبير كلها تشي بالتمكن ، بارك الله فيك ، وزادك علماً وفيضاً من بركاته .

بارك الله فيك وأسعدك يا سعيد ، وكتب لك أضعاف ما دعوت به لأخيك
 
ياارب بشّر كاتبها بالفردوس الأعلى من الجنة ... رائعه جدااا ماشاء الله.. ملاء الله قلوبنا بحّبه وحبّ نبيهصلى الله عليه وسلم وحبّ كل عمل يقربنا إليه..

جزاكِ اللهُ خيراً وأجاب دعوتك وكتب لك مثلها
 
عودة
أعلى