إعجاز القرآن المجيد من شرح الطحاوية ( ماتع ومفيد )

إنضم
22/05/2010
المشاركات
381
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
مصر
الحمد لله وبعد......................،
فهذا مختصر نفيس في عرض مسألة إعجاز القرآن المجيد استللتها من شرح الطحاوية للشيخ العلامة / صالح بن عبد العزيز آل الشيخ ، وأرجو من الله أن أكون قد وفقت في اختصارها وعرضها ، وأسأله أن ينفع
بها إنه نعم المولي ونعم النصير...،

إعجاز القرآن ( 1 )

المسألة الموسومة عند العلماء بمسألة إعجاز القرآن لاشك أنها مسألة مهمة لها صلة ببحث دلائل النبوة في التوحيد ؛ لأن صلتها تارة بدلائل النبوة من جهة كون القرآن معجزا ودليلا على صحة نبوة محمد عليه الصلاة والسلام، وأنه منَزّل من عند الله، ومن جهة أخرى لها صلة بمبحث كلام الله جل وعلا وهو أنّ القرآن لا يشبه كلام البشر وأن كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.
ولتقرير هذه المسألة وقد تكلّم فيها أنواع من الناس من جميع الفرق والمذاهب، نجعل البحث فيها في مسائل:
المسألة الأولى : أنّ لفظ الإعجاز لم يرد في الكتاب ولا في السنة، وإنما جاء في القرآن وفي السنة أنّ ما يُعطيه الله جل وعلا للأنبياء والرسل وما آتاه محمد عليه الصلاة والسلام هو آية وبرهان على نبوّته، فلفظ المعجزة لم يأتِ في الكتاب ولا في السنة وإنما هو لفظ حادث ولا بأس باستعماله إذا عُني به المعنى الصحيح ، فالذي جاء في القرآن الآيات والبراهين ؛ ولكن العلماء استعملوا لفظ الإعجاز لسبب، وهو أنّ القرآن تحدى الله جل وعلا به العرب أن يأتوا بمثله، أو أن يأتوا بعشر سور مثله أو أن يأتوا بسورة من مثله، فلما تحداهم ولم يأتوا بما تحداهم به، فدلّ ذلك على عجزهم ، وذلك لأنّ القرآن معجز لهم فلم يأتوا بمثله ، قال جل وعلا :

" قُلْ لَئِن اجْتَمَعَتْ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " [الإسراء:88]، وقال جل وعلا : "قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنْ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ(13)فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ"[هود:13-14].
إذا تبين ذلك فالتّحدي لما وقع وعجزوا،سمى العلماء فعلهم ذلك أو عجزهم سموه : بمسألة إعجاز القُرآن ؛ لأجل التحدي وعجز الكفار أن يأتوا بمثله.
المسألة الثانية: أن كلام الله جل وعلا هو المعجز، ولا يُقال أن الله جل وعلا أعجز البشر عن الإتيان بمثل هذا القرآن؛ لأن هذا القول يتضمن أنهم قادرون لكن الله جل وعلا سلبهم القدرة على هذه المعارضة.
فالإعجاز والبرهان والآية والدليل في القرآن نفسه لأنه كلام الله جل وعلا، ولا يُقال إنّ الله جل وعلا أعجز الناس، أن يأتوا بمثل هذا القرآن، أو صَرَفهم عن ذلك، كما هي أقوال يأتي بيانُها.

فتعبير أهل العلم في هذه المسألة أن القرآن آية ، فآية محمد عليه الصلاة والسلام القرآن، آية نبوته وآية رسالته القرآن؛ بل إن محمدا عَلَيْهِ الصَّلاَةُ والسَّلاَمُ لما سمع كلام الله جل وعلا خاف فلما فَجَأَه الوحي وهو بغار حراء فأتاه جبريل فَقَالَ له: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ» فَقَالَ: اقْرَأْ. قَالَ: «مَا أَنَا بِقَارِئٍ». قَالَ ?اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ(1)خَلَقَ الْإِنسَانَ مِنْ عَلَقٍ?[العلق:1-2] إلى آخر ما أنزل في أول ما نبئ النبي عليه الصلاة والسلام، فرجع بها عليه الصلاة والسلام يرجُف بها فؤاده؛ لأنّ هذا الكلام لا يشبه كلام أحد، ولم يتحمله عليه الصلاة والسلام لا في ألفاظه ولا في معانيه ، ولا في صفة الوحي والتّنزيل، فما استطاع عليه الصلاة والسلام أن يتحمّل ذلك فرجع بهن -يعني بالآيات- يرجف بها فؤاده عليه الصلاة والسلام إلى آخر القصة.
إذا فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يتحمل هذا الذي جاءه ، لأنه كلام الله جل وعلا، وأما كلام البشر فإنه يتحمل سماعه بدون كلفة.



وللمقال بقية............
 
إعجاز القرآن ( 2 )


المسألة الثالثة: أقوال الناس في إعجاز القرآن :
القرآن معجز للجن والإنس جميعا؛ بل معجز لكل المخلوقات،لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يشبه كلام الخلق، وكون القرآن معجزا ،راجع إلى أشياء كثيرة يأتي فيها البيان.
فاختلف الناس في وجه الإعجاز لأجل أنّ إعجاز القرآن دليل نبوة النبي عليه الصلاة والسلام علي أقوال:
القول الأول: ذهب إليه طائفة من المعتزلة ومن غيرهم حتى من المعاصرين الذين تأثروا بالمدرسة العقلية في الصفات والكلام ، قالوا:

إنّ الإعجاز في القرآن إنما هو بصرف البشر عن معارضته، وإلا فالعرب قادرة على معارضته في الأصل؛ لكنهم صُرفوا عن معارضته، فهذا الصرف هو قدرة الله جل وعلا، لا يمكن للنبي عليه الصلاة والسلام أن يصرفهم جميعا عن معارضته، وهذا الصرف لابد أن يكون من قوة تملك هؤلاء جميعا وهي قوة الله جل وعلا.
وهذا القول هو القول المشهور الذي ينسب للنّظّام وجماعة بما هو معلوم.
وهذا القول يرده أشياء نقتصر منها على دليلين: الدليل الأول سمعي نقلي ، والدليل الثاني عقلي.
أما الدليل النقلي فهو قول الله جل وعلا " قُلْ لَئِنْ اجْتَمَعَتِ الْإِنسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا " [الإسراء:88]، فالله جل وعلا أثبت أنّ الإنس والجن لو اجتمعت على أن تأتي بمثل هذا القرآن وصار بعضهم لبعض معينا في الإتيان بمثل هذا القرآن أنهم لن يأتوا بمثله، وهذا إثبات لقدرتهم على ذلك ؛ لأنّ اجتماعهم مع سلب القدرة عنهم بمنزلة اجتماع الأموات لتحصيل شيء من الأشياء ، فالله جل وعلا بيّن أنهم لو اجتمعوا على أن يأتوا بمثل هذا القرآن وكان بعضهم لبعض معينا وظهيرا على المعارضة، فإنهم لن يستطيعوا أن يأتوا بمثل هذا القرآن، فأثبت لهم القدرة لو اجتمعوا قادرين وبعضهم لبعض يعين، لكنهم سيعجزون عن قُدَرِهم التي ستجتمع وسيكون بعضهم لبعض معينا على المعارضة، وهذه الآية هي التي احتج بها المعتزلة على إعجاز القرآن، ففيها الدليل ضدهم على بطلان الصَّرفة.
أما الدليل الثاني وهو الدليل العقلي أن الأمة أجمعت من جميع الفرق والمذاهب أن الإعجاز يُنسب ويضاف إلى القرآن ولا يضاف إلى الله جل وعلا ، فلا يقال إعجاز الله بالقرآن ، وإنما يقال باتفاق الجميع وبلا خلاف هو إعجاز القرآن ، فإضافة الإعجاز إلى القرآن تدل على أن القرآن معجز في نفسه ، وليس الإعجاز من الله بصفة القدرة ؛ لأننا لو قلنا الإعجاز إعجاز الله بقدرته الناس عن الإتيان بمثل هذا القرآن ، فيكون الإعجاز بأمر خارج عن القرآن ، فلما أجمعت الأمة من جميع الفئات والمذاهب على أنّ الإعجاز وصف للقرآن علمنا بُطلان كون الإعجاز صفة لقدرة الله جل وعلا؛ لأن من قال بالصَّرفة بأن الله سلبهم القدرة أرجع الإعجاز إلى صفة القدرة وهذه صفة ربوبية.
إذن لا يكون القرآن معجزا في نفسه ، وإنما تكون المعجزة في قدرة الله جل وعلا على ذلك ، وهذا لاشك أنه دليل قوي في إبطال قول هؤلاء.
ولهذا فإن متأخري المعتزلة على خلاف قول المتقدمين في الإعجاز بالصرفة؛ لأن قولهم لا يستقيم لا نقلا ولا عقلا.


القول الثاني: قول من قال القرآن معجز بألفاظه، فألفاظ القرآن بلغت المنتهى في الفصاحة؛ لأنّ البلاغيين يعرِّفون الفصاحة:
فصاحة المفرد في سلامته من نُفرة فيه ومن غرابته
فالقرآن مشتمل على أعلى الفصيح في اللفظ ، ولما تأمل أصحاب هذا القول جميع أقوال العرب في خطبهم وأشعارهم ، وجدوا أن كلام المتكلم لابد أن يشتمل على لفظ داني في الفصاحة ، ولا يستقيم في كلام أي أحد -في المعلقات وفي خطب العرب ولا في نثرهم ولا في مراسلاتهم إلى آخره- لا يستقيم أن يكون كلامهم دائما في أعلى الفصاحة، فنظروا إلى هذه الجهة فقالوا الفصاحة هي دليل إعجاز القرآن لأن العرب عاجزون.
وهذا ليس بجيد؛ لأن القرآن اسم للألفاظ والمعاني، والله جل وعلا تحدى أن يؤتى بمثل هذا القرآن، أو بمثل عشر سور مثله مفتريات -كما زعموا- وهذه المثلية إنما هي باللفظ وبالمعنى جميعا وبصورة الكلام المتركبة.
فإذن كونه معجزا بألفاظه نعم؛ لكن ليس وجه الإعجاز الألفاظ وحدها.



القول الثالث: من قال إنّ الإعجاز في المعاني وأما الألفاظ فهي على قارعة الطريق ، مثلما يقول الجاحظ وغيرُه؛ فيما ساقه في كتاب الحيوان أن
" الشأن في المعاني أما الألفاظ فهي ملقاة على قارعة الطريق" يعني أنّ الألفاظ يتداولها الناس؛ لكن الشأن في الدِّلالة بالألفاظ على المعاني، وهذا لاشك أنه قصور لأن القرآن معجز بألفاظه وبمعانيه وبصورته العامة .



القول الرابع: من قال إن القرآن معجز في نظمه، ومعنى النظم هو الألفاظ المتركبة والمعاني التي دلّت عليها الألفاظ وما بينها من الروابط؛يعني أن الكلام يُحتاج فيه إلى أشياء ، يحتاج فيه إلى ألفاظ وإلى معانٍ في داخل هذه الألفاظ يُعبَّر بها؛ يعبر بالألفاظ عن المعاني وإلى رابط يربط بين هذه الألفاظ والمعاني في صور بلاغية، وفي صور نحوية عالية، وهذا المجموع سماه أصحاب هذا القول النَّظم.
وهذا هو مدرسة الجُرجاني المعروفة -العلامة عبد القادر الجرجاني- فيما كتب في دلائل الإعجاز وفي أسرار البلاغة، وهذا القول قال به الجرجاني وهو مسبوق إليه من جهة الخطّابي وغيره ،
وهذا القول قول جيد؛ ولكن لا ينبغي أن يُقصر عليه إعجاز القرآن.



القول الخامس: من قال أن إعجاز القرآن فيما اشتمل عليه، فالقرآن اشتمل على أمورٍ غيبية لا يمكن أن يأتي بها النبي عليه الصلاة والسلام؛ بأمر الماضي والمستقبل، واشتمل القرآن أيضا على أمور تشريعية لا يمكن أن تكون من عند النبي عليه الصلاة والسلام، واشتمل القرآن على هداية ومخالطة للنفوس لا يمكن أن تكون من عند بشر، وهذا قول لبعض المتقدمين وجمع من المعاصرين بأنّ القرآن محتمل على هذه الأشياء جميعا.
ولكن هذا القول يُشكل عليه أنّ إعجاز القرآن تُحدِّي به العرب ، والعرب حينما خوطبوا به خوطبوا بكلام مشتمل على أشياء كثيرة ، وكان التحدي واقعا أن يأتوا بمثل هذا القرآن أو بمثل سورة أو بعشر سور مثله مفتريات ـ كما زعموا ـ ، وهذا يؤول إلى ما تميّزت به العرب، وهو مسألة البلاغة وما تميزوا به من رِفعة الكلام وفصاحته وبلاغته، والعرب لم تكن متقدمة عارفة بالأمور الطبية ولا بالأمور الفلسفية ولا بالأمور العقدية ولا بالغيبيات، وليس عندهم معرفة بالتواريخ على تفاصيلها ونحو ذلك، حتى يقال إن الإعجاز وقع في هذه الجهة؛ لكنهم خوطبوا بكلام من جنس ما يتكلمون به -يعني من جهة الألفاظ والحروف-؛ لكنهم عجزوا عن الإتيان بذلك لأنه كلام الله جل وعلا.



القول الأخير –والأقوال متنوعة؛ لأن المدارس كثيرة-: أن القرآن معجز لأنه كلام الله جل وعلا، وكلام الله جل وعلا لا يمكن أن يشبه كلام المخلوق، وهذا القول هو الذي ذكره الطحاوي ـ رحمه الله ـ (عَلِمْنَا وَأَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ. وَمَنْ وَصَفَ اللَّهَ بِمَعْنًى مِنْ مَعَانِي الْبَشَرِ فَقَدْ كَفَرَ، فَمَنْ أَبْصَرَ هَذَا اعْتَبَرَ، وَعَنْ مِثْلِ قَوْلِ الْكُفَّارِ انْزَجَرَ، [وَ]عَلِمَ أَنَّهُ بِصِفَاتِهِ -التي منها القرآن- لَيْسَ كَالْبَشَرِ.)
وهو من أرفع وأعظم الأقوال؛ بل هو القول الحق في هذه المسألة : أنّ كلام الله جل وعلا لا يمكن أن يشبه كلام البشر.
فهذا القرآن من سمعه أيقن أنّه ليس بكلام البشر.
والعرب عندهم معرفة بالبيان، بل هم الغاية في البيان ، هم الغاية في معرفة الفصاحة ، هم الغاية في معرفة تركيب الكلام ؛ لكنهم لما سمعوا القرآن ما استطاعوا أن يعارضوه لأنّ الكلام لا يشبه الكلام ( كلام الله جل وعلا لا يشبه كلام المخلوق).
إذا فوجه الإعجاز في كلام الله جل وعلا هو أن كلام الله سبحانه وتعالى لا يشبه كلام البشر، ولا يماثل كلام البشر، والناس لا يستطيعون على اختلاف طبقاتهم وتنوِّع مشاربهم أن يتلقوا أعظم من هذا الكلام ، وإلا فكلام الله جل وعلا في عظمته لو تَحَمّل البشر أعظم من القرآن لكانت الحجة أعظم؛ لكنهم لا يتحملون أكثر من هذا القرآن ، لهذا تجد التفاسير من أول الزمان إلى الآن وكل واحد يُخرج من عجائب القرآن ما يُخرج، والقرآن كنوزه لا تنفذ ولا يفتر على كثرة الرد لا من جهة التِّلاوة ولا من جهة التفسير.
إذا تبين لك ذلك فكلام الطحاوي هذا من أنفس ما أنت سامع بل وأصحّ الأقوال في مسألة إعجاز القرآن وهو أن الكلام لا يشبه الكلام.
إذا تبيّن هذا فليعلم أن كلام الله جل وعلا في كونه لا يشبه كلام البشر له خصائص، فأوجه إعجاز القرآن التي ذكرها من ذكر،هي خصائص لكلام الله جل وعلا أوجبت أن يكون كلام الله جل وعلا ليس ككلام البشر.





وللمقال صلة .............
 
إعجاز القرآن ( 3 )

وهذه الخصائص:
أولا: القرآن كلام الله جل وعلا، واشتمل القرآن على ألفاظ العرب جميعا، تجد في القرآن كلمات بلغة قريش ، وفيه كلمات بلغة هذيل، وفيه كلمات بلغة تميم، وفيه كلمات بلغة هوازن، وفيه كلمات بلغة أهل اليمن، وفيه بلغات كثيرة بلغة حِمْيَر :

" وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ " [النجم:61] قال ابن عباس: السمود الغناء بلغة حِمْيَر.
بعض قريش خفي عليها بعض الكلمات مثل ما قال عمر رضي الله عنه لما تلا سورة النحل في يوم الجمعة -يعني في الخطبة-، تلا سورة النحل فوقف عند قوله تعالى : "أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلَى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَءُوفٌ رَحِيمٌ "[النحل:47]، نظر فقال: ما التخوف؟ فسكت الحاضرون، فقام رجل من هذيل فقال: يا أمير المؤمنين التخوّف في لغتنا التَّنَقُّص قال شاعرنا الهذلي:
تخوّف الرَّحْلُ منها تامكا فردا كما تَخَوَّف عودُ النّبعة السَّفِنُ
إذا" الألفاظ والمعاني والتراكيب النحوية تنوَّعت ودخلت في القرآن ، هذا لا يمكن أن يكون من كلام أحد، لا يمكن أن يحيط هذه الإحاطة إلا من خلق الخلق وهو رب العالمين.


ثانيا: الألفاظ ، فألفاظ القرآن بلغت الغاية العليا في الفصاحة، والقرآن كله فصيح في ألفاظه، والفصاحة راجعة إلى الكلمات جميعا؛ الأسماء والأفعال والحروف .
فمن خصائص القرآن التي دلت على إعجازه أنّ ألفاظه جميعا فصيحة، وما استطاع أحد -من العرب الذين أنزل عليهم القرآن- أن يعيبوا القرآن في لفظٍ مما فيه كما عابوا كلام بعضهم بعضا، بل قال قائلهم: إن له لحلاوة وإن عليه لطُلاوة................................. إلى آخر كلامه.


ثالثا: المعاني ، المعاني التي يتصورها البشر عند قول كلامه لابد أن يكون فيها قصور، فإذا تكلم البشر في المعاني العَقدية فلابد أن يكون عنده لاشك قصور، إذا تكلم في العاني التشريعية لابد أن يظهر خلل، إذا تكلم في المعاني الإصلاحية التهذيبية لابد أن يكون فيها خلل، ولهذا قال جل وعلا " أَفَلَا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا " [النساء:82].
فتنوُّع المعاني على هذا الوجه الذي يحتاجُه الناس يدلُّ على أن هذا كلام الله جل وعلا.


رابعا: النَّظم ـ مثل ما قال الجرجاني ـ وهو من أجود ماقيل في إعجاز القرآن من جهة البيان
فالقرآن من أوجه إعجازه : أن نظمه يدل على أنه الغاية في البيان،ولا يمكن للجن والإنس لو اجتمعوا أن يكونوا علي مستوى هذا النّظم، ولهذا تجد أن تفاسير القرآن حارت في القرآن، حتى التفاسير المتخصصة في النحو تجده ينشط في أوله ويعجز في آخره، وهكذا في البلاغة وغيرها...................0



خامسا : أنَّ القرآن له سلطانٌ على النفوس، وليس ثَمَّ من كلام البشر ما له سلطان على النفوس في كل الكلام .
وقد كان مرة أحد الدّعاة يخطب بالعربية وفي أثناء خطبته يورد آيات من القرآن العظيم يتلوها، فكانت امرأة كافرة لا تحسن الكلام العربي ولا تعرفه، فلما انتهى الخطيب من خطبته استوقفته -وكانت خطبته في سفينة-، لما انتهى من خطبته استوقفته، وقالت: كلامك له نمط، وتأتي في كلامك بكلمات مختلفة في رنتها وفي قَرْعِهَا للأذن عن بقية كلامك، فما هذه الكلمات؟ فقال: هي كلمات القرآن .
هذا السلطان تجده في أشياء:
1ـ أن آيات القرآن في السورة الواحدة -كما هو معلوم- متنوعة فهناك آيات العقيدة ، وآيات الأحكام، وآيات السلوك .......إلى آخره ، فآية تخاطب المؤمنين، وآية تخاطب المنافقين، وآية تخاطب النفس،وآية فيها قصص الماضين، وآية فيها الوعد وآية فيها الوعيد، وآية فيها ذكر الجنة وذكر النار، وهكذا في تنوع.
وهذا من أسرار السلطان الذي يكون للقرآن على النفوس؛ لأن الأنفس متنوعة، بل النفس الواحدة لها مشارب، فالنفس تارة يأتيها الترغيب وتارة يأتيها الترهيب، وتارة تتأثر بالمثل، وتارة تتأثر بالقصة، تارة هي ملزمة بالعمل، تارة هي ملزمة بالاعتقاد، فتكرُّر هذا وراء هذا تُغْدِقُ على النفس البشرية أنواعا مما تتأثر به، وهذا لا يمكن أن يكون إلا من كلام من خلق هذه النفس البشرية " أَلَا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَهُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ " [الملك:14]، ?إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ?[الإسراء:9].
أيضا تجد أن القرآن خُوطب به من عنده فن الشعر وما يسميه بعض الناس موسيقى الكلام ؛ فهذا النوع من الناس تجد في القرآن ما يجبره على أن يستسلم له.
لما قيل للَبيد بن رَبيعة صاحب المعلقة وصاحب الديوان : ألا تنشدنا من قصائدك؟ قال أغناني عن الشعر وتذوقه -أو كما قال- سورتا البقرة وآل عمران. لأن له تذوق في هذا الفن بخصوصه، فيأتي القرآن فيجعل سلطانه على النفس فيقصره قصرا، لهذا قال جل وعلا " وَإِنَّهُ لَكِتَابٌ عَزِيزٌ(41)لَا يَأْتِيهِ الْبَاطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلَا مِنْ خَلْفِهِ تَنزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ" [فصلت:41-42]، وقال سبحانه " وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ ءَاعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ"[فصلت:44].



سادسا: أن القرآن فيه الفصل في الأمور الغيبية، فثم أشياء في القرآن أُنزلت على محمد عليه الصلاة والسلام لم يظهر وجه بيانها وحجَّتها في كمال أطرها إلا في العصر الحاضر، وهو ما اعتنى به طائفة من الناس وسموه الإعجاز العلمي في القرآن، والإعجاز العلمي في القرآن حقّ؛ لكن له مواضع، توسّع فيه بعضهم فخرجوا به عن المقصود فجعلوا آيات القرآن خاضعة للنظريات، وهذا باطل؛ بل النظريات خاضعة للقرآن؛ لأن القرآن حق من عند الله والنظريات من صنع البشر، لكن بالفهم الصحيح للقرآن، فثَم أشياء من الإعجاز العلمي حق لم يكن يعلمها الصحابة رضوان الله عليهم على كمال معناها وإنما علموا أصل المعنى، فظهرت في العصر الحاضر في أصول من الإعجاز العلمي.
الإعجاز الاقتصادي، الإعجاز التشريعي، الإعجاز العَقدي، أشياء تكلم عنها الناس في هذا العصر -لانطيل في بيانها- وكل واحدة منها دالّة على أن هذا القرآن من عند الله جل وعلا "وَلَوْ كَانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلَافًا كَثِيرًا"[النساء:82].



سابعا وأخيرا: أنّ القرآن من صفاته أنّ الإنسان المؤمن كلما ازداد من القرآن ازداد حبا في الله جل وعلا، وهذا راجع إلى الإيمان، وراجع إلى أن القرآن فيه الهدى والشفاء للقلوب، فالأوامر والنواهي والأخبار التي في القرآن هي هدى وشفاء لما في القلوب، كما قال سبحانه " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ "[فصلت:44]، وهذا سلطان خاص على الذين آمنوا في أنه يهديهم ويخرجهم من الظلمات إلى النور في المسائل العلمية وفي المسائل العملية، ولهذا لا تأتي فتنة ولا شبهة إلا وعند المؤمن البصيرة بما في هذا القرآن " إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ "[الإسراء:9] وهذه لا يُلقاها إلا أهل الإيمان " قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ "
[فصلت:44]، " وَنُنَزِّلُ مِنْ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَلَا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَسَارًا " [الإسراء:82]، وهو سلطان خاص يزيد المؤمن إيمانا ، لهذا إذا تليت على المؤمن آيات الله جل وعلا زادتهم إيمانا لما فيه من السلطان على النفوس.
بهذا يتبيّن لك ما ظهر من أقوال أهل العلم في هذه المسألة العظيمة التي تجدها متفرقة في كتب كثيرة في البلاغة ، وفي الدراسات في إعجاز القرآن، وفي التفسير، وفي كتب متنوعة.
وما أجمل قول الطحاوي رحمه الله تعالى رحمة واسعة (أَيْقَنَّا أَنَّهُ قَوْلُ خَالِقِ الْبَشَرِ، وَلَا يُشْبِهُ قَوْلَ الْبَشَرِ.) وهذا هو الحق فالقرآن بصورته وهيئته وصفته لا يمكن أن يشبه قول البشر، حتى في ربطه وتنوع آياته وسوره؛ بل لا يشبه قول البشر.
أسال الله جل وعلا أن يغرس الإيمان في قلوبنا غرسا عظيما، وأن يجعلنا من أوليائه الصالحين، وأن يهيئ لنا من أمرنا رشدا.
وأسأله سبحانه أن يوفقنا لما يحب ويرضى، وأن يجعلنا من المتعاونين على البر والتقوى.
كما أسأله سبحانه أن ينور قلوبنا بالقرآن وأن يجعلنا من أوليائه إنه سبحانه جواد كريم.
وصلى والله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلي آله وصحبه أجمعين .

شرح الطحاوية للشيخ / صالح آل الشيخ
(1/202ـ 216)
 
تنبيهات :
1ـ هناك شريط للشيخ بعنوان (إعجاز القرآن) وهو مفرغ علي
مكتبة الشيخ الإلكترونية.
2ـ يوجد بحث مفيد للدكتور / محمد بن عبد العزيز العواجي
(رسالة ماجستير) بعنوان : إعجاز القرآن الكريم عند شيخ الإسلام
ابن تيمية مع المقارنة بكتاب إعجاز القرآن للباقلاني والكتاب من
منشورات دار المنهاج بالرياض.
 
بارك الله فيكم أخي عمر على نقل هذا الجزء من المحاضرة . وجزى الله الشيخ صالح آل الشيخ خيراً فقد استفدنا منه كثيراً أيام تدريسه لنا في مرحلة الماجستير بجامعة الإمام ومن خلال دروسه الصوتية الكثيرة لعدد من الكتب والمتون العلمية .
 
جزاك الله خيرا شيخنا الحبيب .........،
لقد أثلجت صدري بهذه المشاركة ، وأسألك أن تدعو لي بالتوفيق والسداد ،
بقي أن أخبرك أني أحبك في الله ، وأتمني إن وفدت إلي المملكة أن ألقاكم ،
وأستفيد منكم إن شاء الله جل وعلا.
 
بارك الله فيكم؛ هل يوجد هذا البحث في شكل بي دف
" بحث مفيد للدكتور / محمد بن عبد العزيز العواجي
(رسالة ماجستير) بعنوان : إعجاز القرآن الكريم عند شيخ الإسلام
ابن تيمية مع المقارنة بكتاب إعجاز القرآن للباقلاني والكتاب من
منشورات دار المنهاج بالرياض."?
 
عودة
أعلى