إضاءات حول الهيرمينوطيقا

أحمد بوعود

New member
إنضم
3 أغسطس 2007
المشاركات
78
مستوى التفاعل
0
النقاط
6
الإقامة
تطوان المغرب
إلى فضيلة الدكتور هشام عزمي حفظه الله
أقتطف هذه الفقرات من بحث موسع لي بصدد إنجازه علها تشفي غليل كل من يريد التعرف على موضوع الهيرمينوطيقا، ومعذرة إن كانت هذه الفقرات مرتجلة أو مضطربة. أرجو أن تحصل الاستفادة.
إضاءات حول الهيرمينوطيقا
أو الهيرمينوطيقا وعبور فجوة الزمان
يعتبر الحداثيون الهيرمينوطيقا الجواب الفلسفي عن جدلية العلاقة بين النص والواقع، لأنها أسلوب للفهم يعبر بالقارئ الفجوة التاريخية بين واقعه وواقع النص، فكيف يتحقق هذا العبور ؟
1- تعريف الهيرمينوطيقا

يذهب معظم الدارسين إلى كون الهيرمينوطيقا أخذت من "هرمس" الإله والرسول الذي كان يعبر المسافة بين تفكير الآلهة وتفكير البشر، كما هو موجود في الأساطير اليونانية، ويزود البشر بما يعينهم على الفهم وتبليغه[1]. وتعني كلمة hermé اليونانية القول والتعبير والتأويل والتفسير[2]، وهي كلها دلالات متقاربة. وقد ظهرت كلمة "هيرمينوطيقا" لأول مرة سنة 1654 في عنوان كتاب لدانهاور[3].
وفي علم اللاهوت تدل الهيرمينوطيقا على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس، فالتأويل هو "العلم الديني بالأصالة والذي يكوّن لب فلسفة الدين... ويقوم عادة بمهمتين متمايزتين تماما:
1- البحث عن الصحة التاريخية للنص المقدس عن طريق النقد التاريخي،
2- وفهم معنى النص عن طريق المبادئ اللغوية"[4].
من هنا نستنتج أن الهيرمينوطيقا، أو فن التاويل، ليست بالشيء الجديد، وإنما يمكن اعتبار نشأتها بنشأة التفكير الإنساني، فهذا جادمير يخبرنا أن أرسطو هو أول من وضع معالم التجربة التأويلية داخل مذهب القانون من خلال مناقشته لمشكل القانون الطبيعي ومفهوم الـepikeia في "الأخلاق إلى نقيوماخوس"[5]. لكن حصل تطور كبير لهذا المصطلح بتطور مراحل التفكير البشري، ومع كل مرحلة تأخذ الهيرمينوطيقا تعريفا يتناسب وخصائص ذلك التفكير. فما هي أهم تعريفات الهيرمينوطيقا ؟ وما هي السمات المميزة لكل تعريف ؟
في القديم، كانت الهيرمينوطيقا منهج تفسير للكتاب المقدس وأصوله وأحكامه كما نجد عند القديس أوغسطين صاحب "تعقل كي تؤمن" و"تؤمن لكي تعقل"[6]. لكن مع نشأة المذهب العقلي نشأ المنهج التاريخي في اللاهوت، وأكدت المدرسة اللغوية والتاريخية في التفسير أن المناهج التأويلية السارية على الكتاب المقدس هي بعينها المناهج السارية على غيره من الكتب، وأن المعنى اللفظي في الكتاب المقدس أنه يتحدد بالطريقة نفسها التي يتحدد بها في بقية الكتب؛ فقد كانت مادة الهيرمينوطيقا جزئية وسطحية استعملت لغايات تعليمية تمثلت في تفسيرات النصوص التي تعمل على تسهيل فهم الكتابات المقدسة. يقول جادمير: "تدل الهيرمينوطيقا في علم اللاهوت (التيولوجيا) على فن تأويل وترجمة الكتاب المقدس (الأسفار المقدسة) بدقة، فهو في الواقع مشروع قديم أنشأه وأداره آباء الكنيسة بوعي منهجي دقيق"[7].
وعلى هذا فإن الهيرمينوطيقا حينما تطلق فإنها تعني المنهج الفقهي اللغوي والذي ساد في تفسير النصوص الدينية. وإذا أردنا التعرف على ملامح هذا المنهج فإننا نجدها تتمثل في المستويات الأربعة للمعنى التي بلورها القديس توما الأكويني وهي:
1- المعنى الحرفي، أو التاريخي، ويُقصد هنا القصة المحكية.
2- المعنى الرمزي الاستعاري، فالعهد القديم يشير إلى العهد الجديد.
3- المعنى الباطن، أو الصوفي، قيمة الرسالة عند خاتمة الإنسان.
4- المعنى الخلقي، أي الوعظ.
لكن مع عصر التنوير، ومع كتابات فرنسيس بيكونFrancis Bacon(1561 - 1626) وتوماس هوبز Thomas Hobbes(1588 -1679) في إنجلترا، ومع ديكارت والموسوعيين في فرنسا، وكانط في ألمانيا، بدأ يتبلور مفهوم جديد للهيرمينوطيقا على يد كلادينيوس Chladénius (1710- 1759) الذي اهتم بالبحث عن وضع قواعد للتأويل، وكانت النتيجة أنه من الممكن الوصول إلى تفسير صحيح وكامل إذا اتبعنا قواعد سديدة. من هنا اعتبرت الهيرمينوطيقا فنا تقنيا ضروريا للدراسات التي تعتمد على تأويل النصوص.
ويمكن أن تتبع المسار الفلسفي للهيرمينوطيقا من خلال المحطات التالية:
أولا: الهيرمينوطيقا التقليدية

إن تعريف الهيرمينوطيقا باعتبارها "فن الفهم"[8] يعود إلى الألماني فريدريك شلايرماخر الذي حرر فن التأويل من كل عناصره العقائدية والعرضية التي لا تحصل عنده إلا على نمط ملحق في تطبيقاتها الإنجيلية على وجه الخصوص. وكان السؤال الذي انطلق منه شلايرماخر هو: "كيف يمكن فهم أي عبارة أو قول ؟"
يرى شلايرماخر أن عملية الفهم تتم عبر محددين هما:
- المحدد اللغوي، أو النحوي، أو القواعدي، بتناول النص انطلاقا من لغته الخاصة (لغة إقليمية، تركيب نحوي، شكل أدبي..) وتحديد دلالة الكلمات انطلاقا من الجمل التي تركبها ودلالة هذه الجمل على ضوء النص بكليته.
- المحدد النفسي، بالاعتماد على حياة المؤلف الفكرية والعامة والدوافع والحوافز الذي دفعته للتعبير والكتابة والبحث عما يمثله النص في حياة المؤلف وفي السياق التاريخي الذي ينتمي إليه، وهو يرمي بذلك إلى إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف.
ثانيا: الفهم بمقتضى الحياة

يعتبر ربط الهيرمينوطيقا بالعلوم الإنسانية أساسا مهمة فلهلم دلتاي DiltheyWilhelmالذي رأى في الهيرمينوطيقا أساس كل العلوم الإنسانية والاجتماعية، ونقطة البدء في هذا الأمر هي الخبرة العيانية التي ينبغي أن يتم فهمها في مقولات فكرية تاريخية لأن الخبرة نفسها تاريخية في عمقها. وهذه التاريخية هي التي حددت الأساس النظري للهيرمينوطيقا الحديثة.
عرف دلتاي الهيرمينوطيقا تعريفات، استقاها بول ريكور من مقاله الكبير تكوين التأويل، كلها تدور حول معاني الحياة والتجربة الإنسانية، يقول: "نطلق اسم التفسير أو التأويل على ذلك الفن من فهم التجليات الحيوية الثابتة بشكل دائم".
ويقول:"يدور الفهم حول تأويل الشهادات الإنسانية التي حافظت الكتابة عليها... إننا نعطي اسم التفسير والتأويل لفن فهم التجليات المكتوبة للحياة"[9].
يميز دلتاي بين نوعين من التجربة:
1- التجربة المعيشة التي استعملها في وصف علوم الفكر أو العلوم الإنسانية.
2- التجربة العلمية التي تخص علوم الطبيعة، وهذه التجربة العلمية تتمتع بطابع العلمية الذي يجعل من التجربة المعاشة والتجربة الممارسة وجهين لنفس الحقيقة وبطابع الجدلية والتاريخية. فالتجربة في طابعها العلمي والإبستمولوجي تعني تكرار المعطيات والنتائج للوصول إلى تنظير عام ومتفق عليه. في طابعها التاريخي والجدلي هي تجربة لا تتكرر، تنفي كل ما سبقها بحيث لا يمكن معاينة ومعايشة التجارب السابقة بنفس المقاصد والدوافع وتختفي هي الأخرى بخصوصيتها وفرديته[10].
إن التجربة الإنسانية عنصر مشترك بين جميع البشر، وما الفهم إلا إسقاط التجربة الشخصية على تجربة المؤلف عبر عمله، وعملية الفهم تتم عبر التفاعل الحيوي بين أفق النص بما هو محصل التجربة الحياتية يعرضها المؤلف، وبين أفق القارئ الذي تمثله تجربته الخاصة المراكمة عبر حياته التي يستخدمها لفهم النص. وبانصهار هذين الأفقين ينتج الفهم. وعليه يمكن القول إن الفهم حسب دلتاي هو انصهار خبرتي أو أفقي النص والقارئ، وانصهار التجربتين من شأنه أن يعمل على تجديد معنى النص وتطويره.
ثالثا: هيرمينوطيقا الوقائعية

جاء تأسيس المنهج الفينومينولوجي، أو الظاهراتية، ردا على المذهب السيكولوجي، وذلك حتى تكون الفلسفة علما دقيقا. ويعتبر إدموند هوسرل تلميذ برنتانو[11] المؤسس الحقيقي للفينومينولوجيا، الذي انطلق من نقد الرياضيات من أجل الوصول إلى الحقائق الأساسية. وهكذا جعل العلوم نوعين[12]:
- علوم الوقائع، وهي تعتمد على التجربة الحسية.
- وعلوم الماهية، أو علوم الصورة الجوهرية وهدفها الوصول إلى إدراك الماهيات.
إن هدف الظاهراتية هو القبض على حقيقة النص كما هي، ومن هنا يكون التأويل شيئا نكونه ويحدث لنا وليس شيئا نفعله. وهذا ما سيتبلور أكثر ويتطور مع كل من هيدجر وجادامير.
يعتبر هيدجر الفهم أساسا لكل تفسير، وهو متأصل ومصاحب لوجود المرء وقائم في كل فعل من أفعال التأويل. لقد ربط بين الهيرمينوطيقا والأنطولوجيا، وبين الهيرمينوطيقا والفينومينولوجيا. وبهذا يكون قد أسس الهيرمينوطيقا على واقعية العالم وتاريخية الفهم، لا على الذاتية. إن الهيرمينوطيقا عند هيدجر هي التعامل مع اللحظة التي ينبلج فيها المعنى.
رابعا: الهيرمينوطيقا وتاريخية الفهم

أما جادامير فنجد عنده التأويل امتدادا وتطويرا لما عرضه هيدجر، فيتخذ من تحليله مرتكزا وأساسا ونقطة انطلاق تحليله للوعي التاريخي، فيرى من المستحيل وجود فهم بلا فروض أو أحكام مسبقة. وهذا يعني التخلي عن تفسير عصر التنوير للعقل وأن يسترد التراث والسلطة مكانتهما اللتين كانا يحتلانها قبل عصر التنوير، لأن عصر التنوير لا يقبل بأي سلطة سوى سلطة العقل؛ "فالتغلب على جميع الأحكام المسبقة، وهو المطلب العام لعصر التنوير، سوف يتبين أنه هو نفسه حكم مسبق، والتخلص من هذا المطلب يمهد الطريق أمام فهم مناسب للتناهي الذي لا يهيمن على إنسانيتنا فقط، بل يهيمن على وعينا التاريخي أيضا "[13].
إن جادمير يجعل الأحكام المسبقة شروطا للفهم، وينادي باستعادة سلطة التراث ، فالتراث عنده ليس شيئا يقف عائقا أمامنا، وإنما هو شيء نوجد فيه. بل إن هذا التراث له أفق يجادل أفق المرء.
إن القارئ الذي يجد نفسه أمام نص، أو تراث، له أفقه وأسئلته ومطالبه وإشكالاته، يسأل النص، لا في حروفه وكلماته المرسومة، وإنما في أفقه وأهدافه ومقاصده.
من هنا يرى جادمير أن أساس الهيرمينوطيقا هو التوتر القائم بين الحاضر والماضي. وعليه فإن الفهم عنده لا بد أن يجيب عما يقوله النص للحالة التي نعيشها، ويرفض ما ذهب إليه شلايرماخر من كون فهم النص يتم عبر الانسجام الروحي والنفسي مع المؤلف، أو إعادة معايشة العملية الذهنية للمؤلف. وهذا عين ما ترنو إليه التاريخية في المنظور الحداثي.
خامسا: هيرمينوطيقا الارتياب

والهيرمينوطيقا في نظر بول ريكور هي "نظرية عمليات الفهم في علاقتها مع تفسير النصوص"[14] بهدف تجاوز المسافة بين عصر النص وعصر القارئ، وتتلخص في نظامين:
- نزع الطابع الأسطوري، ويمثل هذا النظام رودولف بولتمان Rodolf Bultman الذي كان يعتقد أن مخاطبي العهد الجديد الأوائل كانت لهم رؤية كونية خاصة، وهي رؤية أسطورية. والمراد بالأسطورة هنا "التفسير ما قبل العلمي للنظام الكوني والأخروي، والذي صار غير معقول للإنسان المعاصر "[15]. وهذا يقتضي تجاوز الغيبيات والمعجزات.
- الزيف، ويمثله فرويد بنظرية المثل والأوهام، ونيتشه بجنيالوجيا الأخلاق، وماركس بنظرية الإيديولوجيات. فقد أراد هؤلاء الثلاثة من عظماء "الهدم" فضح الزيف من خلال شكهم في العقيدة والثقافة بغية العثور على المعنى الحقيقي للعقيدة.
يقول ريكور عن أبطال الشك الثلاثة وثاقبي الأقنعة: "فما يريده ماركس، هو تحرير التطبيق العملي عن طريق معرفة الضرورة. ولكن هذا التحرير لا ينفصل عن "امتلاك الوعي" الذي يرد بانتصار على خداع الوعي الزائف. وما يريده نيتشه هو زيادة قدرة الإنسان، وإنشاء قوته. ولكن ما يريده بقوله إرادة القوة يجب أن يغطيه تأمل بأرقام "الإنسان الأعلى"، و"العود الأبدي"، و"اليونيسوس". وهذه أمور من غيرها لن تكون القوة سوى العنف من جانب الانحطاط. وأما ما يريده فرويد، فهو أن المحلَّل، إذ يتبنى المعنى الذي كان غريبا عنه، فإنه يوسع حقل وعيه ويحيا بصورة أفضل، وإنه ليكون أخيرا أكثر حرية، وإذا أمكن أكثر سعادة"[16].
إن هيرمينوطيقا الارتياب تحاول الإبقاء على الطابعين العلمي والفني للتأويل من غير إفراد أحدهما بمنزلة دون الآخر. والتفاعل مع النص في نظر ريكور ينشد إيمانا استعاريا يتجاوز الطابع الأسطوري ويتجاوز تحطيم الأصنام.
2- بعد هذا العرض الموجز، هل يمكن تطبيق الهيرمينوطيقا على القرآن الكريم ؟

أولا: لقد جعل شلايرماخر الهيرمينوطيقا في تأويل لغوي قواعدي جنبا إلى جنب مع تأويل نفسي. وإذا كان أمر الجانب الأول محسوما لا يمكن الاختلاف حوله، فإن أمر الجانب الثاني، وهو التأويل النفسي، بما يرمي إليه من إعادة معايشة العمليات الذهنية للمؤلف، لا يمكن تقبله من قبل من يؤمن بربانية نص مقدس سماوي، والمقصود هنا القرآن الكريم. نعم، قد يقبل هنا السياق العام للنص ومقاصده وأسباب نزوله، فإن ذلك من شأنه أن يضيء جوانب الفهم فيه.
ثانيا: أما بخصوص تصوره حول ضرورة الفهم في ضوء معناه العام وسياقه الكلي، أو فهم الجزئي في ضوء الكلي فهو أمر مطلوب ومحمود، بل مهم جدا بخصوص فهم نص سماوي، قال به الأصوليون في الفكر الإسلامي منهم الإمام الشاطبي رحمه الله الذي يقول: "وإذا كان كذلك، وكانت الجزئيات وهي أصول الشريعة فما تحتها مستمدة من تلك الأصول الكلية شأن الجزئيات مع كلياتها في كل نوع من أنواع الموجودات، فمن الواجب اعتبار تلك الجزئيات بهذه الكليات عند إجراء الأدلة الخاصة من الكتاب والسنة والإجماع والقياس؛ إذ محال أن تكون الجزئيات مستغنية عن كلياتها، فمن أخذ بنص مثلا في جزئي معرضا عن كليّه فقد أخطأ، وكما أن من أخذها لجزئي معرضا عن كليّه فهو مخطئ كذلك من أخذ بالكلي معرضا عن جزئيه"[17].
ثالثا: أما تصور دلتاي حول الفهم فلا يمكن توظيفه في فهم القرآن، لأن القرآن لا يعرض تجربة، بل هو كتاب هداية وأحكام وقانون للبشر، باستثناء ما يعرض من قصص الأنبياء والأقوام السابقين. من هنا لا مجال للحديث عن تجربة النص.
رابعا: رأينا أن الأحكام المسبقة عند جادمير شرط للفهم، وهذا يطرح سؤالا مهما وهو: من أين يكتسب القارئ أحكامه المسبقة ؟ من التراث ؟ وكيف يكون الأمر عندما يكون القارئ بإزاء التراث نفسه ؟ وإذا كان الأمر يتعلق بالقرآن، من أين يستقي القارئ أحكامه المسبقة ؟ لا يعثر الباحث عن إجابة.
إن الاجتهاد في معرفة مصدر الأحكام المسبقة أمر ضروري لقارئ يريد فهم النص القرآني، وربما تبدو هنا سيرة النبي محمد صلى الله عليه وسلم، وسنته، وسيرة جميع الأنبياء السابقين عليهم السلام، والأقوام السابقين، وكذلك التاريخ وواقع الإنسان القارئ، أهم ما يشكل أحكامه المسبقة لارتباطها بالنص المدروس.
خامسا: ويذهب جادمير إلى أن كل تفسير للنص فهو تفسير صحيح، أو كل قراءة له تعتبر صحيحة، وهذا أمر على جانب كبير من الصواب، وفي سير النبي صلى الله عليه وسلم كثير من الشواهد على ذلك، كما في قوله: "لا يصلين حدكم العصر إلا في بني قريضة". من الصحابة من فهم الحديث على حرفيته فلم يصل العصر إلا في بني قريضة رغم فوات الوقت، ومنهم من فهم الحديث على أنه حث على السرعة فصلى العصر حيثما أدركته، وأقر الرسول عليه الصلاة والسلام الفريقين.
لكن القول بإطلاق تعدد المعنى وتطوره وعدم ثباته، وإن كان يحقق خلود النص عند تباعد الزمان واختلاف المكان، فإنه يهدد الحكم الذي جاء به النص، وقد يصل الأمر عند تقادم الزمان إلى نقيض الحكم والمقصد. وفي واقع الفكر الإسلامي كثير من الشواهد على ذلك.
وهنا يمكن للسائل أن يسأل: ألا يمكن التواضع على ضوابط تحقق خلود النص، بتعدد معناه، دون انتهاك حرمته واندثار حكمه ومقصده ؟
هذا السؤال يقود مباشرة إلى جدلية العلاقة بين النص والمقصد والواقع التي تطرح تحديا أمام القارئ الذي يريد فهم النص من غير إضرار بأحد هذه العناصر الثلاثة. وهذا يجر إلى نقطة محورية في هيرمينوطيقا جادمير وهي التحام أفق القارئ بأفق النص. وهذه النقطة يمكن التعبير عنها بحاجات القارئ ومقاصد النص. وقد تناول أهل المقاصد الشرعية هذه النقطة عبر محورين كبيرين هما: مقاصد المكلفين ومقاصد الشرع[18]. وخلاصة ذلك أن مقاصد المكلف لا تعتبر إذا ما خالفت مقاصد الشرع. والمقاصد إنما تعتبر إذا بنيت على وسائل صحيحة.
سادسا: ما يمكن استنتاجه من هيرمينوطيقا الارتياب، التي تسعى إلى تحطيم الأسطورة والأصنام وتجاوز كل فهم ساذج بغية الوصول إلى المعنى الحقيقي للعقيدة، هو الاضطراب الطويل الذي عرفته العقيدة المسيحية بسبب الانحراف الذي لحقها، خاصة عقيدة التثليث التي لم يستسغها كثير من مفكري الغرب قديما وحديثا، وكذلك عقيدة الصليب التي أدرجها بول ريكور ضمن الأسطورة ويقول عنها: "فإن الأسطورة تعد فضيحة إضافية تضاف إلى الفضيحة الحقيقية، إلى فضيحة "جنون الصليب""[19]. وما ظهور الهيرمينوطيقا إلا خير معبر عن هذا الاضطراب. فقد كان هم مؤولي الكتاب المقدس هو انسجامه مع العقل وواقع البشر. فلا يكاد الفكر الديني الغربي يستقر على حال أو يؤمن بعقيدة، بل جعل كل جهده لنقد هذه العقيدة وكتابها المقدس، كما هو الحال لدى اسبينوزا.
إن المؤمن بالقرآن الكريم المعتقد بربانيته وقدسيته وصدقه لا يرى أثناء قراءته له أصناما ولا أساطير ولا خرافات ولا زيفا. بل إن القرآن نفسه يحكي هذا عن معاصري نزوله الذين لم يؤمنوا به وقالوا: "أساطير". فالإيمان بالقرآن ينافي وصفه بالأسطورة. لكن هذا لا يمنع من الاعتراف ببعض التفسيرات الأسطورية التي أعطاها بعض المفسرين للنص القرآني بسبب قصور عقلي وعلمي وواقعي؛ ذلك أن الظروف آنذاك لم تكن تسعف إلا بذلك. وهنا تبدو مهمة المعاصرين أساسا في إعطاء معنى جديد يساير ما وصل إليه العقل الإنساني وتطورات حياته من غير مساس بالجانب الغيبي للنص القرآني المطلوب الإيمان به.
وخلاصة القول: إن وظيفة الهيرمينوطيقا تكمن في عبور الفجوة التاريخية ما لم تتجاوز الضوابط التي سبقت الإشارة إليها أعلاه. وعليه تكون وظيفة قارئ القرآن اليوم:
- البحث في معاني السابقين وتفسيراتهم وأفهامهم ومدى صلاحيتها اليوم.
- البحث عن معان جديدة، تتجاوز أفهام السابقين، تحقق للنص خلوده من غير مساس بقدسيته وأحكامه ومقاصده.
وهذا يقتضي:
- التزود بفنون اللغة.
- إدراك مقاصد القرآن وأسباب نزوله.
- فقه الواقع الذي ينتمي إليه القارئ، ويدخل هنا جميع مكونات هذا الواقع وبكل علومه ومخترعاته.
والله أعلم.


[1]
- ديفيد كوزنز هوى، الحلقة النقدية.. الأدب والتاريخ والهيرمينوطيقا الفلسفية، ترجمة وتقديم خالدة حامد، (المجلس الأعلى للثقافة، القاهرة 2005)، ص 13
[2]
- Kelkel, Arion Lothar, ‘La légende de l’Etre, langage et poésie chez Martin Heidegger’ (Librairie philosophique, Jean Vrin, Paris, 1980), p 186.
[3]
- هانس جورج جادمير، فلسفة التأويل، ترجمة محمد شوقي الزين، (منشورات الاختلاف الجزائر، الدار العربية للعلوم بيروت، والمركز الثقافي العربي البيضاء ط2، 2006)، ص 63.
[4]
- حسن حنفي، تأويل الظاهريات الحالة الراهنة للمنهج الظاهراتي وتطبيقه في الظاهرة الدينية، (مكتبة النافذة، ط1، 2006)، ص 384
[5]
- جادمير، فلسفة التأويل ص 84.
[6]
- ينظر حسن حنفي، تطور الفكر الديني الغربي في الأسس والتطبيقات، (دار الهادي للطباعة والنشر والتوزيع، بيروت، لبنان ط1، 2004 )، ص 37.
[7]
- جادمير، فلسفة التأويل ص 64.
[8]
- Frieddrich. Schleiermacher, Le Statut de la Théologie, traduction Bernard Kaempf, (Labor et Fides, Genève, Les éditions de Cerf, Paris, 1994). p59.
[9]
- بول ريكور، صراع التأويلات.. دراسات هيرمينوطيقية، ترجمة منذر عياشي، مراجعة جورج زيناتي، (دار الكتاب الجديد المتحدة، بيروت، ط1، 2005)، ص 97.
[10]
- ينظر محمد شوقي الز ين، تأويلات وتفكيكات.. فصول في الفكر الغربي المعاصر، (المركز الثقافي العربي، البيضاء-بيروت، ط1، 2002)، ص 34-35.
[11]
- للتعرف على مدرسة برنتانو ينظر على سبيل المثال عز العرب لحكيم بناني، الظاهراتية وفلسفة اللغة.. تطور مبحث الدلالة في الفلسفة النمساوية، (أفريقيا الشرق، ط1، 2003)، ص 7-10.
[12]
- إ.م. بونسكي، الفلسفة المعاصرة في أوربا، ترجمة عزت قرني، (سلسلة عالم المعرفة، المجلس الوطني للثقافة والفنون والآداب، الكويت عدد 165، 1992)، ص 231.
[13]
- جادمير، الحقيقة والمنهج ص 381.
[14]
- بول ريكور، من النص إلى الفعل.. أبحاث التأويل، ترجمة محمد برادة وحسان بورقية، (دار الأمان، الرباط، ط1، 2004)، ص53.
[15]
- ريكور، صراع التأويلات ص 448.
[16]
- نفسه ص 193-194.
[17]
- الشاطبي، الموافقات، 3/8.
[18]
- ينظر هنا مثلا الشاطبي، الموافقات 2/5 حيث يقول: "والمقاصد التي ينظر فيها قسمان: أحدها يرجع إلى قصد الشارع، والآخر إلى قصد المكلف".
[19]
- ريكور، صراع التأويلات ص 448.
 
جزاك الله خيرًا يا دكتور ..
قرأت هذا الموضوع منذ يومين لكن لم أتمكن من الرد السريع ..
وبارك الله فيك فقد استفدت منه كثيرًا ..
وإن كانت لي ملاحظات إلا أنها ليست جوهرية ..​
 
شكر الله لكم فقد استفدت أيضا من التلخيص الملم بالموضوع الماما جيدا ، و ان كانت لي ملاحظة جوهرية : و هي عن مصادقتكم بعض الشيء على ما ذهب جادمير إليه من أن كل تفسير للنص فهو تفسير صحيح، و هي مصادقة فيها من المجازفة ما فيها , اذ لعلماء النصوص المسلمين و متخصصي التفسير و الأصول تفصيل مشهور في هذا الباب من تمريره في اختلاف القراءات للنص اختلاف تنوع دون اختلاف التضاد، و ان كان بعض ائمة المسلمين كالأشعري و الباقلاني قد صار الى بعض قول جادمير استنادا الى بعض اقوال للسلف حكاها المحدثون ..الا انها تبقى اقوالا غير محققة النسبة الى اصحابها من السلف و الأئمة الذين صاروا الى القول انما صاروا اليه في الظنيات من الشرع دون القطعيات و اليقينيات التي يبقى خلافهم فيها مع قول الجمهور خلافا لفظيا ، و ان كان احتج بها بعدهم الهرامسة و الغنوصيون من المفسرين و اتكلوا عليها لادخال نفس التفسيرات الباطنية المسيحية الى جو التفسير المقبول عند الأمة، و يبقى اجماع السلف و معهم علماء التفسير على تخطئة احد المجتهدين و ربط التخطئة بنوع الاجتهاد , او التفطن لموقع المراقب للنص من مكان و زمان صدوره و الجماعات الناقلة له هو الضابط الذي ربما لم تتفطن له هذه المدارس في قراءات القارئ للنص المقدس و نسبة تأويله للنص من عدمها و ربط الجميع بالطاقة المبذولة في الاجتهاد، دون ان ننفي من جهة شمول مجموع النص المقدس و استحالة الاحاطة بمعانيه كلها من طرف عقل بشري واحد كما نص عليه هايدغر في هذا المعنى ان مجموع ظواهر الوجود فضلا عن ماهياتها يستحيل ادراكها جميعا لعقل بشري واحد ، دون ان ننفي امكانية الاتصال بالنص من مجموع الفهم البشري كله و الاحاطة بظواهره التي ظهرت مقتضياتها في زمنه و مكانه او المعبر عنه بعصمة الاجماع ...هذا ما بدا لي و الله أعلم
 
وقفة مع دعاة الهرمينوطيقا :


تشرئب أعناق العلماء عموما،ً والفقهاء والأصوليين خصوصاً, إلى السبل الكفيلة لجعل الفقه وأصوله يواكبون الحضارة والتطور, بعد أن توقف عطاؤها على إثر غلق باب الاجتهاد, وإن كانت يد الدهر لم تبخل بأفذاذ يخرقون الأسوار التي ضربت على الفقه وأصوله.
وهي كلها جهود مباركة, شكر الله لأصحابها سعيهم و بارك في اجتهادهم, إلا أن بعضا من بني جلدتنا يتطاول على الدعائم التي استعصت على الهدم من الخارج, فامتدت أيديهم لهدم حصوننا من الداخل في وقت ارتبط كل ما له أصالة بالإرهاب, وأصبح الكل ينشد أنشودة محاربة الإرهاب, وما كان من بعض الصادقين إلا أن صدقوا وسايروا بعضهم في ما اقترحوه من دعم لعلم أصول الفقه بمنهج تعدد القراءات أو الهرمينوطيقا, كما اقترح آخرون دعم علم أصول الفقه بعلم المصطلحي, قد سبق هذه الدعوات دعوة بإدماج علم المنطق في علم أصول الفقه, فاعترضها أهل زمانها وبَانَ علم المنطق من علم أصول الفقه, و يبقى السؤال ما موقفنا من الدعوات المعاصرة؟ أنسايرها لكون بعض أصحاب هذه الدعوات من الصادقين الذين لا نشك بتاتا في إخلاصهم لدينهم وغيرتهم الصادقة ؟ أم نتحفظ من كل جديد, و نجمد على إرث الجهابذة السابقين فيرمينا الزمن على هامش الحياة ؟ لذا وجب فحصها بإمعان و انتقاء ما ينفع الأمة و درء ما يجلب الضرر.


يقول محمد مجتهد شبستري : " الفلسفة الهرمينوطيقية غير منفصمة عن التراث أساسا. إنها فلسفة متناسجة بطبيعتها مع التراث والسنة، والذين لا تربطهم بالسنة وشائج روحية لا يعبؤون بالهرمنيوطيقا, لأن الهرمينوطيقا في الأصل نظرية للتفسير والتأويل.
إن انبثاق الهرمينوطيقا في اليهودية والمسيحية والإسلام جاء على ضوء السؤال : كيف يمكن التوافر على فهم أعمق وأصوب لتعاليم الأنبياء والأئمة المتأتية عن الرسالة الإلهية والمتجلية في الكتب المقدسة؟ فحوى هذه العملية أننا نتحرى الحقيقة المودعة في الكتب المقدسة وتعاليم الأنبياء باستخدام أداة الهرمينوطيقا الفلسفية, نريد أن نفهم تلك الحقيقة ونعيشها. والذين يرون أنفسهم في غنى عن الأسفار المقدسة والإرشادات النبوية, ويعتقدون أن الإنسان المعاصر قادر على صياغة نماذج يعيش في ظل هديها ناسيا الماضي, لا يفكرون أبدا في تفسير مضامين الكتب المقدسة وتأويلها. ونحت مناهج ونظريات لعملية التفسير هذه"( مقال لمحمد مجتهد شبستري في مجلة قضايا إسلامية معاصرة، العدد 19، ص 31- 32. )
إن حوزاتنا العلمية لن تكون قادرة على تبوء مكانتها بين الثقافات الإنسانية في عصر الحداثة, و التحرر من التضارب والتناشز والتخبط الذي يسودها, من دون مرتكزات في الهرمنيوطيقا الفلسفية, واتخاذ وجهة مكينة على صعيد الهرمنيوطيقا الدينية. إن رفع لواء الهرمنيوطيقا الفلسفية و الدعوة إلى تأسيس هرمينوطيقا دينية إسلامية هي عين الإخلاص لثقافة المسلمين و إسداء الخدمة لها( نفس المصدر، ص 35)
الهرمينوطيقا الفلسفية تعني بجلاء أنها أداة لتحصين التراث الديني وإثرائه. وليست حيلة لإقصائه. ويعلم من له أدنى معرفة بالدراسات الهرمينوطيقية الفلسفية والدينية في العصر الحديث أن استخدامها في علم اللاهوت والمعارف الدينية يقصد منه إحياء " الحقيقة الدينية " والإبقاء عليها دون نبذها أو تغييبها(- نفس المصدر السابق، ص32.)
ويقول حسن حنفي : " إن الهرمينوطيقا تعني علم التأويل والتفسير دون وضع فروق دقيقة بينهما إلا إذا قلنا : إن التفسير يضل هو التفسير الذي يعتمد على اللغة وأسباب النزول, دون أن ندخل في الباطنية ودون أن ندخل في مستويات أعماق النص.
أما الهرمينوطيقا أي علوم التأويل فهذه تتجاوز مستوى علوم اللغة ومستوى الواقع والعالم إلى مستوى المعاني الباطنية للنص وأبعاده المختلفة، نزل القرآن على سبعة أحرف، فهذا التأويل ينطبق أكثر على الهرمينوطيقا : لأن التأويل يتضمن الأبعاد الباطنية للنص إذا ما عاشه الشعور, في حين أن التفسير هو مجرد ضبط لغوي, وفهم عن طريق مباحث الألفاظ, ربما في العودة أيضا إلى ما سماه الأصوليون والقدماء تحقيق المناط وتنقيح المناط. الهرمينوطيقا الدينية هي منهج تتجلى من خلاله أخلاقيات النص، وتحاول أن تجعل المنهج أداة لكشف الحقيقة الدينية بصرف النظر عما إذا كانت حقيقة ميتافزيقية أم حقيقة طبيعية أم حقيقة أخلاقية اجتماعية. الهرمينوطيقا الدينية تحاول أن تبني عالم الدين كما كشف عنه النص دون أن تأخذ موقفا ودون أن تقوم بعملية نقدية"( مجلة قضايا إسلامية معاصرة عدد 19، في مقال له تحت عنوان الهرمينوطيقا وعلوم التأويل، ص 88 إلى 116.)
ويكشف لنا حسن حنفي أن : " الخطاب الديني : سواء كان مقدسا أو دنيويا, إلهيا أم إنسانيا, وحيا أم إلهاما، نقلا أم عقلا، و هو أكثر الخطابات عمومية لأنه سلطوي أمري تسليمي إذعاني، يطالب بالإيمان بالغيب وبالعقائد, ويعتمد على التصوير الفني وإثارة الخيال، والحياة المستقبلية وما بها من وعود وخلاص من آلام البشر. قد يكون خطابا عقائديا كما هو الحال في علم الكلام، أو باطنيا كما هو الحال في التصوف، أو تشريعيا كما هو الحال في الفقه وأصوله، يقدسه الناس حتى ليصبح بديلا عن المقدس ذاته, له أصول وفروع, وله قلب وأطراف, وبه حق وباطل, فرقة ناجية وفرق هالكة, يعتمد على سلطة النص أكثر من اعتماده على سلطة العقل. يعتبر نفسه حكما ومقياسا لأنواع الخطابات الأخرى. يتوحد به الحكم بحيث يصبح الخطاب الديني والخطاب السياسي خطابا واحدا. تكثر المذابح والحروب، ويتم تكفير المخالفين باسمه. يدل على مرحلة تاريخية قديمة قاربت على الانتهاء لأنه أقدم على أنواع الخطاب. يؤدي أحيانا إلى الغرور والتعالي والتعصب ولا يقبل الحوار لأنه خطاب أخلاقي يعتمد على سلطة القائل وإرادته. لا يحتاج إلى مقاييس للصدق إلا من صدق القائل"( المصدر السابق ضمن مقال له تحت عنوان : تحليل الخطاب، ص222.)

وهنا يكتنفنا إضمار في هذه الأقوال وهي من مدرسة اعتزالية محضة. إنها الموضة الجديدة التي خرجت بها في حلة جديدة, ولا غرو إن سيقت من مدارس تفننت في اعتماد العقل وتبنته مدرسة آل البيت، كما تبنته مراكز الدراسات الفلسفية لأهل السنة ةالجماعة.(على سبيل المثال مركز الدراسات لد. طه عبد الرحمان بالمغرب).
فهل يكفينا هذا لكونه جاءنا من معتزلة جدد للصد والإعراض عنه وإلى غير رجعة, أم نبيّن بالدليل والبرهان كما بين سلفنا الصالح انحراف الفكر الاعتزالي وانسياقه وراء الأوهام وانجرافه وراء تيارات قد تقذفه على شاطئ الخسران دنيا وأخرى؟ أم نكشف زلل القائل وما ساقه من كفر صريح وزندقة ساقها من عند مشايخه مثل : شلاير ماخر واسبينوزا وماسينيون؟
ونتساءل مع دعاة الهرمينوطيقا هل ضاقت بكم السبل؟ وانسدت الآفاق أمام أعينكم حتى دخلتم جحر الضب تقلدون غيركم, بل وتتخذونهم أئمة هداة, وتنحتون أقوالهم كأنها تنزيل من التنزيل, لها مكانها الأقدس في قلوبكم, وتنزعون القدسية عن النصوص المقدسة لا لشيء إلا لأن تدنس برجس تعدد القراءات؟.
حتى نكون على بينة مما يريده مسوقو الهرمينوطيقا : وهو إخراج علم أصول الفقه بضوابطه الدقيقة, إلى تشتت وتنوع حيث تتضارب الآراء وتتناقض من أقصى الإفراط إلى أقصى التفريط, وما بالنا نسبق الحكم على الاستدلال؟ فحسن حنفي يعرفنا بعلم التأويل بقوله : " أما في علوم التأويل, فما البرهان؟ هنا تتعدد القراءات, إن المرآة أي النص ما هو إلا أنك تستطيع بالمرآة أن توجهها لكي تكشف منظورا, ولو غيرت اتجاهها فإنك تكشف منظورا آخر, أنت عندما تغير اتجاهك من المرآة فسترى منظورا, ففي التأويل لا توجد حقيقة موضوعية كما هو الحال في نظرية المعرفة, ولكن هناك عدة قراءات, عدة منظورات, عدة رؤى, فالتأويل رؤية, وكأن النص مثل البلورة, البلورة متعددة الأبعاد والجوانب, القراءة هي إقامة البلورة على أحد الجوانب, البلورة يمكن أن يكون بها مئة جانب, نستطيع أن ندرك كل جوانب البلورة بواسطة الحواس, لكن القراءة هي أن تأخذ هذه البلورة المتعددة الجوانب وتجعلها ترتكز فوق جانب واحد, وتراها وكأنها ثابتة, هذه هي الرؤية, وبالتالي تتعدد القراءات.
أنا أستطيع أن اقرأ لك القرآن الكريم وأبين أنه كتاب اشتراكي, من خلال استنطاق قوله تعالى :
{وَالَّذِينَ فِي أَمْوَالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ لِلسَّائِلِ وَالْمَحْرُوم [ سورة المعارج, الآية : 24 - 25.
{وَلا تُؤْتُوا السُّفَهَاءَ أَمْوَالَكُمْ} سورة النساء , الآية : 5
{كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ مِنْكُمْ } - سورة الحشر, الآية : 7
أستطيع أن أذكر لك عشرات الآيات التي تبين حقوق الفقراء في أموال الأغنياء, ويستطيع إنسان آخر أن يثبت لي العكس, ويبين أن القرآن فيه حرية التجارة, وأن التجارة والربح والخسارة إحدى الصور التي يستعملها القرآن الكريم للإقناع وللبرهان على الحياة الأخروية:
{هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلَى تِجَارَةٍ تُنجِيكُمْ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ } سورة الصف، الآية 10.
فالتجارة شيء محبّب
{فَإِذَا قُضِيَتْ الصَّلاةُ فَانتَشِرُوا فِي الأرْضِ وَابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّه} سورة الجمعة, الآية : 10.
فأي القراءتين أصح؟
كلتاهما تقوم على منهج الاجتزاء, فالقراءة هي قراءة انتقائية, وأنا أثبت أن القرآن فيه جوانب من العدالة الاشتراكية؛ لأنني صاحب موقف تجاه عصري, لأن عصري يطغى فيه التفاوت الشاسع بين الأغنياء والفقراء, فأنا بما أنني مصلح اجتماعي أريد أن أحقق العدالة الاجتماعية, فأقرأ القرآن من هذا المنظور.
بينما إنسان آخر في الخليج, ولأن عوائد النفط بالملايين, ويريد أن يستثمرها, ومستوى الدخل مرتفع جدا وليس هناك فقراء, لذلك تجد عوائد النفط مكدسة في البنوك الأجنبية في الخارج, ويحاولون هناك أن يدللوا على حرية التجارة, فما دام الإنسان يزكي, ويعطي زكاة المال ويتصدق على الفقراء, إذن هذا يكفي؛ لأنه كان من الصحابة من الأغنياء,كعثمان بن عفان, وكان منهم من الفقراء أبو هريرة وأبو ذر, وكان لا أحد يعيب على الآخر.
ومن ثم القراءة هي وجهة نظر, طبقا لوضع المفسر في العالم, ودوره الاجتماعي, وعلى هذا تتعدد القراءات, لا يوجد صواب وخطأ, كلتاهما قراءة, القراءات متعددة, فإذا ما تصارعت قراءة إسلامية وقراءة اشتراكية، فإن هذا التصارع ليس في النص ولكن في المواقف الاجتماعية, أنا بوعي الاجتماعي أنتمي إلى الطبقات الفقيرة, وأدافع عن الفقراء, وآخر بوعيه الاجتماعي ينتمي إلى الطبقات الغنية, فأنا أعطي للنص تفسيرا اشتراكيا, وهو يعطي تفسيرا رأسماليا, إذا تصادمنا, وكل منا يدعي أنه على حق والآخر على باطل فإنه في الحقيقة لا يوجد معيار للصواب والخطأ داخل النص, ولكن في المواقف الاجتماعية في الخارج, لذلك أقول يوجد يسار إسلامي ويمين إسلامي ووسط إسلامي, فاليسار الإسلامي هو صاحب المواقف الاجتماعية أولا, ثم يؤول النص من أجل تدعيم مواقفه الاجتماعية, واليمين الإسلامي هو صاحب المواقف الاجتماعية التي لا تدافع عن الفقراء, ولا تعتبر جريمة, ما دام الإنسان يدفع الزكاة.
ويقرأ النص بهذا المنظور, فالخلاف ليس في النص, وإنما في مناهج التأويل, فكل قراءة هي اجتزاء, كل قراءة هي خيانة للكل, لأنها ترد الكل إلى أحد أجزائه, والصراع هو صراع اجتماعي, أنا باعتباري أنتمي بوعي إلى الطبقات الفقيرة, والآخر باعتباره ينتمي بوعيه إلى الطبقات الغنية, كلانا في موقفين اجتماعيين متصارعين.
فتنوع مناهج التفسير واختلاف المفسرين ليس السبب فيها يرجع إلى النص ولكن لاختلاف المواقف الاجتماعية.
أما كيف يمكن التوفيق بين وحدة الأمة وتعدد القراءات؟ فإن وحدة الأمة لا تعني وحدة الفكر, ذلك أن حق الاختلاف حق شرعي, والله خلقنا مختلفين, شعوبا وقبائل لنتعارف.
من هنا تتنوع أساليب التفسير, فهناك التفسير بالمعقول, التفسير بالمأثور, التفسير بالرواية, التفسير بالدراية, التفسير باللغة, التفسير من منظور التصوف, ولذلك تعددت التفسيرات, فهناك التفسيرات العقائدية, والتفسيرات التاريخية كتفسير الطبري, والتفسيرات الاجتماعية كالمنار، وتفسيرات أدبية جمالية كتفسير القرآن لسيد قطب, فاختلافات التفسير هي اختلاف في المواقف الاجتماعية والسياسية, اختلاف في المنظور, وهذا لا يتنافى مع وحدة الأمة الممثلة في وحدة النص, هناك وحدة النص وهو القرآن الكريم, ثم تعدد القراءات طبقا لتنوع المنظور الشخصي للمفسر ومرجعياته ".( مجلة قضايا إسلامية معاصرة, مقال لحسن حنفي تحت عنوان الهرمينوطيقا وعلوم التأويل، ص : 103- 106.)
فهل دعاة المحافظة على علم الأصول نقيا من شوائب الفكر الاعتزالي لديهم ما يرفع التحدي عاليا في وجه كل متهور, إذ ما جاء الفكر الأصولي إلا ليكون السد المنيع في وجه دعاة الانحلال والتحلل من القيم ـ أم أن الأمر لا يعدو أن يكون دافعه الغيرة- وإبطال حجج الخصم كما يفعل كل مغلوب؟ لنفسح المجال لمصطفى ملكيان ليعرب عن رأيه في الموضوع : " يمكن النظر للقرآن بمنظار هرمينوطيقي كأي كتاب آخر وكأي نص منطوق أو مكتوب. بيد أن للسؤال برأيي جزءا آخر : هل بالإمكان تطبيق هذه النظرة الهرمينوطيقية على القرآن أيضا أم لا؟ أو إلى أي مدى يمكن تطبيقها على القرآن؟ أعتقد أن كثيرا مما في الهرمينوطيقا من الميسور تطبيقه على القرآن, إلا أن القرآن يختلف عن سواه من الكتب الدينية وغير الدينية اختلافين أساسين :
الأول : أن جميع الألفاظ وعبارات القرآن من إنشاء وقول الله تعالى, وهذا ما لم يزعم لأي كتاب غيره على الإطلاق، ومن يؤمن بسماوية القرآن يرى بوناً شاسعا بينه وبين باقي الكتب.
الثاني : أن الترتيب الحالي لمحتويات القرآن لا يمثل ترتيب التنزيل وتسلسله التاريخي.
هاتان السمتان تدعوان إلى التريث في تطبيق قواعد الهرمينوطيقا على هذا الكتاب, فجميع القواعد الهرمينوطيقا التي تطبق على النصوص المكتوبة والمنطوقة, تشترك على الأقل في كونها لا تطبق على نصوص لها الميزتان المذكورتان للقرآن" ( مجلة قضايا إسلامية، مقال لمصطفى مليكان تحت عنوان : تساؤلات العقل الحديث،121-122)
ويضيف القول : "الكثير مما سجله علماء الأصول في مباحث الألفاظ يرفضه الهرمينوطيقيون اليوم, وعليه نحتاج إلى إعادة النظر في هذه المسائل وقد لا تنتهي إعادة النظر إلى نفس النتائج التي خلص إليها الأصوليون ولا أقول إنها تتعارض معها أو تنسفها بالضرورة ولكن إعادة النظر ممارسة مهمة ونافعة على أية حال"(المصدر السابق ص 122)
إنها شهادة شاهد من أهلها فكيف بمن يدعون إلى إدخال علم الهرمينوطيقا في علم أصول الفقه؟ فكيف يستوي هذا القول وكيف يستقيم؟

إن من يدرس كتاب الخطيب الإسكافي " درة التنزيل وغُرَّة التأويل"، و"مشكل القرآن" و"مختلف الحديث" لابن قتيبة، وكتاب "حجج القرآن" لأحمد بن محمد الرازي، وجل كتب الحجج والجدل عند الفقهاء ليقف وقفة إعجاب لما أفاء الله عليهم من فهم خاص، كما أن من يتعامل مع كتب الحكيم الترمذي يدرك ما خصه الله به من سعة الفهم والإدراك مما لم يحط به غيره، ودعنا مما ميز الله به ابن عربي الحاتمي في فتوحاته المكية, هذا فضلا عن كتب الدراسات المقارنة بصرف النظر عن جدل المتكلمين.
ولئن ساقت هذه السطور المحاولة لإبعاد علم المصطلح وعلم الهرمينوطيقا عن مجال علم الأصول، فهل من بديل والحاجة تعوزنا لاستخلاص الوحدة الموضوعية والنسقية الفكرية للعلوم الشرعية؟
نعم إنه سبيل العكوف بباب الله ليستهدي المرء ويبلغ مراده : إنها الربانية التي من خلالها ستنكشف الحقائق جالية واضحة, لا لبس فيها ولا غموض, ولا مسايرة فيها للآراء المخطئة, ولا تداهن العاطفة المجنحة, ولا تماري أحدا, إذ تنبثق من قوانين ربانية صارمة لا تحابي أحدا, فضوابطها كلية شاملة لا نسبية فيها.
فهل بعد تسليط الأضواء على السنن الإلهية و قوانينها, ينسحب دعاة الهرمينوطيقا و تكون لهم الشجاعة ليعترفوا بانهزام النسبي أمام الكلي, ويعتبر دعاة الفلسفة الوجودية بخطأ مبدئها؟ أم يتمادون في جرأتهم ووقاحتهم؟ وقديما قيل : إن لم تستح فاصنع ما شئت.
إن السنن الإلهية حجة الله على خلقه من مؤمن وكافر.
 
عودة
أعلى