إرشاد أولي الالباب إلي أسرار الحذف فی الكتاب (كتاب الله)

الجوهرة الواحدة والخمسون

وَمَا مَنَعَ ٱلنَّاسَ أَن يُؤْمِنُوۤاْ إِذْ جَآءَهُمُ ٱلْهُدَىٰ وَيَسْتَغْفِرُواْ رَبَّهُمْ إِلاَّ أَن تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ ٱلأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً }

قال الالوسي فى تفسيره:

وإذا فسرت السنة بالهلاك لم تحتج لما ذكر، وأن وما بعدها في تأويل المصدر وهو فاعل { مَنَعَ } والكلام بتقدير مضاف

أي / ما منعهم من ذلك إلا طلب الهلاك في الدنيا قاله الزجاج،

وجوز صاحب «الغينان» تقدير انتظار أي ما منعهم إلا انتظار الهلاك،

وقدر الواحدي تقدير أي ما منعهم إلا تقدير الله تعالى إتيان الهلاك عليهم، وقال: إن الآية فيمن قتل ببدر وأحد من المشركين، ويأباه بحسب الظاهر كون السورة مكية إلا ما استثنى،

والداعي لتقدير المضاف أنه لو كان المانع من إيمانهم واستغفارهم نفس إتيان الهلاك كانوا معذورين وأن عذاب الآخرة المعد للكفار المراد من قوله تعالى: { أَوْ يَأْتِيَهُمُ ٱلْعَذَابُ قُبُلاً } منتظر قطعاً، وقيل لأن زمان إتيان العذاب متأخر عن الزمان الذي اعتبر لإيمانهم واستغفارهم فلا يتأتى ما نعيته منهما.

واعترض تقدير الطلب بأن طلبهم سنة الأولين لعدم إيمانهم وهو لمنعهم عن الإيمان فلو كان منعهم للطلب لزم الدور.ودفع بأن المراد بالطلب سببه وهو تعنتهم وعنادهم الذي جعلهم طالبين للعذاب بمثل قولهم:
{ ٱللَّهُمَّ إِن كَانَ هَـٰذَا هُوَ ٱلْحَقَّ مِنْ عِندِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنَا حِجَارَةً مّنَ ٱلسَّمَاء }
[الأنفال: 23] الخ. وتعقب بأن فيهم من ينكر حقية الإسلام كما أن فيهم المعاند، ولا يظهر وجه كون الطلب ناشئاً عن إنكار الحقية وكذا لا يظهر كونه ناشئاً عن العناد...
 
الجوهرة الثانية والخمسون

يَسْأَلُونَكَ مَاذَآ أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ ٱلطَّيِّبَاتُ وَمَا عَلَّمْتُمْ مِّنَ ٱلْجَوَارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ ٱللَّهُ فَكُلُواْ مِمَّآ أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَٱذْكُرُواْ ٱسْمَ ٱللَّهِ عَلَيْهِ وَٱتَّقُواْ ٱللَّهَ إِنَّ ٱللَّهَ سَرِيعُ ٱلْحِسَابِ }

قال القرطبي فى تفسيره:

قوله تعالىٰ: { وَمَا عَلَّمْتُمْ } أي وصَيْد ما علَّمتم؛ ففي الكلام إضمار لا بدّ منه، ولولاه لكان المعنى يقتضي أن يكون الحِلّ المسؤول عنه متناولا للمعلَّم من الجوارح المكلَّبين، وذلك ليس مذهباً لأحد: فإن الذي يبيح لحم الكلب فلا يخصص الإباحة بالمعلَّم؛
 
الجوهرة الثالثة والخمسون

وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَٰؤُاْ ٱللَّهِ وَأَحِبَّٰؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُم بِذُنُوبِكُم بَلْ أَنتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَن يَشَآءُ وَيُعَذِّبُ مَن يَشَآءُ وَللَّهِ مُلْكُ ٱلسَّمَٰوَٰتِ وَٱلأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَإِلَيْهِ ٱلْمَصِيرُ }

قال الرازى فى تفسيره

قوله تعالى: { وَقَالَتِ ٱلْيَهُودُ وَٱلنَّصَـٰرَىٰ نَحْنُ أَبْنَاء ٱللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ } وفيه سؤال: وهو أن اليهود لا يقولون ذلك البتة، فكيف نقل هذا القول عنهم؟ وأما النصارى فإنهم يقولون ذلك في حق عيسى لا في حق أنفسهم، فكيف يجوز هذا النقل عنهم؟

أجاب المفسرون عنه من وجوه: الأول: أن هذا من باب حذف المضاف، والتقدير نحن أبناء رسل الله، فأضيف إلى الله ما هو في الحقيقة مضاف إلى رسل الله، ونظيره قوله
{ إِنَّ ٱلَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ ٱللَّهَ }...
 
الجوهرة الرابعة والخمسون

إِلاَّ أَن يَشَآءَ ٱللَّهُ وَٱذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَىٰ أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لأَقْرَبَ مِنْ هَـٰذَا رَشَداً }

قال الالوسي فى تفسيره

{ وَٱذْكُر رَّبَّكَ } تعالى أي مشيئة ربك فالكلام على حذف مضاف، وذكر مشيئته تعالى على ما يدل عليه ما قبل أن يقال إن شاء الله تعالى، وقد قال ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حين نزلت { إِذَا نَسِيتَ } أي إذا فرط منك نسيان ذلك ثم تذكرته فإنه ما دام ناسياً لا يؤمر بالذكر وهو أمر بالتدارك عند التذكر سواء قصر الفصل أم طال. وقد أخرج ابن جرير والطبراني وابن المنذر وغيرهم عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه كان يرى الاستثناء ولو بعد سنة ويقرأ الآية، وروي ذلك عن أئمة أهل البيت رضي الله تعالى عنهم وهو رواية عن الإمام أحمد عليه الرحمة، وأخرج ابن المنذر عن ابن جبير في رجل حلف ونسي أن يستثني قال: له ثنياه إلى شهر، وأخرج ابن أبـي حاتم من طريق عمرو بن دينار عن عطاء أنه قال: من حلف على يمين فله الثنيا حلب ناقة قال: وكان طاووس يقول ما دام في مجلسه، وأخرج ابن أبـي حاتم أيضاً عن إبراهيم قال: يستثني / ما دام في كلامه. وعامة الفقهاء على اشتراط اتصال الاستثناء في عدم الحنث ولو صح جواز الفصل وعدم تأثيره في الأحكام لا سيما إلى الغاية المروية عن ابن عباس لما تقرر إقرار ولا طلاق ولا عتاق ولم يعلم صدق ولا كذب.

ويحكى أنه بلغ المنصور أن أبا حنيفة رضي الله تعالى عنه خالف ابن عباس في هذه المسألة فاستحضره لينكر عليه فقال له أبو حنيفة: هذا يرجع إليك إنك تأخذ البيعة بالأيمان أفترضى أن يخرجوا من عندك فيستثنوا فيخرجوا عليك فاستحسن كلامه. ومن غريب ما يحكى أن رجلاً من علماء المغرب أحب أن يرى علماء بغداد ويتحقق مبلغ علمهم فشد الرحل للاجتماع معهم فدخل بغداد من باب الكرخ فصادف رجلين يمشيان أمامه يبيعان البقل في أطباق على رؤوسهما فسمع أحدهما يقول لصاحبه: يا فلان إني لأعجب من ابن عباس رضي الله تعالى عنهما كيف جوز فصل الاستثناء، وقال بعدم تأثيره في الأحكام ولو كان الأمر كما يقول لأمر الله تعالى نبيه أيوب عليه السلام بالاستثناء لئلا يحنث فإنه أقل مؤنة مما أرشده سبحانه إليه بقوله تعالى:
{ فَخُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَٱضْرِب بّهِ وَلاَ تَحْنَثْ }
[ص: 44] وليس بين حلفه وأمره بما ذكره أكثر من سنة فرجع ذلك الرجل إلى بلده واكتفى بما سمع ورأى، فسئل كيف وجدت علماء بغداد؟ فقال: رأيت من يبيع البقل على رأسه في الطرقات من أهلها بلغ مبلغاً من العلم يعترض به على ابن عباس رضي الله تعالى عنهما فما ظنك بأهل المدارس المنقطعين لخدمة العلم. والإنصاف أن هذا الاعتراض على علامة يستكثر ممن يبيع البقل والله تعالى أعلم بصحة النقل. لا يقال: إن ظاهر الآية على ما سمعت يطابق ما ذهب إليه الحبر وإلا لم يكن للتدارك معنى وكذا ما جاء في الخبر لما قالوا: إن التدارك فيما يرجع إلى تفويض العبد يحصل بذكره بعد التنبه أما في التأثير في الحكم حتى يخرجه عن الجزم فليست الآية مسوقة له ولا دالة عليه بوجه.

وقال بعضهم: إن ذلك من خصائصه صلى الله عليه وسلم فله عليه الصلاة والسلام أن يستثنى ولو بعد حين بخلاف غيره. فقد أخرج ابن أبـي حاتم وابن مردويه والطبراني في «الكبير» بسند متصل عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنه قال في الآية: إذا نسيت الاستثناء فاستثن إذا ذكرت ثم قال: هي خاصة لرسول الله صلى الله عليه وسلم وليس لأحدنا أن يستثني إلا في صلة يمين. وقيل ليس في الآية والخبر أن الاستثناء المتدارك من القول السابق بل من مقدر مدلول به عليه والتقدير في الآية كلما نسيت ذكر الله تعالى اذكره حين التذكر إن شاء الله تعالى، وفي الحديث «لا أنسى المشيئة بعد اليوم ولا أتركها إن شاء الله تعالى أو أقول إن شاء الله تعالى إذا قلت إني فاعل أمراً فيما بعد»، ولا يخفى أنه خلاف الظاهر جداً.

وجوز أن يكون المعنى واذكر ربك بالتسبيح والاستغفار إذا نسيت الاستثناء، والمراد من ذلك المبالغة في الحث عليه بإيهام أن تركه من الذنوب التي يجب لها التوبة والاستغفار، وقيل المعنى واذكر ربك وعقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك ذلك على التدارك، وحمل النسيان على الترك مجاز لعلاقة السببية والمسببية أو اذكر ربك إذا عرض لك نسيان ليذكرك المنسي، و { نَسِيتَ } على هذا منزل منزلة اللازم، ولا يخفى بعد ارتباط الآية على هذين المعنيين بما سبق.

وحمل قتادة الآية على أداء الصلاة المنسية عند ذكرها فإذا أراد أن المراد من الآية واقض الصلاة المنسية إذ ذكرتها فهو كما ترى وأمر الارتباط كما في سابقه، وإن أراد أنها تدل على الأمر بقضاء الصلاة المنسية عند / ذكرها لما أنها دلت على الأمر بذكر الاستثناء المنسي، وأمر الصلاة أشد والاهتمام بها أعظم فالأمر أسهل ولكن ظاهر كلامهم أنه أراد الأول.

وأخرج ابن أبـي شيبة والبيهقي في «شعب الإيمان» وغيرهما عن عكرمة أنه قال في الآية: أي اذكر ربك إذا غضبت، ووجه تفسير النسيان بالغضب أنه سبب للنسيان، وأمر هذا القول نظير ما مر.

وقال ابن الجوزى فى زاد المسير

قوله تعالى: { واذكر ربَّكَ إِذا نسيتَ } قال ابن الأنباري: معناه: واذكر ربَّكَ بعد تقضِّي النسيان، كما تقول: اذكر لعبد الله ـ إِذا صلّى ـ حاجتك، أي: بعد انقضاء الصلاة.

وللمفسرين في معنى الآية ثلاثة أقوال.

أحدها: أن المعنى: إِذا نسيتَ الاستثناء ثم ذكرتَ، فقل: إِن شاء الله، ولو كان بعد يوم أو شهر أو سنة، قاله سعيد بن جبير، والجمهور.

والثاني: أن معنى «إِذا نسيتَ»: إِذا غضبتَ، قاله عكرمة، قال ابن الأنباري: وليس ببعيد، لأن الغضب يُنتج النسيان.

والثالث: إِذا نسيتَ الشيء فاذكر الله ليذكِّرك إِياه، حكاه الماوردي.

فصل

وفائدة الاستثناء أن يخرج الحالف من الكذب إِذا لم يفعل ما حلف عليه، كقوله في قصة موسى:
{ ستجدني إِن شاء الله صابراً }
[الكهف: 70]، ولم يصبر، فسَلِم من الكذب لوجود الاستثناء في حقه. ولا تختلف الرواية عن أحمد أنه لا يصح الاستثناء في الطلاق والعتاق، وأنه إِذا قال: أنتِ طالق إِن شاء الله، وأنتَ حُرٌّ إِن شاء الله، أن ذلك يقع، وهو قول مالك؛ وقال أبو حنيفة والشافعي: لا يقع شيء من ذلك. وأما اليمين بالله تعالى؛ فإن الاستثناء فيها يصح، بخلاف الطلاق، وكذلك الاستثناء في كل ما يكفِّر، كالظهار، والنذر، لأن الطلاق والعتاق لفظه لفظ إِيقاع، وإِذا علَّق به المشيئة، علمنا وجودها، لوجود لفظ الإِيقاع من جهته، بخلاف سائر الأيمان، لأنها ليست بموجبات للحكم، وإِنما تتعلق بأفعال مستقبلة.

وقد اختُلف في الوقت الذي يصح فيه الاستثناء على ثلاثة أقوال.

أحدها: أنه لا يصح الاستثناء إِلا موصولاً بالكلام، وقد روي عن أحمد نحو هذا، وبه قال أكثر الفقهاء.

والثاني: أنه يصح ما دام في المجلس، قاله الحسن وطاووس، وعن أحمد نحوه.

والثالث: أنه لو استثنى بعد سنة، جاز، قاله ابن عباس، ومجاهد، وسعيد ابن جبير، وأبو العالية. وقال ابن جرير الطبري: الصواب للإنسان أن يستثني ولو بعد حنثه في يمينه، فيقول: إِن شاء الله، ليخرج بذلك مما ألزمه اللهُ في هذه الآية، فيسقط عنه الحرج، فأما الكفَّارة فلا تسقط عنه بحال، إِلا أن يكون الاستثناء موصولاً بيمينه، ومن قال: له ثُنْياه ولو بعد سنة، أراد سقوطَ الحرج الذي يلزمه بترك الاسثتناء دون الكفَّارة.

ملحوظة

ذكرنا الاية فی جواهر الاستثناء الجوهرة 74 هنا

http://vb.tafsir.net/forum2/thread45310-4.html
 
الجوهرة الخامسة والخمسون

وَرَفَعْنَا فَوْقَهُمُ ٱلطُّورَ بِمِيثَاقِهِمْ وَقُلْنَا لَهُمُ ٱدْخُلُواْ ٱلْبَابَ سُجَّداً وَقُلْنَا لَهُمْ لاَ تَعْدُواْ فِي ٱلسَّبْتِ وَأَخَذْنَا مِنْهُمْ مِّيثَاقاً غَلِيظاً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { فَوْقَهُمُ }: فيه وجهان، الظاهرُ منهما أنه متعلق بـ " رَفَعْنا " وأجاز أبو البقاء وجهاً ثانياً وهو أن يكونَ متعلقاً بمحذوفٍ لأنه حالٌ من الطور. و " بميثاقهم " متعلقٌ أيضاً بالرفع، والباءُ للسببية، قالوا: وفي الكلامِ حذفُ مضافٍ تقديرُه: بنقض ميثاقهم

وقال الزمخشري: " بميثاقِهم " بسبب ميثاقهم ليخافوا فلا ينقضوه " وظاهر هذه العبارة أنه لايُحتاج إلى حذف مضاف، بل أقول: لا يجوز تقدير هذا المضاف لأنه يقتضي أنهم نقضوا الميثاق فرفَع اللَّهُ الطورَ عليم عقوبةً على فِعْلهم النقضَ، والقصةُ تقتضي أنَّهم هَمُّوا بنقضِ الميثاق، فرفعَ اللَّهُ عليهم الطور، فخَافوا فلم يَنْقُضوه، وإن كانوا قد نَقَضوه بعد ذلك. وقد صَرَّح أبو البقاء بأنهم نقضوا الميثاق، وأنه تعالى رفع الطور عقوبةً لهم فقال: " تقديرُه: بنقض ميثاقهم، والمعنى: ورَفَعْنا فوقَهم الطور تخويفاً، لهم بسببِ نقضهم الميثاقَ " وفيه ذلك النظرُ المتقدم، ولقائل أن يقول: لَمَّا هَمُّوا بنقضه وقاربوه صح أن يقال: رَفَعْنا الطور فوقهم لنقضهم الميثاق أي: لمقاربتم نقضَه، لأنَّ ما قارب الشيء أُعْطِي حكمَه، فتصِحُّ عبارةُ مَنْ قدَّر مضافاً كأبي البقاء وغيره.
 
الجوهرة السادسة والخمسون

{ وَكَم مِّن قَرْيَةٍ أَهْلَكْنَاهَا فَجَآءَهَا بَأْسُنَا بَيَاتاً أَوْ هُمْ قَآئِلُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

وظاهرُ الآيةِ أن مجيء البأس بعد الإِهلاك وعقيبِه؛ لأن الفاء تعطي ذلك، لكن الواقعَ إنما هو مجيءُ البأس، وبعده يقع الإِهلاك. فمن النحاة من قال: الفاء تأتي بمعنى الواو فلا تُرَتِّبُ، وجَعَلَ من ذلك هذه الآيةَ، وهو ضعيفٌ.

و الجمهور أجابوا عن ذلك بوجهين،

أحدهما: أنه على حَذْف الإِرادة أي: أردنا إهلاكها كقوله:
{ إِذَا قُمْتُمْ إِلَى ٱلصَّلاةِ }
[المائدة: 6]،
{ فَإِذَا قَرَأْتَ ٱلْقُرْآنَ }
[النحل: 98]، " إذا دخل أحدكم الخَلاءَ فَلْيُسَمِّ الله "


الثاني: أن المعنى أهلكناها أي خذلناهم ولم نوفِّقْهم فنشأ عن ذلك هلاكُهم، فعبَّر بالمُسَبَّب عن سببه وهو باب واسع. وثَمَّ أجوبةٌ ضعيفة منها: أن الفاءَ هنا تفسيرية نحو: " توضأ فغسل وجهَه ثم يديه " فليست للتعقيب، ومنها: أنها للترتيب في القول فقط كأنه أخبر عن قرىً كثيرة أنها أهلكها ثم قال: فكان من أمرها مجيء البأس./ ومنها ما قاله الفراء وهو أن الإِهلاك هو مجيء البأس، ومجيء البأس هو الإِهلاك، فلمَّا كانا متلازمَيْن لم تُبالِ بأيهما قدَّمْتَ في الرتبة كقولك: " شتمني فَأَساء " و " أساء فشتمني " فالإِساءةُ والشتمُ شيء واحد فهذه ستة أقوال.

واعلم أنه إذا حُذِف مضافٌ وأقيم المضافُ إليه مُقامَه جاز لك اعتباران، أحدهما: الالتفاتُ إلى ذلك المحذوف، والثاني ـ وهو الأكثر ـ عدم الالتفات إليه، وقد جُمِعَ الأمران ههنا فإنه لم يُراعِ المحذوفَ في قوله " أهلكناها فجاءها " وراعاه في قوله " أو هم قائلون " ، هذا إذا قدَّرْنا الحذفَ قبل " قرية " ، أمَّا إذا قدَّرنا الحذفَ قبل ضمير " فجاءها " فإنه لم يُراعِ إلا المحذوفَ فقط، وهو غيرُ الأكثر.
 
الجوهرة السابعة والخمسون

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ ٱللَّهِ ٱلَّتِيۤ أَخْرَجَ لِعِبَادِهِ وَالْطَّيِّبَاتِ مِنَ ٱلرِّزْقِ قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ فِي ٱلْحَيَاةِ ٱلدُّنْيَا خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ كَذَلِكَ نُفَصِّلُ ٱلآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

فإن قيل: إذا كان الأمر على ما زعَمْتَ مِنْ معنى الشِّركة بينهم في الدنيا فكيف جاء قوله: { قُلْ هِي لِلَّذِينَ آمَنُواْ } وهذا مُؤْذِنٌ ظاهراً بعدم الشِّرْكة؟ قلت: قد أجابوا عن ذلك من أوجه:

أحدُها: أن في الكلام حذفاً تقديره: قل هي للذين آمنوا ولغيرهم في الحياة الدنيا خالصة لهم يوم القيامة، قاله أبو القاسم الكرماني، وكأنه دلَّ على المحذوف قولُه بعد ذلك { خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ } إذ لو كانت خالصةً لهم في الدارَيْن لم يَخُصَّ بها إحداهما. والثاني: أن " للذين آمنوا " ليس متعلقاً بكونٍ مطلقٍ بل بكون مقيدٍ، يدلُّ عليه المعنى، والتقدير: قل هي غيرُ خالصةٍ للذين آمنوا، لأن المشركين شركاؤهم فيها خالصة لهم يوم القيامة، قاله الزمخشري، ودلَّ على هذا الكون المقيَّد مقابلُه وهو قوله: { خَالِصَةً يَوْمَ ٱلْقِيَامَةِ }. الثالث: ما ذكره الزمخشري، وسبقه إليه التبريزي قال: " فإن قلت: هَلاَّ قِيل [هي] للذين آمنوا ولغيرهم؟ قلت: التنبيهُ على أنها خُلِقَتْ للذين آمنوا على طريق الأصالة، وأنَّ الكفرةَ تبعٌ لهم كقوله تعالى:
{ وَمَن كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً }
[البقرة: 126]. وقال التبريزي: " ولم يَذْكر الشركة بينهم وبين الذين أشركوا في الدنيا تنبيهاً أنه إنما خَلَقها للذين آمنوا بطريق الأصالة، والكفار تَبَعٌ لهم، ولذلك خاطب المؤمنين بقوله:
{ هُوَ ٱلَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَّا فِي ٱلأَرْضِ جَمِيعاً }
[البقرة: 29]، وهذا الثالثُ في الحقيقة ليس جواباً ثالثاً إنما هو مبين لحُسْن حذف المعطوف وعدمِ ذِكْره مع المعطوف عليه.
 
الجوهرة الثامنة والخمسون

وَلاَ تَقْرَبُواْ مَالَ ٱلْيَتِيمِ إِلاَّ بِٱلَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَأَوْفُواْ بِالْعَهْدِ إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }

قال السمين الحلبي فى الدر المصون

قوله تعالى: { إِنَّ ٱلْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولاً }: فيه وجهان، أحدُهما: أنَّ الأصلَ على حَذْفِ مضافٍ، أي: إن ذا العهدِ كان مسؤولاً عن الوفاءِ بعهده. والثاني: أن الضميرَ يعود على العهدِ، ونَسَبَ السؤالَ إليه مجازاً كقولِه:
{ وَإِذَا ٱلْمَوْءُودَةُ سُئِلَتْ }
[التكوير: 8].
 
الجوهرة التاسعة والخمسون

وَمَآ أَنتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِي ٱلسَّمَآءِ وَمَا لَكُمْ مِّن دُونِ ٱللَّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ }

قال الالوسي فى تفسيره

{ وَمَا أَنتُم بِمُعْجِزِينَ } له تعالى عن إجراء حكمه وقضائه عليكم { فِي ٱلأَرْضِ وَلاَ فِى ٱلسَّمَاء } أي بالهرب في الأرض الفسيحة أو الهبوط في مكان بعيد الغور والعمق بحيث لا يوصل إليه فيها ولا بالتحصن في السماء التي هي أفسح منها أو التي هي أمنع لمن حل فيها عن أن تناله أيدي الحوادث فيما ترون لو استطعتم الرقي إليها كما في قوله تعالى:
{ إِنِ ٱسْتَطَعْتُمْ أَن تَنفُذُواْ مِنْ أَقْطَـارِ ٱلسَّمَـٰوَاتِ وَٱلأَرْضِ فَٱنفُذُواْ }
[الرحمٰن: 33] أو البروج والقلاع المرتفعة في جهتها على ما قيل، وهو خلاف الظاهر، وقال ابن زيد والفراء: إن { فِى ٱلسَّمَاء } صلة موصول محذوف هو مبتدأ محذوف الخبر؛ والتقدير ولا من في السماء بمعجز، والجملة معطوفة على الجملة التي قبلها، وضعف بأن فيه حذف الموصول مع بقاء صلته وهو لا يجوز عند البصريين إلا في الشعر كقول حسان:
أمن يهجو رسول الله منكم ويمدحه وينصره سواء
على ما هو الظاهر فيه، على أن ابن مالك اشترط في جوازه عطف الموصول المحذوف على موصول آخر مذكور كما في هذا البيت، وبأن فيه حذف الخبر أيضاً مع عدم الحاجة إليه، ولهذا جعل بعضهم الموصول معطوفاً على أنتم ولم يجعله مبتدأ محذوف الخبر ليكون العطف من عطف الجملة على الجملة، وزعم بعضهم أن الموصول محذوف في موضعين وأنه مفعول به لمعجزين وقال: التقدير وما أنتم بمعجزين من في الأرض أي من الإنس والجن ولا من في السماء أي من الملائكة عليهم السلام فكيف تعجزون الله عز وجل، ولا يخفى أن هذا في غاية البعد ولا ينبغي أن يخرج عليه كلام الله تعالى. وقيل ليس في الآية حذف أصلاً، والسماء هي المظلة إلا أن { أَنتُمْ } خطاب لجميع العقلاء فيدخل فيهم الملائكة ويكون السماء بالنظر إليهم والأرض بالنظر إلى غيرهم من الإنس والجن وهو كما ترى.
 
الجوهرة الستون

وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي ٱلْحَيَٰوةِ ٱلدُّنْيَا وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ ٱلْخِصَامِ } * { وَإِذَا تَوَلَّىٰ سَعَىٰ فِي ٱلأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيِهَا وَيُهْلِكَ ٱلْحَرْثَ وَٱلنَّسْلَ وَٱللَّهُ لاَ يُحِبُّ ٱلفَسَادَ } * { وَإِذَا قِيلَ لَهُ ٱتَّقِ ٱللَّهَ أَخَذَتْهُ ٱلْعِزَّةُ بِٱلإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَلَبِئْسَ ٱلْمِهَادُ } * { وَمِنَ ٱلنَّاسِ مَن يَشْرِي نَفْسَهُ ٱبْتِغَآءَ مَرْضَاتِ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ رَؤُوفٌ بِٱلْعِبَادِ }

قال ابن كثير في تفسيره


وأما قوله: { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } فقرأه ابن محيصن { ويَشْهَدُ اللَّهُ } بفتح الياء وضم الجلالة { عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } ومعناها أن هذا، وإن أظهر لكم الحيل، لكن الله يعلم من قلبه القبيح؛ كقوله تعالى:
{ إِذَا جَآءَكَ ٱلْمُنَافِقُونَ قَالُواْ نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ ٱللَّهِ وَٱللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَٱللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ ٱلْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ }
[المنافقون: 1] وقراءة الجمهور بضم الياء ونصب الجلالة، { وَيُشْهِدُ ٱللَّهَ عَلَىٰ مَا فِى قَلْبِهِ } ومعناه أنه يظهر للناس الإسلام، ويبارز الله بما في قلبه من الكفر والنفاق؛ كقوله تعالى:
{ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱلنَّاسِ وَلاَ يَسْتَخْفُونَ مِنَ ٱللَّهِ }
[النساء: 108] الآية، هذا معنى ما رواه ابن إسحاق عن محمد بن أبي محمد، عن عكرمة، عن سعيد ابن جبير، عن ابن عباس، وقيل: معناه أنه إذا أظهر للناس الإسلام، حلف وأشهد الله لهم أن الذي في قلبه موافق للسانه، وهذا المعنى صحيح، وقاله عبد الرحمن بن زيد بن أسلم، واختاره ابن جرير، وعزاه إلى ابن عباس، وحكاه عن مجاهد، والله أعلم.

وقال السمين الحلبي في الدر المصون:

والجمهورُ على ضَمِّ حرفِ المضارعة وكسرِ الهاء، مأخوذاً من أَشْهَدَ ونصبِ الجلالة مفعولاً به. وقرأ أبو حيوة وابن محيصن بفتحهِما ورفعِ الجلالةِ فاعلاً، وقرأ أُبيّ: " يستشهد الله ". فأمَّا قراءةُ الجمهور وتفسيرُهم فإن المعنى: يَحْلف بالله ويُشْهده إنه صادق، وقد جاءَتِ الشهادةُ بمعنى القَسَم في آية اللِّعان، قيل: فيكونُ اسمُ الله منتصباً على حَذْفِ حرفِ الجر أي: يُقْسِمُ بالله، وهذا سهوٌ من قائِله، لأنَّ المستعملَ بمعنى القسَم " شَهِد " الثلاثي لا " أَشْهَد " الرباعي، لا تقولُ: أُشْهِد بالله، بل: أَشْهَدُ بالله، فمعنى قراءةِ الجمهور: يَطَّلِعُ الله على ما في قلبه، ولا يَعْلَمُ به أحدٌ لشدةِ تكتُّمِه

وأمَّا تفسيرُ الجمهورِ فيحتاجُ إلى حَذْفِ ما يَصِحُّ به المعنى، تقديرُه: وَيْحْلِفُ بالله على خِلافِ ما في قلبه، لأنَّ الذي في قلبه هو الكفرُ، وهو لا يَحْلِفُ عليه، إنما يَحْلِفُ على ضدِّه وهو الذي يُعْجِبُ سامعَه، ويُقَوِّي هذا التأويلَ قراءةُ أبي حيوة؛ إذ معناها: وَيطَّلِعُ الله على ما في قلبه من الكفر.
 
الجوهرة الواحدة والستون

إِنَّا عَرَضْنَا ا لأَمَانَةَ عَلَى السَّمَوَات وَالأَرْضِ وَالْجِبَالِ

فَأبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الإِنْسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُوماً جَهُولاً }

قال ابن الجوزي في زاد مسيره

وللمفسرين في المراد بعَرْض الأمانة على السماوات والأرض قولان.

أحدهما: أن الله تعالى ركَّب العقل في هذه الأعيان، وأفهمهنَّ خطابه، وأنطقهنَّ بالجواب حين عرضها عليهنَّ، ولم يُرد بقوله: { أبَيْنَ } المخالَفَة، ولكنْ أَبَيْنَ للخَشية والمخافة، لأن العَرْض كان تخييراً لا إِلزاماً، و { أشفقن } بمعنى خِفْنَ منها أن لا يؤدِّينَها فيلحقهنَّ العقاب، هذا قول الأكثرين.

والثاني: أن المراد بالآية: إِنَّا عرضنا الأمانة على أهل السماوات وأهل الأرض وأهل الجبال من الملائكة، قاله الحسن.
 
الجوهرة الثانية والستون

إِنَّا جَعَلْنَا فِيۤ أَعْناقِهِمْ أَغْلاَلاً فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ فَهُم مُّقْمَحُونَ }

قال القرطبي

وفي الكلام حذف على قراءة الجماعة؛ التقدير: إنا جعلنا في أعناقهم وفي أيديهم أغلالاً فهي إلى الأذقان، فهي كناية عن الأيدي لا عن الأعناق، والعرب تحذف مثل هذا. ونظيره:
{ سَرَابِيلَ تَقِيكُمُ ٱلْحَرَّ }
[النحل: 81] وتقديره وسرابيل تقيكم البرد فحذف؛ لأن ما وقى من الحر وقى من البرد؛ لأن الغُلّ إذا كان في العنق فلا بد أن يكون في اليد، ولا سيما وقد قال الله عز وجل: { فَهِىَ إِلَى ٱلأَذْقَانِ } فقد علم أنه يراد به الأيدي...
 
الجوهرة الثالثة والستون

{ أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْرَاهِيمَ وَإِسْمَاعِيلَ وَإِسْحَـاقَ وَيَعْقُوبَ وَالأَسْبَاطَ كَانُواْ هُوداً أَوْ نَصَارَىٰ قُلْ أَأَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ ٱللَّهُ وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ وَمَا ٱللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ }

قال السمين فی دره

قوله: { مِنَ ٱللَّهِ } في " مِنْ " أربعة أوجه،

أحدها: أنها متعلِّقةٌ بـ " كَتَم " ، وذلك على حَذْفِ مضافٍ أي: كَتَم مِنْ عبادِ الله شهادةً عندَه.

الثاني: أن تتعلَّق بمحذوفٍ على أنَّها صفةٌ لشهادة بعد صفةٍ، لأنَّ " عنده " صفةٌ لشهادة " وهو ظاهرُ قولِ الزمخشري فإنَّه قال: و " مِنْ " في قولِه: { شَهَادَةً عِندَهُ مِنَ ٱللَّهِ } مثلُها في قولِك: " هذه شهادةٌ مني لفلان " إذا شَهِدْتَ له، ومثلُه:
{ بَرَآءَةٌ مِّنَ ٱللَّهِ وَرَسُولِهِ }
[براءة: 1] ...
 
عودة
أعلى