هل أسلم ليو تولستوى حقا؟
منذ ردح من الزمان أخذت فكرة تراودنى كثيرا كلما قرأت عملا من أعمال ليو تولستوى, أو كلما قرأت عنه, وأخذت هذه الفكرة تتسلط على, حتى إننى لا أستطيع منها فكاكا, وبدت الفكرة فى سؤال طرحته على نفسى: "هل أسلم ليو تولستوى حقا؟".
وكلما طرأ السؤال على خاطرى, وأثقل كاهلى كنت أزيحه عن كاهلى بأن أقول لنفسى: ليس تولستوى هو العلم الوحيد الذى أثنى على الدين الإسلامى وأنصف نبى الإسلام محمدا صلى الله عليه وسلم, فهناك الآلاف من الأعلام قد انتصفوا لمحمد عليه الصلاة والسلام دون أن يسلموا, وقالوا عن الإسلام ما لم يقله أبناؤه المسلمون من حيث النصفة والصدق والفهم الثاقب, ويبدو أن هؤلاء الأعلام حينما قرأوا عن الإسلام لم تكن لديهم أفكار مسبقة عنه يحكمون بها على الإسلام, أو لعلهم – لحيدتهم وموضوعيتهم وصدقهم مع أنفسهم – طرحوا كل الأفكار المسبقة عن الإسلام, حين قرأوه, كما طرحوا أيضا مظهر كثير من المسلمين الذين يعدون أسوأ دعاية للإسلام, ولو أن أحدا من هؤلاء الأعلام أشرك فى حكمه على الإسلام ونبيه مظاهر التدين عند كثير من المسلمين لما انتصف الإسلام على أفواههم وعلى أسنة أقلامهم.
كثير هم الأعلام الذين نطق الحق على لسانهم لينتصفوا للإسلام ورسوله صلى الله عليه وسلم, وظلوا على عقائدهم دون أن يدينوا بالإسلام مثل جورج برنارد شو, وت. إس. إليوت, ورومان رولان, وأرنولد توينبى, وجوستاف لوبون.. إلخ.
فلماذا لا يكون تولستوى أحد هؤلاء الأعلام الذين قدروا الإسلام حق قدره دون أن يدين به؟
لأننا نحن – المسلمين الشرقيين – ننفعل بأقوال هؤلاء الأعلام, ونظل نرددها حتى تسرى فى العالمين فرحين بما قالوه عن الدين الإسلامى ونبيه الكريم صلى الله عليه وسلم, وكلما ازداد احتفالهم بهذه الكلمات التى أنطقها الحق على ألسنتهم, ازداد حزنى وألمى على حال المسلمين الشرقيين الذين لم يدركوا أن شهادات هؤلاء الأعلام للدين الإسلامى إنما هى صفعات ولطمات على وجوهنا نحن – المسلمين الشرقيين – الذين نحمل كنزا ثمينا لا ندرى قيمته, ولم نقدره حق قدره, ولم نفهم روح هذا الدين كما فهمه من كنا نظنهم أعداءه.
كنت أحزن وآلم حينما تلفحنى كلمة العالم الألمانى باول شمتز على وجهى وهو يقول: "لو فقه المسلمون سطرا واحدا من سيرة نبيهم لأصبحوا أعظم قوة فى العالم" فى كتابه "الإسلام قوة الغد العالمية".
لقد كانت كلمات هؤلاء الأعلام المنصفة واللامعة والصادقة تشطرنى شطرين, فشطر فى منشرح لنصفتهم وموضوعيتهم وصدقهم مع أنفسهم والعالمين, وشطر يضيق به صدرى لرؤية أحوال المسلمين الذين شغلتهم مظاهر التدين عن جوهر الدين!
وطرحت السؤال: هل أسلم ليو تولستوى حقا؟ جانبا, فليس لدى دليل قوى صراح على إسلام الرجل, فقد جاهدت نفسى حتى لا أنساق وراء يقينى الذى وقر فى قلبى عن إسلام الرجل, حتى وقع فى يدى كتاب "حكم النبى محمد" صلى الله عليه وسلم, وإذا بى أجد تولستوى يطلع لى مرة أخرى, أخذت الكتاب وقرأته بإمعان ودقة غير مرة حتى أستيقن مما وقر فى قلبى عن إسلام الرجل, فوجدت الكتاب عبارة عن أحاديث شريفة للنبى محمد صلى الله عليه وسلم قام عبدالله السهروردى بتعريبها فى الهند, واتخذ للكتاب عنوانا الآية القرآنية :(يريدون ليطفئوا نور الله بأفواههم ويأبى الله إلا أن يتم نوره ولو كره الكافرون) سورة التوبة:32.
والأحاديث المذكورة فى هذه الرسالة اختارها من كتاب عبدالله السهروردى الفيلسوف تولستوى, وقال إنها لا تخالف فى شىء تعاليم الديانات الأخرى, التى ترشد إلى الحق, وتأمر بالمعروف, وتنهى عن المنكر.
وقال تولستوى أيضا:"لا ريب أن هذا النبى من كبار المعلمين الذين خدموا الهيئة الاجتماعية خدمة جليلة. ويكفيه فخرا أنه هدى أمة برمتها إلى نور الحق, وجعلها تجنح للسلام, وتكف عن سفك الدماء! وفتح لها طريق الرقى والتقدم. وهذا عمل عظيم, لا يفوز به إلا شخص أوتى قوة وحكمة وعلما. ورجل مثله جدير بالإجلال والاحترام".
وقال:"إن الدين يتمثل فى شيئين أساسيين: محبة الله ومحبة البشر ولاشىء آخر".
وتحت عنوان "من هو محمد؟" صلى الله عليه وسلم قال:"إن محمدا هو مؤسس الإسلامية ورسولها, تلك الديانة التى يدين بها فى جميع جهات الكرة الأرضية مائتا مليون نفس".
ومما قاله أيضا:"إن العرب المعاصرين لمحمد عبدوا أربابا كثيرة, وبالغوا فى التقرب إليها واسترضائها, فأقاموا لها الضحايا المختلفة, ومنها الضحايا البشرية.
ومع تقدم محمد فى السن كان اعتقاده يزداد بفساد تلك الأرباب, وأن ديانة قومه ديانة كاذبة, وأن هناك إلها واحدا حقيقيا لجميع الشعوب".
"وخلاصة هذه الديانة التى نادى بها محمد صلى الله عليه وسلم هى أن الله واحد لا إله إلا هو, ولذلك لا يجوز عبادة أرباب كثيرة, وأن الله رحيم عادل, وأن مصير الإنسان النهائى متوقف على الإنسان نفسه..".
"ومحمد لم يقل عن نفسه: إنه نبى الله الوحيد, بل اعتقد أيضا بنبوة موسى والمسيح. وقال: إن اليهود والنصارى لا يكرهون على ترك دينهم, بل يجب عليهم أن يتمموا وصايا أنبيائهم".
وتحت عنوان "هل أسلم تولستوى؟" يقول د.محمود النجيرى: هناك دلائل ترجح أن تولستوى دخل فى دين الإسلام فى آخر حياته, مثل بعض كلمات الكاتب العالمى ليو تولستوى, كقوله: "إن كنت موجودا فلابد من وجود سبب ما لهذا الوجود, ومسبب له, وهو ما يدعوه الناس الله".
"سوف تسود شريعة القرآن العالم, لتوافقها مع العقل, وانسجامها والحكمة. لقد فهمت وأدركت أن ما تحتاج إليه البشرية, هو شريعة سماوية, تحق الحق, وتزهق الباطل.. ستعم الشريعة الإسلامية كل البسيطة؛ لائتلافها مع العقل, وامتزاجها بالحكمة والعدل.. ويكفى محمدا فخرا أنه خلص أمة ذليلة دموية من مخالب شياطين العادات الذميمة, وفتح على وجوههم طريق الرقى والتقدم, وأنا واحد من المبهورين بالنبى محمد الذى اختاره الله الواحد, لتكون آخر الرسالات على يديه وليكون هو أيضا آخر الأنبياء".
ومن الثابت أن تولستوى كتب فى بعض آخر رسائله للإمام محمد عبده ما ترجمته:"بقيت لى ثلاثة أسئلة, إن أجبت عليها إجابة مرضية, اتخذت الإسلام دينا".
والثابت كذلك أنه وصى ألا يصلى عليه قسيس, وأن يدفن بهيئة معلومة, ومكان محدد فى ضيعته, وألايوضع عليه صليب. وحال قبره اليوم يشهد على ذلك, فهو لا يختلف عن حال قبور المسلمين.
ومن المفيد أن نعلم كذلك أن الكنيسة قد نبذته, وتبرأت منه.
وهناك احتمال تستر زوجته على إسلامه الذى سبق موته بقليل. يقول الدكتور محمود على التائب:"كنت أعلم أن ثمة مراسلات بين تولستوى أديب روسيا الأكبر, وبين الإمام محمد عبده, لكننى لم أكن أعلم أن هذا الأديب قد دفعه إحساسه العميق بالبطولة الشيشانية إلى أن يضمن روايته "الحاج مراد" أول نبضات قلبه بدين الإسلام. وأنه قد أسلم قبيل وفاته, وأن زوجته قد جهدت فى إخفاء هذا التحول الروحى عنده, وأن ابنه الأصغر ميخائيل عاش سنوات عمره الأخيرة فى المغرب, وأن هناك من يقطع بإسلامه أيضا".
وفى كتابه "اعتراف" يقول تولستوى:
"نشأ الفتى الصغير فى بيئة مسيحية متدينة وكان يتلقى دروسه الدينية فى مدرسته, ويقوم بطقوسها فى استسلام.
وفى سن الثامنة عشرة, حين بدأ يشعر بأن إشارات الصليب التى يؤديها وانحناءات الركبة تعبدا واحتراما فى صلاته, ليس لها أى مدلول عنده, وأنه غير قادر على الاستمرار فى "الكذب" - توقف عن أدائها تماما. لكن – كما يقول:"كان داخلى شعور ما بأننى أؤمن بشىء ما. أؤمن بإله. أو بمعنى آخر, لا أنكر وجوده. ولكن أى إله؟ لم أكن أدرك على وجه التحديد. أذكر أيضا أنى لم أكن أنكر تعاليم المسيح؟
وفى موقف آخر, يموت أخوه الأكبر, بعد معاناة مع المرض, فيقول تولستوى فى نفسه, والحزن يعتصره:"لقد مات دون أن يفهم: لماذا كان يعيش؟ أو لماذا مات؟"
وفى وقت كان فيه تولستوى يتمتع بكل ما يمكن أن يرنو إليه إنسان فى حياته المادية, تحدث له أشياء غريبة – من وجهة نظره, فى ذلك الوقت. كان فى بداية العقد الخامس من عمره, ويتمتع بصحة ممتازة, ويلقى شهرة ونجاحا فائقا, ولديه أموال وأموال.. حياة أسرية ناجحة بكل المقاييس. فيفاجئه سؤال من الداخل:"وماذا بعد؟". يهرب من السؤال, ويقول لنفسه: حين أفرغ من هذا العمل سأفكر فى إجابة. لكن لا يبقى مجرد سؤال, أو خاطر عابر. إنه يأخذه إلى حالة نفسية من الاكتئاب, والرغبة فى الانعزال.. إن السؤال يفرض نفسه عليه وهو يعمل عملا ما قائلا:"حسن سيكون عندك ستة آلاف فدان فى أرقى منطقة, وثلاثمائة حصان. وماذا بعد؟ حسن ستكون أكثر شهرة من جوجل, وبوشكين, وشكسبير, وموليير, بل وكل كتاب العالم. وماذا بعد؟".
تبدأ مرحلة فى حياة تولستوى, أقل ما يقال فيها أنها عذاب متواصل, وعدم قدرة على مواصلة الحياة بسبب الإحساس بأن كل سعادة أو تعاسة فى هذه الحياة ما هى إلا خدعة كبيرة. والسؤال بداخله عن معنى أعمق وأدوم لا يفارق كيانه, فلا هو يستطيع أن يتجاهله ولا هو قادر على الإجابة عليه:"ما نتيجة أى فعل أقوم به اليوم أو غدا؟ ما هى نتيجة حياتى كلها؟ هل هناك أى معنى للحياة سيبقى ولا يفنى بقدوم الموت المحقق الذى ينتظرنى؟"
وبحث عن إجابة لأسئلته فى كل فروع المعرفة التى اكتشفها البشر, لكن شيئا من هذه العلوم لا يعطى إجابة عن تساؤلاته: ما معنى الحياة؟ وماالذى لا ينتهى بقدوم الموت؟
وبعدما فشل فى الإجابة عن تساؤلاته فى العلوم والمعارف, طفق يبحث عن هذه الإجابات لدى أرباب العلم من العلماء والأدباء والمثقفين, فلم يعثر على إجابة لتساؤلاته.
تحول تولستوى من البحث فى الكتب ومن البحث بين أفراد طبقته إلى العامة, فلمس شيئا بينهم, أشعره بأنهم يعيشون معنى الحياة, حتى ولو كانوا غير قادرين على التعبير عن هذا المعنى. ويكفى أنهم سعداء, راضون بالحياة على الرغم من أنهم ينقصهم الكثير من رفاهية الماديات التى تتمتع بها طبقة المثقفين والأثرياء.
ومن هنا بدأت مرحلة جديدة فى حياته, وجد فيها شيئا كان بمثابة اكتشاف عظيم.. أيقن أن الإجابة عن تساؤله الأساسى عن المعنى الذى لا يحطمه الموت؟ لا يمكن أن توجد إلا فى "العقيدة": المعنى الذى لا يموت, هو توحد الإنسان مع ما لا يموت.. مع الله, بعقله.. بفهمه".
وهنا يقول تولستوى: إذا غاب عن الإنسان الفهم والبصيرة بأن كل ما هو مؤقت ليس إلا نوعا من الوهم؛ فإنه لن يؤمن إلا بما هو مؤقت. أما إذا رأى ببصيرته أن كل ما هو موقوت ليس إلا وهما, فحينئذ سيؤمن بما هو باق ودائم.
مرحلة جديدة من العذاب.. استنفد فيها كل ما يستطيع أن يفعله بنفسه.. فإذا به يدعو الله "أدعو من أبحث عنه, عله يساعدنى. وكلما دعوته بدا لى أنه لايسمعنى. ولايوجد من ألجأ إليه أبدا".
"وبقلب ملىء بالحزن, توجهت من جديد أصرخ: ياإلهى! رحمتك! أنقذنى! أرنى الطريق".
وفى قمة اليأس يتطرق إلى ذهنه خاطر جديد:"إن المفهوم عن الله, ليس هو الله"."أنا أبحث عن الله, الذى بدون وجوده لا توجد حياة.. هاهو.. الله.. هو الحياة.. أن أعرف الله, وأن أحيا: هو معنى واحد.. الله هو معنى الحياة"."وبأقوى من أى لحظة أخرى فى حياتى, أشرق كل شىء داخلى ومن حولى بالنور.. ولم يفارقنى هذا النور أبدا".
ومما اختاره تولستوى من أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم, وأوردها فى كتابه "حكم النبى محمد":
"قل الحق وإن كان مرا"
"اللهم أحينى مسكينا, وتوفنى مسكينا, واحشرنى فى زمرة المساكين"
"لا يؤمن أحدكم حتى يحب لأخيه ما يحب لنفسه"
"سأل رجل النبى صلى الله عليه وسلم أى الإسلام خير؟ قال:"تطعم الطعام, وتقرأ السلام على من عرفت, ومن لم تعرف"
"القبر أول منازل الآخرة"
"إن الله يحب أن يرى عبده ساعيا فى طلب الحلال"
"آفة الدين ثلاثة: فقيه فاجر, إمام جائر, مجتهد جاهل"
"لا عبادة كالتفكير"
"إن أول خلق خلقه الله عز وجل العقل, فقال له أقبل, فأقبل. ثم قال له: أدبر فأدبر. فقال: وعزتى وجلالى ما خلقت خلقا هو أحب إلى منك. بك آخذ, وبك أعطى, وبك أثيب, وبك أعاقب".
قال النبى صلى الله عليه وسلم – وحوله جماعة من أتباعه:"بايعونى على أن لا تشركوا بالله شيئا, ولا تسرقوا, ولا تزنوا, ولا تقتلوا أولادكم, ولا تأتون ببهتان تفترونه بين أيديكم وأرجلكم, ولا تعصونى فى معروف. فمن وفى منكم, فأجره على الله".
والمثير فى الأمر انتقاءات تولستوى لتلك الأحاديث النبوية الشريفة من دون غيرها, حيث إنه أخذ بتطبيق هذه الأحاديث على نفسه فى جانبها العملى, وأراد للعالمين أن يطبقوها لما فيها من عمران حياة الإنسان فى الدنيا, فلم يكن تولستوى – كما يبدو فى تصوراتنا – جالسا وراء طاولة الكتابة فحسب, بل إنه كان طالبا وضابط مدفعية ووسيط صلح ورحالة ومزارعا ومدرسا. فلقد كان مدافعا فى المحكمة, وأصدر مجلة "ياسنا بوليانا", ونظم المساعدات للفلاحين الجائعين, وشارك فى حركة المناضلين من أجل السلام.
ولقب تولستوى نفسه فى سنوات الثورة الروسية الأولى "بمحامى مائة مليون من الفلاحين", ويقصد بذلك الفلاحين الروس. وبعد ذلك بفترة لقبه الأمريكيون ب"مواطن العالم", ويقصدون أنه أصبح المدافع عن شغيلة العالم أجمع.
وحينما أعلنت روسيا الحرب على تركيا عام1877 تعرف خلال ذلك إلى مجموعة من الأسرى الأتراك المسلمين بأحد المعتقلات القريبة من أراضيه, وعند تبادل الحوار على فترات متقطعة مع أئمة منهم يجيدون اللغة الروسية, برفقة ابنه الأصغر ميخائيل, هنا لعب الإسلام دور الحافز الذى بفضله تبلورت منذ ذلك الحين أفكاره الأخلاقية والدينية, وأخذت منعرجا حاسما فى حياته المستقبلية على نحو جذرى.
كان تولستوى يتلقى مبادئ الإسلام عن طريق التأمل والمعاشرة لأولئك الأسرى الطيبين الدمثى الأخلاق, وكان يقارن كل ذلك مع سلوك المحيطين به من أفراد مجتمعه الذى عاش فى أوساطه, هذا التفكير المزدوج خلص به فى حوالى عام1900 إلى استنباط رؤية مبلورة دفعته إلى إعادة النظر كلية فى مبادئ الكتاب المقدس الذى أضحى بالنسبة له كتاب المسيح الإنسان وليس ابن الله, كما اعتبر الأناجيل مجرد قراءات لأشخاص, وهى قراءات بعيدة كل البعد عن الدين الصافى من كل شوائب الأنانية البشرية, والنزعات الذاتية أسيرة متعتها وضعفها ونظرتها الضيقة.. لقد أعجب تولستوى بتلك الروح الفروسية والشجاعة الفريدة من نوعها التى تميز بها المقاتلون المسلمون من الشيشان والداغستان والشركس, وهى ذات الصورة الجميلة التى رسمها الأديب الفرنسى الكبير "ألكسندر دوماس" عند رحلته إلى القوقاز.. لقد تطلب مرور أربعين عاما لكى يتبلور أيضا هذا الإعجاب لدى تولستوى ليجسده فى روايته الشهيرة "الحاج مراد", حيث شكل فيها نموذجا إيجابيا للغاية عن شخصية المسلم.. وكان قد كتب هذه الرواية فى التسعينيات من القرن التاسع عشر وتركها مخطوطة, حيث طلب فى وصيته أن تنشر بعد وفاته..
وعلى ضوء المقاربات النقدية لهذا النص الروائى فإن الحاج مراد بطل هذه الرواية التى حملت نفس التسمية, وهوشخصية حقيقية, يمثل ذاك الشخص الورع التقى المنتمى إلى طائفة النقشبنديين المريدين حسب وصف تولستوى, المنفتح على الثقافة الغربية والراغب فى أن يتحد بالروس الذين قاتلهم لعدة سنوات.. والحقيقة أن هذا التعاطف الشديد مع المسلمين نفتقده كلية فى أعمال تولستوى الروائية الأخرى, حيث نلاحظ ذلك الامتعاض والتقزز عند الحديث عن إخوانه المسيحيين المتسلطين العاشقين للدماء وللحروب التى يمقتها أديبنا كل المقت.. ومن هنا فإن تولستوى من خلال نص "الحاج مراد" كان يسعى إلى ترسيخ روح الحوار ما بين الحضارة الإسلامية والحضارة الغربية دون مركب نقص, وهذا ما نجح فيه الحاج مراد الذى عقد صداقة متينة مع ضباط روس بمن فيهم مدرب تولستوى نفسه, غير أن ذلك لم يكتمل جراء روح التسلط التى تطبع الثقافة الأوروبية حسب تولستوى, وهذه الفكرة فى الحقيقة هى أس تيمة عمله الضخم "الحرب والسلام".
ويبدو أن ليو تولستوى حتى انقطعت المراسلات بينه وبين الإمام محمد عبده لم يكن قد اعتنق الإسلام, إلا أنه فى أواخر حياته تطفو على السطح بعض الرسائل التى تدفع إلى الاعتقاد بأن تولستوى اعتنق الإسلام:
"أصدقائى يديرون ظهرهم لى, وبعض الليبراليين يعتبروننى مجنونا, أو قليل العقل كجوجل, والثوار والراديكاليون يعتبروننى ثائرا مفسدا, أما المسيحيون الأرثوذكس فيعتبروننى شيطانا. أعترف بأن هذا صعب على, لذلك اعتبرونى من فضلكم محمديا طيبا. عندها سيكون كل شىء على ما يرام"
إيلينا ويكيلفيا امرأة مسيحية تزوجت من مسلم وأنجبت منه أطفالا. كبر الأطفال ويريدون باستقلالية اعتناق دين, وتحديدا الدين الإسلامى, إيلينا كامرأة روسية توجهت لكاتب كلاسيكى له مكانته تستشيره حول هذه المسألة, رد عليها تولستوى بهذه الرسالة:
"بالنسبة لتفضيل المحمدية على الأرثوذكسية, أستطيع فقط أن أبدى تعاطفى وألمى من هذا الانتقال, فمع غرابة الأمر, بالنسبة لى, كإنسان يبجل المثل والقيم المسيحية فى معناها الحقيقى, لا يوجد أى شك بأن المحمدية بأشكالها الخارجية أعلى بكثير من الأرثوذكسية. إذا كان أمام الإنسان خياران فقط: الأرثوذكسية أو المحمدية, فلا يمكن أن يظهر لدى أى إنسان متعقل شك فى الخيار الصحيح. أى إنسان سيفضل المحمدية التى تعترف بإله واحد وبرسوله, بدلا من الاعترافات الربانية المعقدة وغير المفهومة, المتمثلة بثلاثية وغفران وأسرار المقدسين وطقوس عبادة صعبة جدا".
تولستوى 15 مارس 1909.
وبعد كل هذه الأقوال والأفعال التى تلتصق بروح الإسلام وتنأى بالرجل عن الأرثوذكسية, فإن الرجل "تولستوى" الذى حير العالم بأفكاره وجهاده وكفاحه ووضوحه وصدقه مع نفسه يظل آخر الأمر محيرا لنا فى إسلامه.. هل أسلم ليو تولستوى حقا؟ ليظل هذا السؤال يطرح نفسه بقوة عندما نتناول أى عمل من أعمال هذا الأديب اللامع, الذى إن كان حيرنا فى الإجابة عن كثير من تساؤلاته فى حياته وبعد مماته, يظل بعد موته كذلك يدعونا للتساؤل والبحث لا عن إسلامه هو.. بل عن الإسلام الذى كان يرنو إليه..
رجب عبدالعزيز رجب
[email protected]