الحمدلله وحده وبعد
كنت قد كتبت هذا البحث على عجل وكانت تنقصه الكثير من الاستشهادات والاستدلالات فأحببت إعادة نشره مع تحديثٍ لما فاتني عندما نشرته قبل سبع سنين.
التَّفْريْقُ وَالتّمْيِيْزُ فِيْ آيةِ الدَّفعِ بِالإحْسَانْ
يقول الحق جل وعلا (وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ عَدَاوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ) 34 فصلت
إن المقارنة في الأسلوب القرآني تحمل صوراً ماتعة رائعة ترسم صورة جميلة للبلاغة القرآنية والعجيبة، والحقيقة أن البحث في التساوي والمساواة بشكل خاص لا يتأتَّى من خلال مقال أو حتى مؤلفٍ واحد، بل هو أسلوب ضمن منظومة قرآنية بلاغية تحتاج لجهود بحثية تتفحص ملامح النص القرآني وتستخرج فرائد التنوع المبهر في مجال المقارنة والتساوي في كتاب الله.
وفي هذا المقال اكتفي بالنظر والتدبر للآية الرابعة والثلاثين من سورة فُصِّلَت الموضحة في أعلى هذه الصفحة، وما أردت أن أصل إليه أن هناك توجيهاً جديداً بليغاً للآية الكريمة، والوجه الجديد للمعنى المستنبط من هذه الآية يعكس لنا غير ما يشيع في التفاسير ويغلب على أقوال المفسرين رحمهم الله، وفيما يلي سنعرض الوجه الذي توصلنا إليه بتوفيق الله ، ثم بعد ذلك نستعرض نماذج من أقوال المفسرين .
توجيه الآية الكريمة:
أجمع جمهور المفسرين -كما سنرى- على وجه واحد من أوجه المعاني القرآنية ملخصه أن المراد من قوله تعالى )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ( أن المقارنة هنا ونفي المساواة هو بين (الحسنة) من جهة و (السيئة) من جهة أخرى ولا شك أن هذا في الأصل أمر بديهي، ولا يُنْكَرُ هذا القول ولكنه في هذا الموضع وجهٌ بعيد وليس هو ما يبتدره ذهن المتدبر للآية الكريمة ، فالمقارنة بين الحسنة والسيئة لا شك أنها تنبئ بعدم التساوي بين الاثنتين ولكن السياق ينبئنا بأمر آخر ، فلو كان القول : (ولا تستوي الحسنة والسيئة) لقلنا أن المقارنة بين الحسنة والسيئة ولكن الوجه الأقرب هو :
المقارنة بين الحسنات بأنواعها ودرجاتها مراتبها والمقارنة بين السيئات بدرجاتها و أنواعها ومراتبها فالتقدير الحقيقي للآية هو (ولا تستوي الحسنة ولا تستوي السيئة) وحذفت الثانية وبقي أثرها والمراد ( لا تستوي الحسنات فيما بينها فهناك (الحسنة) وهناك (الأحسن) ولا تستوي السيئات فيما بينها فهناك (السيئة) وهناك (الأسوأ) ، وما يثبت ذلك هو ما تلا ذلك إذ أمر بالدفع بالأحسن فيقول تعالى )ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ( وهذا وجه من أوجه التفضيل والتباين بين الحسنات من حسنة لأحسن ، والأحسن مقترن بدرجة رفيعة من الأجر لاشتمالها على الإحسان بكل معانيه السامية المتميزة ، وكذلك فالسيئات تتمايز فيما بينها وليست كلها درجة واحدة.
ومن العجيب أن يسبغ الله جل وعلا رضاه ومحبته على من دفع بأحسن من الحسنى لمن أفرط في الإساءة، فكان ذلك تحقيق لدين المحبة والسماحة والسعي في الهداية لا العقاب، وهذا الفعل عقبة لا يوفق لاقتحامها أي أحد، فَأَنْ تَكْظُمَ غَيْضَك عمَّن أساء إليك هو أمر غاية في الصعوبة والثقل على النفس التي تشعر بالغبن والظلم جراء ما وقع عليها، فكيف يكون الثقل على النفس إن دَفَعْتَ بالحَسَنة لمن أساء إليك؟؟ وكيف تكون إن أُمِرت بدفع الأحسن من الحسنة؟؟
لا شك أنه أمر عظيم لا يوفق إليه إلا من استشعر عظمه ونتيجته على المسيء والمحسن على حد سواء.
ولو تتبعنا الأسلوب القرآني في الممايزة والمقارنة لوجدنا أن هذا الأسلوب في سورة فصلت فريد زاد فيه المبنى فوجب زيادة المعنى عما اعتدنا عليه في سواه من المواضع ولنستعرض بعض ما يمكن أن يكون أوجه بحمله على أقوال المفسرين رحمهم الله لمقتضى التركيب اللغوي:
قال تعالى: (قُل لَّا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ ۚ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) (المائدة : 100)
فوجه المقارنة هنا بين الخبيث والطيب وليس بين خبيث وخبيث أو طيب وطيب فلو قيل لا يستوي الخبيث ولا الطيب احتمل المعنى المقارنة بين أصناف الخبيث وأنواعه من جهة وأصناف الطيب وأنواعه من جهة كما في الآية موضع البحث.
قال تعالى: (قُل لَّا أَقُولُ لَكُمْ عِندِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَىٰ إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ أَفَلَا تَتَفَكَّرُونَ) (الأنعام :50)
وهنا أيضا نلحظ أن وجه المقارنة وعين القضية هو العمى والبصيرة والمقارنة بين الأعمى والبصير، فمن يتبع الوحي ويستهدي بهدى الله جل وعلا فهو بصير، ومن يرى الحق وينحرف عنه ويكذبه فهو أعمى بصيرة ولو كان بصره حديد.
قال تعالى جل جلاله: (لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ) (الحشر: 20)
وهنا فالمقارنة بين أصحاب الجنة من جهة وأصحاب النار من جهة أخرى، لأن (الواو) توسطت المقارن والمقارن به وختمت الآية بتقرير "أصحاب الجنة هم الفائزون" وهو سبب انتفاء الاستواء بين أصحاب النار وأصحاب الجنة ، بينما لو قلنا مثلا : (لا يستوي أصحاب النار ولا أصحاب الجنة) فالمقارنة بين أصحاب النار من جهة، فمنهم من يعذب في أعلاها ومنهم من يعذب في الدرك الأسفل منها وأصحاب الجنة -من جهة أخرى- ودرجاتهم حيث نلاحظ بأن بين أهل الدرجات العلى من الجنة ومن هم في أدنى الجنة، وبالتالي فالمقارنة بهذه الصورة شبيهة لموضع البحث.
وفي مثال آخر يقول تعالى: (قُلْ لَا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَالطَّيِّبُ وَلَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يَا أُولِي الْأَلْبَابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ) [المائدة:100]
فواو المقارنة توسطت بين الخبيث والطيب فكانت المقارنة بين الخبيث والطيب، وهذه صورة من صور المقارنة والتمايز في القرآن كما أسلفنا ليست مرادفة للصورة التي نخضعها للبحث.
وفي المثال التالي سيتضح المراد تماما لأن الصورتين من صور المقارنة موجودة في السياق التالي إذ يقول تعالى: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَىٰ وَإِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلَىٰ حِمْلِهَا لَا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْءٌ وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ إِنَّمَا تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَأَقَامُوا الصَّلَاةَ وَمَنْ تَزَكَّىٰ فَإِنَّمَا يَتَزَكَّىٰ لِنَفْسِهِ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ 18 وَمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ 19 وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ 20 وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ 21 وَمَا يَسْتَوِي الْأَحْيَاءُ وَلَا الْأَمْوَاتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشَاءُ وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ 22 [فاطر]
يقول تعالى (َمَا يَسْتَوِي الْأَعْمَىٰ وَالْبَصِيرُ) فالمقارنة بين الأعمى والبصير، ثم يقول (وَلَا الظُّلُمَاتُ وَلَا النُّورُ) فأتت (ولا) الأولى لتستأنف المقارنة، وجاءت (ولا) الثانية لتفصل بين درجات الظلمة ودرجات النور، فلو كانت (ولا الظلمات والنور) لكانت المقارنة بين الظلمات وبين النور، ولكن طالما فصلت (ولا) بين الظلمات والنور فننتبه إلى أن المقارنة بين درجات الظلمات وبين درجات النور.
(وَلَا الظِّلُّ وَلَا الْحَرُورُ) وهنا تفريق أيضاً بين درجات الظل وبين درجات الحرور، فالظل درجات منها الظل الظليل، ومنه ظلال الدنيا وظلال جهنم لا ظليل ولا يغني من اللهب، وكذلك الحرور درجات.
وهذه صورة مشابهة لآية الدفع بالإحسان، فنلاحظ وجود (ولا) بين الأحياء والأموات ، فلو كان التمييز بين الأحياء والأموات لكانت الصيغة (وما يستوي الأحياء ولا الأموات) ولكن لما قال تعالى (وما يستوى الأحياء ولا الأموات) فكانت المقارنة بين فئات الأحياء وفئات الأموات ، فالأحياء منهم من يحيى على بينة حياة طيبة بتأييد من الله وحفظ وتيسير ومنهم من يحيى على الكفر والعناد والفساد والأحياء بين هذين النقيضين درجات ، وكذلك الأموات فمنهم من مات موحداً مؤمناً مسلماً ومنهم من مات دون ذلك ، ومنهم من مات كافراً مجرماً لم يختم له بخير ، بقية الأموات درجات بين هاتين الفئتين من الأموات ، وبالتالي فكما أن السيئة لا تستوي فمنها السيء ومنها الأسوأ ، والحسنة لا تستوي فمنها الحسن ومنها الأحسن ، فهذه الآية من سورة فاطر تشابه التركيب والتأصيل اللغوي الذي نقوله.
من أقوال المفسرين في هذا الموضع
جاء في تفسير ابن كثير رحمه الله: وقوله : ( ولا تستوي الحسنة ولا السيئة ) أي : فرق عظيم بين هذه وهذه ، ( ادفع بالتي هي أحسن ) أي : من أساء إليك فادفعه عنك بالإحسان إليه ، كما قال عمر [ رضي الله عنه ] ما عاقبت من عصى الله فيك بمثل أن تطيع الله فيه .[1]
تفسير القرطبي رحمه الله: قوله تعالى: (ولا تستوي الحسنة ولا السيئة) قال الفراء: ” لا ” صلة أي : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، وأنشد :
ما كان يرضى رسول الله فعلهم والطيبان أبو بكر ولا عمر
أراد أبو بكر وعمر، أي: لا يستوي ما أنت عليه من التوحيد ، وما المشركون عليه من الشرك . قال ابن عباس : الحسنة لا إله إلا الله ، والسيئة الشرك . وقيل: الحسنة الطاعة، والسيئة الشرك. وهو الأول بعينه . وقيل : الحسنة المداراة ، والسيئة الغلظة . وقيل : الحسنة العفو ، والسيئة الانتصار . وقال الضحاك : الحسنة العلم ، والسيئة الفحش . وقال علي بن أبي طالب – رضي الله عنه – : الحسنة حب آل الرسول ، والسيئة بغضهم .[2]
جاء في تفسير الطبري رحمه الله:
وقوله: )وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ( يقول تعالى ذكره: ولا تستوي حسنة الذين قالوا ربنا الله ثم استقاموا, فأحسنوا في قولهم, وإجابتهم وبهم إلى ما دعاهم إليه من طاعته, ودعوا عباد الله إلى مثل الذي أجابوا ربهم إليه, وسيئة الذين قالوا: لا تَسْمَعُوا لِهَذَا الْقُرْآنِ وَالْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ فكذلك لا تستوي عند الله أحوالهم ومنازلهم, ولكنها تختلف كما وصف جلّ ثناؤه أنه خالف بينهما, وقال جلّ ثناؤه: ( وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَةُ ) فكرر لا والمعنى: لا تستوي الحسنة ولا السيئة, لأن كلّ ما كان غير مساو شيئا, فالشيء الذي هو له غير مساو غير مساويه, كما أن كل ما كان مساويا لشيء فالآخر الذي هو له مساو, مساو له, فيقال: فلان مساو فلانا, وفلان له مساو, فكذلك فلان ليس مساويا لفلان, لا فلان مساويا له, فلذلك كرّرت لا مع السيئة, ولو لم تكن مكرّرة معها كان الكلام صحيحا. وقد كان بعض نحويي البصرة يقول: يجوز أن يقال: الثانية زائدة; يريد: لا يستوي عبد الله وزيد, فزيدت لا توكيدا, كما قال: لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أَلا يَقْدِرُونَ أي لأن يعلم, وكما قال: لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيَامَةِ * وَلا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ . وقد كان بعضهم ينكر قوله هذا في: لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ , وفي قوله: لا أُقْسِمُ فيقول: لا الثانية في قوله: لِئَلا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتَابِ أن لا يقدرون ردّت إلى موضعها, لأن النفي إنما لحق يقدرون لا العلم, كما يقال: لا أظنّ زيدا لا يقوم, بمعنى: أظن زيدا لا يقوم; قال: وربما استوثقوا فجاءوا به أوّلا وآخرا, وربما اكتفوا بالأول من الثاني.إ. هـ[3]
ثم يقول رحمه الله : وإنما عنى بقوله.(وَلا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَلا السَّيِّئَة ) ولا يستوي الإيمان بالله والعمل بطاعته والشرك به والعمل بمعصيته. إ. هـ[4]
قال ابن عاشور رحمه الله في التحرير والتنوير:
عَطْفُ هذه الجملة له موقع عجيب ، فإنه يجوز أن يكون عطفاً على جملة { وَمَن أحْسَنُ قَوْلاً مِمَّن دَعَا إلى الله } [ فصلت : 33 ] الخ تكملة لها فإن المعطوف عليها تضمنت الثناء على المؤمنين إثر وعيد المشركين وذمِّهم ، وهذه الجملة فيها بيان التفاوت بين مرتبة المؤمنين وحال المشركين ، فإن الحسنة اسم منقول من الصفة فتلمُّحُ الصفة مقارن له ، فالحسنة حالة المؤمنين والسيئة حالة المشركين ، فيكون المعنى كمعنى آيات كثيرة من هذا القبيل مثل قوله تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير والذين آمنوا وعملوا الصالحات ولا المسيء } [ غافر : 58 ] ، فعطف هذه الجملة على التي قبلها على هذا الاعتبار يكون من عطف الجمل التي يجمعها غرض واحد وليس من عطف غرض على غرض . ويجوز أن تكون عطفاً على جملة { وقال الذين كفروا لا تسمعوا لهذا القرءان والغوا فيه لعلكم تَغلبون } [ فصلت : 26 ] الواقعة بعد جملة { وقالوا قلوبنا في أكِنَّة مِمَّا تدعُونَا إليه } [ فصلت : 5 ] إلى قوله : { فاعمل إننا عاملون } [ فصلت : 5 ] فإن ذلك مثير في نفس النبي صلى الله عليه وسلم الضجر من إصرار الكافرين على كفرهم وعدم التأثر بدعوة النبي صلى الله عليه وسلم إلى الحق فهو بحال من تضيق طاقة صبره على سفاهة أولئك الكافرين ، فأردف الله ما تقدم بما يدفع هذا الضيق عن نفسه بقوله : { ولا تَسْتَوِي الحَسَنَةُ ولا السيئة } الآية .
فالحسنة تعم جميع أفراد جنسها وأُولاها تبادراً إلى الأذهان حسنةُ الدعوة إلى الإسلام لما فيها من جمّ المنافع في الآخرة والدنيا، وتشمل صفة الصفح عن الجفاء الذي يلقَى به المشركون دعوةَ الإسلام لأن الصفح من الإحسان، وفيه ترك ما يثير حميتهم لدينهم ويقرب لين نفوس ذوي النفوس اللينة. فالعطف على هذا من عطف غرض على غرض ، وهو الذي يعبر عنه بعطف القصة على القصة ، وهي تمهيد وتوطئة لقوله عقبها { ادْفَع بالتي هِيَ أحْسَنُ } الآية .
وقد علمتَ غير مرة أن نفي الاستواء ونحوه بين شيئين يراد به غالباً تفضيل أحدهما على مُقابله بحسب دلالة السياق كقوله تعالى : { أفمن كان مؤمناً كمن كان فاسقاً لا يستوون } [ السجدة : 18 ] . وقولِ الأعشى : ما يُجْعَلُ الجُدُّ الضَّنُونُ الذي … جُنِّبَ صَوْبَ اللَّجِبِ الماطر
مِثــلَ الــفُراتيِّ إذَا مَا طَمَــا … يَقْـذِفُ بالبُــوصِيِّ والماهرِ
فكان مقتضى الظاهر أن يقال : ولا تستوي الحسنة والسيئة ، دون إعادة { لا } النافية بعد الواو الثانية كما قال تعالى : { وما يستوي الأعمى والبصير } [ غافر : 58 ] ، فإعادة { لا } النافية تأكيد لأختها السابقة . وأحسن من اعتبار التأكيد أن يكون في الكلام إيجاز حذف مؤذن باحتباك في الكلام ، تقديره : وما تسْتوي الحسنة والسيئةُ ولا السيئة والحسنة . فالمراد بالأول نفي أن تلتحق فضائل الحسنة مساوىء السيئة ، والمراد بالثاني نفي أن تلتحق السيئة بشرف الحسنة . وذلك هو الاستواء في الخصائص ، وفي ذلك تأكيد وتقوية لنفي المساواة ليدل على أنه نفي تام بين الجنسين : جنسِ الحسنة وجنس السيئة لا مبالغة فيه ولا مجازَ ، وقد تقدم الكلام على نظيره في سورة فاطر .
وفي التعبير بالحسنة والسيئة دون المُحسن والمسيء إشارة إلى أن كل فريق من هذين قد بلغ الغاية في جنس وصفه من إحسان وإساءة على طريقة الوصف بالمصدر، وليتأتى الانتقال إلى موعظة تهذيب الأخلاق في قوله : { ادْفَع بالتي هي أحسن } ، فيشبه أن يكون إيثارُ نفي المساواة بين الحسنة والسيئة توطئةً للانتقال إلى قوله : { ادْفَعَ بالتي هي أحسن } إ.هـ كلامه رحمه الله.[5]
أقول تعليقاً على ما تقدم من أقوال المفسرين:
برغم اتفاقهم على أن (ولا) الثانية أتت للتأكيد فإن مقتضى هذا البحث واستقراء الآيات المشتملة على المقارنة تبين بجلاء بأن إدخال (ولا) يختلف عن العطف بالواو، فالعطف يقتضي المغايرة، بينما (ولا) تقتضي مقارنتين مستقلتين وليست مقارنة بين اثنين.
الخلاصة:
نخلُصُ إلى أنَّ الأظهر ومقتضاه في هذه الآية الكريمة من سورة فصلت أن الممايزة والتفريق هنا بين (الحَسَنْ والأحسن) من جهة (والسيئ والأسوأ) من جهة أخرى ومن ثم فهو جل جلاله يتبع ذلك التفريق بحثِّه على الدفع بالأحسن وليس الحسن ، والأظهر والله أعلم أن المعنى ليس رد السيئة بالحسنة ، لأن سياق الآية يثبت أن العداوة واقعة ، بل كأن المعنى أن من بينك وبينه عداوة نالك من جراءها من السيئات ما نالك فادفع عداوته ليس بالإعراض عنه ، ولا بإسداء الحسنة إليه بل بالدفع بما هو أحسن وأفضل ولا شك أن ذلك يتطلب قدراً رفيعاً من الإيمان والصبر على إسداء افضل الإحسان لمن قدم السوء ولا يلقَّى تلك الدرجة الرفيعة ويحصد نتائجها إلا الذين صبروا ، ولا يوفق إليها إلا ذو حظ عظيم لأن عمل مثل هذا له مرتبة عالية عند الله وجزاءه عظيم موازي للنصيب والحظ الذي وعد الله به من يفعل ذلك.
[1] ص181 ج7 - تفسير ابن كثير ت سلامة
[2] ص361 ج15- تفسير القرطبي - سورة فصلت
[3] ص432 - تفسير الطبري جامع البيان ط هجر
[4] المرجع السابق.
[5] ص291 ج24 - التحرير والتنوير - سورة فصلت