أحسن الله إليكم
كذلك هناك وجه قائم ، فلو قرأنا الآية الكريمة كاملة وفي سياقها لوجدناها :
{
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَاللَّهُ يَعْلَمُ مَا تَصْنَعُونَ } [العنكبوت:45] فتنقسم الآية الكريمة لثلاثة أجزاء :
الأول : الأمر بتلاوة الكتاب واتباع مافيه من أمر ونهي. (
اتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتَابِ )
الثاني : إقامة الصلاة ، لما فيها من نهي عن الفحشاء والمنكر.(
وَأَقِمِ الصَّلَاةَ إِنَّ الصَّلَاةَ تَنْهَىٰ عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ)
الثالث: الذكر ، فهو أكبر عند الله مما سواه. (
وَلَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ)
فالجزء الثالث من الآية متعلق بالجزئين السابقين ، فالذكر أفضل وأكبر من الصلاة ، بل إن الصلاة لم تشرع إلا لأجل تحقق ذكر الله ، يقول تعالى {
إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لَا إِلَٰهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي وَأَقِمِ الصَّلَاةَ لِذِكْرِي } [طه:14] فكانت الصلاة مشروعة لاستمرار حصول ذكر الله طيلة اليوم والليلة ، ولذلك فإن الملائكة يتميزون بالسجود والذكر يقول تعالى فيهم : {
يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَالنَّهَارَ لَا يَفْتُرُونَ } [الأنبياء:20].
والذكر عبادة لا يشترط فيها طهارة ولا الإتيان بحركات معينة كالصلاة ، ولا وقت للذكر فيمكن إتيانه سائر الليل والنهار ، يقول تعالى: {
الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَىٰ جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَٰذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ } [آل عمران:191].
ثم اننا لو تتبعنا مواضع اجتماع الذكر والصلاة لوجدنا أن الذكر دائما مقدمٌ على الصلاة
فيقول تعالى:
{ إِنَّمَا يُرِيدُ الشَّيْطَانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ فِي الْخَمْرِ وَالْمَيْسِرِ وَيَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَعَنِ الصَّلَاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ } [المائدة:91]
ويقول تعالى :
{ الَّذِينَ إِذَا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَالصَّابِرِينَ عَلَىٰ مَا أَصَابَهُمْ وَالْمُقِيمِي الصَّلَاةِ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ } [الحج:35]
ويقول تعالى:
{ رِجَالٌ لَا تُلْهِيهِمْ تِجَارَةٌ وَلَا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَإِقَامِ الصَّلَاةِ وَإِيتَاءِ الزَّكَاةِ يَخَافُونَ يَوْمًا تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَالْأَبْصَارُ } [النور:37]
فكان ذكر الله أكبر من الصلاة مع وجوب الصلاة وعظم أمرها فإنها شرعت لتحقيق هذا الذكر فكلما ملأ المؤمن يومه ذكراً وأجراه دائما على لسانه وفي قلبه كان متصلا بالله وتحقق ذكر الله له في كل حين .
إن ذكر الله لعبده مقيد بذكر العبد لربه فيقول تعالى :
فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَاشْكُرُوا لِي وَلَا تَكْفُرُونِ (152)
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلَاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) [البقرة] وجعل من الصلاة معيناً لتأدية عبادة الذكر ، فكان هذا الموضع دليلاً على أن الذكر هو الغاية ، وأن الصلاة وسيلة لبلوغ هذه الغاية.
إن المؤمن يفتر عن الذكر وتأخذه الصوارف ، فهو ليس كالملائكة الذاكرين لطبيعة خلقته وحاجته للسعي للرزق والانشغال بدنياه ، فشرع لنا الصلاة حتى تبقي ذكر الله حاضراً في قلوبنا.
في عن ابي هريرة رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال : يقول اللهُ تعالَى:
أنا عندَ ظنِّ عبدي بي، وأنا معه إذا ذكَرَنِي، فإن ذَكَرَنِي في نفسِه ذكرتُه في نفسي، وإن ذكَرَنِي في ملأٍ ذكرتُه في ملأٍ خيرٌ منهم، وإن تقرَّبَ إليَّ شبرًا تقرَّبتُ إليه ذراعًا، وإن تقرَّبَ إليَّ ذراعًا تقرَّبتُ إليه باعًا، وإن أتاني يمشي أتيتُه هرْولةً
فانظر كيف أن الله يذكر من يذكره فإن امتلأ يومك بالذكر كان ذكر الله لكَ حاضراً في كل حين مادمت ذاكراً له ، وإذا ذكرته في الصلاة فقط ذكركَ سبحانه وقت الصلاة فقط ، فكان عِظم الذكر وفضله على الصلاة وغيره من الأعمال بيّناً لكل مؤمن لديمومة تحقيق الاتصال بالله من خلال الذكر عن سواه من العبادات، جعلنا الله وإياكم من الذاكرين الشاكرين .