مازن مطبقاني
New member
علم أحد أصدقائي أني مسافر إلى بولندا لحضور مؤتمر في جامعة كراكوف، فقال لي نعم السفر فيه فوائد كثيرة فقلت له نعم والشاعر يقول: سافر تجد عِوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذَ العيشِ في النصَبِ (وليس بسكون الصاد)، وهنا أسرعت للقول صادقاً وليس أم هاشم مما يمكن أن يكون هناك عوضاً عنها،فهي نعم الرفيق في الحضر وفي السفر، ولكن العوض عن غيرها وما أكثرهم.
وفي كل مؤتمر أتساءل مالي ولعناء السفر وتكاليفه فأتذكر ما يردده المغنون (أهل الهوى دائماً وأبداً مكتوب عليهم قلة الراحة مثل السفينة بلا ربان يلعب بها الموج سداحة) والهوى ليس العشق والغرام وحده بل يمكن أن يكون الهوى غير ذلك وهو عين ما تحدث عنه ابن حزم في كتابه الرائع (في السير والأخلاق) حيث تحدث عن أنواع الهموم التي تصيب الناس، والهم ليس معناه التفكير السلبي أو القلق والانزعاج ولكن الهم هو ما يعتقد الإنسان أنه مهم بالنسبة له أو يهمه أو يهتم به، فأناس همهم المال والجاه وآخرون همهم الملابس والزينة، آخرون القصور والرياش والأثاث وغيرهم السيارات أو همهم النساء والمتع الحلال أو الحرام. وهناك من همه البحث العلمي أو البحث عن المتاعب في العلم والبحث. وأكد ابن حزم رحمه الله على أن يكون همك رضا الله سبحانه وتعالى وطلب الجنة وهو أعلى هم.
لماذا بولندا؟ كانت جامعة كراكوف قد دعت إلى مؤتمر حول الشرق الأوسط قبل عامين وعقدت العزم على حضوره وقمت بإعداد عرض عن المؤتمر لجهة علمية رغبت أن تسهم معي في تكاليف السفر وأقدم لهم تقريراً عن المؤتمر، فتعثر الأمر، وعرفت الجهة المنظمة رغبتي الحضور (ولم أكن أعددت ورقة للمؤتمر) فعندما خططوا لمؤتمر هذا العام كنت من بين من وجهت إليهم الدعوة وبخاصة عن طريق موقع فيس بوك. وأعددت خطة بحث (لا يستطيعون رفضها) وأستطرد بالقول إن إعداد خطة بحث مسألة تحتاج إلى معرفة الموضوعات الحساسة وكتابة العرض بطريقة مقنعة تشجع الجهة الداعية على قبول الموضوع. وقبل الموضوع ووجدت في مكتبتي عشرات الكتب كما أن الإنترنت أسعفتني بمصادر لا حصر لها وبخاصة أن الموضوع فيه بعض المحاذير وأمور لا تقال في صحف سيارة أو مجلات عامة.
واقترب موعد السفر فقررت أن أكون عزيز النفس لا ألجأ لأحد سوى الله عز وجل عملاً بقوله تعالى (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) الآية وامتثالاً لنصيحة جدي حامد رحمه الله التي سمعتها من والدي رحمه الله( "علم وإراقة ماء وجه لا يجتمعان"، ورغبت في أن أعرف عن بعض نشاط الجامعات البولندية في الدراسات العربية والإسلامية أو الشرق أوسطية.
وكانت أول خطوة ترتيب السفر إلى كراكوف، فوجدت أن الخطوط التركية بسعر مناسب يمكن أن تنقلني إلى مدينة وارسو العاصمة وإن كانت وارسو أبعد ثم أعود إلى الجنوب إلى كراكوف.
أولاً تقدمت إلى السفارة البولندية بطلب تأشيرة مدة أربعة أيام ولسفرة واحدة وقدمت المستندات المطلوبة فجاءتني التأشيرة بعد أسبوع تقريباً مدتها ستة أشهر (حتى نهاية عام 2011م) ومتعددة السفرات وشنقن أيضاً. وكنت عندما ذهبت إلى السفارة قدمت هدية إلى السفير (بإمضاء) كتابي (رحلاتي إلى مشرق الشمس) و(رحلاتي إلى بلاد الإنجليز)وعندما قدمت إلى السفارة الجزائرية بطلب التأشيرة أهديت القنصل والسفير نسخة لكل منها من كتابي (عبد الحميد بن باديس العالم الربّاني والزعيم السياسي) فحصلت على تأشيرة مجاملة خلال يومين وكان المقرر أن أحصل عليها بعد أربعة أيام.
بدأت الرحلة من مطار الرياض فخرجت من البيت الساعة الحادية عشرة مساءً أولاً لأن الأهل سينامون فلا داعي لأن أزعجهم، وثانياً من سيوصلني إلى المطار لا ينبغي أن أزعجه أن يوصلني الساعة الثانية عشرة حيث تنطلق الرحلة الثانية وعشرين دقيقاً قبل الفجر. ووصلت اسطنبول على الساعة السادسة تقريباً فكان عليّ أن أمضي في المطار حوالي خمس ساعات حتى الحادية عشرة قبل الظهر. وانطلقت الرحلة في موعدها ووصلت وارسو على الواحدة والنصف ظهراً فكان أول متاعب السفر أن أحصل على تذكرة الحافلة رقم 175 كما أفادتني كاترزينا المنسقة للمؤتمر من جامعة كراكوف من خلال الفيس بوك. وداعبت آلة التذاكر حتى أفادتني بقيمة التذكرة دون أن أفهم التفاصيل من قطاع 1 أو 2 أو غير ذلك، المهم تذكرة والسلام، وفي السفر على الإنسان أن يكون أحياناً مغامراً ولا يصر على أن يكون كل شي صحيح مائة بالمائة، فقد تكون قيمة التذكرة ناقصة أو زيادة، فليس القضية هي أكبر قضية في العالم وإن دفعت أكثر فلا بأس وإن دفعت أقل فأنا ضيفهم وعليهم أن يتحملوا أن جعلوا الآلة هي المرجع في كل شيئ. وركبت الباص أو الحافلة إلى محطة القطار الرئيسية في وارسو، وهنا لا بد من البحث عن القطار المتجه إلى كراكوف فضاع القطار الأول لأنني لم أعرف كيف أشتري التذكرة أو لم تستجب الآلة لبطاقة البنك البريطاني, ووقفت في الطابور لأنتظر موظفة التذاكر وكان طابوراً طويلاً وعدد الموظفين قليل ربما ذهبوا لاستراحة الغداء وهذا حالنا في بعض الدوائر الحكومية- من أراد أن يضيع نهاراً كاملاً فعليه بمراجعة الخطوط السعودية في حي المروج بالرياض وكأن الخطوط لا تكسب مالاً فلماذا يضيعون أوقات الناس. لتشتري تذكرة من المروج عليك الانتظار (إن تأت السابعة والنصف صباحاً أو قبل ذلك) عدة ساعات قد تصل إلى النهار كله.
محطة قطار وارسو واتصال هاتفي
هي محطة قديمة متخلفة ولكن ثمة جهود كبيرة ضخمة لتحديثها ستجعلها بعد فترة من الوقت (قبل أن تنتهي التجديدات في شمال الرياض وطريق الملك عبد الله) من المحطات الرائعة في أوروبا كلها. وهذا يذكرني بمحطة قطارات واشنطن والبناء الفخم والفخم جداً للمحطة كأنك لتخالها مطاراً دولياً. والتجديد في وارسو يتناول بناء سلالم متحركة وسيور متحركة أيضاً وقاعات وتجديد البناء، وربما زيادة عدد المتاجر. والمحطة في وضعها الحالي تستخدم الكمبيوتر في إصدار التذاكر وفي وضع جداول القطارات التي تنطلق في موعدها بدقة بالدقيقة فقطار على الساعة الخامسة وثلاث وخمسين ينطلق تماماً في موعده. وقد شاهدت في اليابان قطاراً ينطلق على العاشرة ودقيقة واحدة فتعجبت من الدقة ولكن لا بد من هذه الدقة في شبكة قطارات ضخمة لا يمكن أن يترك فيها شيء للاجتهاد أو اللامبالاة. وقد لاحظت أن حولها ساحات ومقاهٍ جميلة ولكن لم يكن لدي الوقت في كلا المرتين وإلاّ لأمضيت وقتاً في وارسو التي تسمى بها الاتفاقيات السرية التي أعادت ياسر عرفات وجماعته إلى الضفة ليخدموا إسرائيل في أمور كثيرة.
وحسبت قيمة التذكرة في الدرجة الثانية لرحلة تستغرق ثلاث ساعات فهي مائة وثلاث زوتات وقد كانت الزوتة قبل ثلاث سنوات تساوي الريال أي إن الدولار حوالي أربعة زوتات ولكنه اليوم يساوي فقطة 2.70 زوتا فقط. فقد ارتفعت قيمتها وبقي ريالنا على حاله لأنه مرتبط بالدولار ولا أدري هل سليم هذا أو هناك ما هو أسلم منه. ومن المسؤول عن ذلك وقد ذكرتني خديجة زوجتي أن الريال والرنجت الماليزية كانا متعادلين وارتفعت الرنجت ونزل الريال وعندنا البترول وليس عندهم. فهل يحاسب أحد على هذا؟ أو هل للمواطن أن يسأل؟ وفيما أنا في المحطة أبحث عن التذاكر ومواعيد القطارات جاءتني مكالمة من أستاذ جامعي في جامعة الملك عبد العزيز فقلت له: إليك عنّي فأنا في معمعة البحث عن طريقي، وتذكرت أنني رأيته في مؤتمر في جامعة مصرية يرتدي المشلح (العباءة) ذات الزركشة الذهبية، ومعه أستاذ مصري يسير أمامه أو خلفه. ولم يعجبه الفندق الذي نزل فيه بقية الأساتذة فذهب إلى الفندق الأرقى وكنت وزميل لي لم نقبل الضيافة المصرية التي عدتنا طلاب ثانوية لكل أستاذين غرفة فوجدت صاحب العباءة الفاخرة هناك، فتعجبت وما سبب هذا اللباس في مؤتمر أكاديمي وهو ليس مسؤولاً ولا أميراً. وأخيراً حصلت على التذكرة في القطار المغادر على الساعة الرابعة وخمسة دقائق ويصل على السابعة تقريباً. وفي العربة رقم 23 من الدرجة الثانية والمقعد رقم 108. والمقصورة فيها ثمانية مقاعد وسبعة منها كانت مشغولة. ثلاث من الركاب يرتدون البذلات الرسمية وامرأة ترتدي بذلة رسمية ورجل وامرأته من العواجيز. وسار القطار يتهادى ولا حديث بين الركاب عدا ما بين الزوجة وزوجها. وكنت أغفو وأصحو حتى جاء القطار ليسأل عن التذاكر ويخرمها ثم جاءت النادل لتقدم الشاي والقهوة والعصير والماء والبسكويت مجاناً.
وصلت كراكوف وخرجت من المحطة بعد أن حملت حقيبتي دون أن أجد مصعداً، ولما خرجت إلى الهواء الطلق رأيت ازدحاماً فظننته مؤقتاً وركبت سيارة الأجرة (كما يحب هاشم وليس التاكسي) وانتظرنا مدة طويلة تقترب من ربع ساعة أو زيادة وذلك لأن خروج السيارات يصادفه مرور القطار فما أتعس المهندس لم يفكر في الأمر أن لم يضع جسراً أو نفقاً لخروج السيارات، ولكن هذا ما يحدث عندما تكون الرؤية قاصرة، أو لعل هذا الموقف كان من أيام الشيوعية والنظام الجديد يهتم بالعاصمة وارسو ولا يهتم بمدن أقل شأناً مع أن كراكوف عاصمة ثقافية وتراثية وسياحية.
بلغت الفندق وكان فندقاً متواضعاً على الرغم من حجمه الكبير وقربه من وسط المدينة لكن غرفه صغيرة ما يضيق الصدر فيها ومرتبة السرير قلت إنه نام فيها ما يزيد على نصف مليون نائم، وكنت أتعجب عندما أستيقظ أشعر بجسمي مكسراً ولم أنتبه إلى المرتبة العظيمة. وقد لقيت أمريكياً من تكساس في الأصل يعيش في مينسوتا يعمل في محاسبة شركة تهتم بعلف الحيوانات، وكان وحده في المطعم فقلت خلو المطعم دليل على أنه ليس جيداً ، فقال الأمريكي بلهجة جنوبية (الأكل جيد ولكن الغرف ليست جيدة ولذلك أفكر في الانتقال إلى فندق آخر) وسبب أنه يرى أن الفندق ليس جيداً فهو من الوزن الثقيل أو فوق المتوسط كما أقول مداعباً والأمريكان متعودون على الأماكن الفسيحة وبخاصة أهل الجنوب، فإن كانت المرتبة تهبط بي إلى أرضية الغرفة فإلى أين تهبط به وهو أكثر مني وزناً. وكان الأكل جيداً كما قال، ولكن كيف يكون المطعم خاوياً على عروشه، هو جيد كما جربت وليس فاحشاً مثل مطاعم مراكش السياحية الأغلى من شارع مانهاتن في نيويورك والشانزلزيه في باريس، وليس في الغرفة خدمات إنترنت فإن أردت أن تتصل بالعالم فلا بد أن ترتدي ملابسك ولبس البنطال والقميص والحزام والحذاء صعب فما أسهل ارتداء الثوب في بلادنا. وهكذا بدأت رحلتي في كراكوف.