أيام في بولندا 1

إنضم
11/04/2006
المشاركات
157
مستوى التفاعل
0
النقاط
16
الإقامة
الرياض

علم أحد أصدقائي أني مسافر إلى بولندا لحضور مؤتمر في جامعة كراكوف، فقال لي نعم السفر فيه فوائد كثيرة فقلت له نعم والشاعر يقول: سافر تجد عِوضاً عمن تفارقه وانصب فإن لذيذَ العيشِ في النصَبِ (وليس بسكون الصاد)، وهنا أسرعت للقول صادقاً وليس أم هاشم مما يمكن أن يكون هناك عوضاً عنها،فهي نعم الرفيق في الحضر وفي السفر، ولكن العوض عن غيرها وما أكثرهم.
وفي كل مؤتمر أتساءل مالي ولعناء السفر وتكاليفه فأتذكر ما يردده المغنون (أهل الهوى دائماً وأبداً مكتوب عليهم قلة الراحة مثل السفينة بلا ربان يلعب بها الموج سداحة) والهوى ليس العشق والغرام وحده بل يمكن أن يكون الهوى غير ذلك وهو عين ما تحدث عنه ابن حزم في كتابه الرائع (في السير والأخلاق) حيث تحدث عن أنواع الهموم التي تصيب الناس، والهم ليس معناه التفكير السلبي أو القلق والانزعاج ولكن الهم هو ما يعتقد الإنسان أنه مهم بالنسبة له أو يهمه أو يهتم به، فأناس همهم المال والجاه وآخرون همهم الملابس والزينة، آخرون القصور والرياش والأثاث وغيرهم السيارات أو همهم النساء والمتع الحلال أو الحرام. وهناك من همه البحث العلمي أو البحث عن المتاعب في العلم والبحث. وأكد ابن حزم رحمه الله على أن يكون همك رضا الله سبحانه وتعالى وطلب الجنة وهو أعلى هم.
لماذا بولندا؟ كانت جامعة كراكوف قد دعت إلى مؤتمر حول الشرق الأوسط قبل عامين وعقدت العزم على حضوره وقمت بإعداد عرض عن المؤتمر لجهة علمية رغبت أن تسهم معي في تكاليف السفر وأقدم لهم تقريراً عن المؤتمر، فتعثر الأمر، وعرفت الجهة المنظمة رغبتي الحضور (ولم أكن أعددت ورقة للمؤتمر) فعندما خططوا لمؤتمر هذا العام كنت من بين من وجهت إليهم الدعوة وبخاصة عن طريق موقع فيس بوك. وأعددت خطة بحث (لا يستطيعون رفضها) وأستطرد بالقول إن إعداد خطة بحث مسألة تحتاج إلى معرفة الموضوعات الحساسة وكتابة العرض بطريقة مقنعة تشجع الجهة الداعية على قبول الموضوع. وقبل الموضوع ووجدت في مكتبتي عشرات الكتب كما أن الإنترنت أسعفتني بمصادر لا حصر لها وبخاصة أن الموضوع فيه بعض المحاذير وأمور لا تقال في صحف سيارة أو مجلات عامة.
واقترب موعد السفر فقررت أن أكون عزيز النفس لا ألجأ لأحد سوى الله عز وجل عملاً بقوله تعالى (وكأين من دابة لا تحمل رزقها) الآية وامتثالاً لنصيحة جدي حامد رحمه الله التي سمعتها من والدي رحمه الله( "علم وإراقة ماء وجه لا يجتمعان"، ورغبت في أن أعرف عن بعض نشاط الجامعات البولندية في الدراسات العربية والإسلامية أو الشرق أوسطية.
وكانت أول خطوة ترتيب السفر إلى كراكوف، فوجدت أن الخطوط التركية بسعر مناسب يمكن أن تنقلني إلى مدينة وارسو العاصمة وإن كانت وارسو أبعد ثم أعود إلى الجنوب إلى كراكوف.
أولاً تقدمت إلى السفارة البولندية بطلب تأشيرة مدة أربعة أيام ولسفرة واحدة وقدمت المستندات المطلوبة فجاءتني التأشيرة بعد أسبوع تقريباً مدتها ستة أشهر (حتى نهاية عام 2011م) ومتعددة السفرات وشنقن أيضاً. وكنت عندما ذهبت إلى السفارة قدمت هدية إلى السفير (بإمضاء) كتابي (رحلاتي إلى مشرق الشمس) و(رحلاتي إلى بلاد الإنجليز)وعندما قدمت إلى السفارة الجزائرية بطلب التأشيرة أهديت القنصل والسفير نسخة لكل منها من كتابي (عبد الحميد بن باديس العالم الربّاني والزعيم السياسي) فحصلت على تأشيرة مجاملة خلال يومين وكان المقرر أن أحصل عليها بعد أربعة أيام.
بدأت الرحلة من مطار الرياض فخرجت من البيت الساعة الحادية عشرة مساءً أولاً لأن الأهل سينامون فلا داعي لأن أزعجهم، وثانياً من سيوصلني إلى المطار لا ينبغي أن أزعجه أن يوصلني الساعة الثانية عشرة حيث تنطلق الرحلة الثانية وعشرين دقيقاً قبل الفجر. ووصلت اسطنبول على الساعة السادسة تقريباً فكان عليّ أن أمضي في المطار حوالي خمس ساعات حتى الحادية عشرة قبل الظهر. وانطلقت الرحلة في موعدها ووصلت وارسو على الواحدة والنصف ظهراً فكان أول متاعب السفر أن أحصل على تذكرة الحافلة رقم 175 كما أفادتني كاترزينا المنسقة للمؤتمر من جامعة كراكوف من خلال الفيس بوك. وداعبت آلة التذاكر حتى أفادتني بقيمة التذكرة دون أن أفهم التفاصيل من قطاع 1 أو 2 أو غير ذلك، المهم تذكرة والسلام، وفي السفر على الإنسان أن يكون أحياناً مغامراً ولا يصر على أن يكون كل شي صحيح مائة بالمائة، فقد تكون قيمة التذكرة ناقصة أو زيادة، فليس القضية هي أكبر قضية في العالم وإن دفعت أكثر فلا بأس وإن دفعت أقل فأنا ضيفهم وعليهم أن يتحملوا أن جعلوا الآلة هي المرجع في كل شيئ. وركبت الباص أو الحافلة إلى محطة القطار الرئيسية في وارسو، وهنا لا بد من البحث عن القطار المتجه إلى كراكوف فضاع القطار الأول لأنني لم أعرف كيف أشتري التذكرة أو لم تستجب الآلة لبطاقة البنك البريطاني, ووقفت في الطابور لأنتظر موظفة التذاكر وكان طابوراً طويلاً وعدد الموظفين قليل ربما ذهبوا لاستراحة الغداء وهذا حالنا في بعض الدوائر الحكومية- من أراد أن يضيع نهاراً كاملاً فعليه بمراجعة الخطوط السعودية في حي المروج بالرياض وكأن الخطوط لا تكسب مالاً فلماذا يضيعون أوقات الناس. لتشتري تذكرة من المروج عليك الانتظار (إن تأت السابعة والنصف صباحاً أو قبل ذلك) عدة ساعات قد تصل إلى النهار كله.
محطة قطار وارسو واتصال هاتفي
هي محطة قديمة متخلفة ولكن ثمة جهود كبيرة ضخمة لتحديثها ستجعلها بعد فترة من الوقت (قبل أن تنتهي التجديدات في شمال الرياض وطريق الملك عبد الله) من المحطات الرائعة في أوروبا كلها. وهذا يذكرني بمحطة قطارات واشنطن والبناء الفخم والفخم جداً للمحطة كأنك لتخالها مطاراً دولياً. والتجديد في وارسو يتناول بناء سلالم متحركة وسيور متحركة أيضاً وقاعات وتجديد البناء، وربما زيادة عدد المتاجر. والمحطة في وضعها الحالي تستخدم الكمبيوتر في إصدار التذاكر وفي وضع جداول القطارات التي تنطلق في موعدها بدقة بالدقيقة فقطار على الساعة الخامسة وثلاث وخمسين ينطلق تماماً في موعده. وقد شاهدت في اليابان قطاراً ينطلق على العاشرة ودقيقة واحدة فتعجبت من الدقة ولكن لا بد من هذه الدقة في شبكة قطارات ضخمة لا يمكن أن يترك فيها شيء للاجتهاد أو اللامبالاة. وقد لاحظت أن حولها ساحات ومقاهٍ جميلة ولكن لم يكن لدي الوقت في كلا المرتين وإلاّ لأمضيت وقتاً في وارسو التي تسمى بها الاتفاقيات السرية التي أعادت ياسر عرفات وجماعته إلى الضفة ليخدموا إسرائيل في أمور كثيرة.
وحسبت قيمة التذكرة في الدرجة الثانية لرحلة تستغرق ثلاث ساعات فهي مائة وثلاث زوتات وقد كانت الزوتة قبل ثلاث سنوات تساوي الريال أي إن الدولار حوالي أربعة زوتات ولكنه اليوم يساوي فقطة 2.70 زوتا فقط. فقد ارتفعت قيمتها وبقي ريالنا على حاله لأنه مرتبط بالدولار ولا أدري هل سليم هذا أو هناك ما هو أسلم منه. ومن المسؤول عن ذلك وقد ذكرتني خديجة زوجتي أن الريال والرنجت الماليزية كانا متعادلين وارتفعت الرنجت ونزل الريال وعندنا البترول وليس عندهم. فهل يحاسب أحد على هذا؟ أو هل للمواطن أن يسأل؟ وفيما أنا في المحطة أبحث عن التذاكر ومواعيد القطارات جاءتني مكالمة من أستاذ جامعي في جامعة الملك عبد العزيز فقلت له: إليك عنّي فأنا في معمعة البحث عن طريقي، وتذكرت أنني رأيته في مؤتمر في جامعة مصرية يرتدي المشلح (العباءة) ذات الزركشة الذهبية، ومعه أستاذ مصري يسير أمامه أو خلفه. ولم يعجبه الفندق الذي نزل فيه بقية الأساتذة فذهب إلى الفندق الأرقى وكنت وزميل لي لم نقبل الضيافة المصرية التي عدتنا طلاب ثانوية لكل أستاذين غرفة فوجدت صاحب العباءة الفاخرة هناك، فتعجبت وما سبب هذا اللباس في مؤتمر أكاديمي وهو ليس مسؤولاً ولا أميراً. وأخيراً حصلت على التذكرة في القطار المغادر على الساعة الرابعة وخمسة دقائق ويصل على السابعة تقريباً. وفي العربة رقم 23 من الدرجة الثانية والمقعد رقم 108. والمقصورة فيها ثمانية مقاعد وسبعة منها كانت مشغولة. ثلاث من الركاب يرتدون البذلات الرسمية وامرأة ترتدي بذلة رسمية ورجل وامرأته من العواجيز. وسار القطار يتهادى ولا حديث بين الركاب عدا ما بين الزوجة وزوجها. وكنت أغفو وأصحو حتى جاء القطار ليسأل عن التذاكر ويخرمها ثم جاءت النادل لتقدم الشاي والقهوة والعصير والماء والبسكويت مجاناً.
وصلت كراكوف وخرجت من المحطة بعد أن حملت حقيبتي دون أن أجد مصعداً، ولما خرجت إلى الهواء الطلق رأيت ازدحاماً فظننته مؤقتاً وركبت سيارة الأجرة (كما يحب هاشم وليس التاكسي) وانتظرنا مدة طويلة تقترب من ربع ساعة أو زيادة وذلك لأن خروج السيارات يصادفه مرور القطار فما أتعس المهندس لم يفكر في الأمر أن لم يضع جسراً أو نفقاً لخروج السيارات، ولكن هذا ما يحدث عندما تكون الرؤية قاصرة، أو لعل هذا الموقف كان من أيام الشيوعية والنظام الجديد يهتم بالعاصمة وارسو ولا يهتم بمدن أقل شأناً مع أن كراكوف عاصمة ثقافية وتراثية وسياحية.
بلغت الفندق وكان فندقاً متواضعاً على الرغم من حجمه الكبير وقربه من وسط المدينة لكن غرفه صغيرة ما يضيق الصدر فيها ومرتبة السرير قلت إنه نام فيها ما يزيد على نصف مليون نائم، وكنت أتعجب عندما أستيقظ أشعر بجسمي مكسراً ولم أنتبه إلى المرتبة العظيمة. وقد لقيت أمريكياً من تكساس في الأصل يعيش في مينسوتا يعمل في محاسبة شركة تهتم بعلف الحيوانات، وكان وحده في المطعم فقلت خلو المطعم دليل على أنه ليس جيداً ، فقال الأمريكي بلهجة جنوبية (الأكل جيد ولكن الغرف ليست جيدة ولذلك أفكر في الانتقال إلى فندق آخر) وسبب أنه يرى أن الفندق ليس جيداً فهو من الوزن الثقيل أو فوق المتوسط كما أقول مداعباً والأمريكان متعودون على الأماكن الفسيحة وبخاصة أهل الجنوب، فإن كانت المرتبة تهبط بي إلى أرضية الغرفة فإلى أين تهبط به وهو أكثر مني وزناً. وكان الأكل جيداً كما قال، ولكن كيف يكون المطعم خاوياً على عروشه، هو جيد كما جربت وليس فاحشاً مثل مطاعم مراكش السياحية الأغلى من شارع مانهاتن في نيويورك والشانزلزيه في باريس، وليس في الغرفة خدمات إنترنت فإن أردت أن تتصل بالعالم فلا بد أن ترتدي ملابسك ولبس البنطال والقميص والحزام والحذاء صعب فما أسهل ارتداء الثوب في بلادنا. وهكذا بدأت رحلتي في كراكوف.
 
أيام في بولندا 2 (كراكوف)

أيام في بولندا 2 (كراكوف)

هذه هي المرة الثانية التي أزور فيها كراكوف فالأولى كنت تقريباً أنتو راجentourage ومعناها بحسب القاموس المجاني في الإنترنت "مجموعة من الحضور يرافقون شخصاً مهماً"وأعتقد أنهم في الغالب لا مهمة لهم. وكأنهم الكومبارس في السينما وإن كان لبعض الكومبارس عملاً. ومع ذلك فلم أكن كذلك تماماً حيث قدمت ورقة في مؤتمر المستعربين الأوروبيين الواحد والعشرين الذي عقد في جامعة كراكوف حول الاهتمام بدارسة الاستشراق والاستغراب في المملكة العربية السعودية وقد أثار بعض النقاش. وقد أصبحت عادة في رحلاتي أن أزور بعض المدن أكثر من مرة، وقد تكررت هذه التجربة في هولندا وألمانيا ومصر والأردن وبيروت وقطر وغيرها (بقي أستراليا)
أعود إلى الغرفة فهي على الرغم من صغرها ففيها ثلاجة وغلاّية ماء وبعض قراطيس الشاي والقهوة وأحياناً ينسى عمال التنظيف أن يضعوا تلك الأشياء فأضطر للاتصال بالاستعلامات حتى يأتوا بالشاي. والمشكلة أن من يأتيك إلى الغرفة في الفندق من الذوق أن تعطيه بخشيشاً وحتى وإن كان يعوض نقصاً في عمله أو عمل زملائه. ولكن دعني أضيف هؤلاء الناس يتقاضون أجوراً متواضعة (عدا في اليابان، فهم أثرى مني ومنك في العالم العربي المتدني الأجور، وإن كان اليابان تمر هذه الأيام بركود اقتصادي ، يختلف عن ركودنا بلا شك)
خرجت أبحث عن مقهى فأحياناً نشعر بالطاقة على الرغم من شدة التعب، وكما يقولون والطير يرقص مذبوحاً من شدة الألم، والمسافر يشعر بالنشاط على الرغم من جسمه المكدود. وخرجت أتجول على غير هدى ودون خارطة ولا سؤال حيث ظننت أنني سأهتدي إلى مكان أجلس فيه فأخربش. ولم أستطع ولكني رأيت الغابات والحدائق العامة تملأ الرحب فقلت يا لهم كيف يعتنون بمدنهم فترى الخضرة في كل مكان وليس في القصور والمحميات المحمية لعلية القوم، أو يقتطع ما كان حديقة فتصبح متاجر فتكاد مدننا العربية في غالبها تختنق من الديزل وغيرها من العوادم. كما رأيت عدة مبان ضخمة قريبة من الفندق من كل الجهات تقريباً. فسرت بعض الوقت حتى وجدت مطعماً فتناولت طعام الغداء والعشاء، ولم أجد بقالة على الرغم من أنني رأيت أكياس بلاستك عليها علامة تسكو الإنجليزية. وأشعر في السفر أحياناً (ربما لشدة التعب) بالاستسلام وقد وجدت متجراً اشتريت منه قارورة ماء كبيرة بأكثر من دولار قليلاً ولو كانت مياه معدنية لاستحقت الثمن حتى وإن كان المتجر بالقرب من الفندق قد يبالغ في السعر. وخرجت من المطعم أسير حول الفندق فقادتني قدماي إلى ساحة يجتمع فيها عدد كبير من الشباب وفي آخرها مسرح تحتله فرقة ولم تكن قد بدأت إزعاجها أو وصلاتها الغنائية ويوجد حول الساعة أماكن لشوي اللحم وبيع المشروبات الغازية. وما أن اقتربت من مدخل الساحة حتى دفعني أحدهم فقلت ماذا تريد فأشارت إلي امرأة أنه لا بد أن يفتشني، فقلت ليفتشني فلا أحمل من السلاح إلاّ قلمي ولساني. ودخلت ورأيت الشباب البولندي جاء ليستمع للموسيقى الصاخبة والالتقاء بين الجنسين أو بين الجنس الواحد فعالمهم أصبح يعترف بالعلاقات المثلية على أنها مشروعة ومن العيب أو الخطأ أن تستهجنها. فأين ملائكة قوم لوط يا رب لقد أصبح حالهم لا يطاق؟ وبعد قليل بدأت الموسيقى الصاخبة فقلت ليس هذا المكان مما يهمني، ولو كان الدكتور عبد الوهاب المسيري رحمه الله لمكث قليلاً ليجري عليهم دراسة كما فعل مع الظاهرة العجرمية والإليسية والوهبية. وأضافت زوجتي أن النساء صرن يصفن بعضهن بشبيهة نانسي أو شبيهة إليسا أو شبيهة فلانة وفلاني (ولا تنسوا روبي وما أدراك..) وهذا الشبه مصدر فخر ومصدر تقليد فكيف بالله تصنع هذه الشبيه إن جاءها أولاد أو كانت معلّمة؟ فقد أكد أن المسألة ليست عفوية أن تظهر مجموعة من المغنيات لا يمارسن الغناء ولكن يمارسن الغنج والخلاعة، وقد زارت نانسي عجرم تونس (في العهد البائد) فاستقبلت استقبال رؤساء الدول وكانت تمشي في الأماكن التي تزورها وكأنها ملكة متوجة.
جولة في وسط المدينة القديم أو السوق المركزي
خرجت برفقة الدكتور محمد العطاونة من جامعة بن جوريون بالنجف، ولا أدري هل هو من العطاونة الذين سمعت قصتهم من والدي رحمه الله أنهم من يطلق عليهم بنو عطية، وقد أصابتهم الغطرسة والكبرياء حتى إن الواحد منهم ليعترض الرجل في طريقه ويقول له (قل لي طلق أو صيب) (وطلق يعني يصيبك طلق ناري أو تصاب بمصيبة) فإن قال أو لم يقل يقوم بضربه، فدارت الأيام ببني عطية حتى أصبح كثير منهم من المتسولين بل أصبحوا علماً على التسول، فإذا طرق الباب شحاذ أو متسول أو مسكني قيل على الباب عطيوي تصغيراً لشأنهم، وقال الدكتور محمد إن العطاونة تركوا الأردن فهل هم بنو عطية نفسهم. ولعلي أسأل إن ذهبت إلى الأردن صيفاً إن شاء الله.
وصلنا سوقاً شعبياً فيه بضائع جيدة ولكن بأثمنة أقل من الأسواق الأخرى ويم هذا السوق أماكن لبيع اللحوم والدواجن والأجبان والخضروات والخردوات والملابس. وهذه الدكاكين تشبه محلات أبو ريالين غير أن بضائعها أجود قليلاً ذلك أن تلك المجتمعات لا تقبل الرخيص جداً الذي لا يصلح للاستهلاك الآدمي كما تقبل وزارة التجارة في بلادنا.
واصلنا السير إلى السوق الكبير الحديث (المول، وما أدراك ما المول؟) وكأن كلمة مول دخلت اللغة العربية فهل يرتبها مجمع اللغة العربية ويشذبها. واسم هذا المجمع التجاري الجاليريا، فكلمة جاليري وجاليريا كلمات أوروبية وهم يستخدمون كلماتهم ولكن ما بالنا اعوجت ألسنة البعض منا فما أتعس من يطلق هذه الأسماء في بلادنا فأحد أكبر الأسواق في بلادنا يطلق عليه اسم نهر أوروبي هو الدانوب، وفي الرياض الجالريا وفيها المارينا، وقد طالما ظهرت أخبار أن وزارة التجارة ترفض التسميات الأجنبية ولكن هل أصحاب هذه المحلات فوق القانون؟ أظن ذلك.
ومن داخل السوق وصلنا إلى محطة القطار ووجدنا مكتب تذاكر واحد –ربما لأنه السبت- ولكن بعض المدن محرومة من الخدمات التي تحصل عليها المدن الأكبر. ووقفنا قليلاً حتى حصلت على تذكرة القطار لليوم التالي وحصل الدكتور محمد على تذكرة القطار بعد ساعتين ووضع حقيبته الصغيرة (بنطلون واحد أو اثنين وقميصين) لدى الأمانات بثلاث زوتات ولم يطلب منه أن تكون مغلقة بقفل، فالأمانة موجودة ولكن في المغرب على سبيل المثال لا يقبلون الحقيبة إلاّ مغلقة ولا ينقلونها في الحافلة إلاّ بقفل. لم يكن محمد مشجعاً على الشراء والتسوق لأنه يقارن الأسعار والبضائع بما في فلسطين المحتلة التي يسميها إسرائيل باستمرار وأكره التسمية ولو قال في بلادنا أو غاد أو عندنا أو في النقب لكان أجمل. ولكنه يبدو تعود على التسمية بالإضافة إلى إعجابه بالنظام الذي أتى به اليهود.
وعدت أدراجي بعد أن سافر محمد وقد بلغ الذروة من الإعجاب بشخصي المتواضع وهو على كل حال لم يقابل أشخاصاً كثر من المملكة. وكنت في طريق العودة أبحث عن السوق الشعبي لأشتري منه بعض الأشياء التي أعتقد أنها قد لا تتوفر لدينا أو تكون بأسعار متهاودة ، أو من جرد عادة الشراء أو إدمان الشراء. ولكن للحقيقة أن حقيبتي لم تزد على ستة عشر كيلو غراماً ونصف في العودة مع ما في حقيبة اليد من حلويات تركيا وحلويات تأتينا درجة ثانية أفصل في الأمر فيما بعد إن شاء الله.

 
أيام في بولندا 3 –كراكوف والسياحة وغيرها

أيام في بولندا 3 –كراكوف والسياحة وغيرها

السياحة رائجة في هذه المدينة ولكن سوّاح هذه الأيام غالبيتهم من الأوروبيين أو من أهل بولندا من مدن أخرى فلم أر عرباناً ولا غيرهم من ذوي الأنوف الفطس (شغلتهم التسونامي والزلزال) ومن مظاهر السياحة توفر السيارات الكهربائية التي يمكن أن تقل ما لا يقل عن عشرين شخصاً يقودها شباب وفتيات وقليل من العجائز. كما أن هناك العربات التي تجرها الأحصنة وأيضاً رأيت نساءً يقدنها. أما الحافلات الضخمة التي تتقل السياح فما أكثرها، وتذكرني بالحافلات التي تشتريها بعض الشركات الكبرى لدينا من خردة أوروبا لنركب فيها أو يركب فيها ضيوفنا وهي حافلات قد أكل الزمان عليها وشرب وأصبحت غير صالحة للاستخدام الآدمي في أوروبا فيأتون بها إلينا (قصة الحافلات الصينية التي أقمحت في موسم الحج قبل سنوات، وفي فمي ماء) وكأنها ملابس البالات أي المستعملة أو المهترئة الأوروبية. والعجيب أن تلك الشركات لا تستحي ولا تخجل حيث تترك الكتابة الأوروبية وكأننا أغبياء لا نفهم، وقديماً قيل: "إذا لم تستح فاصنع ما شئت". ومن مظاهر الاهتمام بالسياحة أن تجد العديد من الخرائط للمدينة بعضها صفحة واحدة صغيرة غير مطوية مثل تلك التي يوزعها الفندق الذي نزلت فيه، وخرائط أخرى كثيرة. فهل رأى أحد خريطة القاهرة أو دمشق أو عمّان أو الرباط؟
ومن مظاهر الاعتناء بالسياحة وجود أنواع كثيرة من الفنادق والخانات وبأسعار مختلفة، ولم أر الفنادق ذات النجوم الكثيرة مثل الذي نزلت فيه سابقاً ولا بد أن تكون موجودة ولكنها لا تزحم وسط المدينة والحمد لله.
وبعد زيارة الجالريا عدت أبحث عن السوق المغطى فلم أعثر عليه على الرغم من أنني مشيت بعض الشوارع مرتين ولم أحفظ اسمه ولا مكانه في الخريطة (لا بد من زيارة ثالثة لكراكوف لأعود لذلك السوق إن شاء الله) وفيما أنا ضائع إذ برجل يقف إلى حائط ومعه خريطة فقلت له أنت ضائع مثلي قال نعم فسألني من أين أنت، فقلت له، وتبادلنا الحديث فإذ به متخصص في الإعلام وجاء لحضور مؤتمر وكان مما قاله إن الإعلام الغربي وبخاصة البريطاني تسيطر عليه عدة شركات على رأسها ميردوخ اليهودي. وجاء ذكر الفرنسي دومنيك كان الذي يحاكم في أمريكا هذه الأيام على تحرشه الجنسي بعاملة النظافة في فندق سوفوتيل في نيويورك، ويقول عبد الباري عطوان إن حظه العاثر أن تلك المرأة التي تحرش بها مسلمة مصلية عابدة فيا ويله، ولكن للأمريكان أجندة خاصة فقد صنعوا من الحكاية فيلماً هوليوديا من الطراز الأول كما فعلوا في محاكمة أو جي سمبسون. فقلت لعلهم أرادوا خدمة ساركوزي فقال كلاهما يهودي فلماذا يخدمون واحداً ضد الآخر.
من مظاهر السياحة في البلد كثرة المقاهي المفتوحة وعلى الرغم من أن المطر قد ينزل في أي وقت فهي مزودة بمظلات ممتازة ولكن ما أن ينزل المطر حتى يفرنقع الناس أي يتفرقوا. والمطر في اليوم السابق لمغادرتي نزل مدة ساعة تقريباً فبدأت الغيوم تتكاثف وبدأ الرعد يقصف بعنف وعنف شديد حتى تخال إن الرعد الذي سمعته في ساعة بقدر ما أسمع من رعد في الرياض مدة سنة كاملة. والحديث عن تصريف المياه أمر قديم مكرر فلا تكاد ترى قطرة ماء باقية في الشوارع بعد نزول كمية كبيرة من المطر.
رأيت عدداً من المتسولين في كراكوف وهم رجال ونساء ولكن للحقيقة أقول لقد كانوا متسولين محترمين قليلي الإلحاح، فإن صمت أو قلت لا ذهبوا، وكلهم تحدثوا بالبولندية عدا متسول واحد كان يتحدث بإنجليزية جيدة.
ومن مظاهر الاهتمام بالسياحة وجود الباعة المتجولين والأسواق المفتوحة للصناعات اليدوية الخفيفة، وما أكثرها. وقد لفت انتباهي أن الملابس التقليدية القديمة ذات الألوان الزاهية التي تشبه الملابس الفلاحية أو البدوية ولكنها في الوقت نفسه تدل على أن ملابس النساء كانت طويلة وقد بدا هذا واضحاً في بعض الدمى التي تباع هنا وهناك. ولمّا كانت السياحة لا تعني النهب والنصب والاستغلال فأعتقد أن البولنديين اكتشفوا هذا فأسعار الحساء على سبيل المثال عشرة زوتات في الشارع أو في المقاهي المفتوحة المرتبطة بمطاعم ولم تزد عن 12 زوتا في الفندق الذي نزلت فيه (ثلاث نجوم) كما أن سمكة تروات بعشرين زوتا سعر معقول جداً.
وهنيئاً للعالم الأول كما يسمى أن المصانع تقدم له الدرجة الأولى من بضائعها فقد طلبت الشاي فما أن تضع القرطاس في الكأس حتى يصبح لونه أسوداً وطعمه لذيذ وله نكهة لا نعرفها في الشاي عندنا، فهل المصانع تأتي لنا بالنفايات أو هل المستوردون الأشاوس (وهم أشاوس على الشعوب كما قال الشاعر أسد عليّ وفي الحروب نعامة) فتجارنا الأشاوس يقبلون بالمواصفات الدنيا أو حتى يطلبونها ويبيعون لنا البضائع بأغلى الأثمان. وأضرب لكم مثالاً فسيارة أمريكية موديل 2004 ليس فيها كيس أمان للراكب بجوار السائق مع أنها أصبحت إلزامية في السيارات في أمريكا قبل ذلك بعشر سنوات أو أكثر. . وبالإضافة إلى التجار الأشاوس فلدينا هيئة المواصفات والمقاييس التي تضع علامة الجودة على مياه إفيان أو فولفيك وتترك عشرات الأصناف من المياه لا تدري عنها أو لا تفحصها، وقد يشتكون بقلة الموظفين أو ضعف الإمكانات فقد ذكر لي أحدهم أن له قريب أثرى ثراء فاحشاً من خلال هذه المؤسسة وليس له مؤهلات ولا تجارة (يحتاج الأمر إلى تحقيق و استقصاء) ولكن يبقى السؤال لماذا المواصفات الدنيا في أسواقنا أو حتى لا مواصفات. وهكذا نبتلى بما يدمر حياتنا وأرواحنا من خلال السيارات والأدوات الكهربائية والغذاء. وقد قرأت قبل مدة أن وزارة التجارة أمهلت تجاراً استوردوا أدوات كهربائية مواصفاتها رديئة مدة سنة حتى يبيعوا ما لديهم من بضائع فمن مات فهو في عنق وزارة التجارة إن صح الخبر. والأشاوس الآخرون وهم خط الدفاع الأول هم رجال الجمارك ولن أفصل في الأمر.
وقد لاحظت أن البولنديين يعاملون السياح معاملة طيبة وليس من الصعب أن تجد من يتحدث اللغة الإنجليزية. ويساعدون الأجنبي متى ما احتاج للمساعدة. ولاحظت لديهم الميل لتأنيث الأسماء فمدينة وارسو هي وارسوفا، وكراكوف كراكوفا وغير ذلك وفي لغتهم بعض الموسيقى مما يشبه اللغة الإيطالية ولا أعرف من أين جاء هذا مع أن لغتهم تبدو قريبة من اللغة الألمانية ولكنهم في كل مكان.
وبولندا دولة يغلب على أهلها المذهب الكاثوليكي وتكثر فيها الكنائس وارتباطهم بالكنيسة كما قيل كان له دور في تحرير بولندا من الشيوعية. وقد لفت انتباهي أن أحد سائقي التاكسي قد وضع صورة البابا في سيارته قرب عداد الأجرة. ويبدو أن الكاثوليكية لا تحرم القمار أو أحياناً من أجل المال يضعون الدين جانباً فصالات القمار المسمى (كازينو) موجودة في الكثير من الفنادق حتى الفنادق المتواضعة مثل الفندق الذي نزلت فيه. وكنت أعتقد أن تلك الصالات توجد فقط في الفنادق الضخمة ذات النجوم الخمسة وأكثر.
من المناظر الطريفة في بولندا احتفاظ نسبة من البولنديين من جميع الطبقات بشنباتهم أو شواربهم وحتى أحد كبار المسؤولين إما رئيس الوزراء أو الجمهورية له شنب خفيف. فهل هذا من بقايا تأثير العثمانيين. ومن بقايا آثار العثمانيين كثرة محلات الكباب، والكباب يعني لديهم الشاورما، ومعظم هذه المحلات ليس فيها لحم حلال وإنما اللحم المذبوح بالصعق الكهربائي. وأتعجب نحن المسلمين كيف نغفل عن تثقيف العالم بفائدة الذبح الحلال وكيف أن تصفية الدم من الذبيحة مفيد صحي.
 
نتابع معك استاذنا بارك الله فيك
ونتمنى تصدره في كتاب فالامة احوج لهذه الرحلات ونفائسها
 
عودا حميدا يا شيخ مازن
وهل سجلت من قبل ما صادفك الصيف الماضي من متاعب في برشلونة
 
بارك الله فيكما على قراءة خربشاتي، دونت ما كتبت عن إسبانيا وأضفت إليها ذكريات قديمة، وقد أعددت الكتاب إن شاء ليكون جاهزاً للنشر بعنوان رحلاتي إلى أوروبا(إيطاليا وألمانيا والسويد وهولندا وإسبانيا وبولندا) وقد صدر لي عن مكتبة العبيكان كتابان (رحلاتي إلى مشرق الشمس) و (رحلاتي إلى بلاد الإنجليز) ورحلاتي إلى أمريكا الطبعة الأولى من مكتبة الملك عبد العزيز والطبعة الثانية جاهزة للطبع إن شاء الله قريباً
 
عودة
أعلى