د.عبدالرحمن الصالح
New member
السلام عليكم
النقد على أربعة أقسام (العلمي أو الموضوعي ويهتم ببيان المزايا والعيوب على السواء، وقسمان آخران للنقد المنحاز أولهما النقد الأحول وهو أن نهتم ببيان المزايا فقط ونمارسه مع من نحب. وثانيهما النقد الأعور وهو أن نهتم ببيان العيوب فقط ونمارسه مع من نكره). وإليهن أشار ابن قتيبة الدّينَوَريّ بقوله (ونحن نعوذ بالله أن يطلع ذو النهى منا على ظلم لخصم[نقد أعور] أو إيثار لهوى[نقد أحول]) فبقي الخيار الثالث وهو النقد العلمي، وهو الذي يؤدي إلى تقدم العلوم والأمم ويحتاج أربعة أشياء:
-سعة اطلاع تقترب من الشمول،،
-وقدرة على التحليل بدراسة الرياضيات والمنطق الحديث ، أو حتى بخبرة عملية مع فطرة سليمة
-وموضوعية آتية من الإخلاص للحقيقة،
-وشجاعة جائية من الرغبة في الإصلاح، لأن بيان العيوب والمزايا مدعاة إلى إثارة محبي الشيء ومبغضيه ودخول في سجال يستلزم النكوص والخمول في أحيان كثيرة كما قال المعري رحمه الله/
[align=center]
لجأتُ إلى السكوت من التلاحي * كما لجأ الجبانُ إلى الفرارِ[/align]
محصلة تلك القوى فيّ قادتني إلى كتابة هذا المقال عسى أن ينفع الله تعالى به فيثير في بعض الإخوة أفكارا تكون ذا مردود جيد على العلم ، خدمة لكتاب الله تعالى عزّ وجل واقترابا من الكمال في حسنِ أدائه. وإذا احتُرمت سلامة النيات أثمر النقاش وقاد الحوار إلى نتيجته المرجوة. أما إذا انتهكت أخلاق الحوار فإنها تبني حاجزا نفسيا يحول العلم إلى مماحكة وصراع لا يفضي إلا إلى ضياع الوقت.
أثار بعض الإخوة قضية فتح الشفتين قليلا عند نطق النون الساكنة عند الباء[أنـبئهم، الذنـب، سميعاً بصيرا] وهو جائز وأولى بالصواب ، لكنه أوهم جواز الشيء نفسه عند نطق الميم الساكنة عند الباء[ترميهمـ ــــ ـبحجارة]، وسبب التوهم جاء من استخدام مصطلح إخفاء على ظاهرتين مختلفتين. فقلت تعليقا على المسألة:
المصطلحات في علم التجويد متأخرة عن الأداء. وعلم التجويد نفسه إنما هو متأخر عن أداء التلاوة ، ولذلك قالوا "القراءة سنة متبعة". فهو كعلم النحو متأخر عن اللغة واستعمالها، ومستنبط من محاولة وصف استعمال الناطقين بها لها.
والظاهرة الصوتية المتناقش فيها هي في الواقع ظاهرتان استُخدم لهما مصطلح واحد فأدى إلى اللبس.
1) صوت النون(نْ، ـاً،ـٍ، ـٌ)+ بـ = إخفاء يجوز معه قلب النوم ميماً خالصة مغنونة، أو غير خالصة (تنفرج معها الشفتان.
2) مـْ + بـ = تقرأ الميم مغنونة مطولة، وقد أطلقوا عليها اسم إخفاء شفوي فيما بعد.
إطلاق مصطلح إخفاء على الظاهرتين معا من قبل عدد ممن ألف في علم التجويد أحدث لَبساً عند بعض الناس، فجعلهم يظنون أن ما ينطبق على الحالة الأولى ينطبق بحذافيره على الحالة الثانية. وإن كان واضعو المصطلح قد ميّزوه عن النون بإطلاق صفة شفوي عليه، لكن معنى الستر الكامن في كلمة (إخفاء) قد أثبت حضوره فقاد بعض الناس إلى فتح شفاههم إبان نطقهم للميم التي لا يجوز بحال فتح الشفتين معها.
وبغضّ النظر عن مكانة من تكلّم على المسألة ، وأستاذيته في الأداء والتلاوة والإقراء ، وتاريخ علم القراءات. فإن المقاربة العلمية للمسألة تقتضي عزل الظاهرة الصوتية عن جميع ما قيل فيها لفهمها حقّ الفهم. وهي بعد تطبيق للأثر "اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال"
تشترك الظاهرتان [النون الساكنة بعدها باء، الميم الساكنة بعدها باء ] بالغنة .
ويجوز في إحداهما وجهان على حين لا يجوز في الثانية إلا وجه، في علاقتهما بالشفتين.
يجوز في النون قلبها ميما خالصة بغنة وهو ما سمي بالإقلاب، ويجوزتفريج الشفتين عند تلاوة النون مع الباء إبقاء على الإخفاء ، بل هو أولى لأننا نفرج الشفتين عن نطق النون الخالصة. وإن كنا عند الإدغام (لم يرو) نقلب النون حرفا من جنس ما بعدها ثم ندغمه فيها. وتبقى الغنة دليلا على النون عند حروف(و،م،ن) فنقرأ (من ورائه)_(مِوّرائه). ونقرأ (من يشاء)(ميـّـشاء)، ونقرأ (مِن من)_(مِمّـن). ولتأصّل ظاهرة الإدغام في الميم تسربت إلى الخط فلا نكتب بعض الكلمات إلا مدغمة مثل (مما).
ولا يجوز تفريج الشفتين مع الميم لأننا لا نفرج الشفتين عند نطقنا للميم الخالصة. ولأن الميم لا تشترك مع النون إلا في الغنة، فهي لا تنقلب إلى صوت الياء ولا الواو ولا اللام ولا الراء كما تفعل النون.
فقراءة بعض الناس بتفريج الشفتين عند الميم إنما هو إبعاد للنجعة ووقوع تحت تأثير المصطلح، وهذا من أبشع أنواع سوء الفهم وأكثرها انتشارا، في كثير من الظواهر. وقد هداني الله تعالى أن أبيّنَ في هذا الملتقى المبارك كيف أن علماء الحديث في القرن الثالث قد أنكروا إطلاق صفة مخلوق على القرآن فقالوا (غير مخلوق) يعنون (لا يوصفُ بمخلوق) ، إنكارا منهم لبدعية اللفظ فهم أورعُ أن يخوضوا فيما ليس لهم به علم، فجاء من بعدهم ففهموا أنهم إنما يقصدون أنه فعلا غير مخلوق وشرعوا ينظرون ويبحثون عن الأسباب فقالوا إن الكلام صفة المتكلم .... نسوا أن هذا القول أسوأ من الأول وأنه يقود إلى جعل الله تعالى نصا لغويا وهذا غاية الضلال. وما سببه إلا سوء فهم لمصطلح (غير مخلوق) الذي لا يعني أكثر من (ولا يوصف بمخلوق). وكل الإخوة يعرفون أن هذه القضية قد امتصت طاقات الأمة لألف سنة مما تعدون.[يمكن الاطلاع على الحوار المثمر في سبب الاضطراب في المصطلح في هذا المنتدى]
مسألة أولى : كيف نتعامل مع من أجاز تفريج الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الباء؟ وهو ما أطلقوا عليه (إخفاء شفويا)؟
الجواب أن هذا الصنف من الناس قد وقع تحت تأثير المصطلح (إخفاء) ، فاجتهد في الأداء ليجعل نطق الميم يتلاءم مع مصطلح إخفاء الذي يستلزم إخفاء شيء ما، فظن أن تفريج الشفتين تؤدي إلى إخفاء الميم. والصواب أن تفريج الشفتين مع الميم لا يجوز بحال البتة.
ونحن أمام خيارين: أن نتخلى عن مصطلح الإخفاء الشفوي لاتضاح عدم صلوحه لهذه الظاهرة ، ولحين اتفاقنا على مصطلح يكتفي المؤلفون في التجويد بالقول [تقرأ الميم الساكنة بغنة إذا جاء بعدها باء ].والثاني أن نحاول وضع مصطلح جديد له الآن وقد رأيت من حاول ذلك فأطلق اسم (إشمام) لأن الميم تشم غنة فقط. ولم أمل إلى رأيه.
مسألة أخرى : تكلم علماء القراءات على وجهين للميم مع الباء ، سمّوا أحدهما إظهارا والآخر إخفاء شفويا، وذكر الشمس ابن الجزري في النشر جواز الوجهين.
وكنت أفهمهماعلى أن أحدهما أن أقرأ الميم سريعا دون غنة، والثاني أن أقرأها بطيئا بغنة كما هو شائع [ما سمي خطأً بالإخفاء الشفوي]. ولكنّ في نفسي شيئاً من هذا الفهم لأني لم أسمع من شيخ أو قارئ ما قراءة الميم بدون غنة عند الباء ، وإن كان مؤلفو القراءات وعلوم القرآن قد أوردوا هذا القول. ويحسُن التنبيه إلى أن "إخفاء" أبي عمرو البصري للميم المتحركة عند الباء لم يجيزوا معه إلا الغنة ولم يضيفوا وجه الإظهار الذي أجازوه مع الميم الساكنة عند الباء .
الخلاصة أن الاستشكال الذي حاول الإخوة الكرام إيضاحه مشكورين مجزيين خيرا بحسن نياتهم إنما سببه استخدام مصطلح واحد لتوصيف ظاهرتين مختلفتين تشتركان بالغنة عند الباء.
وبوصفي مستمعا جيدا لشيوخ القراءة الكبار أعني المصريين منهم لأنهم أقطاب هذا الشأن أداءً فإني لا أستسيغ صنيع من يفرج بين شفتيه تفريجا تلتقطه الأذن عند تلاوة الميم قبل الباء مثل (ترميهمـْ ــــــ ـبحجارة ) ، لأن الوقوع تحت تأثر المصطلح والغفلة عن أصل الظاهرة قبل نشوء المصطلحات نوع من أنواع الجهل وقع فيه مع الأسف كثير من المتقنين، في هذه الظاهرة وغيرها.
ومن أبشع ما وقع فيه القراء
- بدعة تحريك الحرف من أجل إيضاحه، [ما سموه بالقلقلة ، ثم شرعو يقسمونها إلى كبرى وصغرى ومع التشديد]. فالصواب فيها أن يطلب توضيح خروج الحرف والحذر من تحريكه أدنى تحريك لأنه حرف ساكن.
- بدعة إلغاء صفة الرخاوة مع الضاد. [كيف يُجْمِع علماءُ النحو والقراءات على رخاوة الضاد، وأن الرخاوة استمرار الصوت أو النفس، ونخالفهم فننطقها شديدة كالدال المفخمة. وحجتنا أوهن من بيت العنكبوت وهي أن نفرّق بين الضاد والظاء تفريقا أكثر مما ينبغي. على حين قال شيخ الإسلام بن تيمية عن الضاء والظاء "إذْ هما في السمع واحد"]. ولكونهما في السمع واحد كتبت كلمة (ظنين) في قوله تعالى (وما هو على الغيب بضنين) بهما معا وقرئت بهما معا على حين أن المعنى مختلف فـ(ـظنين)(متهم)
و(ضنين)(باخل)
-بدعة التفريج بين الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الميم، جهلا منهم بتاريخ المصطلح (إخفاء ) وأنه أُطلق خطأً أو وُضع في غير محله.
- توهّم بعض القراء أن الحركة المقصودة في عدّ الألف حركتين هي حركة الإصبع. ولذلك تجد بعض المشايخ يحرك إصبعه بسرعة ليعد حركتين، والصواب أن المقصود بالحركة هي الفتحة والضمة والكسرة فالألف حركتان أي فتحتان، والواو حركتان أي بمقدار ضمتين، والياء حركتان أي بطول كسرتين، ولذلك قال ابن جني "والحركات أبعاض الحروف". لقد قاد هذا الوهم في فهم الحركة إلى الإفراط في المدّ والتطويل. فإن الزمن المطلوب لتحريك الإصبع حتى تنطبق وتنفتح يفوق الزمن اللازم لنُطق الألف الطبيعية.
- بدعة المبالغة في تفخيم حروف الاستعلاء والألف بعدها ، ذلكم أن نص علماء التجويد على أن هذه الحروف فخمة يعني أن طبيعتها كذلك لا أن تزيد في تفخيمها.
وكانوا قد قسموا الحروف من حيث التفخيم والرقة غلى ثلاثة أقسام (الحروف المستعلية-فخمة، الحروف المستفلة-مرققة ، باستثناء ثلاثة ترقق وتفخم بحسب الوضع وهي الألف واللام والراء. فالألف فخمة بعد تسعة حروف سبعة حروف الاستعلاء خص ضغط قظ واللام إذا فخمت والراء إذا فخمت، واللام في اسم الجلالة إذا وليت فتحة أو ضمة مفخمة وإذا وليت كسرة رققت، وفي قراءة ورش بعد الظاء والصاد والطاء مفتوحات كـ الصلوة، طل، ظللنا، والراء فيها تفصيل). وقد سمعت بعض القراء يقرأ كلمة (بصير) بباء رقيقة جدا وصاد مفخمة جداً على نحو لا يقرأ به عربي. وبعضهم يدور شفتيه عند نطق (قال) لتخرج قافه وألف أفخم مما يجب .!!
وإلى هذا النوع من القراء أدعوهم أن يقرأوا موضوع (تأثر الأصوات ببعضها)
فالحرف الرقيق يكتسب فخامة إذا جاور فخما وهذا سبب تأثر الإمالة بحروف الاستعلاء وترقيق الراء وتفخيمها بها. وللكلام بصيغة عملية أقول كل من زاد على طريقة الشيخ الحصري رحمه الله من حيث مراعاة الترقيق والتفخيم فقد أفرط ومن نقص فقد فرّط.
ولو أُطعت لنصحتُ كل قارئ قبل تسجيله ختمة أن يستمع لختمة للشيخ الحصري أو الشيخ عبدالباسط فإن مخارج حروفهما من حيث الترقيق والتفخيم في غاية الإتقان.
مع ملاحظات لا يسلم منها إنسان كطاء الحصري وكافه، وضاد عبدالباسط فإني أرى فيهنّ مسحة عجمة.
ذكرت هذه الملاحظات لألفت انتباه المهتمين في علم التجويد إلى القاعدة الذهبية الآتية
(إن الأداء أسبق زمنا وأهمية من مصطلحات علم التجويد الحادثة فيما بعد، وإنّ هذه المصطلحات إنما هي آلاتٌ لتسهيل تعلّم الأداء ، وينبغي الحذر من إبعاد الحروف عن مخارجها لملاءمتها للمصطلح/ فالعكس هو الصواب. أي ينبغي تطويع المصطلح أو حتى استبدالُه إن ثبت قصوره عن وصف الظاهرة الأصل وصفا دقيقا. وقد وقع كثير من الشيوخ ضحية هذه المصطلحات).
والله وليّ التوفيق
النقد على أربعة أقسام (العلمي أو الموضوعي ويهتم ببيان المزايا والعيوب على السواء، وقسمان آخران للنقد المنحاز أولهما النقد الأحول وهو أن نهتم ببيان المزايا فقط ونمارسه مع من نحب. وثانيهما النقد الأعور وهو أن نهتم ببيان العيوب فقط ونمارسه مع من نكره). وإليهن أشار ابن قتيبة الدّينَوَريّ بقوله (ونحن نعوذ بالله أن يطلع ذو النهى منا على ظلم لخصم[نقد أعور] أو إيثار لهوى[نقد أحول]) فبقي الخيار الثالث وهو النقد العلمي، وهو الذي يؤدي إلى تقدم العلوم والأمم ويحتاج أربعة أشياء:
-سعة اطلاع تقترب من الشمول،،
-وقدرة على التحليل بدراسة الرياضيات والمنطق الحديث ، أو حتى بخبرة عملية مع فطرة سليمة
-وموضوعية آتية من الإخلاص للحقيقة،
-وشجاعة جائية من الرغبة في الإصلاح، لأن بيان العيوب والمزايا مدعاة إلى إثارة محبي الشيء ومبغضيه ودخول في سجال يستلزم النكوص والخمول في أحيان كثيرة كما قال المعري رحمه الله/
[align=center]
لجأتُ إلى السكوت من التلاحي * كما لجأ الجبانُ إلى الفرارِ[/align]
محصلة تلك القوى فيّ قادتني إلى كتابة هذا المقال عسى أن ينفع الله تعالى به فيثير في بعض الإخوة أفكارا تكون ذا مردود جيد على العلم ، خدمة لكتاب الله تعالى عزّ وجل واقترابا من الكمال في حسنِ أدائه. وإذا احتُرمت سلامة النيات أثمر النقاش وقاد الحوار إلى نتيجته المرجوة. أما إذا انتهكت أخلاق الحوار فإنها تبني حاجزا نفسيا يحول العلم إلى مماحكة وصراع لا يفضي إلا إلى ضياع الوقت.
أثار بعض الإخوة قضية فتح الشفتين قليلا عند نطق النون الساكنة عند الباء[أنـبئهم، الذنـب، سميعاً بصيرا] وهو جائز وأولى بالصواب ، لكنه أوهم جواز الشيء نفسه عند نطق الميم الساكنة عند الباء[ترميهمـ ــــ ـبحجارة]، وسبب التوهم جاء من استخدام مصطلح إخفاء على ظاهرتين مختلفتين. فقلت تعليقا على المسألة:
المصطلحات في علم التجويد متأخرة عن الأداء. وعلم التجويد نفسه إنما هو متأخر عن أداء التلاوة ، ولذلك قالوا "القراءة سنة متبعة". فهو كعلم النحو متأخر عن اللغة واستعمالها، ومستنبط من محاولة وصف استعمال الناطقين بها لها.
والظاهرة الصوتية المتناقش فيها هي في الواقع ظاهرتان استُخدم لهما مصطلح واحد فأدى إلى اللبس.
1) صوت النون(نْ، ـاً،ـٍ، ـٌ)+ بـ = إخفاء يجوز معه قلب النوم ميماً خالصة مغنونة، أو غير خالصة (تنفرج معها الشفتان.
2) مـْ + بـ = تقرأ الميم مغنونة مطولة، وقد أطلقوا عليها اسم إخفاء شفوي فيما بعد.
إطلاق مصطلح إخفاء على الظاهرتين معا من قبل عدد ممن ألف في علم التجويد أحدث لَبساً عند بعض الناس، فجعلهم يظنون أن ما ينطبق على الحالة الأولى ينطبق بحذافيره على الحالة الثانية. وإن كان واضعو المصطلح قد ميّزوه عن النون بإطلاق صفة شفوي عليه، لكن معنى الستر الكامن في كلمة (إخفاء) قد أثبت حضوره فقاد بعض الناس إلى فتح شفاههم إبان نطقهم للميم التي لا يجوز بحال فتح الشفتين معها.
وبغضّ النظر عن مكانة من تكلّم على المسألة ، وأستاذيته في الأداء والتلاوة والإقراء ، وتاريخ علم القراءات. فإن المقاربة العلمية للمسألة تقتضي عزل الظاهرة الصوتية عن جميع ما قيل فيها لفهمها حقّ الفهم. وهي بعد تطبيق للأثر "اعرف الرجال بالحق ولا تعرف الحق بالرجال"
تشترك الظاهرتان [النون الساكنة بعدها باء، الميم الساكنة بعدها باء ] بالغنة .
ويجوز في إحداهما وجهان على حين لا يجوز في الثانية إلا وجه، في علاقتهما بالشفتين.
يجوز في النون قلبها ميما خالصة بغنة وهو ما سمي بالإقلاب، ويجوزتفريج الشفتين عند تلاوة النون مع الباء إبقاء على الإخفاء ، بل هو أولى لأننا نفرج الشفتين عن نطق النون الخالصة. وإن كنا عند الإدغام (لم يرو) نقلب النون حرفا من جنس ما بعدها ثم ندغمه فيها. وتبقى الغنة دليلا على النون عند حروف(و،م،ن) فنقرأ (من ورائه)_(مِوّرائه). ونقرأ (من يشاء)(ميـّـشاء)، ونقرأ (مِن من)_(مِمّـن). ولتأصّل ظاهرة الإدغام في الميم تسربت إلى الخط فلا نكتب بعض الكلمات إلا مدغمة مثل (مما).
ولا يجوز تفريج الشفتين مع الميم لأننا لا نفرج الشفتين عند نطقنا للميم الخالصة. ولأن الميم لا تشترك مع النون إلا في الغنة، فهي لا تنقلب إلى صوت الياء ولا الواو ولا اللام ولا الراء كما تفعل النون.
فقراءة بعض الناس بتفريج الشفتين عند الميم إنما هو إبعاد للنجعة ووقوع تحت تأثير المصطلح، وهذا من أبشع أنواع سوء الفهم وأكثرها انتشارا، في كثير من الظواهر. وقد هداني الله تعالى أن أبيّنَ في هذا الملتقى المبارك كيف أن علماء الحديث في القرن الثالث قد أنكروا إطلاق صفة مخلوق على القرآن فقالوا (غير مخلوق) يعنون (لا يوصفُ بمخلوق) ، إنكارا منهم لبدعية اللفظ فهم أورعُ أن يخوضوا فيما ليس لهم به علم، فجاء من بعدهم ففهموا أنهم إنما يقصدون أنه فعلا غير مخلوق وشرعوا ينظرون ويبحثون عن الأسباب فقالوا إن الكلام صفة المتكلم .... نسوا أن هذا القول أسوأ من الأول وأنه يقود إلى جعل الله تعالى نصا لغويا وهذا غاية الضلال. وما سببه إلا سوء فهم لمصطلح (غير مخلوق) الذي لا يعني أكثر من (ولا يوصف بمخلوق). وكل الإخوة يعرفون أن هذه القضية قد امتصت طاقات الأمة لألف سنة مما تعدون.[يمكن الاطلاع على الحوار المثمر في سبب الاضطراب في المصطلح في هذا المنتدى]
مسألة أولى : كيف نتعامل مع من أجاز تفريج الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الباء؟ وهو ما أطلقوا عليه (إخفاء شفويا)؟
الجواب أن هذا الصنف من الناس قد وقع تحت تأثير المصطلح (إخفاء) ، فاجتهد في الأداء ليجعل نطق الميم يتلاءم مع مصطلح إخفاء الذي يستلزم إخفاء شيء ما، فظن أن تفريج الشفتين تؤدي إلى إخفاء الميم. والصواب أن تفريج الشفتين مع الميم لا يجوز بحال البتة.
ونحن أمام خيارين: أن نتخلى عن مصطلح الإخفاء الشفوي لاتضاح عدم صلوحه لهذه الظاهرة ، ولحين اتفاقنا على مصطلح يكتفي المؤلفون في التجويد بالقول [تقرأ الميم الساكنة بغنة إذا جاء بعدها باء ].والثاني أن نحاول وضع مصطلح جديد له الآن وقد رأيت من حاول ذلك فأطلق اسم (إشمام) لأن الميم تشم غنة فقط. ولم أمل إلى رأيه.
مسألة أخرى : تكلم علماء القراءات على وجهين للميم مع الباء ، سمّوا أحدهما إظهارا والآخر إخفاء شفويا، وذكر الشمس ابن الجزري في النشر جواز الوجهين.
وكنت أفهمهماعلى أن أحدهما أن أقرأ الميم سريعا دون غنة، والثاني أن أقرأها بطيئا بغنة كما هو شائع [ما سمي خطأً بالإخفاء الشفوي]. ولكنّ في نفسي شيئاً من هذا الفهم لأني لم أسمع من شيخ أو قارئ ما قراءة الميم بدون غنة عند الباء ، وإن كان مؤلفو القراءات وعلوم القرآن قد أوردوا هذا القول. ويحسُن التنبيه إلى أن "إخفاء" أبي عمرو البصري للميم المتحركة عند الباء لم يجيزوا معه إلا الغنة ولم يضيفوا وجه الإظهار الذي أجازوه مع الميم الساكنة عند الباء .
الخلاصة أن الاستشكال الذي حاول الإخوة الكرام إيضاحه مشكورين مجزيين خيرا بحسن نياتهم إنما سببه استخدام مصطلح واحد لتوصيف ظاهرتين مختلفتين تشتركان بالغنة عند الباء.
وبوصفي مستمعا جيدا لشيوخ القراءة الكبار أعني المصريين منهم لأنهم أقطاب هذا الشأن أداءً فإني لا أستسيغ صنيع من يفرج بين شفتيه تفريجا تلتقطه الأذن عند تلاوة الميم قبل الباء مثل (ترميهمـْ ــــــ ـبحجارة ) ، لأن الوقوع تحت تأثر المصطلح والغفلة عن أصل الظاهرة قبل نشوء المصطلحات نوع من أنواع الجهل وقع فيه مع الأسف كثير من المتقنين، في هذه الظاهرة وغيرها.
ومن أبشع ما وقع فيه القراء
- بدعة تحريك الحرف من أجل إيضاحه، [ما سموه بالقلقلة ، ثم شرعو يقسمونها إلى كبرى وصغرى ومع التشديد]. فالصواب فيها أن يطلب توضيح خروج الحرف والحذر من تحريكه أدنى تحريك لأنه حرف ساكن.
- بدعة إلغاء صفة الرخاوة مع الضاد. [كيف يُجْمِع علماءُ النحو والقراءات على رخاوة الضاد، وأن الرخاوة استمرار الصوت أو النفس، ونخالفهم فننطقها شديدة كالدال المفخمة. وحجتنا أوهن من بيت العنكبوت وهي أن نفرّق بين الضاد والظاء تفريقا أكثر مما ينبغي. على حين قال شيخ الإسلام بن تيمية عن الضاء والظاء "إذْ هما في السمع واحد"]. ولكونهما في السمع واحد كتبت كلمة (ظنين) في قوله تعالى (وما هو على الغيب بضنين) بهما معا وقرئت بهما معا على حين أن المعنى مختلف فـ(ـظنين)(متهم)
و(ضنين)(باخل)
-بدعة التفريج بين الشفتين عند نطق الميم الساكنة قبل الميم، جهلا منهم بتاريخ المصطلح (إخفاء ) وأنه أُطلق خطأً أو وُضع في غير محله.
- توهّم بعض القراء أن الحركة المقصودة في عدّ الألف حركتين هي حركة الإصبع. ولذلك تجد بعض المشايخ يحرك إصبعه بسرعة ليعد حركتين، والصواب أن المقصود بالحركة هي الفتحة والضمة والكسرة فالألف حركتان أي فتحتان، والواو حركتان أي بمقدار ضمتين، والياء حركتان أي بطول كسرتين، ولذلك قال ابن جني "والحركات أبعاض الحروف". لقد قاد هذا الوهم في فهم الحركة إلى الإفراط في المدّ والتطويل. فإن الزمن المطلوب لتحريك الإصبع حتى تنطبق وتنفتح يفوق الزمن اللازم لنُطق الألف الطبيعية.
- بدعة المبالغة في تفخيم حروف الاستعلاء والألف بعدها ، ذلكم أن نص علماء التجويد على أن هذه الحروف فخمة يعني أن طبيعتها كذلك لا أن تزيد في تفخيمها.
وكانوا قد قسموا الحروف من حيث التفخيم والرقة غلى ثلاثة أقسام (الحروف المستعلية-فخمة، الحروف المستفلة-مرققة ، باستثناء ثلاثة ترقق وتفخم بحسب الوضع وهي الألف واللام والراء. فالألف فخمة بعد تسعة حروف سبعة حروف الاستعلاء خص ضغط قظ واللام إذا فخمت والراء إذا فخمت، واللام في اسم الجلالة إذا وليت فتحة أو ضمة مفخمة وإذا وليت كسرة رققت، وفي قراءة ورش بعد الظاء والصاد والطاء مفتوحات كـ الصلوة، طل، ظللنا، والراء فيها تفصيل). وقد سمعت بعض القراء يقرأ كلمة (بصير) بباء رقيقة جدا وصاد مفخمة جداً على نحو لا يقرأ به عربي. وبعضهم يدور شفتيه عند نطق (قال) لتخرج قافه وألف أفخم مما يجب .!!
وإلى هذا النوع من القراء أدعوهم أن يقرأوا موضوع (تأثر الأصوات ببعضها)
فالحرف الرقيق يكتسب فخامة إذا جاور فخما وهذا سبب تأثر الإمالة بحروف الاستعلاء وترقيق الراء وتفخيمها بها. وللكلام بصيغة عملية أقول كل من زاد على طريقة الشيخ الحصري رحمه الله من حيث مراعاة الترقيق والتفخيم فقد أفرط ومن نقص فقد فرّط.
ولو أُطعت لنصحتُ كل قارئ قبل تسجيله ختمة أن يستمع لختمة للشيخ الحصري أو الشيخ عبدالباسط فإن مخارج حروفهما من حيث الترقيق والتفخيم في غاية الإتقان.
مع ملاحظات لا يسلم منها إنسان كطاء الحصري وكافه، وضاد عبدالباسط فإني أرى فيهنّ مسحة عجمة.
ذكرت هذه الملاحظات لألفت انتباه المهتمين في علم التجويد إلى القاعدة الذهبية الآتية
(إن الأداء أسبق زمنا وأهمية من مصطلحات علم التجويد الحادثة فيما بعد، وإنّ هذه المصطلحات إنما هي آلاتٌ لتسهيل تعلّم الأداء ، وينبغي الحذر من إبعاد الحروف عن مخارجها لملاءمتها للمصطلح/ فالعكس هو الصواب. أي ينبغي تطويع المصطلح أو حتى استبدالُه إن ثبت قصوره عن وصف الظاهرة الأصل وصفا دقيقا. وقد وقع كثير من الشيوخ ضحية هذه المصطلحات).
والله وليّ التوفيق